ملفات خاصة

 
 
 

«بوغونيا»… أو كيف صنع لانثيموس صيغته الذهبية في 20 عامًا؟

محمد طارق

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثاني والثمانون

   
 
 
 
 
 
 

في زيارتي الأولى لمهرجان فينيسيا سنة 2023، حضرت العرض العالمي الأول لـ«أشياء مسكينة Poor things». وقتها كنت أعرف أن يورغوس لانثيموس قد صور بالفعل ثلاثة أفلام بنفس الممثلين وطاقم العمل والتصوير في إيرلندا ولصالح نفس المنتجين، كنت أتشوق وقتها إلى مشاهدة تلك الأفلام الثلاثة. شاهدت أولهم «أشياء مسكينة» في فينيسيا وثانيهم «أنواع الطيبة Kinds of kindness» في كان، وثالثهم «بوغونيا Bugonia» شاهدته منذ أيام في الدورة الـثانية والثمانين لمهرجان فينيسيا الذي بدأت منه تلك الثلاثية.

«بوغونيا Bugonia» هو الفيلم الأحدث للمخرج اليوناني يورغوس لانثيموس الذي استطاع إدخال دم جديد إلى هوليوود، وقاد شراكة إبداعية ناجحة مع إيما ستون تحديدًا، فنقلها هو إلى مصاف الممثلات المذهلات ومنحها أدوارًا ستخلد في ذاكرة السينما – في علاقة أشبه بعلاقة ستانلي كوبريك ونيكول كيدمان- ومنحته هي شهرة تؤهله لخوض سباقات أوسكار ومكاسب أكبر في شبابيك التذاكر وعلى المنصات الإلكترونية. تلك الشراكة لم تكن هي الوحيدة للانثيموس المتعاون سابقًا مع ممثلين كبار بحجم كولين فاريل وريتشل فايز وويليام دافو، لكنها ربما كانت الأنجح في صعوده من بداياته كمخرج أفلام فنية للغاية مثل «سن الكلب Dog tooth» مرورًا بـ«قتل غزال مقدس The killing of a sacred deer» و«المفضلة The Favorite» ووصولًا إلى ثلاثيته غير المتصلة وأشهرها «أشياء مسكينة». 

هذه المرة، مع «بوغونيا»، أصبحت تلك الشراكة شبه معلنة للجميع، فلا ذكر لأي من الاثنين دون ذكر الآخر، ويبدو أن هذا التعاون قد يستمر لسنوات، ستون هي الوجه التجاري لأفلام يفترض بها أنها غاية في التعقيد، لكن وجودها إلى جانب ممثلين مشهورين آخرين وبضع تعديلات في النصوص، تزيد جماهيريتها. ورغم أن محبي لانثيموس القدامى، وأنا منهم، ربما يفضلون أعماله الأقدم الأكثر جرأة وتعقيدًا وتجريدًا، إلا أنه لا يمكن إنكار أن خلطته لحالية هي الصيغة الذهبية لوصول السينما الفنية للجماهير، ومن ثم تغيير وضع السوق التجاري بشكل ما، ما يخلق فرصًا جديدة لمخرجين آتين من خارج هوليوود أن يحظوا بجماهيرية عالمية واسعة التأثير. ويؤثر في خلق أذواق متعددة في صناعة هي محكومة بمصالح كثيرة ولا يمكن التأثير على معطياتها بسهولة

لكن ما معنى بوغونيا؟ وعم يدور هذا الفيلم؟  الكلمة ذات أصل يوناني قديم وتعبر عن معتقد قديم مفاده أنه يمكن للنحل أن يتولد من الجثث الميتة. أي ميلاد الحياة من الموت.

في الفيلم نبدأ مع تيدي (جيسي بليمونز)، مُربِّي النحل والذي يعيش مع صديقه الذي يشاركه الهوس بنظريات المؤامرة. يحمل تيدي شخصية عصابية، فهو قلق من العالم، وينقل خوفه وشكه المرضي إلى صديقه المخلص له، ليقنعه بنظرية مؤامرة تتعلق بميشيل المديرة الشابة لشركة كبرى، إذ يقنع تيدي صديقه أنها كائنة فضائية يجب أن يخلِّصا البشرية من مخططاتها الشريرة

الإحالات هنا ربما توحي بترابط بين تلك الشخصيات وأنواعها وبين عالمنا، ميشيل تشبه ربما إيلون ماسك ومارك زوكربرج وغيرهم من «الأحرار الجدد» الداعين لإلغاء الضرائب وأي نوع من القيود في سبيل منافسة حرة تمامًا تخدم توسعهم بشكل لا نهائي، يحلمون بالسفر إلى الفضاء والسيطرة عليه وامتلاكه بمنطق استعماري بحت، يشبه كل حملات الغزو والاستيطان التي حدثت ولا تزال تحدث في عالمنا

على الجانب الآخر فإن تيدي هو المهووس بالصراع مع ميشيل ومن شابهها، يُحضِّر جيدًا مع صديقه لعملية الاختطاف. صديقه متواضع الذكاء شديد الإخلاص، ربما يشبه الشعوب التي لا تفهم شيئا من هذا الصراع على الإطلاق، لكنها تصدق في طرف من الطرفين في أمل زائف بتغيير وضعها. هذه هي الشخصيات التي نراها بشكل أساسي طوال الفيلم في مواقع تصوير ليست بالكثيرة، وإلى جانبهم نرى والدة تيدي المريضة وضابط الشرطة الذي يحقق في اختفاء ميشيل كشخصيات فرعية.

