زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

مهرجان كان السينمائي الدولي الـ78

Sound of Falling

(In Die Sonne Schauen)

(Joint Jury Prize)

"صوت السُّقوط" للألمانية ماشا شيلينسكي... مرويَّات القهر الدَّائم

بقلم: زياد الخزاعي/ خاص بـ"سينماتك"

 
 

"كان بإمكاننا وضع قصَّة مماثلة في أيّ مكان آخَر، حيث تّبدو بعض الأشياء اليوميّة مختلفة. لكن هذه النَّظرة الذّاتيَّة للغاية من خلال عيون النساء والفتيات اللواتي يراقبن ببساطة ما يحدث حولهنّ، ومعهن ننْغمس (كمشاهدين) مباشرة في تجاربهن اليوميَّة، التي يمكن أن تحدث في أيّ بقعة في العالم. إنّها محاولة لرصد الفجوات في تجارب الناس المحسوسة التي لا توجد كلمات تُعبِّر عنها، حيث لا توجد لغة بعد. أعتقد أنَّه في مرحلة ما، عادة لا نتذكَّر الكلمات والجمل، إلّا أنَّ المشاعر تبقى حاضرة. لهذا السّبب الحوار قليل في فيلمنا، فهو ليس ضروريَّاً لوظيفة الذّاكرة" (ماشا شيلينسكي، من كتيب الإنتاج)

لا صدف تتفجَّر في حكايات الشّريط الرّوائيّ الثاني للألمانية ماشا شيلينسكي "صوت السُّقوط"، الحائز على جائزة لجنة التحكيم/ مناصفة في الدورة الـ78 (13 – 24 مايو 2025) لمهرجان كانّ السينمائيّ، لأنَّ التاريخ يُرتّب سيروراته بإقدار وأحكامها المرسومة مسبقاً. إنْ الحياة وخواتيمها بالموت. الحب ومنتهاه بالصّدود. الإيمان وعاقبته بالجُحُود. الوجود ونهايته بالفناء. العفَّات وحيلها الخاسرة أمام النّجاسات. سَّخَاءَة الطبيعة وأكوانّها وآخرتها بالنكد، نتداولها ـ نحن البشرـ  كقيم ورؤى واحقيّات وتوجسات ضمن دورات أزليَّة "تسقط" الواحدة في حضن التّالية كي تُعمر أجيالنا، ونحفظ سلالاتنا، ونطور نُّطْفنا، ونصحّح عقائدنا.

