ملفات فينيسيا (4): الفيلم الجزائري رقية”.. طرد الشيطان
أمير العمري
من بين أفلام مسابقة “أسبوع النقاد” بمهرجان فينيسيا الـ82،
يبرز الفيلم الجزائري “رقية” للمخرج يانيس كوسيم (48 عاما) الذي أخرج عددا
من الأفلام القصيرة، قبل أن يخرج “رقية”، وهو فيلمه الروائي الطويل الأول.
و”الرقية” المقصودة هنا، هي وسيلة العلاج بالقرآن والأدعية
النبوية لطلب الشفاء من الأمراض الروحية والجسدية، والحماية من السحر
والعين والحسد، وهي في الفيلم وسيلة لطرد الأرواح الشريرة من الجسد أي
“الشيطان”. ولكن الفيلم يتجاوز فكرة طرد الشيطان إلى فكرة أكثر قسوة ورعبا
ممارسة القتل والذبح بدعوى التخلص من الشيطان. والفيلم يمزج بين المفهوم
الشعبي الذي يتعلق بطرد الشيطان من الجسد عن طريق الأدعية، وبين قصة رمزية
تدور على أرض الواقع، في بلدة جزائرية قريبة من العاصمة، تصور أعضاء
الجماعات الإسلامية المتطرفة في صورة أقرب إلى الكائنات الخرافية
الشيطانية، فهم يأتون في الليل، يتسللون في الظلام، لهم سحن شيطانية،
يذبحون الأبرياء للترويع.
تدور قصة فيلم “رقية”Roqia
، على خلفية الموضوع الذي شغل الجزائر كما شغل السينمائيين الجزائريين منذ
عقود، أي الصراع المسلح الدامي أو “العشرية السوداء” التي بدأت عام 1992
عقب تعطيل الانتخابات العامة عندما بدا أن كل المعطيات تشير إلى فوز الجبهة
الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات، وما نتج بعد ذلك، من اندلاع موجات من
العنف استمرت لعشر سنوات وراح ضحيتها عشرات الآلاف من الجزائريين.
كانت جماعات العنف المسلح (الإسلامية) تشن غارات على القرى
والبلدات التي تعتقد أنها تؤيد الحكومة أو على الأقل لا تؤيد قيام الدولة
الإسلامية، وتذبح الرجال والنساء في عمليات إرهاب دموية. وعلى خلفية هذا
المناخ تدور أحدث فيلم “رقية” الذي اختار مخرجه قصة رمزية، وأسلوبا أقرب
إلى أسلوب أفلام الرعب، ليس من أجل الإثارة، بل لكي يربط بين موضوع العنف
السياسي، وبين الرعب الأسطوري الممتد الذي يخالف الإسلام، فهو يريد القول
إن التطرف الديني خارج عن الإسلام.
طرد الأرواح الشريرة أو الشياطين والجن من الجسد الإنساني
هو أساس الصورة الغريبة التي نراها في اللقطات الأولى في الفيلم. والمخرج
“يانيس كوسيم” الذي كتب سيناريو فيلمه، يصور قصته من خلال الانتقال بين
ثلاث شخصيات ذات صلة ببعضها البعض، عبر زمنين، الماضي والحاضر.
سيناريو الفيلم ينتقل على نحو غير تقليدي، لا يروي قصة بقدر
ما يصور “حالة” ذهنية ونفسية.. إنه يسبح في منطقة تقع بين الواقع والخيال،
وكثيرا ما يجعل الفارق ضئيلا بين الأزمنة وبين الحقيقة والمتخيل أو الخيالي
الأسطوري. ومن يشاهد الفيلم سيصبح بعد فترة، واقعا داخل تلك “التعويذة”
السحرية، ويظل يتساءل طوال الوقت عن تلك الصورة وتفاصيلها، وهي صورة تكثفها
موسيقى غريبة لا نعرف مصدرا لها، تشي بالغموض والرعب والخوف والعنف. لكنها
تسري من تحت جلد الصورة ولا تفرض نفسها فوقها.
هناك أولا “الراقي” (في الزمن الحاضر) أو الشيخ الذي يمارس
طقوس طرد الأرواح الشريرة من الجسد عن طريق الرقية والأدعية، نراه في الفصل
الأول من الفيلم يقوم بعلاج امرأة شابة هي “وفاء”، بمعاونة مساعده ويده
اليمنى “سليمان”. أما “وفاء” فهي جارتهما في السكن التي تتردد بين وقت وآخر
على منزلهما لكي تطهي لهما الطعام، وهي حامل وزوجها غائب يعمل في جنوبي
البلاد.
