ملفات خاصة

 
 
 

«هجرة»…

رحلة في الماضي والحاضر والمستقبل

أحمد شوقي

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثاني والثمانون

   
 
 
 
 
 
 

منذ أفلامها القصيرة، ومرورًا بفيلمها الطويل الأول “سيدة البحر”، قدمت شهد أمين نفسها واحدةً من أصحاب الأصوات المتفردة في السينما العربية. صوت ينهل من مصادر ثقافية متعددة: الأساطير المحلية، الفنون البصرية، وخصوصية العالم المحيط القادرة على جعل كل فكرة شائعة جديدة بالضرورة. اليوم وبعد ست سنوات بالضبط من عرض “سيدة البحر” في مهرجان فينيسيا السينمائي، تعود شهد أمين بفيلمها الطويل الثاني “هجرة” إلى المهرجان، لتدُشن مرحلة جديدة من مسيرتها، مختلفة وشيّقة وشديدة الجرأة.

دون أن تترك بصمتها البصرية المميزة، تتصالح أمين أكثر مع قيمة الحكاية بمعناها الكلاسيكي، مقدمة قصة واضحة المعالم، لها بداية ووسط ونهاية، يمكن لمن يرغب في متابعة مستواها البسيط أن يتفاعل مع رحلة البحث عن ساره، المراهقة التي تختفي خلال حج تخرج فيه مع شقيقتها الأصغر وجدتها، لتتنقل الجدّة والحفيدة في جولة للبحث عنها بصحبة سائق ذي طبيعة خاصة (نواف الظفيري بحضور مؤثر).

أيّ جدة في أي مكان تختفي حفيدتها خلال وجودها تحت رعايتها ستكون في محنة ضخمة، لكن هذه الجدة تحديدًا (خيري نظمي التي تمنح الدور حيوية ممزوجة بالحكمة) لديها أسباب وتعقيدات إضافية تجعل إيجاد ساره مسألة حياة أو موت. هذا الفرق بين ما يعنيه الحدث عمومًا وما يعنيه داخل عالم الفيلم تحديدًا هو السمة المميزة لأفلام شهد أمين: أن المحيط يحمل شيئًا أكثر من كونه مجرد مكان للأحداث، بل إنه ما يمنحها قيمةً تفوق الحكاية وأحداثها.

ليست مجرد هجرة

هجرة” كلمة تعني في المُعجم الخروج من أرضٍ إلى أرض أخرى، أي قد تُطلق على أي فيلم طريق أو حكاية عن اللاجئين مثلًا. لكن اللفظ يرتبط في التراث الإسلامي بسيرة النبي محمد، فالهجرة (بالألف واللام) هي هجرته من مكّة المكرمة إلى المدينة المنورة بحثًا عن أرضٍ آمنة لدعوته الوليدة. هذا سياق لا بُد من التفكير في علاقته بالفيلم الذي يبدأ برحلة حج إلى مكة (والحج نفسه ترتبط شعائره بإعادة تجسيد هجرة السيدة هاجر زوجة إبراهيم)، وكذا علاقته بموقع الأحداث: السعودية التي لم تكن مجرد مكان في جزيرة العرب، بل ظلت محل هجرات تاريخية متوالية من شتى بقاع الأرض، لبشر جاءوا لأداء الشعائر فاستقروا وتوطّنوا وانتموا لوطنهم الجديد. ناهيك عن هجرات القرن العشرين التي كان أغلبها مؤقتًا، لكنها تضمنت أيضًا من اختاروا الأراضي المقدسة لتكون مستقرًا لباقي حيواتهم.

ما علاقة كل ما سبق بفيلم عن فتاة ضائعة؟ هذا ما تكشفه شهد أمين رويدًا رويدًا مع توالي الأحداث. يبدأ بأفعال خافتة وأسئلة صغيرة قد لا ينتبه لها الغريب عن المكان: نظرة متمعنة في ملامح شخص أو سؤال “سعودية يا حجيّة؟” الذي يوجهه السائق للجدة بعدما فشلت فراسته في بلوغ الإجابة، لكنه سرعان ما يتحوّل لحقيقة بصرية حاضرة خلال الانتقال من مكان لمكان، من الطائف للمدينة لجدّة لضباء وغيرها. حقيقة مفادها أن كل هذا التنوع الحضاري والمعماري لا يمكن أن يكون وليد قريحة جنس بعينه أو عرق بعينه، مهما بلغت قدراته وعلاقته ببيئته.

تتحول “هجرة” الجدة وحفيدتها جنا (اكتشاف الفيلم الحقيقي الموهبة الصغيرة لمار فدان) إلى تحية للسحر الذي يصنعه التنوع، للحجاز باعتباره بوتقة تاريخية انصبت داخلها هجرات عديدة، وانصهرت فيها أعراق وأجناس صنعت كلها تراثًا ينبغي التوقف وتأمل آثاره. ليس فقط الآثار المادية، كالقرية التي كانت قديمًا منزلًا للحجيج والمقتنيات القديمة التي تقابلها جنا في أماكن مختلفة، ولكن الأهم آثاره المعنوية: ذكريات الجدة والخبرات التي عاشتها، وخصوصيتها البشرية والثقافية كامرأة عاشت سنوات من عمرها في مكان آخر من العالم ثم صارت سعودية قلبًا وقالبًا.