لا تختلف الصورة وشريط الصوت كثيرًا عن أفلام لانثيموس السابقة، إلا أنه لا يستخدم أي نوع من الإبهار البصري الضخم كما في حال «أشياء مسكينة» ولا حكايات متعددة كما في «أنواع الطيبة». ولكن ربما يعود كما ذكرنا من قبل إلى دراما «سن الكلب» و«قتل غزال مقدس» في تقليل الشخصيات والأماكن والاعتماد على الحوار الغريب، مع بعض لحظات من العنف أو القسوة المخلوطة بالكوميديا العبثية. وهو هنا ربما يحظى الآن بمساحة حرية فنية أكبر، بعدما أصبح واحدًا من المخرجين النجوم الذين ينتظر العالم أعمالهم

لا يقدم لانثيموس أي شيء غريب على عالمه الذي صنعه منذ فيلمه الطويل الاول، لكنه يبقى في وسط معظم إنتاجات السينما العالمية، واحدًا من أكثر المخرجين الذين تحفز أعمالهم عقول المشاهدين للتفكر في ما يحدث في العالم، لكن دون خسارة صوته السينمائي الخاص.

ويمكننا القول إن لانثيموس، الذي صنع فيلمه الروائي الطويل الأول عام 2005، استلزمه الأمر 20 عامًا من تجربة خلطات فنية مختلفة، ليصنع أفلامًا لا يشبه فيها غيره، ولكن بتأثير وبجماهيرية أكبر بكثير، فأصبح واحدًا من أهم معاصري السينما الفنية الذين لم يرضوا بمكان على هامش الصناعة

 

####

 

بارك تشان-ووك… «لا خيار آخر» سوى العنف

شفيق طبارة

كانت عودة أستاذ السينما الكورية الجنوبية بارك تشان ووك بفيلم جديد في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية، من بين أكثر الأحدث ترقبًا، ويا لها من عودة!

قصة «لا خيار آخر /No other Choise» نموذجية، تروي المنافسة الشرسة، والتغييرات التي أحدثها وصول الرخاء منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على الأقل، والاختلافات الاجتماعية والكراهية، والامتيازات التي لا نهاية لها داخل النظام الرأسمالي. يتناول «تشان ووك» قصته من منظور الأغنياء، الذين يرتجفون من فكرة أنهم لم يعودوا كذلك، ومن التضاؤل المعروض من الوظائف.

بعد مسيرة مهنية امتدت لأكثر من 25 عامًا في صناعة الورق، يعيش مان-سو «لي بيونغ-هان» حياة مثالية: منزل واسع، زوجة محبة «سون يي-جين»، طفلان، وكلبان وفيان. رجل يظن أنه نال كل شيء. لكن حين يتلقى خبر فصله من العمل، تنهار منظومته الهادئة بضربة قاسية. يعد أسرته بأنه سيجد وظيفة خلال ثلاثة أشهر، لكن الواقع يخذله: 13 شهرا من الفشل، مقابلات عقيمة، ونفاد مكافأة نهاية الخدمة.

في مواجهة خطر الانهيار المالي وفقدان مكانته، يكتشف مان-سو أن السوق لا يرحم، وأن الوظائف القليلة المتاحة تذهب لمن هم أفضل منه. وهنا، يتولد داخله منطق جديد: «إن لم يكن الأفضل، فليكن الوحيد» مدفوعاً بيأسه، يبدأ في تصفية منافسيه واحدًا تلو الآخر!

«لا خيار آخر»، تأمل مُلح في ديناميكيات العمل المعاصر، والآليات المنحرفة لما بعد الرأسمالية التي تُجبرنا على التحرك كأشخاص يائسين. ومع ذلك، فإن هذا التأمل ليس صاخبًا ولا تعليميًا، بل هو جزء من فيلم إنساني، حيث يظل العنصر المحوري دائمًا هو البعد النفسي للشخصيات، وبردود أفعالهم تجاه المجتمع من حولهم، والتي ستقود مان-سو إلى أشكال من التدمير الذاتي. وإذا كان فعل القتل، والأفعال المشكوك فيها أخلاقيًا، قد تم إشباعها في الماضي في سينما «تشان ووك»، بهالة صدمة متعمدة. فإن العنف والقتل في «لا خيار آخر» يقدم بنبرة ساخرة، لنشوة الفعل الدموي.

يمكن وصف سينما «تشان ووك» بأنها مفرطة، في الكتابة، والإخراج، والتشابك، والتراكمات، والتناقضات، وبالتالي في طبيعتها الميكانيكية، والوتيرة الصارمة والفوضوية التي تتطور بها حبكات أفلامه، فبدلاً من أن تتكشف، تتراكم وتتشابك قطعة قطعة. في جديده يثبت نفسه مرّة أخرى أنه نقطة مرجعية للديناميكيات السينمائية والوعي الكبير بالكاميرا، والإخراج، وطريقة تقديم الفيلم كوسيط سمعي بصري. الكثير يحدث داخل كلّ مشهد، تتضمن لقطات، مكالمات الفيديو دائماً شيئًا في الخلفية لا يراه المتصل، مخفيًا وسريًا. تحتوي كلّ لقطة على شيء أكثر من المعتاد، حتى عندما يريد بطل الرواية رمي مزهرية من سطح لقتل شخص ما، فإنها تتسرب بعض الماء عليه، مما يأخذ القصة إلى مكان آخر. إنه انتصار للسينما والإلهام. كل ذلك داخل الكوميديا، وهو النوع الذي يميل الأكثر كسلًا إلى الاعتقاد بأنه لا يرتبط بالضرورة بإخراج قوي، بل يعتمد على الكتابة والتمثيل، والذي يُظهر بارك بدلاً من ذلك أنه يمكنه تحويله إلى قمة الفكاهة الإخراجية. هناك نكات مبنية بصوت يظهر في نقطة معينة، مع حوار لا يمكن سماعه لأن الموسيقى عالية جداً، مع قتال مصمم لإثارة الضحك، أو حتى مع لقطة تضع الأبطال في موقف، نظرًا لعلاقات القوة الخاصة بهم، يكون مضحكًا.

