زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الـ82

Venice 82

Official Competition

دورة مواجهات سياسية وشجرة تراقب حماقات البشر

بقلم: زياد الخزاعي/ خاص بـ"سينماتك"

 
 

لن نختلف على أنّ مهرجانات السينما في أوروبا تحديداً تناور سياسياً حين تواجه استحقاقات مبدئية بخصوص حروب الكبار. سفك الدم يرعب أداراتها، لإنه يحتم عليها الانحياز الواضح والسريع، فيما يتم تقييم ولاءات موظفيها من قبل تلك الأجهزة السرية المديرة لمعارك الجبهات وتفاصيل ألعابها وتوازناتها، بالمقادير التي يعملون بها على استبعاد من يجاهرون ضد تلك الحروب، أو إنْ يسمحوا بتوسيع مساحات إعلامية مؤثرة لمن يطبلون لها. أنْ درجات القصاص جاهزة سواء بمقاطعة هذا المهرجان أو النيل من سمعته، كونها واجهات مسيسة ولم تعد سلة عروض، تضع شعارات رنانة حول تعاون صناعات سينمائية دولية ودعم أسواقها، أو توزيع عادل لجندرية هنا وعرقية هناك، إذ تتم عمليات تحيزها بقوة قرارات سياسية نافذة وزاجرة، جعلت من كل المهرجانات متورطة بشكل أو أخر في غض النظر مثلاً عن فظاعات غزة وجرائم الإبادة فيها، لكنها جميعها بالمطلق تكاتفت بإعجوبة مخابراتية ضد حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا.

نقول هذا، لأن مدير مهرجان فينيسيا السينمائي ألبرتو باربيرا اتخذ خطوة جريئة عند تسميته تفاصيل دورته الـ 82 (27 أغسطس ـ 9 سبتمبر 2025)، أكد فيها على أن إنسانيته غير قابلة للمساومة، حين أعلن بتأثر عن حكاية الطفلة الفلسطينية هند رجب التي حاصرتها القوات الإسرائيلية داخل سيارة عائلتها، قبل أن تقتلها بدم بارد، واتخذتها التونسية الموهوبة كوثر بن هنية مسنداً تجهيزياً لجديدها "صوت هند رجب" (90 د)، بعد استماعها الى تسجيل صوتي لها، وهي تتوسل طلباً للمساعدة والأنقاذ. تقول بن هنيه في بيانها بعد اعلان باربيرا ضم عملها الى المسابقة الرسمية والتنافس على أسدها الذهب: "اتصلت بالهلال الأحمر وطلبت منهم سماع التسجيل الصوتي كاملاً. كانت مدته حوالي 70 دقيقة، وكان مُريعاً. أدركت، دون شك، أن عليّ التخلى عن كل شيء آخر، وإنجاز هذا الفيلم". تضيف: "تحدثت مطولاً مع والدة هند، ومع الأشخاص الحقيقيين الذين كانوا على الطرف الأخر من تلك المكالمة، أولئك الذين حاولوا مساعدتها. استمعت، بكيت، ونسجت قصةً حول شهاداتهم، مستخدمة التسجيل الصوتي الحقيقي لصوت هند، وبناء فيلم في موقع واحد حيث يبقى العنف خارج الشاشة. كان هذا خياراً متعمداً، لأن صور العنف في كل مكان". كانت هند (6 سنوات) وعائلتها يفرون من مدينة غزة العام الماضي عندما قُصفت سيارتهم، مما أسفر عن مقتل عمها وعمتها وثلاثة من أبناء عمومتها. نجت هند وابنة عم أخرى، واتصلتا بجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني طلباً للمساعدة. عثر لاحقاً على السيارة وعلى جثث كل من هند والمسعفين.

