ملفات خاصة

 
 
 

فينيسيا السينمائي:

"صوت هند رجب" العالي... العالي

سليم البيك

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثاني والثمانون

   
 
 
 
 
 
 

أصوات متماهية، صور متداخلة، مشاعر متخابطة. انهال علينا الفيلم باستقرار للتوتر على طوله، وهذه مسألة تتخطى موضوعه الفلسطيني الغزّي إلى أسلوبٍ كتابّي ومونتاجيّ وإخراجيّ يجعل للفيلم أفضليةً على غيره من منافسيه، في الحكم على استقرار شعور التوتر على طوله،

كلام كثير يقال في فيلم كوثر بن هنية، وهذا التعليق القصير طال قليلاً، ولأن كلاماً آخر أجدني ملزَماً به في محاولة لإيفاء فيلم شديد الامتياز إنسانياً وسينمائياً كهذا، حقه، سأعود إليه لاحقاً، وتكون محاولة ثانية للقول إننا أمام فيلم عظيم، أمام لحظة سينمائية عربية تاريخية.

أول ما يخطر في البال لدى المشاهدة، هو ضرورة المَقالتين لهذا الفيلم، أوّلَ يكون كغيره اليومي من المهرجان، قصير ومباشر، وآخر أكثر استحقاقاً، يكون محاولة لإيفاء هذا الفيلم بعض حقه. ثم، أنتبه أن لا مقالة يمكن أن تفي الفيلمَ حقاً حقه، وأن ليس لأحدنا سوى أن يتمنى له انتشاراً واسعاً وجوائز كثيرة، بدءاً من الأسد الذهبي.

"صوت هند رجب" للتونسية كوثر بن هنية، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي، والمنافس بقوة على جوائزه الكبرى، لأسباب سينمائية تماماً، جوائز تنسجم مع تصفيق هو الأطول والأعلى الذي ناله فيلم، أي فيلم، على طول المهرجان (٢٢ دقيقة: أضعاف غيره).

بدمجٍ احترافي قلّ نظيره عالمياً، بين الوثائقي والروائي، حاملاً كلاً من العنصرين إلى الآخر، فلا يدرك أحدنا أيهما فعلاً هذا وأيهما فعلاً ذاك، وهذا مَكمن احتراف لدى المخرجة تطوّرَ عبر أعمالها، بهذا الدمج نقلَ الفيلمُ، بتشويق عالٍ ومساحة ضيقة، الساعات الأخيرة من حياة الطفلة الغزّية هند رجب، قبل أن يقتلها جيش الاحتلال ومعها فريق الإسعاف الذي حاول سحبها.

استهلال الفيلم من دون إعلانات لشركات الإنتاج، غير الملائمة للمصاب الذي بدأ به الفيلم واستمر عليه وانتهى إليه، بتوتّر عالٍ، ألقى، الاستهلال، بالمشاهدين من لحظة الفيلم الأولى إلى مأساته. استمر بذلك من دون موسيقى فيه، إلا دقيقة في تصويرٍ خارجي لشاطئ، وإن بلقطة مقرَّبة، أعطى، بالتضاد، معنى أشدَّ للتصوير المنغلق في مكتب الهلال الأحمر الفلسطيني خلال محادثته المستمرة والمتقطعة لساعات، مع هند رجب.

من دون موسيقى، ومن دون تأثيرات صوتية مقحمَة، فلا نسمع سوى الحوارات. التأثيرات التي كانت، حملت المَحكيّ بالتمثيل إلى واقعية أرجعتنا إلى تسجيلات حقيقية، لم تكن التأثيرات الصوتية، كما تعهدها السينما، بحَمل المَحكيّ بالتمثيل إلى مبالغة وافتعال. أصوات واقعية لمكتب الهلال الأحمر، بأداء بارع لكافة الممثلين، تخللت مساراً على طول الفيلم بُني بتداخل أصوات هند رجب الواقعية، مع أصوات محدّثيها في مكتب الهلال الأحمر، منسوخة عن واقعها.

أصوات متماهية، صور متداخلة، مشاعر متخابطة. انهال علينا الفيلم باستقرار للتوتر على طوله، وهذه مسألة تتخطى موضوعه الفلسطيني الغزّي إلى أسلوبٍ كتابّي ومونتاجيّ وإخراجيّ يجعل للفيلم أفضليةً على غيره من منافسيه، في الحكم على استقرار شعور التوتر على طوله، من دون مقدمات ولا خواتم تطول، مع تنفيسات قليلة وقصيرة، وضرورية، فكان الفيلم حبساً طويلاً، بل دائماً، للأنفاس. هو انحباس لا نهائي للأنفاس تُقطِّعها انفلاتاتٌ لحظية فيُستعاد الانحباس ثانيةً وثالثة ورابعة. هذه براعة سينمائية بحتة، حملتها كوثر بن هنية إلى موضوعها الغزّي ليفيه حقّه في التناول السينمائي الأمين. ليس صوت هند رجب خافتاً، ليس مخنوقاً، أحالت المخرجةُ توترَ الصوت إلى توترٍ سينمائي، وأطلقته. جعل الفيلمُ من الصوت صرخة. في فينيسيا، صوت هند رجب عالٍ، وكذلك هو عالٍ "صوت هند رجب".

