ملفات خاصة

 
 
 

«الشرق الأوسط» في مهرجان ڤينيسيا الدولي (3)

«ڤينيسيا» معبر الأفلام العالمية إلى «الأوسكار»

ڤينيسيا - إيطاليامحمد رُضا

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثاني والثمانون

   
 
 
 
 
 
 

ردّ مدير مهرجان ڤينيسيا، ألبرتو باربيرا، على مطلب عدم استقبال الممثل جيرار بتلر (أميركي) والممثلة غال غادوت (إسرائيلية)، بسبب تأييدهما للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بالقول إن المهرجان لا يمنع استقبال الفنانين وصانعي الأفلام إذا ما أرادوا الحضور، مضيفاً: «نحن هنا متألمون لما يحدث في غزة من قتل خصوصاً الأطفال، لكن المهرجان مفتوح لكل الآراء، وليس من مصلحته حظر أي فنان بناء على رأيه السياسي أو سواه».

هذا ردٌ واقعي في ذاته، كون تقديم طلب مثل هذا من شأنه تحويل المهرجان عن هوّيته، ليصبح كتلة سياسية خالصة. وكان سبق له في الأعوام القليلة الماضية أن تعرّض لضغوط مختلفة، من بينها قراره بعرض فيلم لرومان بولانسكي، صارفاً النظر عن الحكم الصادر بحقه، ومن بينها كذلك قلّة عدد الأفلام من إخراج نساء.

في هذا الصدد تحدّث باربيرا لـ«الشرق الأوسط» خلال حضوره حفلاً أقامته «ذا هوليوود فورين برس»، قائلاً: «لا نستطيع فقدان استقلالنا وهويتنا لإرضاء جماعات. نعم علينا أن نأخذ بعين الاعتبار مواقفها، لكن ليس على حساب اختياراتنا تبعاً لجودتها الفنية أولاً».

ما بين مهرجانين

أسمع المهرجان هذا العام أكثر من أي عام مضى. بعض كبار النقاد الأوروبيين يعترفون أن مهرجان ڤينيسيا يتقدّم على مهرجان كان في شأنَيْن: الأول أن المهرجان الإيطالي مهرجان للأفلام، وليس مهرجاناً للبيزنس الذي بات حضوره طاغياً في المهرجان الفرنسي منذ سنوات بعيدة. أحد النقاد البريطانيين قال: «كان هو كرنڤال. ڤينيسيا هو مهرجان».

الشأن الآخر إصرار «ڤينيسيا» على أن تكون حركة المشتركين فيه بسيطة ومنظّمة. لا دزينة من رجال الأمن عند كل مدخل، ولا صفوف طويلة تنتظر دورها لإفراغ حقائبها، وما في جيوبها. بل تفتيش روتيني سريع لا يعرقل انسياب القادمين لدخول صالات السينما أو المكاتب الإدارية والمقاهي المختلفة.

الفيلم الذي يجمع بين بتلر وغادوت (وكلاهما محدود الموهبة) هو «في يد دانتي» (In the Hand of Dante) للأميركي جوليان شنابل الذي كان قد اشترك في هذا المهرجان قبل سبع سنوات عبر فيلمه «بوابة الأبدية». الفيلم الجديد سيُعرض في الثالث من الشهر، وحتى الآن لم يعتذر أحد ممثليه (من بينهم أيضاً آل باتشينو ومارتن سكورسيزي) عن الحضور.

سيل من النجوم

وصلت جوليا روبرتس عن «بعد الصيد» (After the Hunt) للمخرج الإيطالي لوكا غوادانينو، وآدم ساندلر عن «جاي كِلي» (Jay Kelly)، وهو الفيلم الذي شارك فيه جورج كلوني بطولته. وإيما ستون عن (Bugonia). كما مجموعة كبيرة من ممثلي فيلم غويلرمو دل تورو (نال الذهبية هنا عن «The Shape of Water» في 2017)، ومنهم: تشارلز دانس، وأوسكار إيزاك، وميا غوث، وكريستوف ڤولتز.

مع هذه الأفلام وعشرات الأفلام الأوروبية والآسيوية المشتركة في المسابقة الرسمية وخارجها، لن يمر وقت طويل قبل أن يتساءل المتخصصون عن أي منها سوف يشق طريقه إلى «الأوسكار». الحال أن مهرجان ڤينيسيا كان معبراً للعديد من الأفلام التي شهدت عرضها العالمي الأول فيه صوب «الأوسكار». أولاً عبر الترشيحات، وثانياً عبر الفوز بذلك التمثال المذهّب. في السنوات القريبة نجح المهرجان الإيطالي في إيصال أفلام عدة إلى الترشيحات «الأوسكارية» وجوائزها المختلفة؛ من بينها: «روما» لألفونسو كوارون، و«شكل الماء» لغويلرمو دل تورو، و«بيردمان» لإليهاندرو إيناريتو، و«سبوتلايت» لتوم مكارثي الذي عرضه «ڤينيسيا» سنة 2015، ونال جائزتَي أوسكار سنة 2016. من هنا إلى هناك، هذا العام ليس السؤال عما إذا كان «ڤينيسيا» سيستطيع إرسال أفلام عرضها هنا لتطرق باب «الأوسكار» أم لا. السؤال هو أي من هذه الأفلام، كون كثير منها يستحق الترشيحات (على الأقل).

أحد الآملين هو المخرج اليوناني يورغوس لانتيموس الذي يطرح هنا فيلمه الجديد «بوغونيا» (Bugonia)، وهو الذي سبق أن تقدم إلى ترشيحات «الأوسكار» أكثر من مرّة آخرها في العام الماضي عن «أنواع اللطف».