لا شك أن جريمة استشهاد هند التي أثارت تنديدات واسعة، وعرض فيلم بن هنيه بصوت الطفلة الشهيدة ولوعات اقاربها، سيعتبره الكثير من أقطاب المجازر استفزازاً غير مسبوق بيد أنَّ ما هو حاسم هنا أن تقديمه على شاشات أقدم مهرجان سينمائي دولي، وإن تمت برمجته للأسف قبل ثلاثة أيام من انتهاء أيامه، ما يعني أن أغلب المؤثرين يكونوا قد غادروا جزيرة الليدو مكان المهرجان، هو اختراق أساسي لكسر نهج تحييد مهرجانات نافذة يتوجب على إداراتها ضمان عدم تخليها ـ شاءت أم أبت ـ عن تعهَّداتها الإنسانية في إعلاء الحياة وقدسيتها. هذه الأخيرة التي يتلاعب بها وبمكر أيديولوجي جديد الأميركية  كاثرين بيغلو "بيت الديناميت" (112 د) الذي يقول شعاره الترويجي إن "مجموعة من مسؤولي البيت الأبيض تتأهب للتعامل مع هجوم صاروخي وشيك على الولايات المتحدة غير منسوب الى جهة ما. يكون على هذا الطاقم التعجيل بتحديد المسؤوليين وكيفية الرد". كالعادة، تصبح أولويات النصر الأميركي واجب لا يمكن خيانته كما عهدت بيغلو في الإستماتة  من أجله في "ذا هارت لوكر" (2008) عن الحرب على العراق، و"30 دقيقة بعد منتصف الليل" (2012) حول تصفية زعيم "القاعدة" أسامة بن لادن، ومع التحفظ على تفاصيل العمل الجديد، تدفع الجملة المسربة والمبتسرة بروحها الدعائية المرء الى إستعادة ملابسات الفشل المخابراتي الأميركي قبيل هجمات سبتمبر 2001، لكن الشك يبقى وارداً: لماذاهذه العودة بعد الإنتكاسات الكبرى منذ الإنسحاب من أفغانستان، ولماذا ضم باربيرا الفيلم الى المسابقة الرسمية التي يمكن تبرير وجود الإقتباس التفصيلي للفرنسي أوليفييه أساياس "ساحر الكرملين" (156 د) ضمن قائمتها بسبب الشهرة الكاسحة لرواية الكاتب الإيطالي السويسري جوليانو دا إِمبولي  التي قارب فيها مفاهيم النفوذ والسلطة والأوليغارشية الحاكمة وعنفها عبر حكاية شخصية خيالية لمساعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تقدم رأيها في الانحطاط الغربي وأهداف الولايات المتحدة لاحتواء روسيا، وحاجة الروس الى زعيم قوي.

تدور الأحداث في روسيا أوائل التسعينيات، و"في خضم فوضى ما بعد الاتحاد السوفياتي حيث يشقّ الشاب اللامع فاديم بارانوف طريقه (الشخصية الخيالية البديلة لفلاديسلاف سوركوف، الذي كان مستشار بوتين الإعلامي حتى عام 2021). كان فناناً مسرحياً في البداية، ثم منتجاً لبرامج الواقع، ليصبح خبيراً إعلامياً لعميل صاعد في المخابرات السوفياتية آنذاك والمدعو فلاديمير بوتين. في قلب السلطة، يُشكّل بارانوف روسيا الجديدة، مُطمساً الحدود بين الحقيقة والكذب، والإيمان والتلاعب. كسينيا الساحرة وحدها هي التي تفلت من سيطرته، فتُغريه بالتخلي عن هذه اللعبة الخطرة. بعد أعوام من الصمت والغموض، يفتح بارانوف أخيراً قلبه ويكشف الأسرار المظلمة لنظام ساعد في بنائه.

لئن يقدم الثنائي أساياس/ دا إِمبولي نظرة ممسرحة لذلك المتنفذ الرديف والمساهم في "نمذجة قيادات تتحكم في المصائر والتواريخ"، فإن فيلم "وصية آن لي" (135 د) هو استكمال درامي ملحمي لفكرة صناعة الكائن المؤثر عبر قصة المرأة التي أسست أكبر تنظيم ثيوقراطي  راديكالي في الولايات المتحدة  في أواخر القرن الثامن عشر هي "حركة الشاكر". "يغوص هذا الفيلم الروائي الطويل الثالث القوي والمعقد لمونا فاستفولد بعمق في قصة لي، سيما الصدمات العميقة التي تعرضت لها في طفولتها وشبابها المبكر والتي أثرت على نفسيتها وشكلت آرائها الدينية المؤثرة". كتبت روبن سيتزن مديرة البرمجة في مهرجان تورنتو السينمائي حيث يعرض الفيلم بعد فينيسيا مقاربة معلوماتية مميزة، نستعير منها الآتي: "نشأت لي وإخوتها في عائلة كبيرة، وشهدوا لقاءات والديهما الجنسية - حيث كانت مشاركة الأم إجبارية لا رغبوية - في غرفة مشتركة. بعد أن أُجبرت على الزواج، وفقدانها أبنائها الأربعة في طفولتهم أو في حداثاتهم. متأثرةً بهذا الماضي، ومدفوعةً بالقلق إزاء استغلال الشابات، أصبحت لي في النهاية مدافعةً شرسة عن العزوبة. أصبحت معتقداتها سياسةً يتبناها أتباعها المخلصون، الذين تكاد عبادتهم المحمومة والنشوة - كما تصورها فاستفولد - أن تكون بديلاً جماعياً للنشاط الجنسي. تُجسّد هذه الاحتفالات الحماسية ببراعة في فقرات موسيقية لا مثيل لها".