نصّ شيلينسكي (1984)، وعنوانه الأصليّ بالألمانيّة "التَّحديق نحو الشمس"، المتحصّن بقوّة دراميّة عميقة وكاسحة وسائلة لـ"الميتا سينما"، يجبرنا على تتبُّع مسارات تاريخيَّة لـ"سقوط" لن نسمع دوياته بل نؤرخ تفاصيله وأبطاله وأشباحه، ومعها نتمعن بعناد في ذلك الأمر الملتبس والمخيف الذي اسمه الغياب. أحقَّاً أنْ فناء جسدياً لشخص حبيب سـ"يُسقطنا" لا محالة في  فخ ذكراه وتقمصاتها، وإنْ نتوقّع توارثه في حفيد أو قريب ما من أعِرْاقنا؟، هل نحن مجبورن بشكل أو أخر على الخضوع الى "حضوره" في كيانات نفترض أنّهم يتشبَّهون به أو يتماهون معه، ونعيد المعايشات كما كانت في أزمان ودهور مختلفة، وأن اختلفت وقائعها وطعوم عصرنتها؟. بدعة بلا حدود؟ ربّما، لكنّها سينمائياً ذات إغواء جارف وخلّاق وطموح. هذا هو العماد الحكائيّ والبصريّ لـ"صوت السُّقوط" المستفيد من مرويَّات لا تتقاطع افتراضاً ـ سواء زمنيَّاًّ وحسيَّاً ـ إلّا أنّها تحافظ على وحدة مكانيَّة ذات صفات جغرافيَّة، تضعها في عوالم طيفية، وبسببها تُخالفها ربَّما عن تجمعات رعوية أخرى تخضع الى نواميس مغايرة، فهي معزولة بصيغة طقوسية منهجيَّة، يُولِدها نأي ريف عميق تابع لمقاطعة ألتمارك شمال ألمانيا، وضاغطة بصيغة صرامة استبدادية، يُهيّكلها تراتب عائلي محكم لأفراد مجتمع فلّاحي مُتزمت، وحصينة بصيغة تَكَفَّر دفاعي من خارج عام ظالم ووحشي واستيلائي، يستعجل انقلاباته السياسية والاجتماعية والثقافية، ولن يرتضي بقاء مجاميع بشريّة، يرى أنَّها متشبّثة بـ"تخلّفها ورجعيَّتها" ضد قانون رقيّ حتميّ. تاريخيَّاً، كما يوثق فريدريك أنجلز في كتابه الثمين "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة" (1884)، ان ألمان الاِستقرار قبل وبعد الرومان، لم "يشكلوا قرى وإنما وحدات عائلية كبيرة، تتكوّن من أجيال عدّة في كُلّ وحدة، وكانوا يزرعون قطعاً متَّسعة من الأرض، ويستعملون الأرض المحيطة كحدود مشتركة مع جيرانهم"، يفسر هذا الى حد بعيد انتخاب شيلينسكي وشريكتها فب الكتابة لويز بيتر حقبة زمنية "سقطت" من تلك التي تشير اليها فقرة أنجلز، لـ"تقع" في عشرينات القرن الماضي. مفتاحها صورة فوتوغرافيَّة قديمة لثلاث نساء يقفن في فناء مزرعة، شاخصات النَّظر الى كاميرا، وجدها الثنائيّ أثناء زيارة موطن عائلة دارسة، توارثت الكدح والعشرة والتّخاصب، وتقاسمت النّعم والعقائد والمعروف الجماعيّ والنظام الأبويّ العنيف، لتكون (الصُّورة) عصباً روائياً لفيلم ملحمي يخترق أزمنة، ويداور في مصائر، ويستعيد معمار وازياء وتقاليد وخواطر شخصيّة وخطايا بشر لن يضيع تاريخهم بسبب وجودها، والعثور عليها صدفة.

*****

حين تتابع كاميرة مدير التصوير الموهوب فابيان غامبَر، في ثاني تعاون مع شيلينسكي بعد "طفلة كئيبة جداً" (2017)، عبث أطفال المزرعة بين الغرف وأبوابها الحافظة للأسرار والفواحش والمناكفات وزنا المحارم، والممرّات وظلالها التي طالما شهدت لحظات صبابات وتكارهات ودسائس ومصائب موت وأفراح ولادات، والحقول بمشهدياتها الرّبّانيَّة الخاطفة للأنفاس، حيث تصبح غبوط حصاد القمح مراتع لعب وخفايا فورات شبق أوّل، تكون صوره بألوانها الطينية الباهتة والمنفذة بقياس أكاديمي (1.19:1) أساساً فرجوياً تمهيديّاً، يرتَّب معرفتنا بدهور بادت كوجود، بيد أنَّها تُستعاد بتجهيزية بصريّة معقدة، تعتمد التزامن وتداخلاته أيْ اندماج فترات زمنيّة متعدّدة في فترة واحدة، كمفهوم فلسفي يُبرر الطّيفيَّة المرئيَّة التي تُقسم على أربعة مستويات زمنية مختلفة على مدى مائة عام- الحربان العالميتان الأولى والثانية، وثمانينيات القرن الماضي، والعصر الحديث - وتدور حول أربع فتيات كبطلات، تُعْرَض حياتهن ويومياتهن من وجهات نظرهنّ. لكي تصبح هذه الأخيرة مبرّرة مرئياً، كان لا بدّ من إضفاء طابع خياليّ شبحي "لالتقاط هذا الشعور بالغربة والانفصال"، في اقتباس حرّ لإشتغالات المصوّرة الفوتوغرافيّة الأميركيّة الراحلة فرانشيسكا وودمَن الشهيرة بشبحية أجساد نسائها العاريات تورية عن كبتهن، يصون طفولة لاهية ويحميها ويحيطها بمنظور أثيري وشعري ديناميكي، فهو (أ) يطير في سماوات رعوية كي نرى عِيشات سكان المزرعة وهي تمضي بتراتب أزليّ، و(ب) ينغمر وسط مياه نهر إلبه حيث تصادف الصبايا أرواح أسلافهن التائهات عند قعر المجرى العظيم، ومتخفيات بين سيقان نباتاته، و(ج) يعدو بين أشجار الغابات التي حفظت جرائم حروب وسفك دماء وانقلابات عصور. أنْ عائلة شيلينسكي هنا هي "نوع حيوي" يضفي على "موطنها" مرجعيّة تكوينيَّة عرقية لم تخترق إلّا في عصور لاحقة حين تصبح الهجرة قضاء لا مفرَّ منه لأجيال تخون الإرث الخالد للأرض، وتستسهل عيش مدن وحداثات وبناطيل جينز وأثاث إيكيا وهواتف (السوري) ستيف جوبز!.

