ملفات خاصة

 
 
 

أوليفييه أساياس يجلب "ساحر الكرملين" الى مهرجان البندقية

فيلم فرنسي يرسم خريطة النفوذ الروسي ويفكك النظام بعيداً من الأفكار السياسية

هوفيك حبشيان 

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثاني والثمانون

   
 
 
 
 
 
 

ملخص

الفرنسي أوليفييه أساياس واحد من أنشط السينمائيين المعاصرين. هذا الذي بدأ ناقداً في مجلة "دفاتر السينما" في الثمانينيات، المشغول بالعالم بقدر ما هو مهموم ببلده، يعود مع "ساحر الكرملين" إلى مشهد سياسي متشابك يبدأ من فوضى ما بعد انهيار الإتحاد السوفياتي ويمتد حتى اللحظة الراهنة.

عبر شخصية فاديم بارانوف، يعيد المخرج أوليفييه أساياس رسم خريطة النفوذ الروسي بعقلية شخص غير روسي، محاولاً تفكيك النظام بعيداً من الأفكار السياسية المنتشرة، موظفاً الحبكة والشخصيات والمفارقة الإنسانية.

من دراما حميمية صوّرت شؤون حميمية خلال الحجر الصحي في قرية فرنسية ("خارج الزمن" - 2024)، إلى فيلم سياسي ضخم يتناول قلب السلطة الروسية، يقدم أساياس قفزة هائلة في النطاق واللغة والهم والأسلوب. عُرض الفيلم مساء أمس ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية السينمائي في دورته الـ82 (27 أغسطس/ آب -6 سبتمبر/ أيلول)، ويُعد أحد أكثر أعماله طموحاً وتعقيداً منذ "كارلوس" (2010)، الذي استعاد فيه سيرة الإرهابي الشهير.

الفيلم مقتبس من رواية الكاتب والمستشار السياسي جوليانو دا إمبولي صدرت في عام 2022 بالتزامن مع غزو روسيا لأوكرانيا، والتي حققت نجاحاً لافتاً واعتُبرت محاولة جريئة لتشريح عقل السلطة في روسيا الحديثة، من خلال شخصية فاديم بارانوف المستلهمة من فلاديسلاف سوركوف، أحد مهندسي "النظام البوتيني". الرواية كانت أقرب إلى مذكرات متخيلة، والفيلم بدوره لا يسير بعيداً من هذا التخييل، بل يوسّعه إلى فضاء بصري وزمني مفتوح.

من اللحظة الأولى، يرسم "ساحر الكرملين" خطوط لعبته: أستاذ جامعي أميركي (جيفري رايت) يلتقي ببارانوف (بول دانو) في موسكو، بعد سنوات من اختفاء هذا الأخير عن الساحة السياسية. يتحول اللقاء إلى مصارحة طويلة، حوار داخلي مع الماضي، تتقاطع فيه الاعترافات الشخصية مع تحولات وطن بأكمله. لا يسرد بارانوف تاريخ روسيا بقدر ما يروي تآكل روحه في أروقة الحكم، وكأنه كان ينتظر حلول اللحظة المناسبة للبوح.

يتنقل الفيلم بسلاسة بين مراحل مختلفة: من فنان شاب يكتب المسرحيات، إلى منتج تلفزيوني بارع، فإلى رجل يؤمن بفكرة النهوض بروسيا جديدة بعد الشيوعية، ولذلك يدعم بوتين الذي كان آنذاك عنصراً في جهاز الأمن الفيدرالي، مقترحاً عليه الترشح إلى الرئاسة خلفاً لبوريس يلتسن. لا يظهر بوتين بشكل مباشر، (له حركات جسدية مشابهة وليس نسخة طبق الأصل عنه) ولا يُذكر اسمه، بل يُشار إليه بلقب "القيصر"، في معالجة ذكية تتجاوز المحاكاة إلى بناء شخصية رمزية، تحمل كل ملامح النظام من دون أن تقع في المباشرة. يلعب دور القيصر الممثل البريطاني جود لو.

أحد أبرز ما يميّز العمل هو مراقبته الدقيقة لديناميكيات السلطة حيث الطعن في الظهر حاضر في كل زاوية. بارانوف نفسه، الذي صعد إلى القمة من خلف الستار، يجد نفسه في نهاية المطاف مُقصى، مجبراً على التأمل في النتائج الكارثية لما شارك في صنعه. وهنا نجد ما يسرده الفيلم آخذاً إيانا إلى أبعد من الحالة السياسية الروسية: تصوير حلم الإصلاح الذي يتحول إلى كابوس الهيمنة، فيُبتلع الإنسان في آلة صنع القرارات.

لا ينفصل البُعد الجمالي في الفيلم عن مضمونه. أساياس يختار أن يصوّر روسيا بلغة بصرية باردة، تُشبه الطقس والمزاج. المباني، الإضاءة، الأزياء، كلها تسهم في صناعة مناخ خانق، لا يحتاج إلى عنف مباشر كي يُشعرك بالهيمنة السياسية. لكن، يبقى التحفّظ الأكبر متعلقاً بلغة الفيلم: الإنكليزية. أن تتحدث شخصيات روسية بلغة أجنبية، بلكنات مختلفة، يفقد العمل شيئاً من خصوصيته الثقافية. وعلى رغم أن الاعتبارات الإنتاجية واضحة في فيلم موجه للجمهور العالمي، فالإحساس بالاغتراب يلاحق المُشاهد، بخاصة في المشاهد التي يفترض أن تكون مشبعة بالنبرة الروسية.