في جديد المخرجة المجرية إلديكو إينيدي "صديق صامت" (147 د) يتجلى الكائن المؤثر عبر مواصفات أكثر حداثة ونقاء، مختبراً خرابنا البشري أخلاقاً وسلوكاً ونزعات. تنتخب صاحبة "قرني العشرون" (1989) شجرة معمرة لتشهد، وعلى مدى قرون، الاستغلال البشري المدمر والعدواني للطبيعة وبيئاتها، وتسجل بصمت رباني حماقاتنا في "سرقة" التوازن الهش للحياة على كوكبنا. تجري أحداث الشريط  في حديقة نباتية داخل مدينة جامعية ألمانية من العصور الوسطى، بطلتها شجرة من صنف "جنكة بيلوبا" التي تشتهر بعمرها الذي يصل الى ألف عام. هناك ثلاث حكايات من أزمان مختلفة، الأولى تتعلق بعالمة نبات "تجاهد في اختراق جدار جندري يقف عائقاً بصلابة ضد التحاقها بمؤسسة رجولية مرموقة في العام 1908، فيما تجري أخرى في العام 1972 تجارب انقلابية حول استشعار النباتات لأحاسيس البشر وبالذات ما يتعلق بالنزعات الجنسية. في العام 2020، يشتبه البروفيسور توني وونغ (توني ليونغ تشيو واي)، وهو عالم أعصاب بارع يعمل في المؤسسة ذاتها، بوجود علاقة وطيدة بين المرئي وغير المرئي. مصمماً على إيجاد صلة، يلتمس إشراف عالمة النبات الشهيرة عالمياً الدكتورة أليس سوفاج (الممثلة الفرنسية ليا سيدو) لاختبار نظريته الجذرية. على مر العصور، يمرّ الرابط المذهل بين هؤلاء البشر دون أن يُلاحظه سوى الشجرة التي يرتبطون بها جميعاً روحياً.

أما مواطنها الموهوب والحائز على جائزة الأوسكار عن "ابن شاوول" (2015) لازلو نيمش، فيعود مرة ثانية الى الليدو بعد "غروب" (2018)، هذه المرة مع حكاية صبي يكتشف سرّ نشأته وسط أنقاض الانتفاضة المجرية عام 1956 ضد النظام الشيوعي. يتتبع "اليتيم"(132 د) رحلته المؤلمة عندما يظهر رجل من ماضي والدته، ويكتشف القصة الحقيقية لنجاتها خلال الحرب العالمية الثانية. يضطر اليافع أندور إلى تقبّل هذا الرجل كأب مُستبد لا يكنّ له سوى الكراهية".

*****

 
 

هنا إطلالة على عناوين أخرى تشارك في التنافس على أسد المسابقة الرسمية التي يترأس لجنة تحكيمها صاحب "سايدويز"(2004) و"نبراسكا" (2013) و"ذي هولدأوفرز" (2023) الأميركي الأغريقي الأصل ألكسندر باين.

يعود الفرنسي المميز فرانسوا أوزون الى شاشات فينيسيا مع أفلمته لرواية مواطنه ألبير كامو "الغريب" (1942) التي يتشوق الكثيرون الى مقارنتها مع نسخة الجهبذ الإيطالي لوكينو فيسكونتي الصادرة في العام 1967. تدور الأحداث في العاصمة الجزائرية عام 1938، حول الشاب الثلاثيني والموظف الهادئ والمتواضع مورسو الذي يحضر جنازة والدته دون أن يذرف دمعة. ليبدأ في اليوم التالي علاقة عابرة مع زميلته في العمل، قبل أن يعود إلى روتينه المعتاد، بيد أنَّ حياته اليومية  سرعان ما تضطرب بسبب جار يورطه في علاقات مشبوهة، تنتهي بقتله مواطناً جزائرياً على الشاطىء، بسبب جزعه من القيظ.