على امتداد السرد، يتهاوى النظام الأخلاقي لشخصية غير قادرة على مواجهة تحديات الحياة بمسؤولية واضحة. وفي ظل الضغوط الهائلة التي يفرضها النظام المؤسسي في كوريا الجنوبية على العاملين، يظل العنف هو الوسيلة الوحيدة المتاحة للتنفيس، بل الترياق الوحيد في مواجهة الانهيار. فيلم «لا خيار آخر» يُجسّد هذا الواقع، ويقدّمه من منظور درامي وموضوعي شامل، ليصبح بوابة إلى عالم غريب ومضطرب. في هذا العالم، لم يعد العنف مجرد رد فعل غاضب أو تعبير عن قلق مكبوت، بل تحوّل إلى سلوك وقح، يتسلل إلى الحياة اليومية كأداة للبقاء. وهكذا، لا يكتفي الفيلم بتشريح أزمة فردية، بل يرسم ملامح مجتمع بأكمله، حيث تتآكل القيم تحت وطأة الحاجة، ويصبح الانحراف الأخلاقي نتيجة منطقية لنظام لا يرحم.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

31.08.2025

 
 
 
 
 

ملفات فينيسيا (4): الفيلم الجزائري رقية”.. طرد الشيطان

أمير العمري

من بين أفلام مسابقة “أسبوع النقاد” بمهرجان فينيسيا الـ82، يبرز الفيلم الجزائري “رقية” للمخرج يانيس كوسيم (48 عاما) الذي أخرج عددا من الأفلام القصيرة، قبل أن يخرج “رقية”، وهو فيلمه الروائي الطويل الأول.

و”الرقية” المقصودة هنا، هي وسيلة العلاج بالقرآن والأدعية النبوية لطلب الشفاء من الأمراض الروحية والجسدية، والحماية من السحر والعين والحسد، وهي في الفيلم وسيلة لطرد الأرواح الشريرة من الجسد أي “الشيطان”. ولكن الفيلم يتجاوز فكرة طرد الشيطان إلى فكرة أكثر قسوة ورعبا ممارسة القتل والذبح بدعوى التخلص من الشيطان. والفيلم يمزج بين المفهوم الشعبي الذي يتعلق بطرد الشيطان من الجسد عن طريق الأدعية، وبين قصة رمزية تدور على أرض الواقع، في بلدة جزائرية قريبة من العاصمة، تصور أعضاء الجماعات الإسلامية المتطرفة في صورة أقرب إلى الكائنات الخرافية الشيطانية، فهم يأتون في الليل، يتسللون في الظلام، لهم سحن شيطانية، يذبحون الأبرياء للترويع.

تدور قصة فيلم “رقية”Roqia ، على خلفية الموضوع الذي شغل الجزائر كما شغل السينمائيين الجزائريين منذ عقود، أي الصراع المسلح الدامي أو “العشرية السوداء” التي بدأت عام 1992 عقب تعطيل الانتخابات العامة عندما بدا أن كل المعطيات تشير إلى فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات، وما نتج بعد ذلك، من اندلاع موجات من العنف استمرت لعشر سنوات وراح ضحيتها عشرات الآلاف من الجزائريين.

كانت جماعات العنف المسلح (الإسلامية) تشن غارات على القرى والبلدات التي تعتقد أنها تؤيد الحكومة أو على الأقل لا تؤيد قيام الدولة الإسلامية، وتذبح الرجال والنساء في عمليات إرهاب دموية. وعلى خلفية هذا المناخ تدور أحدث فيلم “رقية” الذي اختار مخرجه قصة رمزية، وأسلوبا أقرب إلى أسلوب أفلام الرعب، ليس من أجل الإثارة، بل لكي يربط بين موضوع العنف السياسي، وبين الرعب الأسطوري الممتد الذي يخالف الإسلام، فهو يريد القول إن التطرف الديني خارج عن الإسلام.

طرد الأرواح الشريرة أو الشياطين والجن من الجسد الإنساني هو أساس الصورة الغريبة التي نراها في اللقطات الأولى في الفيلم. والمخرج “يانيس كوسيم” الذي كتب سيناريو فيلمه، يصور قصته من خلال الانتقال بين ثلاث شخصيات ذات صلة ببعضها البعض، عبر زمنين، الماضي والحاضر.

سيناريو الفيلم ينتقل على نحو غير تقليدي، لا يروي قصة بقدر ما يصور “حالة” ذهنية ونفسية.. إنه يسبح في منطقة تقع بين الواقع والخيال، وكثيرا ما يجعل الفارق ضئيلا بين الأزمنة وبين الحقيقة والمتخيل أو الخيالي الأسطوري. ومن يشاهد الفيلم سيصبح بعد فترة، واقعا داخل تلك “التعويذة” السحرية، ويظل يتساءل طوال الوقت عن تلك الصورة وتفاصيلها، وهي صورة تكثفها موسيقى غريبة لا نعرف مصدرا لها، تشي بالغموض والرعب والخوف والعنف. لكنها تسري من تحت جلد الصورة ولا تفرض نفسها فوقها

هناك أولا “الراقي” (في الزمن الحاضر) أو الشيخ الذي يمارس طقوس طرد الأرواح الشريرة من الجسد عن طريق الرقية والأدعية، نراه في الفصل الأول من الفيلم يقوم بعلاج امرأة شابة هي “وفاء”، بمعاونة مساعده ويده اليمنى “سليمان”. أما “وفاء” فهي جارتهما في السكن التي تتردد بين وقت وآخر على منزلهما لكي تطهي لهما الطعام، وهي حامل وزوجها غائب يعمل في جنوبي البلاد.