الفيلم (The Voice of Hind Rajab) أطلق صوت هند، المستغيث لساعات، وأسمعه كما لم يُسمَع من قبل، ومعه أصوات الغزيين، أوصله بشكل روائي تام ومضمون وثائقي تام، بتمامٍ سينمائي. لا تحويل ولا تحوير في كلمات متكررة للطفلة هند المرتعبة، المجيبة مجدداً، عن أسئلة مكتب الهلال الأحمر الإلهائية الاستيعابية، بلسان الطفلة الخائفة المرتبكة لأن جثثاً لأهلها "نائمة" كما تقول، إلى جانبها تغطيها الدماء، ولأن أصواتاً تندلع بين وقت وآخر لطلقات جنود إسرائيليين، ولأن دبابة بدأت تقترب، ثم تقترب جداً. تجيب هند للمتحدثة، تترجاها، بأن أرسلي زوجك ليأخذني من هنا إن كنتِ لا تستطيعين القدوم بنفسك.

يمكن لأحدنا أن يَسعد لوصول فيلم يحكي قصّة فلسطينية، إلى المسابقة الرسمية تحديداً، لا أقل منها، في مهرجان فينيسيا السينمائي تحديداً، لا أقل منه. يمكن أن يسعد لذلك كما يمكن أن يكتفي به. لكن فيلم كوثر بن هنية لا يتوقف هنا، بل ينطلق منه إلى آفاق أوسع، إلى فيلم عظيم شكلاً ومضموناً، حوارات ومَشاهد. ويكون الفيلم، باستحقاق سينمائي أسلوبي وسردي، الأولى بأسد المهرجان الذهبي.

كلام كثير يقال في فيلم كوثر بن هنية، وهذا التعليق القصير طال قليلاً، ولأن كلاماً آخر أجدني ملزَماً به في محاولة لإيفاء فيلم شديد الامتياز إنسانياً وسينمائياً كهذا، حقه، سأعود إليه لاحقاً، وتكون محاولة ثانية للقول إننا أمام فيلم عظيم، أمام لحظة سينمائية عربية تاريخية.

محرر المجلة. روائي وناقد سينمائي فلسطيني

 

مجلة رمان الثقافية في

03.09.2025

 
 
 
 
 

البندقية 82 – "هجرة": طريق الحرية أهم من الحرية

هوفيك حبشيان - المصدرالبندقية - "النهار"

برز فيلم "هجرة" المعروض في البندقية بوصفه محطّة لافتة في مسار زخم القطاع السينمائي السعودي.

في ظلّ الزخم المتنامي الذي يشهده القطاع السينمائي السعودي، وتعدّد التجارب التي تتراوح في مستواها بين العادي والمقبول والجيد، - علماً أن أفضل ما شاهدته سعودياً حتى الآن يبقى "مندوب الليل" لعلي الكلثمي – يبرز فيلم "هجرة" المعروض ضمن قسم "سبوتلايت" في مهرجان البندقية السينمائي (27 آب/أغسطس – 6 أيلول/سبتمبر)، بوصفه محطّة لافتة في مسار هذا الحراك الفنّي.

الفيلم يحمل توقيع المخرجة شهد أمين، التي فرضت حضورها كأحد الأسماء البارزة في المشهد السينمائي السعودي الجديد، منذ أن قدّمت باكورتها الروائية الطويلة "سيدة البحر" في الليدو قبل بضعة أعوام. ويأتي "هجرة" اليوم ليؤكّد نضج رؤيتها الإخراجية وجرأتها في استكشاف قضايا اجتماعية وثقافية شائكة.

يجسّد الفيلم، بعمق بصري وسردي، التحولات الجذرية التي تمرّ بها السعودية في مجال الفنّ السابع، ويعكس واقعاً متشابكاً مليئاً بالتناقضات، من خلال رحلة درامية تخرج المُشاهد من الأطر النمطية، لتقوده إلى فضاءات سينمائية أكثر انفتاحاً وإنسانيةً.

تبدأ الحكاية باختفاء الفتاة سارا خلال رحلة حج كانت تقوم بها برفقة جدّتها وشقيقتها (خيرية نظمي ولمار فادن)، في حادثة تبدو عابرة في ظاهرها، لكنها سرعان ما تتحوّل إلى نقطة انطلاق تأملية تتشعّب منها أسئلة كبرى حول مفاهيم التحرّر والدين، ضمن إطار اجتماعي وثقافي قد لا يفهمه إلا مَن عاشه.

ما يميّز "هجرة" ليس فقط طرحه لهذه القضايا، إنما قدرته على رسم شخصياته المبتكرة بعيداً من النمطية والمثالية. الجدّة، التي هي احدى الشخصيتين المحوريتين في الفيلم، سيدة قاسية، تجسّد جيلاً تشكَّل في كنف التقاليد الراسخة والقيم الاجتماعية الصارمة. هي شخصية مغلقة على موروث لا يقبل المراجعة، وإن تكن تجربتها الشخصية محفورة بالخسارات والندوب، مما يكسبها عمقاً إنسانياً رغم قسوتها الظاهرة.

في المقابل، تبرز حفيدتها جنى كشخصية تتطوّر بهدوء، لكنها تصبح مع الوقت النواة العاطفية للفيلم. لا تعبّر كثيراً، لكن عينيها وتفاعلاتها البسيطة تتكفّل نقل مشاعرها، فتغدو رمزاً لبراءة مشتهاة، تتوق إلى الانعتاق من القيود من دون أن تملك وسائله.

السائق أحمد (نواف الظفيري)، الخارج على القانون، يدخل المشهد من الهامش، ثم يتقدّم تدريجاً ليحتل مكانة محورية، رابطاً الخيوط بين الشخصيات. كلّ منها يواجه صراعه الخاص داخل نسيج اجتماعي يحكمه التقسيم الطبقي، ويعرّفه بحسب موقعه من السلطة والحرية والوجود.

