"كان بإمكاننا وضع قصَّة مماثلة في أيّ مكان آخَر، حيث
تّبدو بعض الأشياء اليوميّة مختلفة. لكن هذه النَّظرة
الذّاتيَّة للغاية من خلال عيون النساء والفتيات
اللواتي يراقبن ببساطة ما يحدث حولهنّ، ومعهن ننْغمس
(كمشاهدين) مباشرة في تجاربهن اليوميَّة، التي يمكن أن
تحدث في أيّ بقعة في العالم. إنّها محاولة لرصد
الفجوات في تجارب الناس المحسوسة التي لا توجد كلمات
تُعبِّر عنها، حيث لا توجد لغة بعد. أعتقد أنَّه في
مرحلة ما، عادة لا نتذكَّر الكلمات والجمل، إلّا أنَّ
المشاعر تبقى حاضرة. لهذا السّبب الحوار قليل في
فيلمنا، فهو ليس ضروريَّاً لوظيفة الذّاكرة" (ماشا
شيلينسكي، من كتيب الإنتاج)
لا صدف تتفجَّر في حكايات الشّريط الرّوائيّ الثاني
للألمانية ماشا شيلينسكي "صوت السُّقوط"، الحائز على
جائزة لجنة التحكيم/ مناصفة في الدورة الـ78 (13 – 24
مايو 2025) لمهرجان كانّ السينمائيّ، لأنَّ التاريخ
يُرتّب سيروراته بإقدار وأحكامها المرسومة مسبقاً. إنْ
الحياة وخواتيمها بالموت. الحب ومنتهاه بالصّدود.
الإيمان وعاقبته بالجُحُود. الوجود ونهايته بالفناء.
العفَّات وحيلها الخاسرة أمام النّجاسات. سَّخَاءَة
الطبيعة وأكوانّها وآخرتها بالنكد، نتداولها ـ نحن
البشرـ كقيم ورؤى واحقيّات وتوجسات ضمن دورات أزليَّة
"تسقط" الواحدة في حضن التّالية كي تُعمر أجيالنا،
ونحفظ سلالاتنا، ونطور نُّطْفنا، ونصحّح عقائدنا.
نصّ شيلينسكي (1984)، وعنوانه الأصليّ بالألمانيّة
"التَّحديق نحو الشمس"، المتحصّن بقوّة دراميّة عميقة
وكاسحة وسائلة لـ"الميتا سينما"، يجبرنا على تتبُّع
مسارات تاريخيَّة لـ"سقوط" لن نسمع دوياته بل نؤرخ
تفاصيله وأبطاله وأشباحه، ومعها نتمعن بعناد في ذلك
الأمر الملتبس والمخيف الذي اسمه الغياب. أحقَّاً أنْ
فناء جسدياً لشخص حبيب سـ"يُسقطنا" لا محالة في فخ
ذكراه وتقمصاتها، وإنْ نتوقّع توارثه في حفيد أو قريب
ما من أعِرْاقنا؟، هل نحن مجبورن بشكل أو أخر على
الخضوع الى "حضوره" في كيانات نفترض أنّهم يتشبَّهون
به أو يتماهون معه، ونعيد المعايشات كما كانت في أزمان
ودهور مختلفة، وأن اختلفت وقائعها وطعوم عصرنتها؟.