يأتي بعد ذلك الشاب “أحمد” الذي نراه في الزمن الماضي (في عام 1993) معصوب الرأس والعينين بضمادات طبية بعد أن تعرض فيما يبدو لحادث سيارة، ونعرف أنه عاد مؤخرا من أفغانستان، لكنه لا يتذكر شيئا. تحاول زوجته “سالمة” أن تدفعه للتذكر لكنه لا يستطيع حتى التعرف على أبنائه الثلاثة، ويرفض طفله الأصغر الاقتراب منه بل يخاف من منظره. يستجوبه رجال الأمن، لكنه لا يستطيع أن يفيدهم بشيء عن ماضيه، بل يبدو مرعوبا لا يريد أن يتذكر ذلك الماضي. يحاول صديقه القديم “عبد الكريم” أن يدفعه للتذكر. وعندما سيتذكر سيقع صريعا لما يبدو أنه تلبس الأرواح الشريرة في جسده. لكن هذا سيحدث في الحاضر عندما نعود إليه بعد أن يكون قد كبر وكبرت في رأسه شياطينه.

عبد الكريم يتمتم بعبارات غير مفهومة.. هل هي آيات معكوسة من القرآن؟ إنها تبدو ككلمات وتمتمات غامضة غريبة تركز إلى استدعاء الشيطان. الواضح أنه من أعضاء “الجماعة”.. وهو الذي يذكر أحمد بأنه “الأمير”.. يحاول أن يدفعه لتذكر جوره القديم الذي يحاول أن يهرب منه وينساه. هذه الحيلة، أي فكرة ترديد كلمات مبهمة يكررها الفيلم وتبدو مقتبسة من أفلام الرعب بالإضافة بالطبع إلى العلامة التي تقضي بتسلل الشيطان إلى الجسد، أي جرح أو قطع في يد أو قدم، كعلامة على “انضمام” الشخص إلى “الجماعة” من القتلة وسفاكي الدماء، كمعادل لمصاصي الدماء في أفلام الرعب الغربية.

أحداث العنف والذبح وقطع الرقاب تركت عشرات الجثث ممددة أمام أبواب المنازل في البلدة. فقد الشيخ إصبع السبابة في يده اليمنى. وهي لابد أن تكون علامة ما، وشم وضعه عليه الكائنات الغريبة الليلية التي تتسلل وتذبح، بحيث يصبح واحدا منهم والدليل أن الشيخ نفسه أخذ يردد نفس الكلمات الشيطانية المبهمة، وهوما جعل سليمان يعتقد أن “الشيطان” نجح في التسلل إلى جسده، فيمارس عليه “الرقية” ثم يشق ذراعه لإخراج الشيطان من جسده. ويؤدي النزيف الناتج عن هذا الجرح العميق يؤدي إلى وفاة الشيخ.

سليمان سيلمح جرحا في قدم وفاء. تقول إنه حدث ليلة أمس أثناء كسر الزجاج لاستخدامه في جرح ذراع الشيخ. سليمان يشعر بالذعر. يسألها: هل أصيبت بهذا الجرح قبل أم بعد وفاة للشيخ؟ والمقصود هل انتقل إليها الشيطان من جسد الشيخ، وعندما تبدأ وفاء في الصراخ المفزع، يقرا سليمان عليها “التقية”. لكن الغرباء يتسللون ويذبحون كلا من سليمان ووفاء.

هذا فيلم عن الذاكرة وعن الزمن.. عن الماضي. وعن الخوف من الذكرى والتذكر وعن قمع النفس، وعن الكائنات التي تعتقد أنها أكثر نقاء من غيرها، وأنها تتقرب إلى الله بالقتل، لكن الفيلم يقول على صعيد رمزي بالطبع، إنها ضالعة في تحالف مع الشيطان..

الرقية تفشل في علاج الممسوسين، خصوصا “أحمد الذي ينتهي إلى الجنون المطلق وقتل زوجته وأبنائه في نوبة هياج شيطاني. لقد ظهر الماضي كله واندفع على شكل موجة شيطانية عاتية.

إنه مناخ القتل والذبح والعنف، الذي اجتاح الجزائر في الماضي القريب ومازالت آثاره غائرة في النفوس. إلا أننا لسنا أمام فيلم بسيط يتعامل مع الموضوع برؤية سطحية مباشرة، بل يحول الذكرى إلى رعب، والماضي إلى كابوس بصري وسمعي، ويجعل الزمن حاضرا ممتدا يحلق بأشباحه فوق الحاضر.

إن أجواء السحر واستخدام النص القرآني المعكوس أو المشوه، مقصودة لصبغ أولئك الذين أشاعوا الرعب تحت ستار الدين في الماضي، بصبغة شيطانيةـ وتصويرهم ككائنات غير بشرية، تقتل وتذبح ليس فقط بغرض العقاب والتنكيل والترويع، بل لإيمانها بتفسيرات جنونية، لا تنتمي للفكر الإسلامي، ولا فرق بينهم وبين الذين يعبدون الشيطان. وهذا هو مكمن الرعب الذي يأتينا من هذا العمل الأول القوي المؤثر. فلا شك أن فيلم “رقية” يكشف عن موهبة كبيرة، وعن براعة فنية في استخدام الصورة وبناء المشهد، والانتقال بين الأزمنة، مع السيطرة المدهشة على الأداء التمثيلي. ففي هذا الفيلم يتفوق جميع الممثلين في أداء أدوارهم أمام الكاميرا، في إقناع وصدق وتجانس، مع إخراج واثق ينجح في خلق هارمونية فريدة فيما بينهم: مصطفى جادجام، أكرم شلغم، هناء منصور، علي ناموس، ليديا هاني،