*****

 
 

من السيدات الثلاث في الصورة الأولى، تتوالد عشيرة نسوّية من أمّهات وشقيقات وبنات وحفيدات، يتبادلنّ أدوار معاناة متعدّدة الأجيال، تنال من أنوثتهنّ وحقوقهنّ وكرامتهنّ. يتعرّضن الى قمع وعنف ونوازل وإسكات على يد بطريركية ذكوريّة سّامّة. في هذه الفقرة نقابل ألما (ذات الحضور الطاغي هانا هِكت) بعينيها الماكرتين والفضول البريء الذي يقودها، مع شقيقتها المراهقة ليا، الى التّفرُّس في صور فوتوغرافية لأقرباء موتى، وربطها بجنازات أخرين معاصرين، حيث تكتشف إنْ أحداهن تشبهها الى حدّ بعيد. لن تتحدّث الطفلة كثيراً كونها "أدّاة" بصريَّة حيّة، تُعرفنا على صدمات كبرى ومهولة تنتقل بين السلالات، وتتوهم عودة غائبين بأجساد لاحقين. أنّها رائية (عدسة بشريّة) تستخدم تطفّلها وعناده، خيالها وجموحه لتلتقط لنا عبّر تحديقاتها المتواصلة صوراً مشؤومة، تمدّنا بالبراهين كما تقول سوزان سونتاغ، لجلسات وأفعال عبوديّة اجرامية مستورة، تنشر عفناً رمزيّاً ومتوارثاً، يفسد الأمكنة وأجواءها، ويثير غثيان عمومها، تشير لهما شيلينسكي بتكرار مقصود مع صور ذباب الشؤم وطنينه المفخم صوتياً.

تنعقد أربعينات القرن الماضي للخادمة ترودي (لوزيا أوبرمان) التي تُكلّف العناية بالفتى فريتز (فيليب شناك) الذي قررت العائلة بتر ساقه تحايلاً على قرار تجنيده، بحجَّة تعرّضه الى حادث عمل. تتفانى المرأة المطيعة بواجبها، في وقت تتحمّل أوزار عنف وفظاظات لا توصف، منذ اجبارها على الخضوع الى "تعقيم" رحمها، كجزء من نظام باغ يسعى الى "تقويم" الخادمات وضبطهن ليكونن "آمنات" للرجال، سواء كإغواء وتحاشي "إنتاج" أولاد زنا. بعد أعوام تالية، تكون المرأة غير المقوّمة حقاً هي اليافعة إريكا ذات الشعر الأحمر (ليا دريندا) المفتونة الى حدّ شبه جنسي بعمها الأكبر سناً الآن فريتز (مارتن روثر)، ويدفعها هوسها الى سرقة عكازيه والتجول في أرجاء المزرعة، متلبّسة ذهنيّاً حالته كمعاق، قبل أنْ تنال صفعة ثقيلة من والدها، إثر اكتشافه "ألاعيبها" الصبيانية!، لتلتفت الى الكاميرا وتحدثنا مباشرة في كسر مقصود لجدار رابع بريشتي (نسبة للمسرحي برتولد بريشت)، لما سنراه من الآلام وانتكاسات لاحقة. تشرح شيلينسكي عقيدتها في هذا الفصل الأساسيّ بشأن الظّنّ البصريّ الذي أخترعته وقاد صباياها الى التّماهي والتّقمّص والاستعادات الخياليّة، قبل أنْ تحلّ حقباً أحدث، بقولها: "كان جليّاً لي منذ البداية أن "صوت السُّقوط"، من بين أمور أخرى، شريط يتناول عملية التّذكر نفسها، وكيفيّة عمل الإدراك والذاكرة (...) وسرعان ما اتّضح لي أنّني أردتُ سرد الفيلم من وجهات نظر ذاتيَّة للغاية، ومع كُلّ فاصل جديد تنظر فيه الشَّخصيّات الى نفسها من منظور آخر" (من كتيب الإنتاج).