الفيلم الجديد «بوغونيا» يُعدّ أقل استحقاقاً من فيلم «فرانكنستاين» لغويلرمو دل تورو، و«منزل الديناميت» (The House of Dynamite) للمخرجة كاثرين بيغلو التي كانت قد فازت بـ«الأوسكار» عن فيلمها الأسبق «خزانة الألم» (The Hurt Locker). تشويق فعّال، نسبة إلى نجاحها في هذا النوع من الأفلام، حول اللعب بالنووي.

موضة الأفلام الطويلة

على صعيد مختلف، يتميز كثير من أفلام هذا العام بطول مدد عرضها. هذا ناتج عن أن كثيراً من المخرجين يريدون مساحة أوسع لعرض أعمالهم، وما تحمله من طموح. المخرجة السعودية شهد أمين قدّمت يوم أول من أمس فيلمها الروائي الثاني من بعد «سيدة البحر» الذي قدمته منذ نحو أربع سنوات، وفي حين أن ذلك الفيلم لم يتجاوز عرضه 75 دقيقة، فإن فيلمها الجديد (والجيّد) يعرض ملحمة درامية بطول ساعتين. بذلك هو قريب من مجموعة كبيرة من الأفلام التي تتجاوز أو تكاد تتجاوز الساعتَين من العرض. في الحقيقة فيلم الإيطالي لوكا غوادانينو «بعد الصيد» يعرض حكايته في ساعتين وعشرين دقيقة. وهو أحد ستة أفلام في المسابقة يتجاوز طول كل منها 130 دقيقة من العرض؛ من بينها: «الشكر» لباولو سورنتينو، و«لا خيار آخر» (No Other Choice) للكوري بارك تشان-ووك، وفيلم نواه بومباك «جاي كِلي». أما أطول فيلم في عروض «ڤينيسيا» هذه السنة فهو فيلم الروسي ألكسندر سوخورف التسجيلي «مفكرة مخرج» الذي يبلغ عرضه 5 ساعات و25 دقيقة.

 

الشرق الأوسط في

30.08.2025

 
 
 
 
 

"هجرة" يدعو جمهور البندقية إلى رحلة وجدانية داخل السعودية

المخرجة شهد أمين تصور شخصياتها بواقعية لافتة وجرأة تكشف عن نضج سينمائي وتصويري

هوفيك حبشيان 

ملخص

أسفر دعم السعودية القطاع السينمائي في الأعوام الأخيرة عن نتائج ملموسة، بدأت تتجلى في مشاركات دولية لافتة ضمن مهرجانات مرموقة. من بين هذه المشاركات يبرز فيلم "هجرة" للمخرجة السعودية شهد أمين، الذي يعرض ضمن برنامج "سبوتلايت" الجديد في الدورة الحالية من مهرجان البندقية السينمائي (27 أغسطس "آب" – 6 سبتمبر "أيلول").

تنطلق أحداث الفيلم من مدينة الطائف قبل نحو عقدين، لكنه سرعان ما يأخذنا إلى ضفاف أخرى من البلاد، في رحلة تحمل سمات روحية تلقينية، تتبدل خلالها ملامح الشخصيات ومصائرها، وعلى رأسها الطفلة جنة (لمار فادن) التي لن تعود من هذه الرحلة كما بدأت. "هجرة" هو "فيلم طريق" (رود موفي)، بما يحمل هذا النوع من السينما من مفردات وثوابت درامية، وقد ذكرني في بعض محطاته بـ"الرحلة الكبرى" لإسماعيل فروخي.

 القصة حول اختفاء سارا، الفتاة التي تهرب من عائلتها خلال رحلة حج برفقة جدتها وأختها جنة. هذا الحدث يشكل المحرك الأساس للسرد، إذ تنطلق الشخصيات في رحلة بحث تمتد على مدى ساعتين، تقطع خلالها مسافات طويلة عبر طرق متعرجة ومهجورة ووعرة من جنوب السعودية إلى شمالها، لكنها لن تكون مجرد رحلة مكانية، بل نافذة نطل منها على تحولات داخلية، وقضايا تتجاوز حدود الجغرافيا.

بمرور الوقت يتحول البحث عن سارا إلى ذريعة درامية. في منتصف الفيلم يصبح واضحاً أن غيابها بات دائماً، وأن ما يهم الآن ليس العثور عليها، بل ما تولده هذه الرحلة من تحولات لدى من ظل يبحث عنها. هنا تتشكل نواة الفيلم الحقيقية حول الشخصيات الثلاث: الجدة وحفيدتها، والشاب أحمد، والسائق المثقل بالديون، الذي يتولى مهمة نقلهما بحثاً عن سارا. 

هذه الشخصيات المختلفة تماماً بعضها عن بعض، والمجبرة على التعايش، تجسد جوهر "سينما الطريق": غرباء يجدون أنفسهم مضطرين إلى التقارب، لا حباً، بل بحثاً عن النجاة. ولكن مع توالي الأحداث والمواقف تنشأ بينهم وحدة حال إنسانية، ليصبح فقدان سارا مجرد مدخل لحكاية أكبر: حكايتهم هم، بما يحملونه من هشاشة وصراعات وآمال.

مغامرات لا تهدأ

"هجرة" أشبه بفيلم مغامرات لا يهدأ، إلا أن مغامراته لا تقع في عوالم متخيلة، بل في قلب المجتمع السعودي، بتناقضاته وتعقيداته. شهد أمين لا تجمل شخصياتها، إنما تضعها أمامنا بواقعية لافتة وجرأة محسوبة تكشف عن نضج سينمائي بدأ يتبلور في بلادها، حيث باتت الكاميرا لا تكتفي بنقل الصورة، بل تحفر في التفاصيل.

