"أبو
زعبل 89"... بانوراما عائلية سياسية
فيلم وثائقي للمخرج بسام مرتضى عن الهزيمة والانكسار
والعودة من الماضي
محمد غندور
ملخص
في فيلمه الوثائقي "أبو زعبل 89"، الذي عرض ضمن مهرجان عمان
السينمائي الدولي، يريد المخرج الشاب، أن يقول كل ما كبته لسنوات، كاشفاً
عن أسرار عائلته، مقارناً ما بين جيلين، جيل والده في تسعينيات القرن
الماضي، الذي مني بالهزائم والانكسارات، وجيل بسام الذي شارك في ثورة يناير
(كانون الثاني) 2011، و"نجح" لفترة بسيطة في الاعتقاد أن الأمور تغيرت.
ينطلق المخرج المصري بسام مرتضى من حادثة إضراب مصنع الحديد
والصلب في القاهرة عام 1989، ليغوص في ذاكرته، ويخرج ما فيها من بقايا عن
الانهزام والحسرة والحيرة والانكسار.
يمزج ما بين العام والخاص ويتصالح مع نفسه، تلك الحادثة
التي أصابته بضرر نفسي كبير، إذ اعتقل على أثرها والده المناضل، وغاب عن
المنزل لفترة طويلة. وكيف لطفل لم يبلغ الخامسة بعد أن يدرك حقيقة ما حصل
وتبعاته، من أذى معنوي وتغيير سياسي.
في فيلمه الوثائقي "أبو زعبل 89"، الذي عرض ضمن مهرجان
عمان السينمائي الدولي،
يريد المخرج الشاب، أن يقول كل ما كبته لسنوات، كاشفاً عن أسرار عائلته،
مقارناً ما بين جيلين، جيل والده في تسعينيات القرن الماضي، الذي مني
بالهزائم والانكسارات، وجيل بسام الذي شارك في ثورة يناير (كانون الثاني)
2011، و"نجح" لفترة بسيطة في الاعتقاد أن الأمور تغيرت.
نحن أمام عالمين مختلفين بظروف سياسية مختلفة.
ماذا حصل؟
جرى الإضراب في مصنع الحديد والصلب بحلوان، أحد أضخم قلاع
الصناعة الثقيلة في مصر والوطن العربي آنذاك. وجاء نتيجة سوء أوضاع العمال
المعيشية، وانخفاض الرواتب في مقابل التضخم الكبير، إضافة إلى تدهور ظروف
العمل داخل المصنع.
كان المصنع يضم عشرات الآلاف من العمال، ويعتبر رمزاً للقوة
العمالية. ونظم الإضراب، لعدم صرف الحوافز والأرباح المقررة للعمال، وتردي
الخدمات الصحية داخل المصنع، والمطالبة بزيادة الأجور وتحسين ظروف السلامة
المهنية.
بدأ الإضراب في أغسطس (آب) 1989، وشارك فيه آلاف العمال.
وتوقفت غالبية خطوط الإنتاج، وتصاعد الموقف بعد دخول قوات الأمن لمحاولة
تفريق العمال.
وما ليس مفاجئاً، أن الاحتجاجات قمعت بشدة، واعتقل عدد كبير
من القيادات العمالية، وأحيل بعض العمال للمحاكمة بتهم التحريض على الإضراب
وتعطيل الإنتاج.
على رغم ذلك، شكلت هذه الحركة نقطة تحول، إذ أعادت قوة
الطبقة العاملة المصرية للواجهة، بعد سنوات من الركود النقابي في عهد
مبارك.
اعتبر كثيرون ما حصل، تمهيداً للعودة القوية لحركات
الاحتجاج العمالي في التسعينيات، وكشف عن هشاشة وعود الخصخصة والتنمية من
دون مراعاة حقوق العمال.
كما أنه بقي رمزاً مهماً في ذاكرة الحركة العمالية المصرية،
حتى إغلاق المصنع لاحقاً ضمن قرارات التصفية في 2021.
الاعتقال
والد المخرج كان من المعتقلين الـ52 الذين سجنوا في "أبو
زعبل"، أحد السجون ذائعة الصيت بالتعذيب والتنكيل. المفارقة أن المخرج –
الابن، زار والده آنذاك، ومنذ ذلك الوقت، تكونت لديه حالة من الضياع.
ما يفعله المخرج في عمله الوثائقي، أنه يريد العودة للماضي
والنبش فيه، يريد استعادة لحظات عائلية لأبيه المناضل وأمه المناضلة، مع
عرض لتاريخ المقاومة السياسية في مصر.
بعد الخروج من السجن، يشعر الوالد المثقف بالهزيمة، فيقرر
المغادرة، يسافر إلى فيينا، ومن هناك تبدأ رحلة جديدة ما بين الأب والابن.