ثلاثة عوالم في سيارة

غير أنهجرة ليس مجرد تحيّة للماضي، أو إشارة لأمور معلقة في الحاضر، وإنما هو بالأساس رحلة درامية لها ثلاثة أبطال لكل منهم بناءً مختلفًا كليًا: الجدة التي تصالحت مع ماضيها واستقرت وعرفت وطنها، وتحاول العيش وفق قواعده وإن حملت خبراتها القديمة داخلها، والسائق الذي يعيش حياة معلقة يُهدد فيها كل لحظة بالطرد من بلد لم يعرف غيره طيلة حياته، وجنا التي تمثل جيلًا جديدًا لا تشغله تعقيدات الماضي، يحلم بحياة أمتع ومستقبل أفضل، ويتعرف على العالم بعيون متسعة راغبة في التعلّم. ربما لكونها لم تصطدم بعد بحقائق العالم كما حدث مع شقيقتها التي بدأت الرحلة بسببها.

يخلق التفاعل بين الشخصيات الثلاثة وبعضها وبينهم وبين العالم الخارجي، سلسلة من المواقف والمواجهات المتتالية، تتباين في جودتها وقدرتها على إثارة الانتباه والتفكير. بعضها تلمس أصالته وواقعيته، وبعضها يمكن أن تلاحظ بسهولة كونه مصاغًا لأغراض درامية بحتة، وهو أمر شائع في أغلب أفلام الطريق، أن تتفاوت محطات هذا الطريق في جودتها داخل الفيلم.

تكتشف جنا – ونكتشف معها– الكثير عن عائلتها وجذورها ووطنها. تزور أماكن جديدة وتدرك أن الحياة رحلة أشق أحيانًا من الحج، وأن أجمل ما فيها أنها تجمع بشرًا مختلفين، لكن منهم خصوصيته وعالمه الداخلي، الذي قد يتلاقى في لحظات ساحرة مع عالم إنسان آخر قد يبدو أبعد ما يكون عنه. ولا تعبير سينمائي أبلغ عن ذلك من جبال عربية تسير فيها فتاة سعودية خفيفة الظل مع سائق بلا جنسية، يغنيان معًا أغنية أمريكية تقول “كل شيء سيكون على ما يرام”.

وفي النهاية

ظهور فيلم مثل “هجرة” تعبير عملي عن التطور المستمر الذي تشهده السينما السعودية، ليس فقط على الصعيد التقني، فهو أمر بسيط مرهون بالكفاءات البشرية والقدرات المالية؛ ولكن على مستوى القدرة على طرح أسئلة مجتمعية مهمة قد يخشى البعض طرحها. فقضية غير المجنسين التي ظهرت بشكل عابر في “آخر سهرة على طريق ر.” لمحمود صباغ، تتحول هنا موضوعًا مركزيًا في “هجرة”، كسؤال ثقافي وحضاري وإنساني لا كقضية سياسية، يتم طرحه في صياغة سينمائية شيّقة وممتعة بصريًا. وفي الوقت التي تقوم فيه بعض الدول بسحب الجنسية من مواطنيها، تأتي شهد أمين لتُذكرنا أن المواطنة هي فعل ذاتي، ثقافي وشعوري قبل أي اعترافات رسمية أو تعقيدات ورقية.

 

####

 

من «سيدة البحر» إلى «هجرة»: شهد أمين تكتب فصلًا جديدًا في فينيسيا

فاصلة

من «سيدة البحر» التي وضعت شهد أمين على خريطة فينيسيا عام 2019، إلى «هجرة» الذي شهد عرضه العالمي الأول يوم أمس، تعود المخرجة السعودية شهد أمين إلى السجادة الحمراء لمهرجان فينيسيا السينمائي. صوتها الإبداعي لا يقبل أن يُختزل في «أفلام عن المرأة»، بل يصرّ على أن أفلامها عن الإنسان في صراعه الأزلي مع القيود والتقاليد والبحث عن الحرية. في عملها الجديد، تنسج حكاية طريق بين جدة وحفيدتها، تلتقي فيها أسئلة الهوية والانتماء مع ذاكرة المهاجرين الذين شكّلوا ملامح المجتمع السعودي.

اليوم، تعود شهد أمين إلى مهرجان فينيسيا السينمائي بفيلمها الجديد «هجرة»، بعد ست سنوات من تجربتها اللافتة «سيدة البحر» (2019). في عملها الجديد، الذي تطلّب ثلاث سنوات من التطوير وصُوِّر في ثماني مدن سعودية، تصوغ حكاية طريق دافئة تجمع بين جدة وحفيدتها في رحلة بحث عن حفيدة مفقودة؛ رحلة تتحول شيئًا فشيئًا إلى مرآة لأسئلة الحرية والانتماء، ولحكايات المهاجرين الذين شكّلوا  جزءاً من ملامح المجتمع السعودي عبر الزمن.

نشأة مختلفة

ولدت شهد أمين في جدة، لم ترضَ يومًا بالتصنيفات المسبقة. في طفولتها، تركت شعرها قصيرًا، ورفضت الاعتراف بأنها «بنت»، إذ كانت ترى أن القوة والجدية حكر على الأولاد، فيما تُترك للفتيات تفاصيل سطحية لا تشبهها. لم تكن أميرات «ديزني» رفيقاتها، بل بطلات الأنيمي الياباني اللواتي يخضن مغامرات كبرى ويقفن في صميم الحكاية. ومن هناك بدأ وعيها بأن القصص يمكن أن تُروى بشكل آخر، وأن البطلة ليست دومًا «التفصيل الرومانسي» في حياة البطل.

منذ صغرها أحبّت الشعر والسينما، لكنها شعرت أن الطريق إلى أن تكون «صانعة أفلام» طويل وصعب. وفي مراهقتها، انجذبت إلى المسلسلات العربية والقديمة، لكنها لم تُخف استياءها من أن معظمها يقوم على الرومانسية التقليدية، من دون مساحة لبطلات قويات يخضن صراعًا أو مغامرة، كسر ذلك مسلسل «الكواسر» للمخرج نجدة أنزور الذي أضاء لها بريقًا إلى ما تريده، تلك المرأة التي لها صوت.