الشابة الصغيرة في "هجرة" لا تكثر من الكلام، لكنها تتقن مراقبة العالم الذي من حولها. صمتها لغة داخلية تنقل مشاعرها العميقة وتعزز من ارتباطنا بها. إنها الرابط العاطفي الأقوى في الفيلم، الشخصية التي نتمنى لها الخلاص ونخشى عليها من الانكسار. قدرتها على استدرار تعاطفنا لا تعتمد على خطاب أو انفعالات صاخبة، إنما تنبع من حضورها الخافت والمربك، ومن ردود فعلها البطيئة أمام وقائع تتخطى إدراكها الطفولي. لا نعرف على وجه الدقة ما إذا كان هذا التردد ناتجاً من خجل أم عن صدمة، لكننا نوقن أنها تدفع دفعاً إلى اختبارات غير مألوفة، تضعها المخرجة عمداً في قلب المجهول لترصد كيف تتفاعل معه.

الجدة، في المقابل، تبدو صارمة، متجهمة، مهمومة بثقل الأعوام، لا نلمح على وجهها ابتسامة، ولو عابرة، إلا بعد مرور نصف الفيلم. هذه القسوة الظاهرة تخفي وراءها قصة دفينة، بعض خيوطها تكشف لنا، فيما يبقى الجزء الأهم رهن الصمت والتلميح. وهنا تكمن براعة شهد أمين، التي تفتح أمام المشاهد باب الخيال كي يملأ الفراغات.

الحضور الديني في الفيلم ليس هامشياً، هذا الحضور يكاد يغلف المشهد من كل زاوية: من التلفزيون والإذاعة إلى أحاديث الناس اليومية. وهذا طبيعي في سياق زمني يعود إلى مطلع الألفية وخلال موسم الحج، في السعودية ما قبل الانفتاح، حين كان للشروط الدينية دور مركزي في صياغة الحياة اليومية. ومن بينها يبرز موضوع "المحرم"، الذي لا يسمح للنساء بالتحرك من دونه، فتستثمره المخرجة كعقدة درامية، وتجعله أحد المفاتيح الأساس في بناء التوتر والصراع.

الفيلم لا يغفل أيضاً عن نقد بعض الممارسات غير البريئة، كما في مشهد بيع ماء زمزم المغشوش، إذ تمر الكاميرا لتكشف عن استغلال البسطاء. في المقابل لا يعادل الفيلم بين التدين الزائف والإيمان الحقيقي، بل يقدم الطقوس الروحية بوصفها لحظات صفاء وتحرر عقلي. في نظر شهد أمين لا تناقض بين الإيمان والعقل، بل تلاق قد ينتج منه شيء من أجمل مشاهد الفيلم."بعض الح يوانات لا تعرف مصلحتها، إذا ازلت قيودها تتهور". في هذه الجملة البسيطة تكمن استعارة بليغة، هي مرآة للإنسان حين يقيد باسم الخوف أو العادة حتى يفقد بوصلته، إنه تشبيه يكشف عن عمق النظرة الفلسفية التي تتسلل من بين سطور الفيلم. 

السيناريو مشدود بفكرة الطريق كفكرة فلسفية قبل أن تكون مجرد مسار مكاني. الطريق طويلة، وعرة، وقد لا تؤدي إلى وجهة واضحة، لكنها تمثل ضرورة وجودية لكل من ينشد الحقيقة أو يسعى إلى التحرر، هي ليست مجرد انتقال في المكان، بل تجربة داخلية واختبار للوعي ومواجهة مع الذات.

يلامس الفيلم في بعض مشاهده ملمحاً وثائقياً واضحاً، كما في اللقطة التي تتوقف فيها الكاميرا للحظات أمام مصنع أسمنتي أو ما يشبهه. هذه الوقفة العابرة لا تكلف الفيلم شيئاً على صعيد السرد، لكنها تضفي عليه عمقاً بصرياً وشعوراً بالانغماس في واقع حي، محسوس، يتجاوز الشخصيات والحبكة إلى بيئة سينمائية متجذرة في المكان والسياق. هنا، لا تختزل السينما في ملامح الوجوه أو تطور الأحداث، بل تنسج خلفية مكانية تشكل جزءاً من الدراما. 

من الطرق الوعرة في البداية إلى البحر في المنتصف ثم الصحراء في الخاتمة، ينجح الفيلم في شد المتفرج بصرياً ونفسياً، إذ تحول المخرجة شهد أمين الأراضي السعودية إلى استوديو سينمائي مفتوح، يعرض تنوع التضاريس واختلاف الطبائع، بل ويجعل من المكان شخصية قائمة بذاتها. 

ظاهرة لافتة شهدناها في أكثر من فيلم عربي أخيراً، وتعيد تكرار نفسها هنا: الفيلم يزداد جودة كلما تقدم إلى الأمام. قد يكون السبب تراكم الزمن الدرامي، أو تكيف المتفرج مع الشخصيات والمكان، أو انفتاح السرد على أبعاد أعمق. ومع ذلك لا يمكن إنكار أن نصف الساعة الأولى تبقى أضعف من بقية العمل من ناحية التماسك السينمائي، وكأن الفيلم يتلمس طريقه قبل أن يبلغ نضجه الكامل في النصف الثاني.

يمكن القول إن "هجرة"، وهو الروائي الطويل الثاني في مسيرة شهد أمين، يمثل نقلة نوعية واضحة في تجربتها. وعلى رغم أنه لا يخلو من الثغرات، خصوصاً في ما يتعلق بإدارة الممثلين، فإن من الصعب التغاضي عن شجاعته البصرية ووعيه السردي. وكلمة "لو" لا تفارق ذهن الناقد وهو يشاهد الفيلم، ولكن يحسب للمخرجة أنها تجاوزت معظم التوقعات المعتادة من سينما سعودية في طور التشكل.