على مدار ساعتين، يأخذنا الفيلم في رحلة عبر مناطق صحراوية نائية وطرق وعرة. غير أن هذه الرحلة لا تُختزَل في انتقال جغرافي رتيب يحوّل الفيلم إلى مجرد "رود موفي" آخر، إنما هي، في جوهرها، سفرٌ داخلي، رحلة تحوّل نفسي تضع الشخصيات أمام ذواتها، وتقلب موازينها رأساً على عقب.

يحضر الحديث عن الدين في "هجرة" بوصفه عنصراً محورياً، وهو أمر يكاد يكون بديهياً في السعودية ما بعد 2017. لكن الفيلم لا يكتفي بعرض الدين كسلطة أو منظومة فكرية متوارثة، اذ يموضعه ضمن تجربة فردية تتفاعل مع سؤال الحرية، وتشتبك معه ذاتياً وروحياً. في مجتمع مثقل بالقيود الدينية والطبقية، يختار الفيلم ألا يعكس هذه الصورة كواقع جاف أو خطاب نمطي. تتجسّد هذه المفارقة في شخصية الجدة التي، رغم قسوتها وتشبّثها بمعتقدات لا تتزحزح، تظلّ في نظر حفيدتها موضع إعجاب وتقدير. هنا، لا تُقدَّم المعتقدات بوصفها مسلّمات، بل يُنظر إليها كنتاج لتجارب شخصية، ومصدراً دائماً للتساؤل بين الإيمان العميق والتديّن الشكلي. وهكذا، تنفتح أبواب النقاش على مصراعيها حول إمكان التوفيق بين العقل والروح، بين ما نؤمن به وما نمارسه.

الطريق الطويل الذي تسلكه الشخصيات، بكلّ وعورته وأخطاره، لا يرمز إلى انتقال مكاني فحسب، إنما إلى تحدّ وجودي يسعى من خلاله كلّ فرد إلى اكتشاف ذاته. تدرك شهد أمين أن الطريق إلى الحرية قد يكون، سينمائياً، أكثر جاذبيةً من الحرية ذاتها. لذا، تحوّل الجغرافيا السعودية من مناظر إلى كيان حيّ يتنفس ويتفاعل، من الجبال الصلدة إلى البحر المفتوح فالصحراء اللامتناهية. يصبح المكان هنا شريكاً في الحكاية. هذا المكان سيكون أيضاً شخصية تضيء مسارات الهروب، وتُعمِّق أبعاد البحث عن سارا – تلك الغائبة التي لا تعود سوى ذريعة لرسم رحلة داخلية لأبطال الفيلم الثلاثة، بكلّ ما يحملونه من ألم وحلم وصراع.

بعيداً من السرديات التقليدية التي تتناول قضايا المرأة بشكل شعاراتي، يقدّم "هجرة" مقاربة أكثر نضجاً وتعقيداً. لا تسعى شهد أمين إلى تلقين أو إملاء مواقف جاهزة، بقدر ما تحاول ان تفتح المساحة أمام المتفرّج ليعيش التجربة ويرافق الشخصيات في هشاشتها وارتباكها، وهذا كله بلا محرم.

 

####

 

البندقية 82 - غييرمو دل تورو يضعنا أمام الوحوش لنرى أنفسنا

هوفيك حبشيان - المصدرالبندقية - "النهار"

المخرج المكسيكي غييرمو دل تورو عرض "فرانكنشتاين" في مهرجان البندقية السينمائي.

يصعب الحديث عن المخرج المكسيكي غييرمو دل تورو من دون تناول الوحوش. فهي ليست مجرد شخصيات في أفلامه، بل قلبها النابض وديانته البديلة. منذ طفولته المعذّبة، وجد هذا المخرج المكسيكي في الوحوش عزاءً، وفي وجوهها الممسوخة صدقاً لم يجده في الوجوه البشرية. بينما كانت الكنيسة الكاثوليكية تخيفه بتماثيلها، كان فرانكنشتاين يقدّم له مفهوما آخر للتضحية، "أصدق من المسيح المصلوب نفسه"، كما يقول. الثالوث الأقدس في حياته لم يكن "الأب والابن والروح القدس"، بل: ”فرانكنشتاين، كائن اللاغون الأسود والرجل الذئب". هذا لا يمنع انه سقط سقوطاً مدوياً في امتحان أفلمة "فرانكنشتاين"، في نظر كثر من النقّاد ومن بينهم كاتب هذه السطور. شاهدنا الفيلم قبل أيام ضمن مسابقة الدورة الحالية من مهرجان البندقية السينمائي (27 آب/أغسطس - 6 أيلول/سبتمبر).

في صغره، حين خاف من وحش تلفزيوني أصلع بعينين واسعتين، لم يهرب… بل وقع في غرامه. أصيب، كما يعترف، بـ"متلازمة ستوكهولم" تجاه الوحوش. عقد معها صفقة ليلية: "دعوني أذهب إلى الحمّام، وسأكون صديقكم إلى الأبد". منذ ذلك الحين، أصبح عاشقاً أبدياً للمخلوقات التي "لا تكذّب"، على حدّ تعبيره، والتي "لا تدّعي الطهارة أو الفضيلة". الوحوش عند دل تورو ليست رموز رعب، هي كيانات نقية، شفّافة، تقول حقيقتها كما هي، بعكس البشر الذين من المفترض أن "يحموك، لكنهم يؤذونك".

