ربما كان فيلم “لا خيار آخر No
Other Choice”
لبارك شان ووك هو أكثر الأفلام التي انتظرتها هذا العام. فبجانب كونه أحد
أبرز مخرجي جيله، فإنه شارك في وضع سينما كوريا الجنوبية على خريطة السينما
العالمية بعد رائعته “الولد القديم
Oldboy”
الحائز على جائزة افضل فيلم من لجنة التحكيم الكبرى من مهرجان كان عام 2004.
تمتاز سينما شان ووك، بالاهتمام بمفهوم الحكاية التي تحمل
غالبًا كثيراً من الغموض والتشويق، وكماص غير قليل من العنف، والكثير من
الطبقات لتحليلها وفهمهما. فأفلامه من النوع الذي لا تكفيه مشاهدة واحدة
للإلمام بكل تفاصيله، بل يمكن زيارتها عدة مرات واكتشاف جديد يفاجئك في كل
مرة. ولهذا سنحاول التطرق في هذا المقال لعدة أفكار من المطروحة في فيلمه
الأحدث، المعروض حالياً في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي في دورته
الثانية والثمانين.
في “لا خيار آخر”، يبتعد المخرج نسبيًا عن العوالم الجادة
المعتادة في أفلامه ويتجه إلى الكوميديا. لكنها كوميديا سوداء، لا يتخلى
فيها عن قالب التشويق المصاحب لأعماله السابقة.
تتابع الأحداث مان سو (لي بيونج هُن الذي شارك في لعبة
الحبار) المدير في شركة لصناعة الأوراق، الذي يحيا حياة مرفهة سعيدة مع
أسرته الصغيرة المكونة من زوجة وطفلين. ولكن عندما تقرر الشركة الاستغناء
عن خدماته نتيجة الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة، تنقلب حياته ويقرر
البحث عن عمل مشابه في شركة أوراق أخرى، ولكن أولًا عليه التخلص من منافسيه.
قراءة قصة الفيلم دون مشاهدته، توحي بأننا أمام فيلم مأساوي
عن ضغوط الحياة على الإنسان المعاصر، ولكن بارك شان ووك يقرر أن يتناول هذه
المأساة بشكل هزلي بامتياز يظهر مع المشهد الافتتاحي للفيلم: نتعرف على
أسرة مان سو، وبيته الأنيق الذي يلعب دورًا مهمًا في الأحداث. تبدو هذه
الأسرة مع كلبيها سعيدة بشكل مبالغ فيه، شكل أشبه بما نشاهده في الإعلانات
التجارية التي تقدم الأُسر في التجمعات السكنية الحديثة باهظة الثمن. سعادة
بلاستيكية هشة؛ حتى أن الحضن الجماعي للأسرة يدعو للضحك، إذ كأنهم يفعلون
هذا لإرضاء مشاهدين غير موجودين. وتُنبئ تلك الحالة البلاستيكية المصطنعة
باقتراب الكارثة.
بعد هذه المقدمة نبدأ في التعرف على الأسرة عن قرب، وخاصة
العلاقة بين الزوج والزوجة مي ري (سون يي جن). رغم ما يتركه الفيلم في
البداية من انطباع عنها بأنها الزوجة المرفهة التي لا يعنيها شيء من زوجها
غير نقوده، فإننا سريعًا ما نشاهد أنه على عكس توقعاتنا تمامًا؛ مي ري
تحاول جاهدة الحفاظ على تماسك الأسرة بشكل عملي وذكي، في حين أن الزوج الذي
من المفترض أنه رب الأسرة لا يقدر إلا أن يستمر في أفكاره السوداء.
لا توجد أية شخصية مثالية في هذا الفيلم، ولكن يمكن ملاحظة
كيف تبدو شخصيات الرجال أكثر هشاشة، وليس هذا نتيجة الضغوط الخارجية كما هو
متوقع، أو كما يحاول الرجال أن يقنعوا أنفسهم بذلك؛ ولكن نتيجة تمسكهم
بأفكار وقناعات محددة لا يرغبون في التنازل عنها. فمان سو يتوقف تفكيره عند
العودة للعمل تحديدًا في شركة ورق أخرى، حتى لو حاول نظريًا البحث عن عمل
آخر في البداية، ولهذا يقرر أن يسلك مسارًا معقدًا ودمويًا بدلًا من البحث
عن حلول بديلة.