أخيراً، صحيح أن أمين تنطلق من شخصيات نسائية وتطرح سؤال التحرر، لكنها لا تختزل الفيلم في شعارات، ولا تفرض قضيتها على حساب السينما. الأهم أنها لم تسقط في فخ التنميط، بعدما منحت الحكاية اتساعاً إنسانياً وجمالياً.

 

الـ The Independent  في

30.08.2025

 
 
 
 
 

«بابا والقذافي»… غياب الأب يوقظ سيرة وطن

هوفيك حبشيان

سياسي ليبي، عُرف بنزاهة يده (المعارض والناشط الحقوقي منصور الكيخيا)، اختطفه العقيد معمر القذافي في القاهرة أثناء حضوره مؤتمرًا لحقوق الإنسان، ولم يخرج من سجون الطاغية الليبي حيًا. اغتيل بصمت، كما اغتيل كثير من الأصوات الحرة في ظلال الاستبداد الذي ساد في دول عربية لعقود.

بعد سنوات من الغموض والصمت، تعود ابنته، جيهان الكيخيا، لتنكأ الجراح وتستعيد الذاكرة في محاولة للبحث عن الحقيقة من خلال فيلم وثائقي عذب، صادق، ومشغول بحرفية: «بابا والقذافي»، أول فيلم ليبي يُعرض في مهرجان البندقية السينمائي (27 آب – 6 أيلول) ويشارك في قسم خارج المسابقة. فيلم حافل بالتقاطعات بين العام والخاص، يستعيد سيرة شخصية مأسوية، بقدر ما يرسم خريطة موجعة لتاريخ ليبيا الحديث، ولتجربة العروبة وأحلامها التي طمحت في البداية إلى تحرير الإنسان وانتهت بالقمع والبطش والخذلان.

يجمع كثيرون على أن منصور الكيخيا كان وطنياً نزيهًا، قوميًا عروبيًا، ناصري الهوى، يؤمن بالوحدة بين شعوب المنطقة ويقف في وجه الاستعمار والإمبريالية. تقلد منصب وزير الخارجية لعامين في عهد «ملك ملوك أفريقيا»، لكنه انشق عن النظام حين أدرك أنه لا يستطيع أن يكون إلا ضد تيار الطغيان، فأسّس جمعية لحقوق الإنسان، واصطفّ مع المعارضة في الخارج، ليدفع ثمن قناعته بالاختفاء القسري، ثم الإخفاء، فالقتل. ظلّ اختفاؤه لغزًا لسنوات ولم يعترف أحد عن مسؤوليته في هذا الشأن تاركاً أفراد عائلته في ضياع تام

كأي عمل سينمائي طموح، يبدأ الفيلم عن الكيخيا لكن لا ينتهي به، معرجًا على فكرة الحلم حين يتعرض للتنكيل. عن وطن يأكل أبناءه (احساس يتشاركه كثر)، وعن أفكار سامية التهمتها الطموحات الفردية والاستبداد. لقد كان الكيخيا ضحية طوباويته، تماماً كما كان ضحية ديكتاتور عزز أسوأ ما في شعبه من غرائز قبلية، ولعب على التناقضات، وابتاع الذمم بالثروة، ليبقى في الحكم اثنين وأربعين عامًا.

جيهان كانت في السادسة حين اختفى والدها الذي حُرمت منه. لا تتذكّر منه سوى ومضات، مشاهد لم تكتمل. ولذلك، اختارت أن تبقى خلف الكاميرا معظم الوقت، تاركةً مهمة السرد والاطلالة لوالدتها، المرأة التي تحولت إلى سيف في الدفاع عن ذكرى زوجها، بصدق لا يُخطئه أحد. على وجهها تُقرأ سنوات من الانتظار والخذلان والألم. نراها وهي تروي القصة، بما فيها من تفاصيل ولقاءات، منها ذلك اللقاء العبثي مع القذافي، حيث أنكر الأخير الجريمة كلياً، تماماً كما أنكر في السابق مسؤوليته عن اختفاء الإمام موسى الصدر، مع فارق أن جثة الكيخيا عُثر عليها، بينما لا يزال مصير الصدر مجهولًا.

تقول جيهان بصراحة: «أنا أعتمد على ذاكرة الآخرين لأستعيد والدي». هكذا، تصبح أمها مرآة للذاكرة، والبوابة التي تعبر منها الابنة لـ«تلتقي» بالأب. ومن خلال لقاءات متعددة مع شخصيات من الصفين، المؤيد السابق والمعارض للقذافي، تتشكّل صورة الطاغية كما لم تُرَ من قبل: صورة قبيحة لرجل لا يرحم، قد تُفاجئ مَن لم يعرف (وهم قلّة)، لكن لا جديدًا لمَن عاصره وشهد ماذا فعل بليبيا وأهلها.

لم تدخر جيهان وسعًا. وضعت يدها على كل ما من شأنه أن يساهم في بناء جدارية تعيد الاعتبار إلى والدها: صور أرشيفية، فيديوهات منزلية، مقابلات تلفزيونية، قصاصات صحف… لا يهم ما إذا كانت المواد «جميلة» أو «صالحة للعرض»، بل المهم هو صدقها. الجمال لا يُقاس بدقّة الصورة، إنما بقدرتها على حمل بعض من الحقيقة. كلّ لقطة، سواء التُقِطت بكاميرا فائقة الدقّة أو بشريط VHS مهترئ، تساهم في خلق لحظة تعبير وصدق، هي أثمن ما يمكن أن يقدّمه فيلم.