من بيته الأول، بيت جدته، المليء بالممرات الطويلة والطقوس الدينية، إلى مكتبته التي تحتوي على آلاف الكتب وموسوعات الفنّ والتشريح والبيولوجيا، صاغ دل تورو خيالاً لا يشبه أي خيال. يروي أنه حفظ موسوعات الفنّ "من الجلدة للجلدة"، وكان يتوهّم إصابته بجميع أمراض البشر من كثرة قراءته للمراجع الطبية. هذه الطفولة الغنية بالمعرفة والهلوسة، صنعت عالمه السينمائي الفريد، تنبض فيه الوحوش بروح شعرية وفلسفية، وتتحوّل فيه المخلوقات الهجينة إلى استعارات مؤثّرة للإنسان نفسه، بجراحه ونقصه ووحدته.

في السينما، كما يراها دل تورو، لا تخلق الميثولوجيا من الإنسان الخارق أو البطل الوسيم، إنما من الكائن الغريب، الهجين، المنبوذ. الوحش، في نظره، لا ينهار تحت الزمن. يبقى حياً في المخيلة، كما بقيت صورة بوريس كارلوف على الحائط، التي هزّت كيانه كما يهتز القديس بولس على طريق دمشق. يرى أن السينما الجيدة ليست فقط ما يشبهنا، إنما ما يجعلنا نحبّ ما نخافه. وهكذا استطاع أن يجعل من كائن بحري في "شكل المياه" حبيباً، ومن شيطان أحمر قريناً طيباً في "هلبوي". يروي انه ضحّى بمرتّبه في "شكل المياه" ("الأسد الذهب" لعام 2017)، كي ينجز الوحش كما تخيله، وبقي لثلاث سنوات يطوّره قطعة قطعة، حتى صار أقرب إلى قديسه الشخصي منه إلى كائن بصري.

لا يبالغ حين يصف أفلامه بأنها "نصوص إنجيلية حافلة بالوحوش". إذ يجد فيها خلاصاً شخصياً، ويمنحها مهمّة شبه مقدّسة: الكشف عن جانبها الطيب في مقابل الكشف عن الجانب الوحشي للإنسان. السينما عنده ليست لهواً بصرياً، بقدر ما هي شكل من أشكال التفسير الوجودي للعالم. وهنا تكمن خصوصيته. يصف أفلامه بأنها "حكايات تعيد ترتيب علاقتنا بالخوف، وتعلّمنا كيف نحبّ ما يثير فزعنا". لا يصفها بـ"أفلام الرعب".

غييرمو دل تورو يضعنا أمام الوحوش ليرينا أنفسنا. لا يرى فيها تشوّهاً بقدر ما يلمس نقاءها، معتبراً ان أنياب المستذئب أقل قسوةً من أكاذيب الواعظ.

 

النهار اللبنانية في

03.09.2025

 
 
 
 
 

جوليا روبرتس لـ«الشرق الأوسط»: أبني اختياري للفيلم على قرار واحد

ڤينيسيا: «الشرق الأوسط»

هذه هي المرة الأولى التي تحطّ فيها جوليا روبرتس رحالها في جزيرة ليدو التي تستضيف مهرجان ڤينيسيا منذ عقود. في الواقع، كما في الفيلم وعلى السجادة الحمراء، تعكس حال الممثل عندما يتجاوز النجومية العابرة إلى النجومية الأبدية.

أنيقة كالعادة، مبتسمة كالعادة، مستعدة للدفاع عن فيلمها... كالعادة أيضاً، لكنها ليست ساذجة ولا متعالية؛ حيث تتصرّف بودّ، وتبدو مستعدة للإجابة عن الأسئلة المطروحة بدبلوماسية.

        هذه هي المرّة الأولى لكِ في «ڤينيسيا». ما انطباعك الأول؟

- نعم، إنه انطباع أول ودائم، أشعر بأنني في احتفال سينمائي ربما كان عليَّ حضوره منذ زمن بعيد، لكن الأمر لم يكن خياري، بل لأن الأفلام التي شاركت فيها ذهبت إلى مهرجانات أخرى أو كانت جماهيرية بحتة.

        «بعد الصيد» عُرض خارج المسابقة. ألا يزعجك ذلك؟

- لا أعتقد أن عرض فيلم جيد مثل هذا خارج المسابقة يُقلّل من أهميته.

        شخصيتك في الفيلم تعكس رسالة العمل نفسه: من ناحية أنه يتناول موضوعاً مهماً، ومن ناحية أخرى لا ينحاز معه أو ضده.

- هذا صحيح، الوقوف مع أو ضد يحصر الفيلم في زاوية واحدة، في حين أن غايته، كما أرى، أن يعرض وجهات النظر كافة. وأعتقد أنه نجح في ذلك فعلاً. لاحظت وقلت أيضاً في المؤتمر الصحافي إن الفيلم أثار، وربما حتى قبل عرضه نقاشات متباينة، وهذا هو المطلوب: إثارة النقاش لا الاصطفاف مع رأي بعينه.

        لكن النقاش يتناول قضايا نسوية حسّاسة تتعلَّق بحقوق المرأة وحمايتها من الأذى.

- صحيح، لكن الفيلم لا يُقدّم دليلاً على أنها تعرّضت فعلاً للأذى؛ لذلك لا يتبنّى موقفاً ضدها أو ضد النساء عموماً. لا أراه معادياً للمرأة، بل هو عمل يفتح النقاش، ويتيح التفاعل بين وجهات النظر المختلفة.