محطات صنعت شهد أمين المخرجة

في السابعة عشرة من  عمرها انتقلت شهد لدراسة السينما في «جامعة غرب لندن»، ثم عاشت عامًا في إسبانيا، وهناك اصطدمت بعالم مغاير تمامًا لعالمها. تقول إن عمر 22 أو 23 لم يكن كافيًا لقبول تلك التناقضات، لكن بعد الخامسة والعشرين تغيّر وعيها في حوار سابق وصفت ما شعرت به حينها قائلة: «بدأت أرى أن كشف الضعف جزء من القوة».

عملت شهد أمين في البداية مساعدة مخرج في الإعلانات والأفلام، قبل أن تجرّب إخراج أفلام قصيرة؛ «موسيقانا»، ثم «نافذة ليلى» (2011) الذي عُرض في مهرجان الخليج السينمائي. أما فيلمها «حورية وعين» (2013) فكان نقطة تحوّل؛ إذ حاز على جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان أبوظبي السينمائي، وعُرض في تورونتو وستوكهولم، لتبدأ رحلتها العالمية.

«سيدة البحر»: الفيلم الروائي الأول في فينيسبا

عام 2019، قدّمت شهد فيلمها الروائي الطويل الأول «سيدة البحر» في «أسبوع النقاد» بمهرجان فينيسيا. الفيلم، الذي اعتمد على أسلوب أسطوري رمزي، قدّم صورة جريئة عن مجتمع يفرض على المرأة التضحية بنفسها ليبقى الرجل. حصد الفيلم جائزة نادي فيرونا السينمائي للفيلم الأكثر إبداعًا، إلى جانب جوائز عديدة من مهرجانات قرطاج، الرباط، وسنغافورة، كما شارك في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ضمن مسابقة آفاق، كما رشحته المملكة لترشيحها لمسابقة أفضل فيلم روائي أجنبي ضمن جوائز الأوسكار عن عام 2021. لكن الأهم أن الفيلم وضع السينما السعودية في واجهة المشهد السينمائي الدولي، وكرّس اسم شهد أمين كصوت نسوي لا يرفع الشعارات، بل يحوّل التجربة الذاتية إلى حكاية كونية.

في حديثها عن «سيدة البحر» قالت إنه لم يكن أبدًا مجرد فيلم بالنسبة لها، بل كان فيلمًا عنها، عن تحولها من الفتاة المتشبثة بآرائها، والغاضبة من صورة الفتاة النمطية في مجتمعها، الضعيفة المهتمة بالموضة ناقصة العقل وغيرها من الصفات التي لم تحبها شهد أبدًا، إلى نسخة جديدة تفهم تقلبات جسدها واختلافه، كما فعلت بطلة فيلمها، التي بدأت أن تبحث عن القوة بداخلها، وتقبل ظهور «الحراشف» على جسدها، بعدما أثبتت قوتها وجدارتها في اختراق مجتمع الرجال.

لم ترد شهد أمين تقديم فيلمًا دعويًا أو خطابًا سياسيًا، بل كتجربة شخصية: «االفيلم كان محاولة لأقول إننا ربما توقفنا عن وأد النساء جسديًا، لكننا لم نتوقف عن وأدهن في عقولنا».

«هجرة»: عودة إلى موسترا فينيسيا

انشغلت شهد قليلًا بكتابة مشاريع لمخرجين آخرين، ولكن بعد ست سنوات، ها هي تعود شهد إلى فينيسيا بفيلمها الجديد «هجرة»، الذي عُرض في قسم «أضواء فينيسيا» الذي تطوّر بالتعاون مع السينمائي العراقي محمد الدراجي، وحصل على دعم من جهات سعودية ودولية. وكانت جريئة في خيار البطولة لممثلة كبيرة سن وطفلة وهما خيرية نظمي ولامار فدان بمشاركة نواف الظفيري ويروي الفيلم  حكاية جدّة وحفيدة تنطلقان في رحلة شاقة عبر الطائف ومكة والعلا وضبا وصولًا إلى تبوك بحثًا عن حفيدة مفقودة. لكن القصة تتجاوز الحدث، لتغوص في أجيال مختلفة من النساء، كل واحدة منهن تبحث عن صوتها الخاص وحريتها المؤجلة.

«هجرة» ليس فقط عن العائلة، بل عن تاريخ طويل من المهاجرين الذين استقروا في السعودية بعد الحج، وعن كيف تشكّلت المدن الكبرى بتعدد أعراقها وثقافاتها. تقول شهد: «أردت أن أُظهر المملكة بطريقة لم تظهر بها من قبل: من جبال الطائف الخضراء إلى شواطئ ضبا، ومن صحراء العلا إلى جبال تبوك المغطاة بالثلوج».