وربما، في النهاية، ليس الفيلم عن اختفاء رجل وإرهاب دولة تجاهه، إنما عن الحداد المؤجل، عن إنسان لا يرتاح وجرح لا يُغلق ما لم يُعرف مصير الضحية وتُعرف تفاصيل ما حلّ به. كل مأساة تحتاج إلى جثمان، إلى دليل قاطع، إلى لحظة وداع، إلى قبر نرثي فيه الراحل. وحين تُحرم العائلة من ذلك، يتحول الحزن إلى عذاب مفتوح، فتغدو الذاكرة ساحة معركة. حتى التقرير الذي أصدرته السلطات الأميركية، مؤكّداً بنسبة 97 في المئة أنه ميت، لن يبدّد قلق الزوجة. فكل ما يشغلها هو الثلاثة في المئة المتبقية.

ومع أن الابن تمكن في النهاية من لمس يد والده المسجّى في ثلاجة الموتى، مستعيداً شيئاً من هذا الرابط الأبوي، إلا أن جيهان لم يُتح لها ذلك لأسباب دينية. لكنها استعادت العلاقة بطريقتها، عبر إعادة تركيب صورة الأب على الشاشة، صورة قد تبقى حية لأطول زمن ممكن. أولاد المآسي يتشابهون، وسيفهمون جيهان أكثر من غيرهم.

للفيلم الوثائقي الذي يتحوّل إلى مساحة للاعتراف العائلي والعلاج الجماعي دورٌ متعاظم في العالم العربي، حيث تغيب مؤسسات العدالة والإنصاف، فيتحمّل الفيلم عبء البوح والمكاشفة. ومع تنامي هذا النوع السينمائي، يظل من الصعب تقييم براعة المخرج حين يكون الموضوع متشابكاً حد التماهي مع ذاته؛ إذ قد يُخفق في تقديم قضايا لا تجمعه بها تلك العلاقة العاطفية الحميمة التي شكّلت قوة العمل وضعفه في آنٍ واحد. وهذا رهان آخر لا يقل أهميةً عن رهان جيهان ك. في إنجاز هذا الفيلم

 

####

 

في فينيسيا… جوليا روبرتس: «After the Hunt» لا يهاجم حركة «#MeToo»

فاصلة

وسط أجواء محتدمة اتسمت بكثير من الشد والتوتر، خطفت جوليا روبرتس الأضواء في مؤتمر صحفي أقيم على هامش الدورة الـ82 من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، حيث دافعت بشدة عن فيلمها الجديد «After the Hunt» للمخرج الإيطالي لوكا غوادانينو. النقاشات الساخنة تمحورت حول قضايا حساسة أثارها الفيلم، من بينها حملة «MeToo»، وحدود السلطة والمسؤولية الشخصية داخل الأوساط الأكاديمية.

الفيلم، الذي يُعرض خارج المسابقة الرسمية في فينيسيا، يمثل الظهور الأول لروبرتس على السجادة الحمراء في الليدو خلال مسيرتها الطويلة. وتؤدي فيه دور «ألما أولسون»، أستاذة فلسفة في الجامعة، تنهار حياتها عندما تتهم إحدى طالباتها المفضلات زميلها وصديقها المقرب (يجسده أندرو غارفيلد) بالإعتداء الجنسي. وتلعب آيو إديبيري دور الطالبة، في دراما نفسية تسبر أعماق الصراعات بين الولاء والسلطة والهوية داخل بيئة يُفترض أنها ليبرالية.

روبرتس نفت أن يكون الفيلم معاديًا للنساء أو مثبطًا للقضايا النسوية، رغم معالجته الغامضة لاتهام الاعتداء. وردّت على الانتقادات قائلة: «نحن لا نصدر بيانات أو أحكامًا، بل نعرض شخصيات في لحظة زمنية محددة. إذا حقق الفيلم شيئًا، فهو أن يجعل الجميع يتحدثون مع بعضهم». وأضافت بابتسامة: «أجمل ما في الأمر أنكم خرجتم جميعًا من القاعة تتجادلون حوله… وهذا بالضبط ما أردناه».

النجمة الحائزة على الأوسكار عن «Erin Brockovich» أوضحت أنها استمتعت بتجسيد شخصية متناقضة ومثقلة بالأزمات مثل أولسون، التي تعاني من إدمان المسكنات وتواجه ارتباكًا أخلاقيًا في التعامل مع القضية. وقالت: «المتاعب هي المكان الذي يوجد فيه جوهر الدراما… إنها سلسلة من أحجار الدومينو؛ تسقط واحدة فتتوالى التحديات من كل جانب. وهذا ما يجعل الذهاب إلى العمل كل صباح أمرًا مثيرًا».

من جانبه أكد غوادانينو أن الفيلم لا يسعى إلى تقديم أحكام أخلاقية أو إجابات قاطعة، بل إلى تصوير تصادم وجهات نظر متباينة يعيشها كل طرف. فالتلميذة التي تتهم أستاذًا بالاعتداء، والزميل المتهم، والأستاذة العالقة بينهما، جميعهم يُقدَّمون كشخصيات تمتلك «حقائقها الخاصة»، بحيث لا تُطرح القصة في إطار أبيض وأسود، بل كمساحة رمادية واسعة تفتح الباب أمام النقاش الجماعي حول معنى الحقيقة والعدالة في زمننا الراهن.

ورغم حدة النقاشات، لم يخلُ المؤتمر من لحظات مرحة، إذ طلبت روبرتس من زملائها فتح عبوات المياه في الوقت نفسه لتفادي إزعاج الحضور، ليرد أندرو غارفيلد مازحًا بأن هذه «عادة مألوفة عند العمل مع جوليا».