إذا استطاع المشاهد المتطلب صرف النظر عن هذا الجانب، فسيجد نفسه تحت سطوة مادة سينمائية غنية، توازن بين العام والخاص، بين سرد التاريخ وسبر النفوس. الشخصيات ثرية بالتناقضات، والحوارات مدروسة تدفع بالسرد إلى الأمام من دون حاجة إلى إثارة مصطنعة. كل شيء في الفيلم يبدو مدفوعاً بهاجس فهم آليات السيطرة، وأثرها المدمّر على الحالمين بالتغيير. الفيلم لا يسعى إلى "كشف الملفات" على طريقة أفلام أوليفر ستون، بقدر ما يقدّم تأملاً في حاضرنا السياسي، قافزاً إلى سؤال محوري: ماذا يحدث حين يتحول صنّاع الوهم إلى ضحاياه؟ في تعليق، يؤكد أساياس شعورنا تجاه "ساحر الكرملين" بالقول: "هذا ليس فيلماً عن صعود رجل واحد، ولا عن القوة التي تُفرض بها السلطة، أو عن إعادة اختراع أمة تجمع بين الحداثة والقدم، والتي وجدت نفسها مجدداً تحت نير التسلط، إنما تأملات في السياسة الحديثة، أو بالأحرى، في الستار الدخاني الذي تختبئ خلفه اليوم: سياسة ساخرة، مخادعة وسامة. صنّاع القرار اليوم يمتلكون أدوات للتلاعب الجماهيري وتشويه الحقيقة بدقة لم تكن متخيلة من قبل. من هذه الزاوية، هذا ليس فيلماً سياسياً بالمعنى التقليدي، إنما هو فيلم عن السياسة نفسها، وعن فساد أساليبها التي باتت تأسرنا جميعاً".

 

الـ The Independent  في

01.09.2025

 
 
 
 
 

بوتين على شاشة البندقية: ساحر الكرملين يخرج من الظلّ

هوفيك حبشيان - المصدرالبندقية - "النهار"

"ساحر الكرملين" فيلم طموح، واسع النطاق، متشعّب الخطوط، موزّع على جبهات عدة، وبموازنة إنتاجية عالية.

أوليفييه أساياس مخرج متعدّد الانشغالات والهواجس، تتنوّع اهتماماته كما تتـّسع رؤاه السينمائية. في فيلمه ما قبل الأخير، اصطحبنا إلى قرية فرنسية، واضعاً أحداثه في خضم فترة الحجر الصحي. هناك، وسط الجغرافيا المحدودة والإيقاع الهادئ، صنع حكاية قليلة الأحداث، لكن غنية بالتفاصيل الإنسانية.

في جديده "ساحر الكرملين"، المنافس على "الأسد الذهب" للدورة 82 من مهرجان البندقية السينمائي (27 آب - 6 أيلول)، يضعنا أمام تجربة على النقيض تماماً. فيلم طموح، واسع النطاق، متشعّب الخطوط، موزّع على جبهات عدة، وبموازنة إنتاجية عالية. الشخصيات كثيرة، والزمن يمتد من مطالع التسعينات إلى يومنا هذا، في استعادة كثيفة للوقائع والأجواء السياسية. لعلنا نحتاج إلى العودة في أرشيف أساياس كي نعثر على عمل بهذه الضخامة، فنجد "كارلوس"، حيث قدّم سيرة الإرهابي الشهير في معالجة سينمائية لم تترك تفصيلاً للمصادفة، إنما تعاملت مع المادة بحس درامي مشغول بعناية.

قبل أن يكون فيلماً لأساياس، كان "ساحر الكرملين" رواية لكاتب ومستشار سياسي إيطالي - سويسري يُدعى جوليانو دا إمبولي. الرواية، التي حققت انتشاراً واسعاً وتصدّرت قوائم الكتب الأكثر مبيعاً، حازت الجائزة الكبرى للرواية من الأكاديمية الفرنسية. وهي أول عمل روائي خيالي لدا إمبولي، الذي سبق له أن عمل في الصحافة، كما شغل مناصب استشارية في دوائر القرار السياسي. في هذا النصّ، يرسم الكاتب صورة مركبة لفاديم بارانوف، المستشار الغامض والمقرب من فلاديمير بوتين، شخصية خيالية مستلهمة بوضوح من فلاديسلاف سوركوف، مهندس صعود بوتين إلى الحكم، ومُنظِّر عقيدة الكرملين في مطلع الألفية الجديدة، الذي يُنسب إليه ابتكار مفهوم "عمودية السلطة"، الذي أثار إعجابه وتبنّاه لاحقاً كأداة لإحكام قبضته. أما السيناريو، فقد شارك أساياس في كتابته مع إيمانويل كارير، الكاتب والمخرج الفرنسي المعروف، الذي يظهر في الفيلم بدور عابر. يجدر التذكير بأن كارير سبق أن كتب سيرة أدبية لإدوارد ليمونوف الذي تحوّلت حياته أيضاً إلى فيلم على يد المخرج كيريل سيريبرينيكوف. المفارقة اللافتة أن ليمونوف يظهر بدوره في فيلم أساياس، ولو بمشهد قصير، ليضيف بُعداً آخر إلى هذا العمل المتداخل في سردياته وشخصياته.

من المهم التوضيح أن تفاصيل القصّة في "ساحر الكرملين" خيالية، وإن كانت مستوحاة من أحداث فعلية وشخصيات وُجدت في الواقع. وكأننا أمام سردية موازية تُعيد تخييل التاريخ عبر الفنّ. وإذا كان فيلم ألكسندر سوكوروف الوثائقي، "يوميات مخرج"، الممتد على خمس ساعات، ينتهي عند سقوط الاتحاد السوفياتي، فإن فيلم أساياس، الذي لا يتجاوز نصف تلك المدة، يبدأ تحديداً من تلك اللحظة. وهذا ما يُضفي عليه بُعداً تكميلياً، ويذكّرنا بجماليات الحوار الصامت الذي تنشأ أصداؤه في المهرجانات بين الأفلام، حين "يُكمل" أحدها الآخر من دون أن يدري بذلك.