يأتي بعد ذلك الشاب “أحمد” الذي نراه في الزمن الماضي (في
عام 1993) معصوب الرأس والعينين بضمادات طبية بعد أن تعرض فيما يبدو لحادث
سيارة، ونعرف أنه عاد مؤخرا من أفغانستان، لكنه لا يتذكر شيئا. تحاول زوجته
“سالمة” أن تدفعه للتذكر لكنه لا يستطيع حتى التعرف على أبنائه الثلاثة،
ويرفض طفله الأصغر الاقتراب منه بل يخاف من منظره. يستجوبه رجال الأمن،
لكنه لا يستطيع أن يفيدهم بشيء عن ماضيه، بل يبدو مرعوبا لا يريد أن يتذكر
ذلك الماضي. يحاول صديقه القديم “عبد الكريم” أن يدفعه للتذكر. وعندما
سيتذكر سيقع صريعا لما يبدو أنه تلبس الأرواح الشريرة في جسده. لكن هذا
سيحدث في الحاضر عندما نعود إليه بعد أن يكون قد كبر وكبرت في رأسه شياطينه.
عبد الكريم يتمتم بعبارات غير مفهومة.. هل هي آيات معكوسة
من القرآن؟ إنها تبدو ككلمات وتمتمات غامضة غريبة تركز إلى استدعاء
الشيطان. الواضح أنه من أعضاء “الجماعة”.. وهو الذي يذكر أحمد بأنه
“الأمير”.. يحاول أن يدفعه لتذكر جوره القديم الذي يحاول أن يهرب منه
وينساه. هذه الحيلة، أي فكرة ترديد كلمات مبهمة يكررها الفيلم وتبدو مقتبسة
من أفلام الرعب بالإضافة بالطبع إلى العلامة التي تقضي بتسلل الشيطان إلى
الجسد، أي جرح أو قطع في يد أو قدم، كعلامة على “انضمام” الشخص إلى
“الجماعة” من القتلة وسفاكي الدماء، كمعادل لمصاصي الدماء في أفلام الرعب
الغربية.
أحداث العنف والذبح وقطع الرقاب تركت عشرات الجثث ممددة
أمام أبواب المنازل في البلدة. فقد الشيخ إصبع السبابة في يده اليمنى. وهي
لابد أن تكون علامة ما، وشم وضعه عليه الكائنات الغريبة الليلية التي تتسلل
وتذبح، بحيث يصبح واحدا منهم والدليل أن الشيخ نفسه أخذ يردد نفس الكلمات
الشيطانية المبهمة، وهوما جعل سليمان يعتقد أن “الشيطان” نجح في التسلل إلى
جسده، فيمارس عليه “الرقية” ثم يشق ذراعه لإخراج الشيطان من جسده. ويؤدي
النزيف الناتج عن هذا الجرح العميق يؤدي إلى وفاة الشيخ.
سليمان سيلمح جرحا في قدم وفاء. تقول إنه حدث ليلة أمس
أثناء كسر الزجاج لاستخدامه في جرح ذراع الشيخ. سليمان يشعر بالذعر.
يسألها: هل أصيبت بهذا الجرح قبل أم بعد وفاة للشيخ؟ والمقصود هل انتقل
إليها الشيطان من جسد الشيخ، وعندما تبدأ وفاء في الصراخ المفزع، يقرا
سليمان عليها “التقية”. لكن الغرباء يتسللون ويذبحون كلا من سليمان ووفاء.
هذا فيلم عن الذاكرة وعن الزمن.. عن الماضي. وعن الخوف من
الذكرى والتذكر وعن قمع النفس، وعن الكائنات التي تعتقد أنها أكثر نقاء من
غيرها، وأنها تتقرب إلى الله بالقتل، لكن الفيلم يقول على صعيد رمزي
بالطبع، إنها ضالعة في تحالف مع الشيطان..
الرقية تفشل في علاج الممسوسين، خصوصا “أحمد الذي ينتهي إلى
الجنون المطلق وقتل زوجته وأبنائه في نوبة هياج شيطاني. لقد ظهر الماضي كله
واندفع على شكل موجة شيطانية عاتية.