 

####

 

غييرمو ديل تورو: لا أخاف الذكاء الاصطناعي بل الغباء الطبيعي

فاصلة

احتضن مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي العرض العالمي الأول لفيلم «فرانكنشتاين» للمخرج المكسيكي غييرمو ديل تورو، وهو أحدث اقتباس لرواية ماري شيلي الشهيرة التي ألهمت أجيالًا من السينمائيين. الفيلم، الذي بلغت ميزانيته 120 مليون دولار وتنتجه «نتفليكس»، يقوم ببطولته أوسكار آيزاك في دور الدكتور فيكتور فرانكنشتاين، إلى جانب جاكوب إلوردي في دور الوحش (المخلوق)، مع مشاركة كل من ميا غوث، كريستوف فالتز، فيليكس كاميرر، لارس ميكلسن، ديفيد برادلي، كريستيان كوفري، وتشارلز دانس. ويتنافس العمل على جائزة الأسد الذهبي التي سبق للمخرج أن حصدها عام 2017 عن فيلمه «شكل الماء – The Shape of Water».

خلال المؤتمر الصحفي، أوضح ديل تورو أن فيلمه ليس مجرد حكاية رعب تقليدية، بل دراما إنسانية متشعبة تتناول معنى أن تكون بشرًا، لافتًا إلى أن السؤال المركزي في الرواية منذ البداية هو: «ماذا يعني أن تكون إنسانًا؟ ما الذي يجعلنا بشرًا؟».

مؤكدًا: «ليس هناك مهمة أكثر أهمية من أن نظل بشرًا في زمن يدفع فيه كل شيء نحو فهم ثنائي حاد لإنسانيتنا. أعتقد أن الفيلم يحاول أن يُظهر شخصيات غير كاملة، والحق الذي نملكه في أن نظل غير كاملين، والحق في أن نفهم بعضنا بعضًا تحت أكثر الظروف قمعًا».

وأضاف أن علاقته بوحش شيلي تمتد إلى طفولته حيث قال: «نشأت كاثوليكيًا جدًا، ولم أفهم القديسين على نحو كامل. لكن حين شاهدت بوريس كارلوف -الذي قدم دور الوحش في فيلم فرانكشتاين عام 1931 على الشاشة، أدركت كيف يبدو القديس أو المسيح. منذ ذلك الوقت وأنا أتابع الوحش، وانتظرت دائمًا أن أحقق الفيلم في الظروف الصحيحة، سواء من حيث الطموح الفني أو الحجم الذي يسمح بإعادة بناء عالم كامل».

وعن النقاش الدائر حول الذكاء الاصطناعي، شدد المخرج الحائز الأوسكار ثلاث مرات: «لا أخشى الذكاء الاصطناعي؛ ما أخشاه هو الغباء الطبيعي، وهو أكثر وفرة بكثير».

بدوره، تحدث أوسكار آيزاك عن علاقته بدور فيكتور فرانكنشتاين قائلًا: «لا أصدق أنني هنا الآن. قبل عامين فقط كنت أجلس على طاولة غييرمو نتناول اللحم الكوبي ونتحدث عن آبائنا وحياتنا، وفجأة قال لي: أريدك أن تكون فيكتور. لم أكن واثقًا إن كان الأمر حقيقيًا أم مجرد حلم. بدا لي الأمر وكأنه ذروة مسيرتي».

أما جاكوب إلوردي، فتحدث عن شدة اندماجه التام في شخصية الوحش قائلًأ: «لقد كان وعاءً وضعت فيه كل جزء من نفسي. من لحظة ولادتي إلى وجودي هنا اليوم، كل ذلك موجود في الشخصية. بطريقة ما، الوحش على الشاشة هو الشكل الأنقى لي؛ إنه أقرب إليّ مني أنا نفسي».

 

موقع "فاصلة" السعودي في

30.08.2025

 
 
 
 
 

كيم نوفاك في مهرجان فينيسيا: تُشيد برفضها الخضوع للرقابة

في الصحافة الأجنبية

من الصحافة الأجنبية اخترنا هذا المقال الذي نشرته صحيفة الجارديان البريطانية بتاريخ 30 أغسطس 2025 بمناسبة تكريم الممثلة الأسطورية نجمة العصر الذهبي في هوليوود وهي في الثانية والتسعين من عمرها.

كانت كيم نوفاك نجمة شباك التذاكر الأولى في أواخر الخمسينيات، ولكن لعقود، عاشت نجمة فيلم “فيرتيجو” الرائع للمخرج ألفريد هيتشكوك، حياةً من العزلة والهدوء.

والآن، بعد الثانية والتسعين، عادت واحدة من آخر نجمات السينما العظيمة والبارزات في العصر الذهبي لهوليوود إلى دائرة الضوء. فهي تُكرّم بجائزة الإنجاز مدى الحياة في مهرجان فينيسيا السينمائي، حيث يُعرض لأول مرة فيلم وثائقي عن حياتها ومسيرتها الفنية، بعنوان “فيرتيجو” لكيم نوفاك.

بالنسبة لنوفاك، تُعدّ هذه الجائزة تكريمًا ليس فقط لتمثيلها، بل لرفضها الدائم الخضوع للرقابة والتلاعب من قِبل هوليوود، أو أي جهة أخرى.

إنه لأمرٌ لا يُصدق أن أشعر بالتقدير وأن أتلقى هذه الهدية قبل نهاية حياتي”، قالت بصوتها الأجشّ المميز عندما التقينا عبر زووم.

أعتقد أنني أُكرّم لأصالتي بقدر ما أُكرّم لتمثيلي. لقد اكتملت الدائرة.”

يُعدّ أداء نوفاك المذهل في فيلم “فيرتيجو” – بشخصيتي مادلين، زوجة المجتمع الغامضة، وجودي، بائعة المتجر العادية التي استُخدمت لتقليدها – جوهر ما يجعل الفيلم الأعظم على الإطلاق.