ما بين البدايات والآن

بين طفلة رفضت الاعتراف بأنها بنت، وصانعة أفلام تقف اليوم على السجادة الحمراء في فينيسيا، سيرة شهد أمين ليست مجرد مسار مهني، بل رحلة وعي وتحرر. هي التي لا ترى أفلامها «عن المرأة» بقدر ما تراها عن الإنسان، وعن صراعه المستمر مع العادات والتقاليد والقيود التي نحملها داخلنا. وها هي اليوم تثبت أن صوتها ليس عابرًا، بل مستمر، ومُصرّ على أن السينما السعودية قادرة على أن تروي قصصها بلغتها الخاصة، للعالم كله.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

29.08.2025

 
 
 
 
 

«يتيم» للازلو نميش: عندما تصبح الطفولة مرآة لخيبات وطن

نسرين سيد أحمد

فينيسيا – «القدس العربي»: يشارك المخرج المجري لازلو نيميش في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي في دورته الثانية والثمانين (27 أغسطس/آب إلى 7 سبتمبر/ أيلول) بفيلمه الجديد «يتيم» (Orphan) ثالث أفلامه الروائية بعد «ابن شاؤول» (2015) و»غروب» (2018). يتضح لنا منذ اللحظات الأولى من الفيلم، أنّ نيميش ما زال مسكوناً بذاكرة أوروبا الشرقية المثقلة بالحروب والهزائم، وأنّه يصرّ على تفكيك علاقة الفرد، وبالأخص الطفل، مع تاريخ يتوارث القسوة جيلاً بعد جيل. ورغم عنوانه، فإن «يتيم» لا يروي قصة طفل بلا والدين. بطله أندور (يؤدي دوره بورتوريان باراباش) يعيش مع أمّه كلارا (أندريا فاسكوفيتش)، ولكن والده غائب وتقول له أمه إنها لا تعلم إن كان حياً أم ميتاً، بين احتمال موته المفاجئ في الحرب، وإمكانية أن يكون قد اختفى، أو قتل في معسكرات النازي.

يتحول الغياب في عين أندور إلى يقين بالفقد، وإلى شعور عميق بالوحدة يجعله في حكم اليتيم، حتى لو كانت الأم موجودة جسداً. ومع طول الغياب يتحول الأب الغائب إلى أسطورة تغذيها الأم بالحديث عن الأب هيرش، الذي تأسى لفقده وغيابه

أحداث الفيلم تدور في بودابست عام 1957، بعد عام واحد فقط من سحق الانتفاضة الطلابية ضد الحكم الستاليني. المدينة التي ما زالت تتعافى من الحرب العالمية الثانية ومن صدمة المحرقة، تبدو هنا كفضاء خانق، متخم بالمآسي والمواجهات العنيفة في الشارع، والشرطة القمعية والرجال المتسلّطين. في هذا المناخ الملوّث، ينشأ أندور محاطاً بخيبات متتالية، فينكمش على ذاته ويحوّل صور والده الغائب إلى شبه أيقونة يتحدّث إليها كما لو كانت صلاة. وبدلاً من عودة الأب الغائب، يطرق الباب جزار ضخم الجثة يُدعى ميهالي (غريغوري غادبوا) مدّعياً أنّه والد أندور. دخوله المفاجئ، أو عودته الملتبسة، يفتح على الفتى أزمة وجودية قاسية. فميهالي رجل غليظ، يسيء معاملة أمّه، ويكسب رزقه من ذبح الخنازير. بالنسبة لأندور، يمثل ظهور هذا الرجل الفظ الغليظ صدمة بالغة وتحطيماً لصورة الأب من الناحيتين الشخصية والعرقية في آن، فهذا الرجل يبدو بعيداً كل البعد عن الرقي والتحضر كما أنه ليس يهوديا، وقد نشأ أندور على أحاديث أمه عن رقي والده ورقته وعلى أنه كان يهودياً. يرى أندور أن ميهالي هذا سليط اللسان، لا يتورع عن الكلام البذيء والتلميحات الجنسية ويشرب بإفراط. ينفر أندور الصبي من ذلك الرجل. وفي محاولة للخلاص، يتجه أندور إلى الكنيس الذي اعتادت عائلته ارتياده قبل الحرب، لكنّه لا يجد هناك عزاءً ولا طمأنينة. منذ المشهد الافتتاحي الذي يستعيد عام 1949، حين تعود الأم لتستلم طفلها من ملجأ الأيتام بعد سنوات من الاختباء، نلمس هشاشة العلاقة بينهما. اللقاء الذي يُفترض أن يرمم الانقطاع العاطفي تحوّل إلى فجوة أعمق، حيث يحدّق كل منهما في الآخر بعجز عن الفهم. الأم تحمل عبء النجاة من الحرب ومن المحرقة، والابن يحمل جرح الانفصال الذي لم يلتئم. يتصدع هذا التوازن الهش أكثر مع دخول ميهالي. بالنسبة لأندور، هو رجل غريب يقتحم البيت كأنه صاحب الحق فيه. لكن مع تتابع الأحداث، يتضح أنّ ميهالي هو من آوى الأم بعد الحرب، وأنّ حضوره في حياتها لم يكن عارضاً. لحظة إدراك الفتى لحقيقة نسبه، تهوي عليه كصفعة لا تُحتمل، فيرفضه تماماً، ويتمسّك بصورة الأب الراحل، حتى وهو يدرك أن الوقائع لا تُسعفه في هذا الوهم.

الصراع هنا ليس عائلياً فحسب، فالفيلم يوظف التمزق الداخلي لأندور، ليعكس حال بلد بأكمله تيتّم سياسياً بعد سحق ثورته، وإجباره على قبول سلطة قاسية ومفروضة، تماماً كما يُجبر الفتى على مواجهة رجل يقول له إنه أبوه، رغم رفض الصبي لذلك الرجل وتقززه منه. الجانب الأكثر قوة في «يتيم» أنّه يخلق نسيجاً يجمع الخاص والعام، وألم العائلة وتاريخ الأمة. أندور لا يتمرد على الأم فقط ولا على الأب المفروض عليه قسرا، بل يتمرد على فكرة الخضوع لنظام جديد، وعلى استبدال الأب الغائب برمز سلطوي فج. ما يجعل الفيلم يتجاوز حكاية طفل يبحث عن جذوره، ليصبح ذلك الطفل الممزق المتمرد، رمزاً لبلد ما زال يحاول أن يجد مكانه بين أنقاض القرارات الكبرى للقوى العظمى.