من خلال العودة إلى أوائل التسعينات، لا يكتفي الفيلم برصد سيرة فرد، إنما يحكي أيضاً حكاية أمة، وسط الفوضى العارمة التي أعقبت انهيار المنظومة السوفياتية. الشاب اللامع، الذي سيُعرف لاحقاً بلقب "ساحر الكرملين"، هو فاديم بارانوف (يؤدّي دوره بول دانو). نراه أولاً فناناً يكتب المسرحيات، قبل أن يتحوّل إلى منتج تلفزيوني، ثم إلى العقل الإعلامي المدبّر لرجل غامض صاعد من أروقة الاستخبارات، يُدعى فلاديمير بوتين، الهامس في أذنه، والحارس الأمين لأسراره.

لكن في هذا العالم، لا وجود لثقة عمياء. التحالفات هشّة والمصالح فوق كلّ اعتبار. بارانوف، الذي سيساهم في رسم ملامح روسيا الجديدة، سيتحوّل إلى أحد أعمدة النظام الذي ساعد في بنائه. طموحه الفنّي سيتلاشى، ليجد نفسه في قلب المنظومة التي كان يحلم يوماً بأن يغيّرها، وإذا بها تبتلعه. وبرغم مقاومته الهادئة، ومحاولته الحفاظ على إنسانيته وسط دوّامة السلطة، فإن النظام لا يرحم: يعطي بيد ويأخذ بالأخرى.

يبدأ "ساحر الكرملين" بلقاء بين أستاذ جامعي أميركي (جيفري رايت) وفاديم بارانوف، في موسكو، خلال زيارة أكاديمية. هذا الأستاذ، الذي سبق أن ألّف سيرة عن بارانوف، يجد نفسه مجدداً أمام هذا الرجل الغامض، بعد سنوات من الصمت والتواري عن الأنظار، عقب خروجه، أو بالأحرى إقصائه، من دائرة السلطة. يقرر بارانوف أخيراً أن يتكلّم، كاشفاً أسرار النظام الاستبدادي الذي ساهم في تشييده، في سرد يتداخل فيه الشخصي بالسياسي، والمهني بالوجداني، حتى يصبح التمييز بين هذه المستويات أمراً معقداً، تماماً كما أراد أساياس.

هنا، تنشأ لعبة سردية من توقيع المخرج: تداخل بين "سلطة القلوب" وسلطة السياسة، بين الإنسان كفرد حالم والإنسان كترس في ماكينة الحكم. شخصية بارانوف ليست نسخة نمطية عن البيروقراطي البارد أو المثقّف المنكفئ؛ إنه رجل طموح وملتزم، يجد نفسه على نحو تدريجي في مهمّة تزداد ثقلاً وتعقيداً. يحاول، رغم كلّ شيء، أن يحتفظ بشيء من إنسانيته، لكن في عالم كهذا، لا يبقى شيء على حاله.

الجزء الأول من الفيلم يرصد لحظة مفصلية في تاريخ روسيا: شباب يخرجون من ظلال الاشتراكية، يتلمّسون أملاً جديداً، يحلمون بصنع مستقبلهم لا بأن يكونوا مجرد شهود على عبوره. لحظة تبدو واعدة، لكنها سرعان ما تُخنَق، حين يدرك هؤلاء أن ما انتقلوا إليه ليس سوى نسخة معدّلة ممّا فرّوا منه. سلطة تستنسخ أخرى، والمنظومات تتشابك في جوهرها القمعي، مهما اختلفت الأقنعة.

يعالج أساياس هذه اللحظة بحسّ بالغ الدقّة. لا إفراط في التوصيف ولا استعراض بصري مجّاني. كلّ عنصر في الفيلم يؤدّي وظيفته في بناء السرد، من دون أن يتحوّل إلى عبء جمالي. يصوّر روسيا بنظرة باردة متأمّلة، من دون أحكام مسبقة. حتى بوتين، في بداياته، يكاد يقنعنا بطرحه، قبل أن ينزلق تدريجاً إلى صورته الطاغية التي نعرفها.

"القيصر": هكذا يُسمّى بوتين في الفيلم، لا يُذكر اسمه صراحةً، ولا يُقدَّم بملامح مطابقة، في خيار يبدو جمالياً بقدر ما هو قانوني. فهو ليس شخصية مقلَّدة، إنما كيان سينمائي يُذكِّرنا بواقع نعيشه، من دون أي محاكاة.

أحد أبرز عناصر الفيلم هو رصده النخبة المحيطة، ومن بين هذه الشخصيات، يظهر بوضوح بوريس بيريزوفسكي، أحد مهندسي صعود بوتين، قبل أن يُقصى لاحقاً إثر خلاف معه. نمر عبر الفيلم على مفاصل كبرى في التاريخ الروسي الحديث، في رصد مكثّف لخفايا الحكم في الكرملين، على امتداد ربع قرن. ساعتان ونصف ساعة من التسلّل إلى الكواليس، لا تقدَّم كوقائع تاريخية، بقدر ما تُطرَح كلحظات إنسانية، نُشاهدها من منظور رجل ساهم في صُنعها… ثم ابتلعته.

المأخذ الأساسي وربما الوحيد الذي يمكن تسجيله على الفيلم، هو أنه نُفِّذ باللغة الإنكليزية. في عمل يفترض أن تدور أحداثه في قلب روسيا، ومع شخصيات تنتمي إلى الثقافة الروسية بكلّ تعقيداتها وسلوكياتها، تصبح هذه المفارقة صادمة. صحيح أن ضخامة الموازنة، وارتباط بعض من الإنتاج بمنصّة "ديزني بلاس"، جعلا من اللغة الإنكليزية خياراً مفروضاً، وربما شرطاً لا مناص منه لإنجازه، لكن النتيجة تظلّ مربكة. فأن ترى شخصيات روسية تتحدّث الإنكليزية بطلاقة مصطنعة، وتتصرف وفق منطق سلوكي غربي، هو ضرب من اللامعقول. المسألة لا تتعلّق باللغة فحسب، بل بالسلوك والعقلية والتفاعل والانفعال ببنية الذهنية الأميركية التي تختلف جوهرياً عن الروسية. الفيلم، مع الأسف، لا يُعير هذا الفارق اهتماماً يُذكَر، مكتفياً بتقديم روسيا كما لو كانت مجازاً مسرحياً ناطقاً بإنكليزية أنيقة، ولكن بلا نبرة محلية تحمي خصوصيته.