يحافظ الأميركي المستقل جيم جارموش على روح فكاهياته الغنية حول العائلة وشؤونها والصداقات ونزعاتها في جديده "أب، أم، أخت، أخ" (110 د) المؤلف من لوحات قصصية، تتناول العلاقات بين الأبناء البالغين وآبائهم، ومن بطولة كيت بلانشيت وفيكي كريبس وآدم درايفر. هناك حكاية شقيقين يتفقدان والدهما المنعزل في ريف نيوجيرسي. في ما تلتقي شقيقتان بوالدتهما الروائية (شارلوت رامبلينغ) في دبلن، بينما يعود توأمان الى شقتهما الباريسية لمعالجة مأساة عائلية.

أما مواطنه مخرج "فرانسيس ها" (2012) و" حكاية زواج" (2019) نوه بامباك فيعود الى المدينة الإيطالية برفقة النجمين جورج كلوني وآدم ساندلر اللذين يؤديان دوري صديقين هما ممثل مشهور ومدير أعماله في كوميديا  "جاي كيلي" (132 د) حيث "يتأمل الأثنان، أثناء سفرهما معاً عبر أوروبا، في خيارات حياتهما وعلاقاتهما والإرث الذي سيتركانه وراءهما ".

يضع صاحب "أولد بوي" (2003) الكوري الجنوبي بارك تشان ووك في عمله الأخير، الذي كان من المنتظر مشاركته في كانّ الماضي لكن حظوظ باربيرا كانت أكبر، ليستحوذ على "لا يوجد خيار آخر" (139 د)، عائلة تنتمي الى طبقة متوسطة في محنة كبرى حين تقرر شركة تصنيع الورق التي عمل عائلها ضمن طواقمها  على مدى 25 عاماً الاستغناء عن خدماته. يقولون له "نحن أسفون. ليس لدينا خيار أخر"، ليقرر مان سو تجاوز أزمته في البحث عن عمل مهما كلف الأمر.

"فرانكشتاين" (149 د) حلم  المخرج المكسيكي غلييرمو ديل تورو يتحقق، وسيشع كما سابقه "شكل الماء" (الأسد الذهب، 2017) على شاشات الليدو. يقال إن أفلمة صاحب " متاهة بان" (2006) هي مشروع شخصي وليس اقتباساً مباشرة من رواية الكاتبة ماري شيلي، بل أعادة صياغة مرئية باهرة لمغامرة تتعمق في علاقة الدكتور فيكتور فرانكشتاين مع وحشه الذي "خلقه" بقدرة الكهرباء وصواعقها.

هناك أربعة أفلام من إيطاليا، نختار بالذكر كل من انجاز صاحب الأسد الذهب جيانفرانكو روسي "تحت السحاب" (115 د) عن مدن وحواضر وبشر ومصالح واقتصادات وسياحة و تنقيب آثار وتهريب، تعيش تحت رحمة البراكين وغضبها بين جبل فيزوف وخليج نابولي. الثاني، يحمل توقيع صاحب "مارتن أيدن" (2019) و"سكارلت" (2022) الموهوب وصاحب اللمسة البصرية المميزة بيترو مارسيلو "دوسه" (122 د) حول حياة جهبذة المسرح الإيطالي إليونوره دوسه التي تجسدها الممثلة القديرة فاليريا بروني تيديشي.

من أسيا، تشارك الممثلة الصينية الذائعة الصيت شو تشي منذ أدائها اللافت في فيلم "القاتلة" (2015) للمعلم هوو هيشياو ـ هيشن، بباكورتها "فتاة" (125 د) عن "قصة بلوغ سن الرشد، مريعة وفاتنة في آن، إذ تُسلط الضوء على الجمال الكامن حتى في أحلك لحظات الحياة. تنشأ اليافعة لين في منزل يعاني من عنف أسري قبل أن تلتقي بزميلة دراسة تعاني من الظروف ذاتها لكنها تتبنى نهجاً معاكساً للفوضى المنزلية: تتمرد، وتتغيب عن الحصص الدراسية، وتضع المكياج، وتدخن السجائر، وتشجعهاعلى تحدي الوضع الراهن لعائلتها". أما الفائز بأسد فضي لأفضل مخرج في الدورة 68 لمهرجان فينيسيا عن "الجبليون والبحريون" الصيني سي شانغجون ، فيتنافس هذا العام مع "تشرق الشمس علينا جميعًا(131 د) دراما عائلية "حول زوجين سابقين يلتقيان مجدداً بعد سبع سنوات من انفصالهما إثر حادث أليم، ليواجها أسراراً من ماض ظنا أن النسيان طواها".

سينماتك في ـ  27 أغسطس 2025

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004