لم يكن الحضور الهشّ الذي أضفته على الأدوار ممكنًا إلا لأن القصة بدت شخصية. تتذكر هي قائلةً: “لقد تعاطفتُ كثيرًا مع جودي ومادلين لأنهما طُلب منهما تغيير حقيقتهما. كان عليهما أن يصبحا شيئًا لا يُمثلهما.”

يعود شغف كيم بالحفاظ على هويتها إلى طفولتها الخجولة المنطوية على ذاتها، وسنواتها الأولى في هوليوود.

وُلدت مارلين نوفاك في شيكاغو لأب يعمل في محطة قطارات وأم لعامل مصنع (كلاهما مهاجران تشيكيان)، ونشأت في حي فقير حيث عانت من التنمر لاختلافها. وقد وجدت ملاذها في الفن، فدرست في معهد شيكاغو للفنون، وأعالت نفسها بوظائف عرض أزياء. وخلال رحلة إلى لوس أنجلوس، اكتشفتها شركة كولومبيا بيكتشرز، التي تعاقدت معها عام ١٩٥٤. وهنا بدأت رحلة التحول.

طالبها هاري كوهن، الذي كان سيئ السمعة يحكم شركة إنتاج الأفلام بقبضة من حديد، بتغيير اسمها لأنه لا يمكن أن يكون هناك سوى مارلين واحدة في هوليوود، و”لن يذهب أحد لرؤية فتاة تحمل اسمًا بولنديًا” (فازت في معركة للاحتفاظ بلقبها). كما أرغمها على فقدان الوزن، وصبغ أسنانها وصبغ شعرها.

 تتذكر نوفاك: “كانوا يوظفونكِ لأنهم رأوا فيكِ شيئًا مميزًا، ثم أول ما يفعلونه هو محاولة منحكِ وجهًا جديدًا. كانوا يريدون فمًا كجوان كروفورد وشعرًا كجين هارلو. لذا، عندما تغادرين قسم التجميل، لا تعودين أنتِ. كنتُ بحاجة إلى النضال للحفاظ على هويتي.”

نوفاك مفعمة بالحيوية والنشاط، تتمتع بذاكرة رائعة وحس فكاهة قوي. من السهل فهم سبب انبهار الجمهور بها بسرعة. جاءت انطلاقتها مع فيلم “نزهة” عام ١٩٥٥، الذي فازت فيه بجائزة غولدن غلوب، وتبعتها بأدوار مشهود لها أمام فرانك سيناترا في فيلمي “الرجل ذو الذراع الذهبية” و”بال جوي” – اللذين أدت فيهما أغنية “عيد الحب المضحك”.

عندما عرض فيلم “دوار” Vertigo عام ١٩٥٨، كانت نوفاك في الخامسة والعشرين من عمرها وفي أوج شهرتها. وفي موقع التصوير، وجدت حرية إبداعية نادرة. “أكثر ما أعجبني في هيتشكوك هو أنه سمح لك بأن تصبح الشخصية بالطريقة التي تراها مناسبة. المخرجون الذين يفتقرون إلى الثقة بالنفس يريدون أن يفكروا نيابةً عنك ويمثلوا نيابةً عنك، وبالتالي ليس لديك ما تقدمه.” كما ساعدها أن زميلها في التمثيل، جيمس ستيوارت، كان يُضاهي هشاشتها العاطفية، في عصر كانت فيه العروض المسرحية المبهرة شائعة.

تقول: “كان العمل مع جيمي أعظم شيء يمكن أن يحدث لي. لقد كان مجرد مُتفاعل، وليس ممثلًا، مثلي تمامًا. كنا نتبادل أطراف الحديث.” على النقيض من ذلك، وجدت صعوبة في التعامل مع الممثلين الآخرين. كيرك دوغلاس، على سبيل المثال، كان “يستخدم باستمرار حركات ونظرات… كان يقول: ‘سأريكِ إيقاع المشهد’. لقد أذهلني الأمر. كان الأمر غير طبيعي”، كما تتذكر.

امتد صراع نوفاك للحفاظ على إحساسها بذاتها إلى حياتها الشخصية أيضًا. مع سيناترا، تداخل العمل في قصة حب طغت عليها صفحات القيل والقال. وكذلك علاقتها الغرامية السرية مع سامي ديفيس جونيور، والتي انتهت بعد أن هدد كوهن ديفيس بالعنف الجماعي، مصرًا على أن تورط نوفاك مع رجل أسود سيكون “ضارًا بالعمل” بعد ما يقرب من 70 عامًا، سيُجسد فيلم جديد، هو فيلم “فضيحة!”، من إخراج كولمان دومينغو، تلك العلاقة بشكل درامي، مع سيدني سويني في دور نوفاك.

تعترض نوفاك على عنوان الفيلم. “لا أعتقد أن العلاقة كانت فضيحة. إنه شخصٌ كنتُ أهتم لأمره حقًا. كانت بيننا قواسم مشتركة كثيرة، بما في ذلك حاجتنا إلى أن نُقبل كما نحن وما نفعله، لا كما نبدو. لكنني أخشى أن يُحوّلوا الأمر إلى أسباب جنسية.”

على الرغم من إكراه كوهن، أو بسببه، تشعر نوفاك أن رئيس شركة كولومبيا لعب دورًا محوريًا في ديناميكية هوليوود آنذاك. وبعد وفاته عام ١٩٥٨، بدأت تتلقى سيناريوهات دون المستوى، وصفتها بأنها “مؤلمة ومُهينة

أنتجتُ بضعة أفلام أخرى عالية الجودة، منها “كتاب الجرس” و”الشمعة”، و”غرباء عندما نلتقي”، ولكن بحلول منتصف الستينيات، سئمت من ضغوط الصناعة المُستمرة.” لقد خشيتُ أن أصبح “كيم نوفاك”. في كل مرة ألعب فيها دورًا، كنتُ أتحمل جزءًا منه. بدأتُ أفقد نفسي وما أمثله.”