مع ذلك، يمضي الفيلم بإيقاع محكم لا يخلو من الوضوح، في لعبة كشف وجوه السياسة المواربة، ووضع الإصبع على ما يشكّل جوهر "الشخصية الروسية" كما يتخيلها الغرب. تتقدّم الأحداث بسرعة محسوبة، عبر حوارات لا تتوقّف، تتكفّل تحريك السرد أكثر من أي حبكة خارجية. تدخل كاميرا أساياس في دوائر السلطة المحيطة ببوتين، لتعاين عن قرب أسوأ ما في هيكل الحكم، لا بهدف الإدانة (فذلك بات تحصيلاً حاصلاً)، إنما لمساءلة آليات النفوذ حين تتحوّل إلى أداة لإفساد الطموح الفردي وتفريغ الأمة من محتواها، كما تصف إحدى الشخصيات حين تقول إن "روسيا تحوّلت إلى سوبرماركت”.

ما يُحسَب للفيلم أنه لا يسقط في التبسيط. يمنح نفسه الوقت اللازم تاركاً للمُشاهد فرصة الاستخلاص، من دون أن يلقنه إياها. يوازن أساياس، بنضج أخلاقي لافت، بين الشأنين العام والخاص، وبين المَشاهد العريضة وتلك الحميمة، مصوّراً إياها بشغف متساوٍ وفضول حيّ. "ساحر الكرملين" سردية عن السحر حين ينقلب على الساحر، وما يدور خلف جدران الكرملين يبدو، هنا، رواية مثالية لإثبات تلك المقولة.

 

####

 

البندقية 82 - المستحيل ليس فرنر هرتزوغ!

هوفيك حبشيان - المصدرالبندقية - "النهار"

مهرجان البندقية السينمائي يمنح فرنر هرتزوغ جائزة "الأسد الذهب" الفخرية عن مجمل أعماله.

طوال حياته، حمل فرنر هرتزوغ، ابن الثالثة والثمانين، روحاً عاصفة، تمزج بين العظمة والجنون والتمرّد. من الصعب ألّا تشعر بالدهشة وأنت تراه "يُروَّض" أخيراً على مسرح مهرجان البندقية السينمائي (27 آب - 6 أيلول)، متسلّماً جائزة "الأسد الذهب" الفخرية عن مجمل أعماله. ذلك النوع من التكريمات، مهما بدا لامعاً، لا يبدو متكافئاً مع ما أثاره صاحب ”فيتزكارالدو" طوال حياته من ظاهرة ثقافية تتجاوز حدود السينما. حتى ابتسامته العريضة، وهو يتسلّم الجائزة من يد فرنسيس فورد كوبولا، لا تنسجم تماماً مع نظراته الزرقاء القلقة حين يتحدّث عن أي موضوع. ما لم يكن، بالطبع، ثمة شخصية أخرى كامنة في داخله، نجح طوال حياته في إخفائها عنّا.

نشأ في وادٍ ناءٍ، بعيداً من أي أثر للسينما، ولم يكن يعرف حتى سن الحادية عشرة أنها موجودة. من جبال بافاريا الهادئة إلى شاشات العالم، شق هرتزوغ لنفسه طريقاً خاصاً. جمع في أفلامه حسّ المغامرة في استكشاف العالم من أطرافه البعيدة والمجهولة، انطلاقاً من إيمانه بأن العمل الفني يتجاوز الزمن، يعبّر عن إحساس بالخلود. هذا الإيمان دفعه أخيراً إلى نشر مذكّراته تحت عنوان "كلّ إنسان لنفسه والله ضد الجميع"، حيث استعاد فيها مزيجاً من اللحظات الشخصية والعامة، من طفولته في ريف بافاريا، مروراً بتجربته الفنية وعلاقته المعقّدة بممثّله المفضّل كلاوس كينسكي، إلى تأمّلاته في الكاثوليكية وتأثيرها العميق على أفلامه ومواضيعها.

منذ بداياته، ارتبط بـ"السينما الألمانية الجديدة"، تلك الحركة التي ظهرت في مطلع الستينات وأعلنت "موت سينما الأب"، في ما عُرف ببيان أوبرهاوزن. ساهم هرتزوغ مع رفاقه في إعادة تشكيل السينما الألمانية بعنفوانها وتحديها للمألوف. مع مخرجين مثل فاسبيندر وفندرز وشلوندورف، دفع تيار السينما الألمانية إلى الأمام.
استطاع كينسكي تجسيد الجنون والتمرد الهرتزوغي على الشاشة في أفلام مثل "أغويري، غضب الله" و"فيتزكارالدو". شخصيات هامشية وأحلام رومنطيقية متطرفة، حيث يتجلّى الصراع الأزلي بين الإنسان والطبيعة، وبين الحلم والواقع، بأسلوب خيالي وعنيف
.