يعود نيميش للعمل مع مدير التصوير الموهوب ماتياس إرديلي، الذي رافقه في «ابن شاوول» و»غروب». لكن هذه المرة يبتعدان عن اللغة البصرية القائمة على اللقطات القريبة والمطاردة اللصيقة للشخصيات، ليتجها نحو ما يذكرنا بلوحات ريمبرانت بألوانها البنية الداكنة. النتاج البصري مبدع، بل مذهل في جماليته، رغم قسوة محتوى الفيلم واهتراء الواقع المصور. المدينة المدمّرة تتحول إلى لوحات دقيقة البناء، والشوارع الفوضوية تبدو مُحكمة التكوين. هذا الإصرار على الجمال قد يضعف من حدة الألم المفترض أن يعيشه المتفرج. ففي حين نجح «ابن شاوول» في تصوير رعب محارق النازي، بلا فواصل بصرية مريحة، يختار «يتيم» مسافة أبعد، تسمح بالمشاهدة، لكن قد تضعف التماهي. يكاد الممثل الصغير باراباش أن يحمل الثقل الدرامي للفيلم على عاتقه. ملامحه الحادة وشعره الأشقر اللافت يمنحانه حضوراً قوياً أمام الكاميرا. على الجانب الآخر، تقدّم أندريا فاسكوفيتش دوراً صامتاً في كثير من مشاهده، يترك أثراً أعمق مما يقوله النص. فهي أمّ حائرة بين محاولة بناء حياة جديدة، وشعور دائم بالذنب تجاه ابن لم تُحسن حمايته في الماضي. أما غادبوا، فيجسّد الجزار بواقعية، يجمع بين العنف الظاهر، ولحظات نادرة من الحنان غير المتوقع، ما يضاعف من التباس الشخصية.
منذ بدايته، ارتبط اسم نيميش بفيلم «ابن شاوول»، الذي منحه الأوسكار وحاز إطراءات نقدية واسعة، وكان تجربة بصرية فريدة قلبت مقاييس تناول المحرقة. ثم جاء «غروب» كمغامرة طموحة، لكنها متعثرة.
«اليتيم» يبدو أقرب إلى محاولة تصحيح المسار: نص أكثر وضوحاً وسهولة في التلقي، وصورة محسوبة، لكنه يفتقد عنصر المفاجأة والجرأة، التي جعلت فيلمه الأول يخلد في الذاكرة كجرح لا يندمل. «اليتيم» ليس فيلماً بسيطاً، بل هو طبقة جديدة من مشروع نيميش المستمر في مواجهة الذاكرة الأوروبية. يقدّم صورة موجعة لطفولة ضائعة، وأسرة مفككة، وبلد مهزوم يبحث عن هوية. بهذا الفيلم، يثبت نيميش أنّه ما زال واحداً من أبرز المخرجين الأوروبيين في جيله، حتى لو كان «يتيم» أقل تأثيرا من «ابن شاوول».

 

القدس العربي اللندنية في

29.08.2025

 
 
 
 
 

مراجعة فيلم | «جاي كيلي».. لـ نواه باومباخ

مُصمم لمُحبي نجم هوليوود جورج كلوني

فينيسيا ـ خاص «سينماتوغراف»

«جاي كيلي» دراما هوليوودية مُفتقرة للخيال عُرضت لأول مرة في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثاني والثمانين

يُجسّد جورج كلوني دور ممثل سينمائي، وكأنه يجسد ذاته، في هذه التحية المُتعدّدة الجوانب للنجم الأمريكي، ولا شك أن كلوني كان مُختارًا ومناسباً تمامًا لهذا الدور.

جاي كيلي نجمٌ في الستين من عمره (تقريبًا في نفس عمر كلوني)، يتمتع بعائلةٍ سعيدةٍ على ما يبدو وجماهير غفيرة. يحرص على توقيع التذكارات أينما ذهب. ينبهر متابعوه بشخصياته المؤثرة والجذابة، بالإضافة إلى مظهره الآسر.

يرغب صناع الأفلام الطموحون وخبراء الصناعة من جميع الأنواع - بمن فيهم والد جاي نفسه - في استعارة اسمه.

وهذا أيضًا أمرٌ مألوفٌ لكلوني، فوفقًا لموقع IMDB، قدم الممثل ما يقرب من 50 فيلمًا خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية.

تكمن المشكلة في أن جاي يعاني من علاقاتٍ مضطربةٍ في المنزل والعمل.

ابنتاه جيسيكا (رايلي كيو) وديزي (غريس إدواردز) غير متحمستين لمسيرته المهنية الرائعة.

يشعر صديق طفولته تيموثي (بيلي كرودوب) بغيرةٍ شديدةٍ من جاي لأنه حقق نجاحًا كبيرًا وسرق حبيبته أيضًا، وقد أدى ضغينته في النهاية إلى مشادةٍ جسدية. يُقدّم كروداب أطرف مشهد في الفيلم، إذ يستذكر تمثيله أثناء قراءته لذكريات مطعم.

يُضطر وكيل جاي، رون (آدم ساندلر)، إلى التعامل مع عائلته، بينما يُعنى بمستقبل موكله الذي يبدو غير مبالٍ بحفلاته القادمة.