بدعة بلا حدود؟ ربّما، لكنّها سينمائياً ذات إغواء
جارف وخلّاق وطموح. هذا هو العماد الحكائيّ والبصريّ
لـ"صوت السُّقوط" المستفيد من مرويَّات لا تتقاطع
افتراضاً ـ سواء زمنيَّاًّ وحسيَّاً ـ إلّا أنّها
تحافظ على وحدة مكانيَّة ذات صفات جغرافيَّة، تضعها في
عوالم طيفية، وبسببها تُخالفها ربَّما عن تجمعات رعوية
أخرى تخضع الى نواميس مغايرة، فهي معزولة بصيغة طقوسية
منهجيَّة، يُولِدها نأي ريف عميق تابع لمقاطعة ألتمارك
شمال ألمانيا، وضاغطة بصيغة صرامة استبدادية،
يُهيّكلها تراتب عائلي محكم لأفراد مجتمع فلّاحي
مُتزمت، وحصينة بصيغة تَكَفَّر دفاعي من خارج عام ظالم
ووحشي واستيلائي، يستعجل انقلاباته السياسية
والاجتماعية والثقافية، ولن يرتضي بقاء مجاميع بشريّة،
يرى أنَّها متشبّثة بـ"تخلّفها ورجعيَّتها" ضد قانون
رقيّ حتميّ. تاريخيَّاً، كما يوثق فريدريك أنجلز في
كتابه الثمين "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة"
(1884)، ان ألمان الاِستقرار قبل وبعد الرومان، لم
"يشكلوا قرى وإنما وحدات عائلية كبيرة، تتكوّن من
أجيال عدّة في كُلّ وحدة، وكانوا يزرعون قطعاً متَّسعة
من الأرض، ويستعملون الأرض المحيطة كحدود مشتركة مع
جيرانهم"، يفسر هذا الى حد بعيد انتخاب شيلينسكي
وشريكتها فب الكتابة لويز بيتر حقبة زمنية "سقطت" من
تلك التي تشير اليها فقرة أنجلز، لـ"تقع" في عشرينات
القرن الماضي. مفتاحها صورة فوتوغرافيَّة قديمة لثلاث
نساء يقفن في فناء مزرعة، شاخصات النَّظر الى كاميرا،
وجدها الثنائيّ أثناء زيارة موطن عائلة دارسة، توارثت
الكدح والعشرة والتّخاصب، وتقاسمت النّعم والعقائد
والمعروف الجماعيّ والنظام الأبويّ العنيف، لتكون
(الصُّورة) عصباً روائياً لفيلم ملحمي يخترق أزمنة،
ويداور في مصائر، ويستعيد معمار وازياء وتقاليد وخواطر
شخصيّة وخطايا بشر لن يضيع تاريخهم بسبب وجودها،
والعثور عليها صدفة.
*****
حين تتابع كاميرة مدير التصوير الموهوب فابيان غامبَر،
في ثاني تعاون مع شيلينسكي بعد "طفلة كئيبة جداً"
(2017)، عبث أطفال المزرعة بين الغرف وأبوابها الحافظة
للأسرار والفواحش والمناكفات وزنا المحارم، والممرّات
وظلالها التي طالما شهدت لحظات صبابات وتكارهات ودسائس
ومصائب موت وأفراح ولادات، والحقول بمشهدياتها
الرّبّانيَّة الخاطفة للأنفاس، حيث تصبح غبوط حصاد
القمح مراتع لعب وخفايا فورات شبق أوّل، تكون صوره
بألوانها الطينية الباهتة والمنفذة بقياس أكاديمي
(1.19:1) أساساً فرجوياً تمهيديّاً، يرتَّب معرفتنا
بدهور بادت كوجود، بيد أنَّها تُستعاد بتجهيزية بصريّة
معقدة، تعتمد التزامن وتداخلاته أيْ اندماج فترات
زمنيّة متعدّدة في فترة واحدة، كمفهوم فلسفي يُبرر
الطّيفيَّة المرئيَّة التي تُقسم على أربعة مستويات
زمنية مختلفة على مدى مائة عام- الحربان العالميتان
الأولى والثانية، وثمانينيات القرن الماضي، والعصر
الحديث - وتدور حول أربع فتيات كبطلات، تُعْرَض حياتهن
ويومياتهن من وجهات نظرهنّ. لكي تصبح هذه الأخيرة
مبرّرة مرئياً، كان لا بدّ من إضفاء طابع خياليّ شبحي
"لالتقاط هذا الشعور بالغربة والانفصال"، في اقتباس
حرّ لإشتغالات المصوّرة الفوتوغرافيّة الأميركيّة
الراحلة فرانشيسكا وودمَن الشهيرة بشبحية أجساد نسائها
العاريات تورية عن كبتهن، يصون طفولة لاهية ويحميها
ويحيطها بمنظور أثيري وشعري ديناميكي، فهو (أ) يطير في
سماوات رعوية كي نرى عِيشات سكان المزرعة وهي تمضي
بتراتب أزليّ، و(ب) ينغمر وسط مياه نهر إلبه حيث تصادف
الصبايا أرواح أسلافهن التائهات عند قعر المجرى
العظيم، ومتخفيات بين سيقان نباتاته، و(ج) يعدو بين
أشجار الغابات التي حفظت جرائم حروب وسفك دماء
وانقلابات عصور. أنْ عائلة شيلينسكي هنا هي "نوع حيوي"
يضفي على "موطنها" مرجعيّة تكوينيَّة عرقية لم تخترق
إلّا في عصور لاحقة حين تصبح الهجرة قضاء لا مفرَّ منه
لأجيال تخون الإرث الخالد للأرض، وتستسهل عيش مدن
وحداثات وبناطيل جينز وأثاث إيكيا وهواتف (السوري)
ستيف جوبز!.
***** |