*****

"النَّظر من الخارج" هو مفتاح جوهريّ لاِلتقاط حالات حسيَّة وعاطفيَّة، تدفع بجميع شخصيات شيلينسكي نحو غرق في أحلام وخيالات لن تجد جزماً واقعياً لحدوثها، ولو بلمحات عابرة، إلّا بالتقاط صورة، هي ترجمة ملتبسة لعالم غيبي تمّ توثيقه حتماً. هذا بالضَّبط ما يحدث مع شخصية أنجيليكا (لينا أورزيندوفسكي) العاملة المراهقة والمتمردة في المزرعة الواقعة اليوم تحت حكم النّظام الشيوعيّ لجمهورية ألمانيا الديمقراطيّة في الثمانينات، حين تشارك العائلة لاِلتقاط صورة جماعيَّة بكاميرا بولارويد، وتواجه قدراً شبحياُ مثلما حدث للطفلة ألما وروحها الهائمة الشَّبيه بأفاعي نهر إلبه. تُعاني أنجيليكا من سوء معاملة عمّها البغيض أوفي (كونستانتين ليندهورست)، وتواجه في الوقت نفسه استحقاقاً أخلاقيّاً لعلاقة شبقية جائرة ومفروضة من قبل ابنه راينر شبّه المعتوه (فلوريان جَيزلمان) وهو الذكر الوحيد المالك لتعليق صوتي مطوّل عبر الفيلم، في حين يطارد كليهما شقيقة إريكا والدتها الكئيبة إرم (كلوديا جيزلر- بادينغ)، التي ستّتقمصها لاحقا الشخصية الغامضة كايا (نينيل غيغير) في المقطع الأخير لما بعد سقوط الجدار وتوحيد البلاد، وتعرّفها على صبيّتين مرحتين وعفويتين لعائلة برلينية ميسورة انتقلت (أو سقطت) للعيش في المزرعة العريقة، لتكتمل دورة الفتنة النسويّة بعودة أهل مدينة الى ريف عميق، ما زالت أرواح الأوَّلين المشوّشة فيه تبحث عن إجابات شافية بشأن النّسيان والإنتحار والخبايا المظلمة وأهوال الضّيق وشظف العيش لعصور بِكر كانت في إنتظار انتظام طبقاتها ورقيّها اللّاحقين.

الشاشة ليست إطاراً، يقول أندريه بازان، بل مخبأ مرئيّ، استفادت منه شيلينسكي ببراعة لتصوغ من كُلّ مشهد لوحة ذات جماليَّة باذخة، وضعت التَّحقيب الصوريّ بتفاصيل محتشدة ودقيقة الاِختيار، لتكوّن روابط تشكيليّة، عبرمونتاج من تنفيذ إيفيلين راك، تسهّل من تواصل النثر السينمائي داخل أوقات وتواريخ وأحوال إنسانية، تنزع عنها واقعيّتها الخطيَّة التتابعيّة، لتسقط في تشابك روائيّ معقد لن يتخلّى عن فتنته ومتعته، وفوقها لذّة اكتشافه كمخبأ ابداعي متّخم ببراعات ومواهب. نؤمن أنَّ "صوت السُّقوط" (149 د) كمنجّز تصويري باهر في المقام الأوَّل، لن يكتمل كعطيَّة فيلمية لولا براعة هندسة الصّوت من تنفيذ كلاوديو ديميل ومساعديه بيلي مايند ويورغن شولتز التي جعلت من الدَّويّ المفترض لسقوط الحقب عبارة عن مزيج من هدير عارم وفورات صمت استفزازية، تُزيح تّشويقاً لصالح نشوة سماعيَّة لا تضاهى (هناك أغنية يتيمة مميزة بجملتها القصيرة من تأليف وإداء آنا فون هاوسولف)، وكما قالت شيلينسكي عن حقّ أنْ فيلمها ـ الذي نعتبره في أصالته الشكلية أحد جواهر الـ"ميتا سينما" ـ وحيث إنَّ الصّدف لن تتفجّر فيه هو سيول من السِّحر السّينمائيّ.

سينماتك في ـ  06 أغسطس 2025

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004