هرتزوغ غير محصور في السينما، هو مستكشف لا يكلّ، فضولي لا حدود لرغبته في المعرفة والاطلاع، يحلّق بأفلامه إلى أبعد حدود الطبيعة والروح البشرية، متتبّعاً مظاهر الخوف والرهبة التي تحيط بالإنسان والعالم من حوله. عرف كيف يزرع الخوف والرهبة في القلوب، بدءاً من "نوسفيراتو" إلى "رجل الغريزلي"، عاشق الدببة الذي التهمه دبّ. ببساطة، هرتزوغ لا يعرف المستحيل. المستحيل ليس هرتزوغ

بعد سقوط جدار برلين، شهدت السينما الألمانية تحوّلات عميقة، لكن هرتزوغ بقي متمسّكاً بحلمه الخاص وبمخاوفه الذاتية، مجدّداً نفسه على الدوام. في الولايات المتحدة التي انتقل اليها في التسعينات، واصل إنتاج أفلام وثائقية وروائية، مؤكّداً أن السينما هي فنّ تعود جذوره إلى آلاف السنين قبل الميلاد (تنبغي مشاهدة ”كهف الأحلام المنسية“ في هذا الصدد). يقول مدير "الموسترا" ألبرتو باربيرا عنه بأنه "وارث الرومنطيقية الألمانية العظيمة“.

هرتزوغ صاحب تجربة غنية وطويلة، وله في سجلّه اليوم نحو 70 فيلماً بين قصير وطويل، نصفها من النوع الوثائقي. صوّر في أصعب الظروف (نرى بعضها في فيلمه الوثائقي الجميل "أعز أعدائي")، ويُعتبر نموذجاً في كيفية القفز فوق التمويل التقليدي، معتمداً على نفسه. هذا المصارع السينمائي، يؤمن بأن العمل هو الأساس في كلّ شيء.

في كلمة له، لمناسبة تكريمه الفينيسي، يذكّر بأنه لم يتقاعد بعد، ولا يزال في ذروة النشاط. لقد أنهى أخيراً فيلمه الوثائقي الأحدث، "الأفيال الأشباح" في أفريقيا (يُعرض في المهرجان)، ويصوّر حالياً روائياً جديداً في عنوان "باكينغ فاستارد" في إيرلندا، كما يعمل على مشروع فيلم كرتوني مستند إلى روايته "عالم الشفق"، ويشارك في أداء صوتي لفيلم تحريك من إخراج الكوري بونغ جون هو.

في حوار مفتوح مع الجمهور عُقِد في البندقية غداة تكريمه، استعرض فلسفته الخاصة في صناعة الأفلام، واصفاً عقلية المخرج بأنها تشبه عقلية المجرم. قال انه يجب أن يكون المخرج مستعداً لاختراق القوانين والقيود التي قد تفرضها الدول أو الأنظمة. بالنسبة اليه، إنجاز الأفلام ليس فنّاً هادئاً، إنما فعل عنيف يتطلّب جرأة لا تنضب وقدرة على الوقوف ضد كلّ عائق. شرح هرتزوغ فكره بالقول: "عليك أن تعرف كيف تزوّر تصريح تصوير في بلد تحكمه ديكتاتورية عسكرية، أو كيف تكسر قفلاً. إن لم تكن لديك هذه الروح، فلا تفكّر حتى في أن تصبح مخرجاً“.

أنشأ هرتزوغ أخيراً حساباً على "إنستغرام"، حصد خلال أسبوع واحد فقط قرابة 350 ألف متابع. وقد افتتح ظهوره الأول بفيديو طريف، يقف فيه في حديقة أمام قطعة لحم مشوية، ليُعلن، بلكنة ألمانية محبّبة، رغبته في التواصل مع الناس، رغم أنه لا يحمل في جيبه هاتفاً نقّالاً. أما نصيحته الذهبية للراغبين في دخول عالم السينما، فجاءت على طريقته الخاصة، ساخرة وحاسمة: "السينما المستقلّة وهم. أنت دوماً تابع لمنظومة: تابع للإنتاج، تابع للتوزيع، تابع للتصاريح. الشيء الوحيد الحقيقي هو قدرتك على الاعتماد على نفسك. اجلب المال، لكن لا تسرق مصرفاً، فهذا غير مجدٍ، وغالباً ما سيقبضون عليك“.

 

####

 

البندقية 82 - ”بوغونيا“: الفكرة تكفي عند لانثيموس

هوفيك حبشيان - المصدرالبندقية - "النهار"

بعد عامين على فوزه بـ"الأسد" عن "كائنات مسكينة"، يقدّم لانثيموس في "موسترا" البندقية عمله الجديد "بوغونيا".

لا يوجد في السينما المعاصرة ما هو أكثر إدّعاءً - أو ربما تصنّعاً - من الحالة التي يمثّلها يورغوس لانثيموس حالياً. لكنه، وللمفارقة، ادّعاء يجد مَن يحتفي به وينتصر له. المخرج اليوناني الذي بدأ بخطوات متواضعة، بات ينتقل اليوم بمشروعه من كانّ إلى البندقية، ذهاباً وإياباً بين هذين الحدثين السينمائيين، محمولاً على أكتاف إعجاب لا ينفك يتزايد. موازنة أفلامه تضخّمت، لكن الغرابة التي تسكن أعماله بقيت على حالها، إن لم نقل إنها ازدادت حدةً.

لا أدري إن كانت "غرابة" هي الوصف الدقيق، فهي أقرب إلى نوع من السينما "الشاذة" (لا بالمفهوم الأخلاقي للكلمة) بل تلك التي تثير شيئاً من النفور، بتراكيب بصرية مشغولة بعناية، ترفض توليد مشاعر جاهزة أو انفعالات سهلة. في عوالم لانثيموس المغلقة، تتحدّث الشخصيات بنبرة واحدة، كما لو أنها مفصولة عن مشاعرها أو معزولة عنها عمداً. في مرحلة سابقة، ظنّ بعضهم أن هذا البرود كان ضرباً من التأمّل الفلسفي في الشرط الإنساني، على طريقة ستانلي كوبريك. أما اليوم، فالتلقّي تغيّر، وأصبح التعامل مع هذا الأسلوب أكثر حذراً.