        بحثت عن مشروعاتك المقبلة ووجدت أنها كثيرة، وبعضها من إنتاجك. كيف توزّعين وقتك بين التمثيل والإنتاج؟

- هناك مشروعات أحب أن أنتجها وأمثلها، مثل «ليتل بي». لكنّ هناك أيضاً أفلاماً تأتيني من شركات أو منتجين، ودوري فيها يقتصر على التمثيل. اختياري للفيلم، سواء من إنتاجي أو لا، يعود إلى معيار واحد: أن يعجبني فكرةً ومشروعاً.

        كثير من الممثلين انتقلوا إلى الإنتاج بحثاً عن الحرية. هل توافقين على هذا الرأي؟

- بالتأكيد، لكنني أيضاً أستمتع باتخاذ القرارات حيال المشروعات، وأرى نفسي مسؤولة تعتمد على خبرتها الطويلة في هذا المجال.

 

####

 

توسلات طفلة من غزة في فيلم «صوت هند رجب» تهز مهرجان البندقية

ينافس على جائزة «الأسد الذهبي»... ويتضمن التسجيل الأصلي لصوت طفلة محاصرة ذات الخمس سنوات

روما: «الشرق الأوسط»

يحمل فيلم «صوت هند رجب» الذي عُرض لأول مرة، اليوم الأربعاء، في مهرجان البندقية السينمائي التوسلات الأخيرة المؤلمة لطفلة فلسطينية تبلغ من العمر خمس سنوات، حوصرت في سيارة تحت القصف الإسرائيلي.

وقالت الممثلة سجى الكيلاني للصحافيين في بيان قرأته نيابة عن جميع العاملين في الفيلم: «قصة هند تحمل ثقل شعب بأكمله».

ويركز العمل الدرامي الواقعي على مشغلي خدمة الهاتف في جمعية «الهلال الأحمر الفلسطيني» الذين حاولوا لساعات طويلة طمأنة هند رجب العالقة وهي تتوسل لإنقاذها من السيارة، حيث كانت عمتها وعمها وثلاثة من أبناء عمومتها يرقدون بالفعل في عداد الموتى.

واستخدمت عبارة الفتاة الصغيرة: «أنا خائفة جداً، أرجوكم تعالوا»، معززة بمقاطع أصلية أخرى لمكالماتها اليائسة مع مسعفَين اثنين أرسلا إليها بشكل قوي طوال الفيلم.

وقالت الكيلاني: «السؤال الحقيقي هو كيف تركنا طفلة تتوسل من أجل الحياة؟ لا يمكن لأحد أن يعيش في سلام بينما يُجبر طفل واحد على التوسل من أجل البقاء على قيد الحياة... دعوا صوت هند رجب يتردد صداه بأنحاء العالم».

وبعد انتظار دام ثلاث ساعات، حصل «الهلال الأحمر» أخيراً على الضوء الأخضر من إسرائيل لإرسال سيارة إسعاف لإنقاذ هند. لكن انقطع الاتصال بالفتاة والمنقذين نفسهما بعد وصول سيارة الإسعاف إلى مكان الحادث.

وبعد أيام، عُثر على جثة الفتاة مع جثة أقاربها في السيارة. كما تم انتشال أشلاء عاملي الإسعاف القتيلين من سيارتهما التي تعرضت للقصف.

وقال الجيش الإسرائيلي في البداية إن قواته لم تكن في نطاق إطلاق النار على السيارة. ومع ذلك، شككت تحقيقات مستقلة في هذا التأكيد، وقال تقرير لاحق للأمم المتحدة إن الجيش الإسرائيلي دمر سيارة هند، ثم قتل المسعفين اللذين كانا يحاولان إنقاذها.

وفي رده على سؤال هذا الأسبوع بشأن تلك الواقعة، قال الجيش الإسرائيلي إن الحادث الذي يعود تاريخه إلى 29 يناير (كانون الثاني) 2024، لا يزال قيد المراجعة، ورفض الإدلاء بمزيد من التصريحات.

حفاوة بالغة

حظي الفيلم بحفاوة نادرة أثناء عرض خاص للصحافيين قبل العرض العام الأول، مما يشير إلى أن حظوظه ربما تكون كبيرة في الفوز بجائزة «الأسد الذهبي» التي ستُمنح في السادس من سبتمبر (أيلول).

كما استقطب الفيلم بعض الأسماء البارزة في هوليوود كمنتجين منفذين، مما منحه ثقلاً إضافياً في صناعة السينما، بما في ذلك الممثلين براد بيت وخواكين فينيكس وروني مارا.

وقالت المخرجة التونسية كوثر بن هنية التي كتبت السيناريو أيضاً، إن صوت هند تجاوز مأساة واحدة.

وأضافت: «عندما سمعت صوت هند للمرة الأولى، كان هناك ما هو أكثر من صوتها. لقد كان صوت غزة ذاتها تطلب المساعدة... الغضب والشعور بالعجز عن فعل شيء هما من ولّدا هذا الفيلم».

وكان الجيش الإسرائيلي قد اجتاح قطاع غزة بعد أن هاجم مسلحون بقيادة حركة «حماس» مناطق بجنوب إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، مما أسفر عن مقتل 1200 شخص واحتجاز 251 رهينة، حسب السلطات الإسرائيلية. وتقول السلطات الصحية في غزة إن أكثر من 63 ألفاً من سكان غزة لقوا حتفهم في القتال.