يسافر بطلنا الرائع في النهاية إلى فرنسا وإيطاليا. هدفه مزدوج، فهو يرغب في التقرّب من ابنته الرحالة، وفي الوقت نفسه ينال جائزة الإنجاز مدى الحياة في توسكانا.

رحلته إلى أوروبا مليئة ببعض الصور النمطية المألوفة. تقتصر زيارته إلى باريس على جولة بالسيارة في شوارع العاصمة الفرنسية (مع برج إيفل في الخلف) ورحلة بالقطار حيث يختلط بالسكان المحليين ويُقدّم عرضًا ارتجاليًا في منتصف العربة. هذا المشهد مُحرج حقًا، مع وفرة من الشخصيات النمطية التي تُمثّل جنسيات متعددة.

النكات عن أوروبا – (جاي) لا يعرف عاصمة كرواتيا، والممثلين الطموحين الذين يحلمون بـ"ملك" باريس وروما، أو إيطاليا الدولة الوحيدة القادرة على منح جوائز للذكور البيض في منتصف العمر - تسقط سهوًا.

الإيطاليون أحاديو البُعد مُملّون بشكل خاص، مع حصر دور ألبا رورواشر الموهوبة في دور سائقة حافلة خرقاء.

فيلم "جاي كيلي" مليء بالكليشيهات، وصراعات بالكاد تُربط بمن هم خارج عالم الفن. علاقة جاي المضطربة بشكل غامض مع بناته، ومدرسته القديمة، ووكيل أعماله، لا تكفي لرفع مستوى السرد.

النتيجة دراما تقليدية، ومتوقعة، تستمر لمدة 132 دقيقة، مع لحظات غير مكتملة من إعادة التواصل وحل فاتر.

يبذل المخرج الأمريكي، البالغ من العمر 56 عامًا، قصارى جهده لرسم البسمة على وجوه مشاهديه، الذين ينتهي بهم الأمر بأفواه مفتوحة على مصراعيها نتيجة التثاؤب.

يُعدّ فيلم نواه باومباخ الروائي الثالث عشر فيلمًا عن السينما، وهو أمرٌ نادرًا ما يحققه.

كان من المتوقع مشاهدة عملاً مليئًا بالإشارات إلى تاريخ السينما، لكن كل ماحصلنا عليه جاي وهو يُقلّد كلارك غيبل وروبرت دي نيرو في مرحاض القطار، وبعض الصور لنجوم إيطاليين مُخضرمين، ومجموعة من أعمال كلوني/جاي في النهاية.

جاي كيلي ليس فيلمًا مُصممًا لعشاق السينما، بل هو مُصمم لمُحبي جورج كلوني، خاصةً أولئك الذين لا يعرفون عاصمة كرواتيا ولم يسمعوا قط برافاييلا كارا.

 

####

 

جوليا روبرتس تصرح : البشرية تفتقد «فن الحوار»

وتأمل أن يُغيّر فيلم «بعد الصيد» هذا الوضع

فينيسيا ـ «سينماتوغراف»

لإلقاء نظرة على ديناميكيات الشخصيات، وصراعات القوة في فيلم لوكا غوادانيينو الجديد "بعد الصيد، After the Hunt"، خلال المؤتمر الصحفي الرسمي للفيلم في مهرجان فينيسية السينمائي الـ82، طُلب من جوليا روبرتس، مُباشرةً، إبداء رأيها حول ما إذا كان الفيلم يُقوّض النضال النسوي.

قالت روبرتس مبتسمةً وهي تُدافع عن الفيلم مُجادلةً بأنه يهدف فقط إلى إثارة النقاش: "لا أريد أن أكون مُزعجة، فهذا ليس من طبيعتي".

وأصافت: هناك الكثير من النقاشات القديمة التي تُجدد في هذا الفيلم بطريقة تُثير الحوار. وكل ما نريده من هذا العمل أن يخرج كل شخص بمشاعر وعواطف ووجهات نظر مختلفة. تدرك ما تؤمن به بشدة وما هي قناعاتك لأننا نُثيرها لك.

يُوصف فيلم "بعد المطاردة" بأنه دراما نفسية تدور حول أستاذة جامعية، ألما إيمهوف (روبرتس)، تجد نفسها عند مفترق طرق شخصي ومهني عندما تتهم الطالبة المتألقة ماغي (آيو إيديبيري) زميلها هانك (أندرو غارفيلد) بالاعتداء عليها.

مع تطور الأحداث، يُهدد سرٌّ غامض من ماضي الأستاذة بالكشف. أخرج غوادانيينو الفيلم وكتبت السيناريو نورا غاريت.

عن سرّ جاذبية أداء دور "النساء المضطربات"، أجابت روبرتس: "المشكلة تكمن في التفاصيل الجذّابة. كل هذا التعقيد الكبير الذي كتبته نورا لجميع الشخصيات هو ما جمع هذه المجموعة"، وأضافت: "الأمر أشبه بقطع الدومينو المتصارعة، ما إن تسقط إحداها، حتى تظهر فجأةً، أينما التفتّ، قطعة جديدة من الصراع والتحدي. هذا ما يجعل الاستيقاظ والذهاب إلى العمل في الصباح أمرًا يستحق العناء".

عن رسالة الفيلم، تابعت روبرتس: "الأمر لا يقتصر على تقديم رسالة، بل نتشارك هذه الحياة في هذه اللحظة، ثم نريد من الجميع أن يبتعدوا ويتحدثوا مع بعضهم البعض. هذا، بالنسبة لي، هو الجزء الأكثر إثارة، لأننا نفقد نوعًا ما فن الحوار في الإنسانية الآن. إذا كان لصناعة هذا الفيلم أي أثر، فهو أن نجعل الجميع يتحدثون مع بعضهم البعض، وهو أكثر ما أعتقد أننا قادرون على تحقيقه."