بعد عامين فقط على فوزه بـ"الأسد" عن فيلمه "كائنات مسكينة"، يقدّم لانثيموس في مسابقة "موسترا" البندقية (27 آب - 6 أيلول) عمله الجديد "بوغونيا"، الذي يمكن مشاهدته بلا انزعاج كبير، شرط عدم أخذه على محمل الجدية المطلقة. فالفيلم لا يحمل في داخله ما يسمح بمناقشة أعمق، وإنما هو تجميع من خزعبلات كلامية توظَّف ببراعة لإبراز مهارة مخرجه في صناعة الصورة الأخّاذة، لا أكثر ولا أقل.

تدور الأحداث على شابين: الأول (جيسي بليمونز) مهتم بالنحل ويعاني من اضطرابات نفسية واضحة تجعله يظن أن مديرة شركة أدوية كبرى (إيما ستون) كائن فضائي تخطط هي وجماعتها للقضاء على البشرية. فيقنع الثاني، ابن عمه الساذج والمتخلّف عقلياً (أيدن ديلبيس)، بخطفها وانزال أشد العقوبات الجسدية والنفسية عليها، انتصاراً للبشر. سيطلبان منها إحباط المخطّط، رغم أن "المسكينة" لا تملك أدنى فكرة عن أي شيء من هذا القبيل

لا يسعنا الكشف أكثر عن القصّة، إذ تقع أهميتها جزئياً في "الضربة المسرحية" التي تأخذ الفيلم إلى مستوى آخر. منذ البداية، يمكن الاعتماد على إيما ستون والشخصية التي تؤدّيها لصناعة لحظات من المفاجأة، لكن للأسف، يمضي وقت طويل في تكرار المَشاهد وجرجرة الأفكار المملّة قبل الوصول إلى تلك اللحظة الحاسمة التي ينتهي بها الفيلم.

يمزج السيناريو بين العبث والبارانويا في نبرة نيهيلية، محاطاً بإطار جمالي صارخ بالألوان وزوايا تصوير محدّدة بدقّة. شخصيات تعيش على هامش المجتمع الأميركي المليء بأمثالهم، في عزلة تحوّلها إلى وحوش مفترسة، وهي تحمل أفكاراً غير منطقية مستمّدة من عالم ذي خيال بلا حدود، حيث تُقتبَس معظم المعلومات من مصادر مضللة. من خلال هذه الشخصيات وهذه الأجواء، ينبئ الفيلم بما هو قادم. ولكن، مهلاً، لا تستعجلوا وتسألوني ما هو هذا القادم. لا أنا ولا حتى لانثيموس يعرفه. يكفي ان تكون فكرة جذّابة كي يعتمدها. هذه هي الفلسفة التي يعمل في اطارها. صحيح انه ينهي الفيلم ببهاء، لكن في جوهره لا يقدّم شيئاً جديداً في سينما تنطوي على الكثير من الخداع.

 

####

 

البندقية 82: فرانكنشتاين يتهاوى وسوكوروف ينبش رماد الأمبراطورية الحمراء

هوفيك حبشيان - المصدرالبندقية - "النهار"

الأسبوع الأول من مهرجان البندقية السينمائي يختتم بعرض أولى الأفلام المتنافسة.

انتهى أمس الأسبوع الأول من مهرجان البندقية السينمائي (27 آب/أغسطس – 6 أيلول/سبتمبر)، ومعه اكتملت المشاهدات الأولى لمجموعة من الأفلام المتنافسة على "الأسد"، وأخرى عُرضت خارج المسابقة

حتى الآن، لم يطل برأسه ذلك العمل الكبير الذي يعيد ترتيب المشهد أو يُحدث انقلاباً في الذائقة، ولا نزال في حالة ترقّب لاكتشاف جديد فرنسوا أوزون، كاثرين بيغلو، أوليفييه أساياس، جيم جارموش، وغيرهم من الأسماء التي يُنتظر أن تضع بصمتها في "الموسترا 82". مع ذلك، يصح القول انه اهتزّ ضميرنا أمام "يتيم" المجري لازلو نمش (ستكون لنا معه وقفة مفصّلة لاحقاً)، وسافرنا مع ألكسندر سوكوروف في رحلة آسرة بين مراحل الاشتراكية، أما يورغوس لانثيموس، فوضعنا أمام فصل جديد من مغامراته العبثية. في المقابل، جاء "جاي كيلي" لنوا بومباك مخيّباً، لا يترك أي أثر، درامياً وسينمائياً، رغم وجود جورج كلوني. لكن الخيبة الكبرى، حتى الآن، تمثّلت في السقوط الحر للمكسيكي غييرمو دل تورو في محاولته احياء شخصية فرانكنشتاين (مسابقة)، حيث لم يشفع له لا شغفه المعلن ولا رؤيته للطبيعة البشرية. العمل الذي طالما حلم به مخرجه، وأنتجته منصّة "نتفليكس" بموازنة ضخمة بلغت 120 مليون دولار، يمكن وصفه بلا تردد بـ"دعسة ناقصة" في مسيرة سينمائي لطالما اعتُبر أحد أبرز مجددي فنّ الخيال البصري المعاصر.

يقدّم دل تورو قراءة ”شخصية“ لرواية ماري شيلي، محاولاً تخليصها من رهبتها الأصلية وتحويلها إلى دراما إنسانية تدور حول أب مخذول و“ابن“ منبوذ (أوسكار أيزك وجاكوب إيلوردي). ورغم ما في الرؤية من شغف وحميمية، فإن التنفيذ جاء مثقلاً بالحوار المباشر والترميز المفرط والإيقاع الرتيب الذي أفرغ الفيلم من أي توتّر درامي. لا الشخصيات اشتغلت بعمق، ولا العالم البصري بلغ السحر الذي ميّز أعمال دل تورو السابقة. حتى الجانب الجمالي المحض، الذي كان دوماً منطقة قوة في سينماه، بدا هنا "خلبياً"، كأن الذكاء الاصطناعي تولّى صوغه، بدلاً من لمسة مخرج عرف كيف يُخرج الوحوش من الظلال لا من برامج التصميم. والمستغرب ان الموسيقى التصويرية لألكسندر دسبلا، جاءت بدورها بلا بريق. ما أراده دل تورو هو "رسالة مقدّسة" عن الإنسان والوحش والرحمة، لكنها تحوّلت إلى خطاب رنّان لا ينتهي.