وقالت بن هنية: «الرواية المتداولة حول العالم هي أن مَن يموتون في غزة هم أضرار جانبية. أعتقد أن هذا تجريد من الإنسانية، ولهذا السبب فإن السينما والفن مهمان لإعطاء هؤلاء الناس صوتاً ووجهاً. نحن نقول كفى، كفى هذه الإبادة الجماعية».

وكانت أكبر جمعية أكاديمية لعلماء أبحاث الإبادة الجماعية عالمياً قد أعلنت هذا الأسبوع الانتهاء إلى قرار ينص على استيفاء المعايير القانونية لإثبات ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في غزة، وهو ما تنكره إسرائيل.

 

الشرق الأوسط في

03.09.2025

 
 
 
 
 

"بابا والقذافي"... فيلم يبحث عن الهوية الليبية في مهرجان البندقية

تروي جيهان الكيخيا قصة والدها السياسي النزيه الذي حرمها منه القذافي

هوفيك حبشيان 

ملخص

تروي جيهان الكيخيا أنها مذ كانت في السادسة، أخبرتها والدتها بالحقيقة، وعلى رغم أن ذلك خفف من صدمة الفقدان، فما زالت تعيش بشعور دائم من السوريالية. على رغم ذاكرتها المجتزأة ومخاوفها والقيود الثقافية في المجتمع الليبي، تحاول أن تتجاوز هذا الشعور، لتستعيد علاقتها بوالدها وبليبيا على طريقتها الخاصة.

في فيلمها الوثائقي الجميل، "بابا والقذافي"، الذي يشارك في مهرجان البندقية (27 أغسطس/ آب - 7 سبتمبر/ أيلول) كأول عمل سينمائي من ليبيا، لا تبحث جيهان الكيخيا عن بطل، ولا تنصب تمثالاً لأب غيّبه الاستبداد بقدر ما تغوص في الحطام الشخصي والسياسي لتستخرج من بين الركام صورة رجل ضاع بين حلم الوحدة العربية وكوابيس الديكتاتورية. ومن خلال محاولة فهم مصير والدها، تحرر نفسها من أشباحه.

منصور الكيخيا (1931 - 1993)، الناشط الحقوقي والسياسي الليبي الذي اشتهر بنزاهة مواقفه وصلابة مبادئه، كان أحد الأصوات الحرة التي لم ترق للطاغية معمر القذافي.

خلال مشاركته في مؤتمر لحقوق الإنسان بالقاهرة في مطلع التسعينيات، تعرض للاختطاف على يد أجهزة النظام الليبي، ليختفي بعدها في السجون، ولا يُعرف أي شيء عن مصيره إلا بعد اندلاع الثورة وسقوط النظام. كان استهدافاً لصوت معارض، كما حدث مع العديد من الذين دفعوا حياتهم ثمناً لرفضهم الاستبداد الذي استمر لعقود في عدد من الدول العربية، من مصر إلى سوريا مروراً بتونس وغيرها.

لماذا اختفى أبي؟

الفيلم يحفر عميقاً في تيمة الغياب. غياب رجل كان وزيراً ثم منفياً، ثم مفقوداً، ثم جثة وُضعت في ثلاجة لسنوات، فيما عائلته تبحث عن نقطة نهاية. الجسد المدفون ضرورة للحزن المشروع والحداد، الأمر الذي حُرمت منه عائلة الكيخيا، فاستمر الألم في التراكم بلا مخرج. جيهان، التي لم تحفظ عن والدها سوى لمحات، تحاول في الفيلم برفقة أمها أن تفهم ماذا يعني أن تنشأ في ظل أب غائب، وأن تكبر على سؤال لا إجابة له: لماذا اختفى أبي؟ ولماذا صمت كل من صمتوا؟

الأجوبة ستأتي من مقابلات مع سياسيين متقاعدين ومعارف سابقة ومن أم أنهكها الانتظار لكنها لم تتراجع. الأم هنا أكثر من مجرد شاهدة، إنها الحاملة الحقيقية للذاكرة. والفيلم لا يتعامل مع القذافي كعدو شخصي، إنما كظاهرة اختزلت كل أمراض النظام العربي: الاستبداد، الزبائنية، التلاعب بالبسطاء والمحتاجين، وتفكيك المجتمع حتى يتحول الناس إلى أدوات في يد السلطة. الديكتاتور ليس محور الفيلم، لكنه الخلفية الداكنة التي تبرز ملامح كل ما فُقد.

صناعة الحضور بالغياب

بينما يتوارى المخرج عادةً خلف الكاميرا، تذوب جيهان في عملها، تاركةً لغيرها (أمها، أخيها، وحتى رجال السلطة الذين كانوا جزءاً من النظام) أن يسردوا قصتها. ستصنع حضورها بالغياب، كما حال والدها. لا تسعى إلى تجميل الماضي إنما إلى تفكيكه، من خلال مناقشة سرديات البطولة والمبادئ والوطن.

وبين صورة أرشيفية مهزوزة، وتسجيل صوتي مشوش، ومشهد عائلي باهت على شريط قديم، يتحقق نوع من العدالة: عدالة التوثيق. حتى إن لم تُسترجع الحقوق، فإن سرد القصة بصدق كافٍ أحياناً كي يمنح الحياة معنى جديداً.