يساهم في جعل الفيلم على ما هو عليه من غموض وسحر، التصوير البديع الذي قام به المصور الفرنسي جون ماري ديلروم، صاحب الخبرة، فهو يتمكن من الاستخدام الخلاق للضوء والظل، في خلق مساحات غامضة توحي بأجواء السحر والرعب من دون ابتذال أو مبالغة، مع مونتاج دقيق يعرف متى ينتقل من مشهد إلى آخر، ويستخدم الإظلام الكلي الطويل بين المشاهد لإتاحة الوقت أمام المشاهدين للتأمل والترقب وعدم القفز إلى المشهد التالي مباشرة، مع مضاعفة الشعور بالرهبة والرعب. وفي فيلم يعتمد على توليد أكبر من المشاعر والانفعالات: الدهشة والقلق والرعب، يكون أفضل ما يعبر به المخرج ومدير تصويره، هي اللقطات القريبة الكبيرة للوجوه والعينين، مع عدم الاهتمام كثيرا بالكشف عن تضاريس المكان وأبعاده في المشاهد الليلية. فهو مثلا يصور مشهد انتشار العنف والقتل وتمدد الجثث في الشوارع في الليل، من خلال كاميرا متحركة (من داخل سيارة) ثم من خارجها، وهي لقطات تتأرجح وتهتز وتنتقل بسرعة بين الأشباح الممددة لأشخاص ذُبحوا وقطعت أوصالهم، وكذلك في المشهد النهاري الذي يتجمع الناس فيه حول جثة ممزقة الأوصال في وسط البلدة.

إنها رؤية مرعبة مثيرة لتاريخ القتل، وغياب الروح، وفساد المناخ، في هذا العمل السينمائي الذي لا شك في قوة تأثيره، حتى مع غياب الشرح والتبرير والتفسير الدرامي، فكل شيء يمكن الإحساس به واستيعابه وفهمه من دون اي شروح أو تعليقات. وهذا جوهر الفن الرفيع.

يقول المخرج: “نشأتُ خلال التسعينيات الدموية في الجزائر، ولا تزال الصدمة والخوف من تلك الفترة حاضرين تحت سطح الحياة اليومية.. إنني أستخدم الرعب، المبني على الواقعية والذاكرة، كأداة لمواجهة ذلك الماضي، والحفاظ عليه، وضمان عدم نسيانه أبدًا.” ولا شك أن فيلمه يعكس كلا من الخوف والصدمة كأفضل ما يكون.

 

موقع "عين على السينما" في

01.09.2025

 
 
 
 
 

"بين يدي دانتي" في "فينيسيا 82":

اختلال الرؤية إلى الإبداع

سينما ودراما

لن يُفاجأ المشاهد برؤية آل باتشينو مؤدّياً مشهداً قصيراً للغاية في "بين يدي دانتي" (2025)، لجوليان شنايبل، بينما لو عرف أنّ من يقف وراء الفيلم، المعروض خارج مسابقة الدورة 82 (27 أغسطس/آب ـ 6 سبتمبر/أيلول 2025) لمهرجان فينيسيا، هو مارتن سكورسيزي، مُنتجاً فنياً له.

لا جينريك بداية، بل ظهور ممثلين كبار بأدوار محدودة: جون مالكوفيتش وفرانكو نيرو وجيرارد باتلر وجايسون موموا، وسكورسيزي نفسه بدور راهب حكيم. هكذا، يبدو الفيلم سكورسيزياً بامتياز، من ناحية الأداء الحكائي للشخصيات، المتمثل بتعدّد وجوه الشخصية الدرامية، ثم توحيدها في سياق حياتي واقعي، لا يُمكن الفكاك منه. فالبيئة التي تعيش الشخصية فيها تقودها إلى جحيمها، من دون أي اعتبار لنياتها الخيّرة عند مجادلتها منطقياً، فيتراءى للمرء أنّ الشرَّ جزءٌ أساسي من الخير، وأحياناً سببٌ له.

ربما هذا جزء من المحتوى الإبداعي لسينما سكورسيزي، من دون إغفال دور شنايبل، الذي بدا مُتخرّجاً من هذه المدرسة، خاصة أنّه مشارك في كتابة السيناريو مع لويس كوغلبرغ، عن رواية بالعنوان نفسه (2002) لنِك توشيس، أي إنّ المخرج يكتب ما يستطيع إخراجه، ومع هذا فالصيغة الفيلمية مُركّبة وأكثر تعقيداً من مجرّد سرد تاريخي لمرحلتين زمنيتين، أولى زمن دانتي، وثانية في العصر الحديث، بسبب تشابكهما العضوي بواسطة الإبداع الأدبي، الذي يُتعامل معه في الزمن الماضي بوصفه قلقاً وجودياً يؤدّي إلى إنتاجه، بينما يؤخذ حالياً بوصفه قيمة تجارية أو سلعة ثمينة، يريد كثيرون امتلاكها من باب الاستحواذ.

هكذا يبدأ التعاطي مع النسخة الأصلية (المخطوطة) لـ"الكوميديا الإلهية" (1303 ـ 1320)، التي كتبها دانتي بخط يده على ورق خاص، مُهدى إليه من أحد النبلاء. مع هذا، لا ينقسم الفيلم إلى مستويين للفعل الحكائي، بحسب التقسيم الزمني (قديماً وحديثاً)، بل يتشابكان حول النظرة إلى دانتي مبدعاً أصلياً، بينما تقديره مختلف وفق المرحلة الزمنية. في السياق القديم، المُصوّر بالألوان، المهم معرفة الحقيقة الجوهرية للإنسان، بينما في السياق الحديث للسرد البصري، المُصوّر بالأسود والأبيض، المهم معرفة الحقيقة العلمية التي تثبت أصلية المخطوطة. المفارقة بين هاتين الحقيقتين: تراكم الجثث والجرائم في الثانية، وتراكم الدوافع لإنتاج الإبداع في الأولى. هنا، يبدو الفيلم فجائعياً، إذا قورن بين الزمنين. لكنّ الفيلم يحتوي على أكثر من ذلك.