*****

شارك اليوناني يورغوس لانثيموس في المسابقة بـ"بوغونيا"، محمّلاً أدواته الجمالية نفسها التي صنعته: الغرابة المنمّقة، الحوار المسطّح المقصود، والنبرة الانفعالية المحايدة للشخصيات. لكن هذه المرة، لا يبدو أن هناك شيئاً فعلياً وراء كلّ هذا الصخب البصري سوى استعراض متقن للفراغ ذاته. لانثيموس، الذي نجح سابقاً في "قتل الغزال المقدّس" و"كائنات مسكينة" بخلخلة بنية السرد التقليدي وتوليد الدهشة، يسقط هنا في فخ التكرار وكأنه يعيد الاستلهام من نفسه. نستسلم مجدداً لحيله، من دون أن يمنحنا في المقابل أي طرح حقيقي يعوّل عليه. الشخصيات تعاني من تشوهات فكرية وسلوكية، لكنها ليست معقّدة بقدر ما هي مرسومة لخلق نفور مقصود، وكأن الهدف الأسمى هو إبقاء المتفرج في حالة ارتياب دائم. القصّة، التي تدور حول شاب مضطرب (جيسي بليمونز) يرى في مديرة شركة أدوية (إيما ستون) كائناً فضائياً يهدد البشرية، تُروى ضمن قالب يمزج بين العبث ونزعة نيهيلية خانقة. يعيد الفيلم تدوير مواضيع لانثيموس المعتادة: السلطة، الاختيار، التلاعب، لكنه لا يضيف إليها شيئاً، بل يستهلكها داخل إطار بصري يذكّر أحياناً بمسرحة مبتذلة للواقع. كلّ ما هو رمزي أو ساخر هنا، يبدو مرسوماً بعناية. "بوغونيا" ليس إلا فصلاً آخر في تجربة سينمائية بدأت تفقد زخمها، فتتحوّل تدريجاً إلى طقس شكلي. لانثيموس لا يزال ممسكاً بأدواته (تكفي رؤية المشهد الختامي)، لكنه ربما بدأ يخسر صلته بما يمكن أن يشعرنا بأن هناك ما يستحق التحمّس له.

*****

بعد غياب دام عقداً عن البندقية ومهرجانها، يعود المعلّم الروسي ألكسندر سوكوروف بفيلم إستثنائي، "يوميات مخرج" (خارج المسابقة)، يمتد لأكثر من خمس ساعات، ويقدّمه كعمل خارج التصنيف، أشبه بتأمّلات موسّعة في الزمن، الذاكرة، والانهيار الإيديولوجي. هذا ليس فيلماً بالمفهوم التقليدي، فهو أقرب إلى أرشيف حميم، تُروى فيه العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين، بوصفها تواريخ سياسية وثقافية، وأيضاً كلقطات مترسبة في الوعي الجمعي والوجدان الشخصي للمخرج. من خلال صور أرشيفية مذهلة ولحظات مقتطعة من التاريخ السوفياتي والدولي، يعيد سوكوروف تركيب الماضي، بهدف مساءلته: من خروتشوف وما بعد ستالين، إلى لحظة تفكّك الاتحاد السوفياتي، مروراً بالسباق النووي وصعود تكنولوجيا الفضاء، حتى فوضى الإنترنت. الفيلم يتحدّث عن الحلم الاشتراكي، ولكن أيضاً عن الخيبات التي نتجت منه، عن المثقّفين الذين تم قمعهم أو نفيهم، عن سلطة لا ترى الإنسان إلا كأداة ضمن آلة كبرى. يعتمد سوكوروف على المونتاج كأداة سردية، فالحكاية تُروى من خلال آلاف المقاطع المتلاحقة، في إيقاع بصري يخطف الأنفاس ويشبه وضعية ذاكرة تتملّص من الترتيب الزمني، لكنها تحتفظ بجوهر التجربة. يرفض المخرج تصنيف عمله ضمن تقاليد "المدرسة الروسية"، مؤكّداً أن المونتاج بالنسبة له "شيء كوني"، يُستخدَم لتشكيل رؤية شخصية وعالمية في آن. رغم طوله، لا يُشعر الفيلم بالملل، بل يجذب بسطوته الأدبية والفكرية. حضور سوكوروف في البندقية، في ظلّ العزلة الثقافية المفروضة على روسيا، أشبه بفعل مقاومة رمزية. التاريخ بين أصابعه الذهب ينساب كحلم منسوج بالحنين والمرارة.

 

النهار اللبنانية في

01.09.2025

 
 
 
 
 

"فرانكشتاين" اقتباس سينمائي جديد لرواية الإنجليزية ماري شيلي

البندقية (إيطاليا)

الفيلم يوصف بأنه يقدّم رؤية بصرية شعرية تسلط الضوء على الوحدة، والرفض، والسؤال الأزلي عن معنى الخلق والهوية.

أطلق المخرج المكسيكي غييرمو ديل تورو السبت من مهرجان البندقية السينمائي فيلم “فرانكشتاين” ذا الموازنة الضخمة، مشيرا قبيل عرضه العالمي الأول إلى أنه كان يحلم بإخراجه منذ الصغر.

والفيلم محاولة حديثة لتصوير الرواية الشهيرة “فرانكشتاين” للكاتبة الإنجليزية ماري شيلي (1797 – 1851) التي تروي قصة فيكتور فرانكشتاين، وهو عالم شاب يخلق مخلوقا غريبا عاقلا في تجربة علمية غير تقليدية. وتعد هذه الرواية مثالا مبكرا لروايات الخيال العلمي. وكان لها تأثير كبير في الأدب والثقافة الشعبية وأنتجت نوعا كاملا من قصص الرعب والأفلام والمسرحيات.