يسجل الوالد عبر أشرطة كاسيت لابنه من فترة وأخرى، ليخبره فيها عن حب
واشتياق مع بعض الإرشادات.
هذه الشرائط، تمثل ركيزة أساسية في الفيلم
الوثائقي،
يستعملها المخرج للانطلاق منها في الحديث مع والده، عن تلك الحقبة، لماذا
انعزل وغادر العائلة، كيف قضى القمع على أحلامه وأحلام جيله، وكيف قيدهم
النظام و"مسح" الحركة الاشتراكية آنذاك.
نحن أمام جيل مهزوم ومكسور، انهزم في بلورة أفكاره أو
مقاومة النظام، ورضخ تحت التعذيب والتنكيل.
ويظهر في العمل أن بسام مرتضى، وهو مشارك أساسي في الفيلم،
يخضع والده لمحاكمة علنية، محاولاً إعادة صياغة فترات عائلية ولت.
يمزج المخرج ببراعة بين صور أرشيفية بالأبيض والأسود ومشاهد
حديثة صورت بعين تراقب التفاصيل الصغيرة: يد الأب، نظراته، صوت تنفسه داخل
السيارة.
لا يقدم الفيلم سرداً سياسياً مباشراً لإضراب عمال الحديد
والصلب الذي اعتقل والده بسببه، بل يترك الحكاية تنساب بهدوء عبر ذاكرة
الابن، الذي يعيد بعد أكثر من ثلاثة عقود الرحلة نفسها التي قطعها مع
والدته في طفولته لزيارة الأب في سجن أبو زعبل.
في واحد من أقوى مشاهده، يظهر الممثل سيد رجب، أحد
المعتقلين السابقين، ليروي تجربته بصراحة وصدق يصلان إلى حد الألم. ينجح
المخرج هنا في تحويل الشهادة الشخصية إلى فعل مسرحي مصور يلتقط فيه انكسار
الإنسان أمام القمع، من دون شعارات أو خطابية.
الذاكرة الشخصية
وتكمن قوة الفيلم في بساطته، لا موسيقى تصويرية طاغية، لا
مونتاج صاخب، لا إعادة تمثيل مبالغ بها. فقط وجوه تروي، وصمت يبوح بأكثر
مما تقول الكلمات.
هذا الهدوء، الذي قد يراه بعضهم افتقاراً للإيقاع، هو في
الحقيقة جزء أصيل من لغته البصرية، ومن فلسفته في إعادة بناء الماضي من دون
زيف أو افتعال.
إنه وثائقي ذاتي يجمع بين ذاكرة شخصية وتاريخ سياسي، مما
يخلق حواراً داخلياً بين الأب والابن والماضي. ويستخدم الفيلم لقطات
أرشيفية، وصوراً فوتوغرافية، وتسجيلات صوتية، من دون إعادة تمثيل مزيفة.
كما يتضمن مونولوجات داخلية ومشاهد رمزية (مثل دخول البئر)،
تصور الانفصال النفسي والشعور بالذنب والاغتراب بين الجيلين.
وتقدم العلاقة بين بسام وأمه بلقطات حميمة داخل المنزل، في
مقابل الحوار المكاشف مع الأب في أماكن التوتر والصمت، مما يضفي عمقاً
إنسانياً وسينمائياً.
لعب المخرج بطريقة فنية جميلة من خلال استخدام تجربة شخصية
لتسليط الضوء على سياق سياسي واجتماعي، وتقديم بانوراما سياسية حول ما كان
يحصل في تلك الحقبة، مدعماً ذلك باعترافات وحكايات شخصية ما يمزج ما بين
العام والخاص.
وربما كان من المفيد توفير مادة مصورة أكبر عن ظروف السجن
السياسية والعمالية.
«أبو زعبل 89» فيلم عن الذاكرة، لكنه أيضاً عن التشوهات
التي تصيب علاقة الأب بابنه حين يصبح السجن طرفاً ثالثاً في تلك العلاقة.
يخرج المشاهد من الفيلم، ويشعر بأنه شارك عائلة مرتضى لحظات ضعفها وقوتها
معاً.
وربما هنا تكمن أهمية الفيلم: إنه لا يقدم تاريخاً رسمياً
للاعتقال أو العمل النقابي، بل يمنحنا تاريخاً موازياً - تاريخ العائلات
المنسية خلف أسوار السجون.
يذكر أن الفيلم نال جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان
القاهرة السينمائي وجائزة لجنة التحكيم لأفضل فيلم افريقي، وتنويها خاصاً
من مسابقة أسبوع النقاد الدولية.
مدير المراسلين @ghandourmhamad |