بنية الفيلم مُركّبة تركيباً تفصيلياً ماهراً، يصعب على مقالة صحفية واحدة محاولة تفكيكها، وإعادة تركيبها نظرياً. إنّه مصنوع للمُشاهدة، أي لممارسة السينما، فهناك تدفّق مشهدي حسّاس للغاية، ويحتاج إلى ربط آني وفوري بين الخطوط والأحداث والشخصيات، ووصلها بمرجعياتها، إذْ لا يمكن التوقّف عند انقسامه إلى زمنين فقط. فالزمنان مرتبطان ببطل واحد (أوسكار إيزاك)، يؤدّي دوري دانتي التاريخي والكاتب المعاصر، المهتم بشأن دانتي ومخطوطاته، فيتشابك الحدث مع الشخصية ودوافعها وتربيتها في البيئة. تبدو الشخصيتان متناقضتين في العلاقة مع الإبداع، لكنهما متوافقتان من ناحية المشاعر والمنافع النفسية. هنا، يُكثّف الحب هذه المشاعر ويُشهرها، فيتوحّد دانتي التاريخي مع الروائي المعاصر، في البحث عن الحقيقة باعتبارها مشاعر إنسانية، تظهر بوصفها مصلحة أكيدة للعمر البشري.

السياق المعاصر للفيلم يلخّص العلاقة بالألوهية، بوصفها واجباً بشرياً (يشرحها آل باتشينو لطفل ارتكب جريمة قتل، دفاعاً عن النفس)، مؤكّداً على معرفة الإله بكل شيء، وهذا مُتجلٍّ في السياق الماضوي (أحد مرتكزاته)؛ ويشير إلى اختلال العلاقة بالإله، مع تطوّر مقاصد البشرية دنيوياً، يتجلّى (الاختلال) بمقصد الحصول على المخطوطة الأصلية لدانتي. فبين أستاذة جامعية مهووسة به وبمخطوطاته، بهدف الدراسة والبحث، ومجموعة إجرامية تسعى إلى المخطوطة لكسب المال، تتركّب دراما موازية، تذهب إلى سياقات الإجرام، عبر تنازلات أخلاقية، تقابلها تربّحات منطقية مزدانة بالتخطيط للمنافع المعنوية، فتبدو متلازمة الفشل والنجاح مرهونة بالمصادفات الحياتية.

"بين يدي دانتي" (160 دقيقة) مفتوحٌ تماماً على مقاربات نقدية عدّة: فيلمٌ ثري بالمقترحات السردية، بصرياً وحوارياً وفكرياً؛ مُحتشد ببدايات حدثية متوالية، ممتع إعادة ربطها بالسياق العام، خاصة مع التلذّذ برؤية ممثلين بارعين يؤدّون أدواراً مُعقّدة في أقصر زمنسكورسيزي السينمائي يُقدّم أداءً فاخراً في جزء يسير منه، كباتشينو ونيرو ومالكوفيش، الذين يبدون داعمين لفكرته، القائمة على نوع سينمائي خاص، يمكن تسميته بـ"التجريبية التسويقية"، إذْ تبدو آثار عناصر التجريبية السينمائية، المثقّفة بصرياً، واضحة في التركيبة العميقة لمعنى المشهد، بمرافقة تسويقية هوليوودية تُقدّم الأكشن بمعناه الترفيهي المعتاد.

يُشار أيضاً إلى أداء أوسكار إيزاك، البارع والإحترافي، بدور متعدّد الطبقات، من دانتي التاريخي إلى المؤلف الدرامي الكحولي، فالمجرم الذي يريد الاستحواذ على المخطوطة، ثم العاشق اليائس والتائه. هذا أضفى متعة أنيقة على التجسيد الحركي والصوتي لهذه الشخصيات غير البسيطة.

"بين يدي دانتي" صعبٌ ومتنوّع الأدوات والأزمنة والحالات الإنسانية والنفسية. ينتهي بالكاتب المبدع، الذي يصبح بائعاً لصفحات المخطوطة بالقطعة، كي يعيش حياة رغيدة، على كومة تنازلات، لا أحد يستطيع تحسينها أو تقبيحها، فالحياة بضغوطها أكثر تأثيراً في الفرد من أي قيم وشعارات.

 

العربي الجديد اللندنية في

01.09.2025

 
 
 
 
 

جيم جارموش:

لو بحثنا وراء شركات تمويل الأفلام سنتوقف عن صناعتها

فاصلة

عاد المخرج الأمريكي جيم جارموش إلى مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي للمرة الثانية فقط في مسيرته، بعد «Down by Law» (1986) وذلك مع العرض العالمي لفيلمه الرابع عشر «Father Mother Sister Brother»  ضمن المسابقة الرسمية. وكما حدث في مؤتمر جوليا روبرتس الجمعة، كانت الأجواء مشحونة، ومليئة بالأسئلة الجريئة التي تلاحق صناع الأفلام هذا العام.

جيم جارموش، الذي وقع مع عدد من المخرجين على رسالة موجهة إلى منصة MUBI الموزعة لفيلم جارموش المنافس على الأسد الذهبي، طالبوا فيها قطع علاقتها بأحد المستثمرين، الذي واجه انتقادات داخلية وخارجية بسبب صلة شركته بشركة ناشئة لصناعة آليات الدفاع الإسرائيلية. حيث قبلت المنصة استثمارًا بقيمة 100 مليون دولار من شركة تدعم أيضًا Kela، وهي شركة ناشئة في مجال الدفاع تأسست عام 2024 على يد قدامى الاستخبارات الإسرائيلية بعد هجمات 7 أكتوبر.