"قبل أن يختفي"

تروي جيهان الكيخيا أنها مذ كانت في السادسة، أخبرتها والدتها بالحقيقة، وعلى رغم أن ذلك خفف من صدمة الفقدان، فما زالت تعيش بشعور دائم من السوريالية. على رغم ذاكرتها المجتزأة ومخاوفها والقيود الثقافية في المجتمع الليبي، تحاول أن تتجاوز هذا الشعور، لتستعيد علاقتها بوالدها وبليبيا على طريقتها الخاصة. هذا أحد الحلول التي تجعلها تتمسك بوالدها، "قبل أن يختفي تماماً من ذاكرتي ومن ذاكرة ليبيا"، كما تقول. وتضيف: "لا أريد أن يختفي والدي مرة ثانية. أشعر بإلحاح لسد هذا الفراغ وسط الفوضى وعدم الاستقرار المستمرين في ليبيا، واللذين أخشى أن يؤديا في النهاية إلى دفن هويتي الليبية. لذلك، أبحث في ذاكرة الآخرين محاولةً تكوين صورة أوضح عن والدي الذي لا أتذكره. إنجاز هذا الفيلم الوثائقي ساعدني على فهم أهمية وجود الأب في حياة الإنسان، وتأثير غيابه على الأسرة والمجتمع، بل وحتى على الوطن بأكمله. لو كان والدي على قيد الحياة اليوم، لكان عمره 94 سنة. مشاركة قصته غير المروية هي مشاركة لقصة ليبيا غير المروية، تلك التي تمتد عبر ما يقارب مئة عام من التاريخ والسياسة الليبية. إرثه يمنحني نافذة فريدة على جيل والدي، وعلى مسؤولين سابقين في الحكومة الليبية وأعضاء في المعارضة، هؤلاء الرجال الذين ينتهزون الفرصة للتأمل بصدق في ليبيا الضائعة وفي مستقبلها. كم أتمنى لو كان في إمكاني أن أسأله: كيف وصلنا إلى ما نحن عليه؟ وكيف ستتحرر ليبيا من هذه الدوامة؟".

 

الـ The Independent  في

04.09.2025

 
 
 
 
 

«صوت هند رجب»…مرثية سينمائية لطفولة دُفنت تحت الركام

نسرين سيد أحمد

فينيسيا – «القدس العربي»: من الصعب أن نتخيّل أن مهمة نقد فيلم في مهرجان سينمائي قد تتحول إلى كتابة شهادة على جريمة إبادة جماعية، وأن يتحول مقعد المشاهدة إلى مقعد عزاء ورثاء. لكن هذا بالضبط ما يفعله فيلم «صوت هند رجب» للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي الثاني والثمانين. هو ليس مجرد عمل سينمائي يطمح إلى إثارة النقاش حول شكل أو أسلوب، بل مرثية مكتملة الأركان، مكرّسة لطفلة فلسطينية في السادسة من عمرها، اختُطفت حياتها على يد الرصاص والدبابات الإسرائيلية يوم 29 كانون الثاني/يناير 2024.

القصة معروفة: هند رجب، الطفلة المحاصرة في سيارة عائلتها في حي تل الهوا جنوب غزة، محاطة بجثث أقاربها، تخاطب العالم عبر الهاتف بصوت مرتجف: «أنا خايفة، تعالوا خدوني». التسجيل الذي بثّته جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني حينها هزّ الضمير الإنساني حول العالم. لكن الفيلم لا يكتفي باستعادة الصرخة، بل يمنحها جسداً سينمائياً، يصوغ منها محوراً درامياً وأخلاقياً يجعل المشاهد شريكاً في المأساة، شاهداً على ما جرى وما يزال يجري.

اختارت بن هنية أن تجعل الصوت قلب الفيلم، محوره وبوصلته. فلا إعادة تمثيل لمشهد السيارة، ولا لقطات أرشيفية لوجه الطفلة وهي تستغيث، بل شاشة تغمرها ذبذبات الصوت. نشاهد الفيلم كأنّنا أمام وثيقة جنائية، أو ملف محفوظ في الأرشيف، لكنه في الحقيقة جرح مفتوح يقطر ألماً كلما أُعيد تشغيله. لا حاجة لأي تجميل بصري. الكلمات وحدها كافية. ارتعاشة الصوت، أنفاس الطفلة، صدى الرصاص في الخلفية، كل ذلك تعجز أي صورة عن مضاهاته. غير أن الفيلم لا يكتفي بتسليمنا التسجيل الخام، بل يحيط الصوت ببنية درامية داخل مركز اتصالات الهلال الأحمر في رام الله. نرى المتطوعين والموظفين، عمر (معتز مليحس)، رنا (سجى كيالي)، مهدي (عامر حليحل)، نسرين (كلارا خوري)، يتلقون المكالمات، يتجادلون حول ما يمكن فعله، يحاولون تهدئة الطفلة، ثم يتصدّعون تحت وطأة العجز. مسرح الأحداث عملي، كأي غرفة اتصال لوحدات إسعاف، بها مكاتب، وأجهزة كومبيوتر حديثة، شاشات تعرض خرائط رقمية وسيارات إسعاف تتحرك ببطء بين الركام. هذه البيئة اليومية الباردة تصطدم ببشاعة ما يُسمع، فيتضاعف الإحساس بالهوة بين الحياة الطبيعية والكارثة المستمرة.