عندما دمر حريق منزلها في بيغ سور، ثم دُمر لاحقًا في انهيار طيني، اعتبرت ذلك إشارةً إلى أن الوقت قد حان للابتعاد تمامًا. انتقلت إلى أوريغون، حيث التقت وتزوجت روبرت مالوي، وهو طبيب بيطري متخصص في الخيول، عام ١٩٧٦.

تقول نوفاك: “كان صادقًا للغاية. قالت لي والدتي: ‘يجب أن تتزوجي هذا الرجل، فهو قادر على عقابك’. وكان ذلك صحيحًا.” بعيدًا عن أضواء الكاميرات والقيل والقال، عادت نوفاك أخيرًا إلى حبها الأول: الرسم. أصبح الرسم شريان حياة لها خلال نوبات الاكتئاب (شُخِّصت نوفاك بالاضطراب ثنائي القطب في أوائل الألفية الثانية) وبعد وفاة مالوي عام ٢٠٢٠.

تقول: “الفن هو ما أنقذني، أرسم ثماني ساعات على الأقل يوميًا. أفتقد روبرت كثيرًا. لكن العيش بمفردي يُشعرني بالرضا. تعلمت من أمي أنني يجب أن أكون قائدة سفينتي الخاصة”. كما وجدت العزاء في حيواناتها. “بإمكانها إخباري عني أكثر مما أستطيع. مثل خروفي: إذا تجرأت على وضع عطر، سيُخرج قرونه ويريد عضّي، لأنه يشعر أنني لست أنا”.

ابتعدت نوفاك عن الأضواء إلى حد كبير، باستثناء ظهور نادر في حفل توزيع جوائز الأوسكار عام ٢٠١٤ عندما قدمت جائزتين. لكن التجربة كانت تذكيرًا مؤلمًا لسبب مغادرتها هوليوود. في هذا الحفل، خضعت نوفاك لحقن دهون في خديها، وكان رد الفعل على ظهورها عبر الإنترنت سريعًا وقاسيًا. انضم دونالد ترامب إلى الهجوم الشرس، مُغرّدًا بأن على نوفاك مقاضاة جراح التجميل الخاص بها. (ومن قبيل الصدفة، أشاد الرئيس الأمريكي مؤخرًا بسويني بعد أن اتضح أنها جمهورية مُسجّلة).

أُصيبت نوفاك بصدمة بالغة من الانتقادات، ولكن بدلًا من الانكماش، تحدثت بصراحة عن التنمر والصحة النفسية. ما هو شعورها حيال كل ذلك الآن؟ تقول: “لطالما كان لديّ شعور قوي ضد المتنمرين. شعوري تجاه الرئيس لا علاقة له بما قاله عني في حفل توزيع جوائز الأوسكار. لم يعجبني ما قاله، وعندها تحدثتُ بصراحة عن المتنمرين. لكن منذ ذلك الحين، أصبح أكثر من مجرد متنمر. مع أنني تحمّلتُ ما قاله ولم أُعارضه، إلا أنني لن أتسامح مع ما يُمليه عليّ وعلى الجميع فعله”.

تُضيف قائلةً: “الأنظمة الديكتاتورية تُسيطر على العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة. كثيرٌ من الناس لا يُدافعون عن حقوقهم وما هو مهمٌّ في الحياة، كالصدق والشرف والنزاهة. عن ديمقراطيتنا وحرياتنا. لا أستطيع أن أصف لكم مدى قوة شعوري تجاه هذا الأمر. الناس يخشون التعبير عن آرائهم، وأنا أتفهم ذلك. لكن علينا أن نتكاتف ونُسمِع أصواتنا.”

كانت تلك الغريزة التي تدفع نوفاك للتعبير عن رأيها الآن حاضرة في الطرق التي تحدت بها النظام في ذروة مسيرتها المهنية – بما في ذلك تأسيس شركة إنتاج خاصة بها والإضراب بسبب راتب أقل من رواتب زملائها من الممثلين. في إعلانه عن جائزتها، وصفها مدير مهرجان فينيسيا السينمائي، ألبرتو باربيرا، بأنها “متمردة في قلب هوليوود”.

هل تعتقد أن التقدم قد أُحرز للنساء في هذه الصناعة اليوم؟ تقول: “نحقق تقدمًا، لكن للأسف نتراجع دائمًا. يعود الأمر حتمًا إلى الجاذبية الجنسية. لا يزال مظهرنا مهمًا للغاية. وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي قادران على عرض كل أنواع الأشياء غير الحقيقية. إنهم مخرجو اليوم السيئون، الذين يحاولون إعادة صياغة النساء”.

في الفيلم الوثائقي الجديد لألكسندر أوه فيليب، تُعيد نوفاك النظر في ماضيها. إذا كانت حياتها رحلة طويلة لاكتشاف الذات.

أتساءل إن كان من الممكن القول إنها وجدت نفسها أخيرًا. “نعم”، تقول بحزم. “أنا فخورة بتمسكي بما هو مهم. بالطبع، هناك أشياء كثيرة أتمنى لو فعلتها بشكل مختلف، لكنها أمور صغيرة يمكن لله وللجميع أن يغفروها لي”.

وكيف تُحب أن يُذكرها الناس؟ تتوقف للحظة. “أريدهم أن يعتقدوا أنني كنت صادقة مع نفسي، وأنني حافظت على معاييري عالية والتزمت بها”.

 

موقع "عين على السينما" في

30.08.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004