وكان الرئيس التنفيذي لـMUBI، إيفه شاكرال، قد أصدر بيانًا في وقت سابق من هذا الشهر يؤكد فيه أن علاقة الشركة مع صندوق الاستثمار لا تساهم في تمويل الحرب في غزة. وقال إن العلاقة مع الصندوق «لا تشارك في تمويل الحرب في غزة»، معلنًا مؤخرًا عن تبنّي «سياسة أخلاقية للتمويل والاستثمار» وتشكيل مجلس استشاري من أهل الفنون للمساهمة في تحديد معايير الشراكات المستقبلية. لكن الجدل لم يتوقف، وبقي حاضرًا بقوة في أسئلة الصحافة خلال المؤتمر.

تلقى جارموش سؤالًا مباشرًا من أحد الصحفيين حول موقفه من الأزمة، ليرد قائلًا: «لقد تحدثت مع MUBI حول الأمر، ولدي علاقة جيدة جدًا، خصوصًا مع مدير المحتوى جايسون روبيل، الذي اتصل بي فورًا. لم يكن على علم حين تمت هذه العلاقة. بدأت علاقتي مع MUBI قبل ذلك بكثير، وكان العمل معهم على هذا الفيلم رائعًا. بالطبع، شعرت بخيبة أمل وارتباك شديدين بسبب هذه العلاقة. إذا أردتم مناقشة الأمر، فعليكم التوجه إلى MUBI. أنا لست المتحدث باسمها. ومع ذلك، نعم، كنت قلقًا».

وأوضح أنه مرتبط باتفاقية توزيع مع MUBI في بعض المناطق، كان قد وقّعها قبل معرفته بهذه التفاصيل. مضيفًا: «أنا مخرج مستقل، وقد أخذت أموالًا من مصادر مختلفة لإنجاز أفلامي. أعتبر أن معظم أموال الشركات الكبرى أموال قذرة

تابع: «إذا بدأتم بتحليل كل شركات الأفلام وهياكل تمويلها، ستجدون الكثير من القذارة. يمكننا أن نتوقف عن صناعة الأفلام تمامًا، لكن الأفلام هي الوسيلة التي اخترتها للتعبير عما أريد قوله. نعم، أنا قلق، لكن ما لا يعجبني هو تحميل الفنانين مسؤولية تفسير هذه الأمور. نحن لسنا المعنيين؛ الجهة التي يجب أن يُوجّه لها السؤال هي MUBI. وليس MUBI فقط، بل شركات أخرى أيضًا».

الحوار لم يتوقف عند جارموش. فقد شاركت الممثلة إنديا مور – المعروفة بدعمها العلني لفلسطين والتي اعتُقلت في احتجاج بنيويورك عام 2023 للمطالبة بوقف إطلاق النار – في النقاش، حيث قالت: «منذ بداية الإبادة الجماعية للفلسطينيين، هناك قدر هائل من الحروب الإبداعية وحروب الموارد خلف الكواليس. الناس يحاولون أن يفهموا: كيف نعمل بطريقة أخلاقية لا تُمكّن من استمرار منظومات التمويل التي تسمح بوقوع مثل هذه المآسي؟ عملية التحقق والتدقيق التي يتعلمها الناس الآن ما زالت في طور التشكّل».

وأضافت: «هذه أسئلة لم نُضطر إلى طرحها من قبل، خصوصًا كفنانين مستقلين. نحن جميعًا نحاول أن نكتشف كيف نُبحر وسط هذه الظروف ونبقى على قيد الحياة. شيء واحد مؤكد: إذا سألني أحدهم لماذا عملت هنا أو هناك بينما هذه الجهة أو تلك المؤسسة تقف وراء أمر كهذا؟ فالاحتمال الأكبر أنني لم أكن أعلم».

مور شددت أيضًا على أن «الأشخاص الذين نخلق لهم الأعمال يجب أن يضاعفوا الضغط في هذا الاتجاه، حتى نتمكن نحن الفنانين من مواصلة العمل، وأن يكون لدينا منصة نضخّم عبرها الرسائل التي نحتاج إلى إيصالها. من المهم للغاية أن نحظى بدعم جمهورنا لفهم كيفية توجيه الضغط نحو مراكز القوة المسؤولة، لا نحو الأشخاص الذين يحاولون أن يكونوا في موقع الخدمة».

وعن تجربة الفيلم تحدثت الممثلة  كيت بلانشيت، التي أكدت أنها تشعر بمتعة خاصة عند تجسيد إحدى شخصيات جارموش، وعلقت ساخرة على كونه يصنع ما يحب ولا يكتب نصوصًا واضحة قائلة: «في آخر مرة عملنا معًا، دخّنت الكثير من السجائر. لذا كنت سعيدة أنني لم أضطر للتدخين في هذا الفيلم

واوضحت: «كثيرًا ما كنا نسأل جيم: ماذا يحدث في هذه اللحظة؟ ماذا يعني هذا؟ وكان يجيب: لا أعرف. لا أعرف. كنت آمل أن تخبروني أنتم بما يعنيه.»، وتابعت: «وقتها أدركت أنك تكتب بطريقة تشبه تدفق الوعي، وبأسلوب موسيقي إلى حد ما. ثم يساعدك الممثلون على أن تكتسب كتابتك معنى ما. ليس لأنها بلا معنى عند قراءتها، لكنني أجد أنك تخلق عوالم مضحكة للغاية وغريبة وعبثية، ومع ذلك مميزة لا يستطيع أحد سواك أن يخلقها يا جيم