أوراق وسماد عضوي
تخاذل الرجال هو جانب من الأزمة، ولكن هناك جانب آخر لأزمة
هؤلاء الرجال، وهو الخضوع التام لمتطلبات العصر. منذ الثورة الصناعية
والحديث عن استبدال الآلة بالإنسان لا يتوقف، وإن كان هذا الحديث ازداد
مؤخرًا بعد انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي.
في فيلمه الشهير “الأزمنة الحديثة
Modern Times”
قدم تشارلي شابلن رؤية شديدة الطرافة والذكاء عن تحول الإنسان إلى مجرد ترس
داخل الآلة الضخمة للمصانع، حتى ابتلعته هذه الآلة. في “لا خيار آخر” يختار
المخرج لبطله العمل في صناعة الأوراق، وهي الصناعة التي ربما لا نعرف عنها
إلا القليل من المعلومات، أبرزها دخول أخشاب الأشجار في صناعة الورق.
يبدو مان سو مهووسًا بصناعة الأوراق، حتى أننا لا نعلم له
أية هواية أخرى، عكس بقية أفراد الأسرة. وكأنه أصبح هو نفسه جزءًا من مرحلة
الصناعة. على عكس المشهد الخيالي الذي قدمه شابلن، يقدم شان ووك مشهدًا
واقعيًا داخل الأحداث إذ يتحول أحد الأشخاص إلى سماد عضوي لتغذية إحدى
الأشجار، فالآلة تبتلع الإنسان مرة أخرى في هذا الفيلم.
ثم تأتي معضلة أخلاقية تشكل عقدة الفيلم، فقد لا يختلف
الكثيرون حول حقوق البشر في العمل وكسب الرزق وعدم الانجرار خلف التقنيات
التي تلغي وجود العمالة البشرية، ولكن ماذا لو كان بإمكانك أن تحتفظ بمكانك
داخل المنظومة في مقابل الاستغناء عن زملائك؟ في بداية الفيلم يحضّر مان سو
خطبة عصماء لمديريه يؤكد فيها على أهمية عدم الاستغناء عن العمال، ولكن
عندما يوضع لاحقًا في مواجهة حقيقية بين مصلحته وحقوق بقية العمال، فإن
الأمر يختلف.
كوميديا سوداء
لا يتخلى بارك شان ووك عن عنصري التشويق والجريمة كما في
أفلامه السابقة. في الحقيقة تتسع الجريمة هنا، ففي أغلب الأفلام السابقة
كانت الدوافع مقبولة بشكل أكبر، ولكن في أحدث أفلامه يصبح الدافع نتيجة
المنافسة، وأمام أشخاص لا يعرفهم بطل من قبل، وهو ما يجعل الجريمة أسوأ
وأقسى، ويجعل من استخدام الكوميديا في هذا الفيلم تحديدًا خيارًا ذكيًا، إذ
تخفف بعضًا من الأجواء القاتمة.
في هذا يذكرنا الفيلم بالرائعة الكورية الأخرى “طفيلي
Parasite”
خاصة ونحن نشاهد أفراد الأسرة يتورطون بشكل أو بآخر داخل الأحداث.
لا يعني هذا أن الفيلم يضع بطله في مكانة الشخصية الشريرة،
ولكنه لا يبرئه أيضًا، بل يدفعنا للتفكير مطولًا، ليس في الظروف التي دفعت
هذا الشخص إلى تلك الاختيارات، ولكن فيما يمكن أن يكون رد فعلنا كمشاهدين
إن كنا في محله.
“لا
خيار آخر” إضافة أخرى مميزة لمسيرة بارك شان ووك، ويمكن وصفه بأحد أفضل
أفلام السنة لا مهرجان فينيسيا فقط. |