إنه مناخ القتل والذبح والعنف، الذي اجتاح الجزائر في
الماضي القريب ومازالت آثاره غائرة في النفوس. إلا أننا لسنا أمام فيلم
بسيط يتعامل مع الموضوع برؤية سطحية مباشرة، بل يحول الذكرى إلى رعب،
والماضي إلى كابوس بصري وسمعي، ويجعل الزمن حاضرا ممتدا يحلق بأشباحه فوق
الحاضر.
إن أجواء السحر واستخدام النص القرآني المعكوس أو المشوه،
مقصودة لصبغ أولئك الذين أشاعوا الرعب تحت ستار الدين في الماضي، بصبغة
شيطانيةـ وتصويرهم ككائنات غير بشرية، تقتل وتذبح ليس فقط بغرض العقاب
والتنكيل والترويع، بل لإيمانها بتفسيرات جنونية، لا تنتمي للفكر الإسلامي،
ولا فرق بينهم وبين الذين يعبدون الشيطان. وهذا هو مكمن الرعب الذي يأتينا
من هذا العمل الأول القوي المؤثر. فلا شك أن فيلم “رقية” يكشف عن موهبة
كبيرة، وعن براعة فنية في استخدام الصورة وبناء المشهد، والانتقال بين
الأزمنة، مع السيطرة المدهشة على الأداء التمثيلي. ففي هذا الفيلم يتفوق
جميع الممثلين في أداء أدوارهم أمام الكاميرا، في إقناع وصدق وتجانس، مع
إخراج واثق ينجح في خلق هارمونية فريدة فيما بينهم: مصطفى جادجام، أكرم
شلغم، هناء منصور، علي ناموس، ليديا هاني،
يساهم في جعل الفيلم على ما هو عليه من غموض وسحر، التصوير
البديع الذي قام به المصور الفرنسي جون ماري ديلروم، صاحب الخبرة، فهو
يتمكن من الاستخدام الخلاق للضوء والظل، في خلق مساحات غامضة توحي بأجواء
السحر والرعب من دون ابتذال أو مبالغة، مع مونتاج دقيق يعرف متى ينتقل من
مشهد إلى آخر، ويستخدم الإظلام الكلي الطويل بين المشاهد لإتاحة الوقت أمام
المشاهدين للتأمل والترقب وعدم القفز إلى المشهد التالي مباشرة، مع مضاعفة
الشعور بالرهبة والرعب. وفي فيلم يعتمد على توليد أكبر من المشاعر
والانفعالات: الدهشة والقلق والرعب، يكون أفضل ما يعبر به المخرج ومدير
تصويره، هي اللقطات القريبة الكبيرة للوجوه والعينين، مع عدم الاهتمام
كثيرا بالكشف عن تضاريس المكان وأبعاده في المشاهد الليلية. فهو مثلا يصور
مشهد انتشار العنف والقتل وتمدد الجثث في الشوارع في الليل، من خلال كاميرا
متحركة (من داخل سيارة) ثم من خارجها، وهي لقطات تتأرجح وتهتز وتنتقل بسرعة
بين الأشباح الممددة لأشخاص ذُبحوا وقطعت أوصالهم، وكذلك في المشهد النهاري
الذي يتجمع الناس فيه حول جثة ممزقة الأوصال في وسط البلدة.
إنها رؤية مرعبة مثيرة لتاريخ القتل، وغياب الروح، وفساد
المناخ، في هذا العمل السينمائي الذي لا شك في قوة تأثيره، حتى مع غياب
الشرح والتبرير والتفسير الدرامي، فكل شيء يمكن الإحساس به واستيعابه وفهمه
من دون اي شروح أو تعليقات. وهذا جوهر الفن الرفيع.
يقول المخرج: “نشأتُ خلال التسعينيات الدموية في الجزائر،
ولا تزال الصدمة والخوف من تلك الفترة حاضرين تحت سطح الحياة اليومية..
إنني أستخدم الرعب، المبني على الواقعية والذاكرة، كأداة لمواجهة ذلك
الماضي، والحفاظ عليه، وضمان عدم نسيانه أبدًا.” ولا شك أن فيلمه يعكس كلا
من الخوف والصدمة كأفضل ما يكون. |