في قلب الفيلم يتجلّى صراع أخلاقي مرير: عمر، الذي كان أول من تلقى اتصال عم هند المقيم في ألمانيا، وأول من اتصل بهند وسمع صوتها، يريد إرسال سيارة إسعاف بأي ثمن. مهدي، مديره في المكتب، يذكّره بأن أي سيارة تتحرك دون موافقة إسرائيلية ستُستهدف فوراً، وأن عشرات المسعفين قُتلوا سابقاً. يتصاعد التوتر بين الواجب الإنساني تجاه الطفلة المحاصرة، والواجب الإنساني الآخر المتمثل في الرغبة في الحفاظ على حياة المسعفين. ليس الخلاف شخصياً، بل انعكاس لوضع أُفرغ من كل قدرة على الفعل. تدور الأحداث في غرفة واحدة، هي مركز اتصالات الهلال الأحمر، ولا تبرحها إلا للحظات قصيرة. هنا لا أمل في النهاية. نحن نشاهد سباقاً مع الزمن نعرف سلفاً أنه خاسر. كل دقيقة إضافية على الخط تصيب المشاهد كطعنة جديدة، ولكننا نوقن تماما بأننا عاجزون مثل المتطوعين. نسمع الصوت، نترقب الخلاص، ونرجوه ونعرف أنه لن يأتي.

بن هنية مزجت سابقاً الوثائقي بالروائي، كما في فيلمها السابق «بنات ألفة». لكن في «صوت هند رجب» تبلغ هذه التقنية أقصى حدودها: فالمادة الوثائقية هنا دامغة، لا تقبل التشكيك. ونجد أنفسنا نتساءل هل من حاجة إلى تغليفها بالدراما؟

ثمة من سيجد أن الأداء الانفعالي للمتطوعين، مع لحظات الانفجار في البكاء والتوتر الانفعالي يضيف طبقة من المبالغة، قد تضعف قوة التسجيل الأصلي، بينما يكفي صوت هند الحقيقي الخائف المرتجف، دون أي إضافات درامية. وهناك من يرى العكس، وأن هذه الدراما تمنح المشاهد متنفساً، مساحة يلتقط فيها أنفاسه من هول الصوت، وتسمح للصوت نفسه بأن يُسمع بوضوح أكبر.

الحقيقة أن الفيلم يتأرجح بين هذين الحدّين. أحياناً يبدو كل تفصيل بصري، الخرائط الرقمية، المؤشرات على الشاشة، الحوارات المشتعلة، ضرورياً لإبراز الكارثة. على سبيل المثال معرفة أن طريق سيارة الإسعاف إلى موقع هند يتطلب ثماني دقائق فقط، بينما التنسيق لرحلة سيارة الإسعاف مع الصليب الأحمر والحصول على الضوء الأخضر من الجيش الاسرائيلي يستغرق ساعات وساعات. هذه معلومة علمناها من السياق الدرامي للفيلم، ولولاها لما عرفنا مدى صعوبة، بل استحالة، إنقاذ حياة الكثير من المصابين العالقين. وأحياناً أخرى نشعر بأن كل ما هو إضافي يتلاشى أمام صوت الطفلة المحاصرة بالدبابات والمحاطة بجثث أقاربها في السيارة. لكن يبقى أن هذا التأرجح نفسه جزء من تجربة المشاهدة: نحن نتأرجح مثل المتطوعين، بين الرغبة في الفعل والاصطدام بجدار العجز.

ما يميّز «صوت هند رجب» أنه لا يسعى إلى إثبات الجريمة عبر تحليل سياسي مباشر، بل يترك الصوت يقوم بالمهمة. فحين تستمع إلى طفلة تتوسل النجدة وسط جثث عائلتها، لا تحتاج إلى أي خطاب عن الوحشية الإسرائيلية، أو العدالة الدولية الغائبة. الجريمة مكتوبة في نبرة الخوف، في الصمت الفاصل بين الكلمات، في ارتعاشة الحنجرة الصغيرة، في جملة بسيطة مثل «أنا خايفة، تعالوا خدوني».

الفيلم يمنح صوتاً لمن لا صوت له ولا يُسمع عادة. أن تجعل الطفلة المتروكة لمصيرها تتحوّل إلى شاهدة أبدية، حضوراً لا يمكن محوه. هذا الفيلم شهادة سينمائية لا لهند وحدها، بل لكل الأطفال والمدنيين الذين يُقتلون في غزة بلا اسم أو صوت. وهو في الوقت نفسه إدانة لا لبس فيها للعالم الذي يواصل المشاهدة وكأنه لا يسمع. تضعنا بن هنية في بعض المشاهد أمام حائط صور لضحايا آخرين ماتوا أثناء الاتصال بخط الطوارئ. هنا يتجاوز الفيلم حالة هند الفردية ليذكّر بأن صوتها ليس وحيداً، بل هو واحد من آلاف الأصوات التي انقطعت في منتصف الجملة، بهذا يصبح الفيلم أيضاً أرشيفاً للغياب، تذكاراً جماعياً لضحايا بلا قبور مرئية. لا شك أن «صوت هند رجب» فيلم صعب، بل قد يثير جدلاً. فالبعض سيجد في تقنياته الميلودرامية نوعاً من الابتزاز العاطفي، بينما سيراه آخرون صرخة ضرورية في وجه لامبالاة دولية مروعة. لكن أياً يكن الموقف، لا يمكن إنكار قوة التجربة. فالفيلم يفرض على مشاهديه أن يستمعوا، من البداية حتى النهاية، من دون توقف أو زر إيقاف. يجعلنا أسرى للصوت كما كانت الطفلة أسيرة في سيارتها. وهذه بالضبط قوة السينما: إنها تفرض الإصغاء حيث يريد العالم أن يصمّ أذنيه.

 

القدس العربي اللندنية في

04.09.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004