وسبق لديل تورو أن فاز بالجائزة الكبرى للمهرجان عام 2017 عن مخلوق آخر وُلِد على شاشات البندقية هو الكائن المائي في فيلم “ذي شايب أوف ووتر” The Shape of Water الذي نال عنه أيضا الأوسكار.

ويسعى فيلم ديل تورو المقتبس من تحفة الكاتبة ماري شيلي إلى الفوز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي، وهو من بين الأعمال الـ21 المتنافسة عليها.

وقال ديل تورو في مؤتمر صحفي قبل ساعات على عرض الفيلم السبت “كنت أتابع هذا المخلوق منذ صغري”.

وأضاف “انتظرتُ دائما أن تتوافر الظروف المناسبة لإنتاج الفيلم، سواء من الناحية الإبداعية أو من حيث تحقيق النطاق الذي أحتاج إليه لأجعله مختلفا، وأن يُنجز على نطاق يتيح إعادة بناء العالم بأسره”.

وأشار إلى أنه يعاني في الوقت الراهن “اكتئاب ما بعد الولادة”. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يُقام العرض العالمي الأول للفيلم في ما يُعرف بـ”يوم فرانكشتاين”، وهو ذكرى ميلاد مؤلفة الرواية ماري شيلي في الثلاثين من أغسطس.

ويُقدّم الفيلم الذي يتولى بطولته أوسكار آيزك في دور فيكتور فرانكشتاين وجايكوب إلوردي في دور الكائن الذي ابتكره، مشهدا قوطيا جريئا.

تدور أحداثه في أوروبا الشرقية في القرن التاسع عشر، حيث يتوجب على الدكتور بريتورياس (كريستوف فالتز) أن يعثر على وحش فرانكشتاين (جاكوب إلوردي)، الذي يُعتقد أنه توفي في حريق قبل 40 عاما، من أجل مواصلة تجارب الدكتور فيكتور فرانكشتاين (أوسكار آيزك).

ومن خلال تتبع الفيلم العالم المهووس بكائنه، يستكشف مواضيع الإنسانية والانتقام والإرادة الجامحة وعواقب الغطرسة.

منذ فيلم “فرانكشتاين” للمخرج جيمس ويل عام 1931 من بطولة بوريس كارلوف، تعددت الاقتباسات من الرواية.

وتراوحت هذه الاقتباسات بين تلك الجادة مثل “ماري شيليز فرانكشتاين” عام 1994 للمخرج كينيث براناه، وفيلم ميل بروكس الساخر “يونغ فرانكشتاين” عام 1974.

ويأتي فيلم “فرانكشتاين” لديل تورو ليقدم تصورا إنسانيا عميقا لرواية ماري شيلي الكلاسيكية، لكنه يبتعد عن الرعب التقليدي ويركّز على الجانب العاطفي للمخلوق الغريب، ويوصف الفيلم بأنه يقدّم رؤية بصرية شعرية تسلط الضوء على الوحدة، والرفض، والسؤال الأزلي عن معنى الخلق والهوية. بطابع ديل تورو المميز، تظهر الوحوش كضحايا أكثر من كونها تهديدات، في عالم يبدو أكثر قسوة من المخلوقات التي يدينها. وقد وصف ديل تورو الفيلم بأنه “قصة عن الحب والتشويه والقبول في عالم غير متسامح”.

ورأى المخرج أن رواية ماري شيلي تحاول الإجابة عن سؤال “ما معنى أن تكون إنسانا؟”.

وقال في المؤتمر الصحفي “أعتقد أن الفيلم يحاول إظهار شخصيات غير مثالية وحقنا في أن نبقى غير مثاليين، وحقنا في فهم بعضنا البعض في ظل أقسى الظروف”.

وأضاف “ما مِن مهمة أكثر إلحاحا من الحفاظ على إنسانيتنا في زمن يتجه فيه كل شيء نحو فهم ثنائي القطب لإنسانيتنا”.

ويُعرض الفيلم الذي أنتجته “نتفليكس” لوقت محدود في دور السينما في أكتوبر، قبل أن يُتاح عبر الإنترنت في نوفمبر.

ويذكر أن غييرمو ديل تورو هو مخرج وكاتب ومنتج مكسيكي، وُلد في التاسع من أكتوبر عام 1964 في مدينة غوادالاخارا، ولاية خاليسكو بالمكسيك. يُعرف بأسلوبه الفريد الذي يمزج بين الخيال، الرعب، الرومانسية، والدراما، مع تركيز خاص على الشخصيات “الغريبة” أو “الوحوش”، التي يراها رموزا للجمال المختلف والإنسانية العميقة. ويعتبر من أبرز رموز السينما العالمية المعاصرة.

بدأ ديل تورو شغفه بالسينما في سن مبكرة، حيث صنع أفلاما قصيرة خلال سنوات دراسته في جامعة غوادالاخارا. كما تتلمذ على يد خبير المكياج السينمائي الأميركي ديك سميث، وأسّس في الثمانينات من القرن الماضي شركة خاصة بالمؤثرات البصرية. في عام 1993، أخرج أول أفلامه الطويلة Cronos، الذي نال عدة جوائز، وفتح له الباب نحو الإنتاج العالمي.

حصل على عدد كبير من الجوائز العالمية، أبرزها ثلاث جوائز أوسكار، وجوائز من مهرجان كان والبندقية، إلى جانب البافتا، الغولدن غلوب، وغيرها. يُعد أحد “الثلاثة أميغوس” في السينما المكسيكية إلى جانب ألفونسو كوارون وأليخاندرو إيناريتو، الذين ساهموا في إبراز السينما اللاتينية عالميا.

 

العرب اللندنية في

01.09.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004