ستُطلق استوديوهات أمازون إم جي إم فيلم "بعد الصيد" في صالات السينما 17 أكتوبر الوقبل.

 

####

 

لوكا غوادانيينو يكشف سبب استخدامه شارة بداية

مستوحاة من وودي آلن في فيلم «بعد المطاردة»

فينيسيا ـ «سينماتوغراف»

يتناول فيلم لوكا غوادانيينو الجديد "بعد المطاردة"، من بطولة جوليا روبرتس وآيو إيديبيري وأندرو غارفيلد، مواضيع وصراعات بين الشخصيات تُجسّد حركة #أنا_أيضًا. فما الذي كان المخرج الإيطالي يُحاول قوله إذًا باستخدام شارة البداية المستوحاة من أفلام وودي آلن؟

"الإجابة الصريحة هي: لمَ لا؟" أجاب غوادانيينو قبل أن يتابع: عندما بدأتُ التفكير في هذا الفيلم مع زملائي أمام الكاميرا وخلفها - مالك حسن سعيد، مدير التصوير، وستيفانو بايسي (تصميم الإنتاج)، وجوليا بيرسانتي (تصميم الأزياء) - لم نستطع التوقف عن التفكير في أفلام وودي آلن، مثل "الجرائم والجنح"، و"امرأة أخرى"، أو حتى "هانا وأخواتها". وكانت هناك بنية أساسية للقصة شعرتُ بارتباطها الوثيق بإنجازات وودي آلن العظيمة بين عامي 1985 و1991.

أضاف غوادانيينو إنه تلاعب بأسلوب التترات "عدة مرات قبل هذا" في أعماله السابقة، ولكن، بما أن فيلمه "بعد المطاردة" يتضمن حبكات عن الاعتداء وسوء السلوك، فقد كان ذلك منطقيًا أيضًا بالنظر إلى تاريخ آلن في مواجهة ادعاءات سوء السلوك الجنسي من ابنته بالتبني.

وتابع غوادانيينو إنه "أُعجب بشدة" بسيناريو غاريت عندما تلقاه، وقد جاءه في الوقت المناسب تمامًا لأنه كان يُجري نفس النوع من الحوارات مع نفسه حول السلطة. وتساءل غوادانيينو: "ماذا نريد عندما نبحث عن السلطة؟ لماذا نريدها؟ لماذا نتصارع على امتلاكها وانتزاعها من الآخرين؟".

وفي وقت سابق من المؤتمر الصحفي، قال إن سببًا آخر لاهتمامه بالنص هو كيفية تناوله للحقيقة. "لكل شخص حقائقه الخاصة. ليس الأمر أن إحدى الحقائق أهم من الأخرى، بل كيف نرى صراع الحقائق وما هي حدود هذه الحقائق معًا."

يُعرض فيلم "بعد الصيد" لأول مرة عالميًا مساء اليوم الجمعة في ليدو داخل قاعة غراندي، بينما ستُطلقه استوديوهات أمازون إم جي إم في 17 أكتوبر المقبل.

 

####

 

بارك تشان ووك في «فينيسيا السينمائي الـ 82» :

المال وراء تأخر «لا خيار آخر» 20 عاماً

فينيسيا ـ «سينماتوغراف»

يتناول أحدث أفلام بارك تشان ووك، "لا خيار آخر"، قصة رجل في منتصف العمر يبذل قصارى جهده للحصول على وظيفة بعد طرده المفاجئ من شركة الورق التي عمل بها لمدة 25 عامًا،. وهي تقريبًا نفس المدة التي قضاها بارك في تحويل هذه القصة، المقتبسة من رواية "الفأس" الغامضة لدونالد إي. ويستليك الصادرة عام 1997، إلى فيلم سينمائي.

قال بارك، عبر مترجم، في المؤتمر الصحفي الرسمي لمهرجان فينيسيا السينمائي: "جميعنا يراودنا هذا الخوف العميق من العمل والأمان. لقد تمكنت من العمل على هذا الفيلم لمدة 20 عامًا، لأنه بغض النظر عمن أخبرتهم على مدار العقدين، كانوا دائمًا يتفاعلون معي ويقولون: "إنها قصة في وقتها المناسب". هذا منحني الثقة لأعلم أنه فيلم سيُنتج في نهاية المطاف".

بارك، أسطورة السينما الكورية المعروف بكتابة وإخراج أفلام "Oldboy" و"Thirst" و"The Handmaiden"، بالإضافة إلى إنتاج فيلم "Snowpiercer"، كان آخر ظهور له في مسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي عام 2005 بفيلم "Sympathy for Lady Vengeance". إذًا، ما الذي تأخر بارك كل هذا الوقت ليعود إلى ليدو؟

قال بارك مازحًا: "هناك إجابة مختصرة جدًا، كلمة واحدة في الواقع: المال"، وأضاف: "كما هو الحال دائمًا في مصير الأفلام، ليس الأمر أننا لم نمتلك ميزانية، بل أردت التأكد من أنها ميزانية كافية. استغرق إنتاج هذا الفيلم 20 عامًا، وبعد كل هذا الوقت، تمكنت من اختيار هذا الطاقم الرائع".

بما أن فيلم "لا خيار آخر" يتناول قصة بطل الرواية عند مفترق طرق مهني، سُئل بارك عما سيفعله في مسيرته المهنية إذا ما طرأ أي تغيير على صناعة السينما.