واختتمت حديثها معه قائلة: «ومع ذلك، هناك أيضًا شيء عميق، فيه روحانية وشاعرية خاصة بك في الطريقة التي تمنح بها الأشياء معنى.»، اردفت: «وأعتقد أن هذا ما يميزك؛ فنحن غالبًا نحاول أن نحصر المعنى ونثبته، بينما أنت تسمح لهذه الروابط الغريبة بأن تكون بلا تفسير مباشر أو منطقي. وبالنظر إلى حال العالم اليوم، فأنا ممتنة جدًا لذلك

وتعليقًا على حديثها قال جارموش: «أريد أن أضيف شيئًا: عندما أكتب وأفكر في ممثلين محددين لأداء الشخصيات التي تخيلتها، أفضل الحوارات التي تخرج مني – إذا جاز لي أن أقول – تكون عندما أكتفي بالنسخ

وشرح قصده من الحديث السابق قائلًا: «الشخصيات تتحدث في رأسي فعلًا، ولا أعرف من أين يأتي ذلك. لا أعرف ماذا يعني، لكنها تبدو حيّة، وأنا فقط أكتب ما تقوله. وهذا غريب، لأنه ليس شيئًا أفكر فيه بوعي عندما يكون النص جيدًا. بل هي، الشخصيات، من تستولي على خيالي وتتكلم من خلاله».

 

####

 

أوليفييه أساياس: «ساحر الكرملين» ليس فيلمًا عن روسيا بل العالم

فاصلة

شهد مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي هذا العام انعقاد المؤتمر الصحفي العالمي الأول لفيلم «ساحر الكرملين» (The Wizard of the Kremlin) للمخرج الفرنسي أوليفييه أساياس، وذلك بالتزامن مع عرضه العالمي مساء اليوم ضمن فعاليات المهرجان

الفيلم، المقتبس عن رواية جوليانو دا إمبولي الصادرة عام 2022، يتحول حول رحلة صعود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى قمة السلطة في تسعينيات القرن الماضي من خلال شخصية خيالية تحمل اسم فاديم بارانوف، وهو شخصية مستوحاة من المستشار الإعلامي الحقيقي فلاديسلاف سوركوف. بارانوف، الذي يجسد دوره الممثل الأمريكي بول دانو، هو فنان طليعي ومنتج برامج تلفزيون الواقع سابق، ينتهي به المطاف ليصبح العقل المدبر الذي ساعد بوتين على رسم صورته وصعوده السياسي. وإلى جانب دانو، يضم طاقم التمثيل أسماء بارزة من بينهم جود لو في دور فلاديمير بوتين، وأليسيا فيكاندر في دور زوجة بارانوف «كسينيا».

خلال المؤتمر الصحفي، تحدث جود لو عن تجربته في لعب دور بوتين، حيث سُئل عما إذا كان قد خشي من أي تبعات سياسية لأدائه شخصية الرئيس الروسي. فأجاب: «آمل ألا يكون هذا تفكيرًا ساذجًا، لكن لم أشعر بالخوف من أي تداعيات. كنت واثقًا بيد أوليفييه أساياس وبالسيناريو، وعرفت أن القصة ستُقدّم بذكاء وبحساسية، من دون البحث عن إثارة الجدل لمجرد الجدل».

وأوضح لو أن التحدي الأكبر كان في بناء شخصية بوتين الذي يُعرف بقدرته على إخفاء ملامح شخصيته، حيث قال: «الوجه العام الذي نراه لبوتين لا يكشف الكثير. لقد أُطلق عليه بالفعل لقب “الرجل بلا وجه”. هو أشبه بقناع دائم. لذلك كان التناقض بالنسبة لي كممثل صعبًا: من جهة هناك توجيه المخرج لعرض عاطفة معينة في مشهد محدد، ومن جهة أخرى كان عليّ الالتزام بإظهار القليل جدًا».

من جانبه، أشار المخرج أوليفييه أساياس إلى أن الفيلم لا يقتصر على قصة بوتين، بل يتناول تحولات السياسة العالمية في العقود الأخيرة، موضحًا: «الفيلم يتناول كيف وُلدت السياسة الحديثة في القرن الحادي والعشرين، وكيف ساهم صعود بوتين في روسيا في تكريس شكل جديد ومرعب من السلطة. لم نصنع فيلمًا عن روسيا فقط، بل عن ما آلت إليه السياسة في عصرنا، وعن التحول المخيف الذي نعيشه جميعًا».

وأضاف أساياس أن السياسة اليوم تغيّرت جذريًا مقارنة بجيل السبعينيات والثمانينيات: «الأمر ليس مخيف بل مرعب، لأننا لم نجد بعد إجابة مناسبة أو رد فعل كافٍ على هذا التحول».

الممثل بول دانو، الذي حمل عبء الدور الرئيسي، أكد أنه لم ينظر إلى شخصية بارانوف كشخصية شريرة مطلقة، قائلًا: «لو صنّفنا بارانوف ببساطة كـ”شرير”، فسيكون ذلك تبسيطًا مخلًا يضر أكثر مما ينفع. الأهم هو النظر في المنطقة الرمادية، لأن الاكتفاء بالأسود والأبيض يبعدنا عن فهم الحقيقة».

أما الممثل جيفري رايت، فقد قارن التجربة الروسية بما يحدث في الولايات المتحدة، معتبرًا أن الفيلم يطرح سؤالًا عالميًا: «لدينا نحن أيضًا في أمريكا نزعات نحو الفاشية والتسلط. لكن ما ميّز تاريخنا هو وجود فكرة أننا قادرون على أن نكون أفضل. إذا فقدنا هذا الإيمان، نصبح تمامًا مثل ما يعرضه الفيلم».

 

موقع "فاصلة" السعودي في

01.09.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004