قال بارك: "لا أعتقد أن شكل الفن كفيلم سيتقلص. ربما تنتهي ثقافة ارتياد دور السينما لمشاهدة الأفلام. لكنني أعتقد أنه إذا لم أتمكن من الحصول على الميزانية المطلوبة، فسأستمر في إنتاج أفلامي على هاتفي الذكي. لقد فعلت ذلك بالفعل".

 

####

 

«شارع مالقة» للمخرجة المغربية مريم توزاني

يتحدي «نظرة المجتمع للشيخوخة»

فينيسيا ـ «سينماتوغراف»

دائمًا ما تنطلق سيناريوهات المخرجة المغربية متعددة المواهب مريم توزاني (من أعمالها "آدم" و"القفطان الأزرق") من منظور شخصي.

تدور أحداث فيلمها الأخير "شارع مالقة"، الذي يُعرض في فينيسيا ثم تورنتو، في طنجة.

يتناول حياة ماريا أنخيليس (أسطورة السينما الإسبانية كارمن مورا)، البالغة من العمر 80 عامًا، والتي تسكن الشارع الذي يحمل الفيلم اسمه، والتي تربطها بمسقط رأسها الساحلي النابض بالحياة علاقة ثرية ومعقدة؛ فهي إسبانية ومغربية في الوقت نفسه.

الفيلم، الذي يُمثل رسالة حب حقيقية للمدينة، مستوحى من جدتها الحبيبة لأمها، وهي إسبانية وصلت إلى المغرب خلال فترة الحماية الإسبانية وعاشت في طنجة طوال حياتها.

ولدت توزاني وأمضت شبابها في طنجة، لعائلة تتحدث الإسبانية في منزلها.

تكشف أن فيلم "شارع مالقة" نشأ أيضًا من فقدان والدتها التي توفيت عام 2023. "لهذا السبب الفيلم باللغة الإسبانية. كنتُ بحاجة لسماع اللغة.. كنتُ بحاجة لمواصلة شم الأطباق الإسبانية التي كانت والدتي تطبخها.. كان شم هذه الروائح في موقع التصوير وسماع الإسبانية مجددًا وسيلةً لمداواة جراحي وتخفيف آلامي."

نشأت توزاني وهي تشاهد أصدقاء جدتها، الذين كانوا جزءًا من جالية إسبانية كبيرة، يحاولون البقاء في منازلهم مع تقدمهم في السن. في كثير من الأحيان، أصرّ أطفالهم، الذين يعيشون الآن في إسبانيا، على مجيئهم للعيش هناك أيضًا. لم يفهم الأبناء مدى رسوخ والديهم في مدينتهم التي تبنّوها.

تعكس توزاني هذا الوضع في الفيلم حيث تقرر ابنة ماريا أنخيليس المدريدية (مارتا إيتورا) إجبارها على الرحيل، وبيع منزل العائلة وأثاثه ضد رغبة والدتها.

مع أن توزاني لم تكتب السيناريو خصيصًا لمورا، إلا أنها وقعت في غرام شخصيتها بمجرد قراءتها للنص. تقول توزاني: "أعتقد أن ماريا أنجليس تُشبهها تمامًا؛ فكلتاهما تتمتعان ببهجة الحياة والحيوية والشغف".

انتقلَت مورا إلى طنجة قبل أسابيع قليلة من بدء التصوير لتقترب قدر الإمكان من حقيقة شخصيتها. ورغم أنه كان بإمكانها الإقامة في أي مكان، إلا أنها اختارت شقة تبعد 50 مترًا عن منزلها الذي ظهرت فيه على الشاشة. وبعد أن تركت حقائبها، اختفت لساعات، وتاهت بسعادة في المدينة القديمة. تقول توزاني: "كان الجميع قلقًا، لكنها عادت سعيدة بهذا اللقاء الأول الحقيقي".

قد يكون وجود ممثلة تقترب من الثمانين من عمرها في قلب الفيلم وفي كل مشهد تقريبًا مهمةً ضخمة، لكن توزاني تقول إن حيوية مورا أدهشتها. "كانت تتمتع بطاقة هائلة، وكانت دائمًا مستعدة لبذل المزيد من الجهد... أعتقد أنها تتمتع بقوة شخصية تُمكّنها من مواجهة التحديات والتغلب عليها".

كان هدف توزاني تصوير نوعٍ مُختلف من الشيخوخة، شيخوخةٌ مليئةٌ بالحياة والكرامة، مُتحررةٌ من القيود التي يفرضها المجتمع غالباً. "من خلال ماريا أنجليس، أردتُ مُواجهة نظرة المجتمع للشيخوخة والتوقعات والأفكار المُسبقة المُصاحبة لها... في فيلمي، تُعيد ماريا أنجليس اكتشاف حياتها وتستمتع بها في سنٍّ مُتقدمة".

ما يلفت الانتباه بشكل خاص هو التناقض بين التواضع النسبي لما يُعرض ومشاهد ماريا أنجلس وهي تروي تجاربها، بمتعة بالغة، لصديقة طفولتها خوسيفا (ماريا أفونسا روسو)، التي أصبحت الآن راهبة في دير صامت. تقول توزاني: "أعتقد أن الخيال هو أعظم ثرواتنا. بالنسبة لي، فإن تخيل ما عاشته ماريا أنجلس من خلال كلماتها وتعبيراتها، وكذلك تعبيرات صديقتها الصامتة خوسيفا، أكثر إشباعًا من عرض المشاهد نفسها".

شارع مالقة يعرض في قسم فينيسيا سبوت لايت، وهو أول تجربة إخراجية لمريم توزاني باللغة الإسبانية، وشارك في كتابته كلٌّ من توزاني ونبيل عيوش.

 

موقع "سينماتوغراف" في

29.08.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004