عن كتاب "مأزق البطل المأزوم"
تأليف: أمير العمري
عن دار رشم بالاشتراك مع مهرجان الأفلام السعودية صدر
مؤخرا كتاب "مارتن سكورسيزي: مأزق البطل المأزوم"
للناقد والكاتب السينمائي أمير العمري، وهو دراسة شيقة
شاملة لعشرين فيلما روائيا طويلا من أشهر أفلام
سكورسيزي التي يعرفها الجمهور العربي مثل "سائق
التاكسي" و"الثور الهائج" و"بعد ساعات العمل"
و"الإغواء الأخير للمسيح" و"الأولاد الطيبون"
و"كازينو" و"عصابات نيويورك" و"الطيار" و"الراحلون"
و"ذئب وول ستريت" و"الصمت" و"الأيرلندي"، بالإضافة إلى
جانب عدد من أفلام سكورسيزي القصيرة.
يركز العمري في كتابه على تناول الأبعاد المختلفة
لشخصية البطل المأزوم التي تنتقل من فيلم إلى آخر،
وتصبغ غالبية أفلام سكورسيزي الروائية الطويلة التي
عرفها الجمهور وتفاعل معها. والمقصود بالشخصية
المأزومة، تلك التي تعاني من عدم القدرة على الاتساق
أو الاندماج مع محيطها، وقد يدفعها شعورها الحاد
بالاغتراب، إلى الجريمة والعنف. ومعظمها شخصيات لا
تختار مصائرها تماما، بل تبدو مدفوعة بقوى قدرية
تقودها نحو مصائرها. وهذه الشخصيات، هي شخصيات مركبة،
تعبر أفضل ما يمكن عن المزاج الخاص بسكورسيزي نفسه،
كإيطالي- أمريكي من نيويورك، لا يكف منذ أول أفلامه،
عن توجيه سهام النقد للثقافة الأمريكية السائدة،
وللمجتمع الأمريكي. إنه يكتب- على طريقته الخاص- تاريخ
أمريكا الحديث كما يفهمه وكما يعرفه. ومن فيلم إلى
آخر، كان يمضي ليكتشف ما خفي عنه في التكوين الأمريكي،
ويكتشف في الوقت ذاته، إمكانيات أخرى تتيحها له لغة
السينما وعناصر الأسلوب السينمائي. لهذا أصبح سكورسيزي
أحد أهم السينمائيين في عصرنا.
ويوضح العمري أن هذه الشخصيات لا تنطلق من اختيارات
مسبقة، بل من أقدار وأحداث تتوالى، تجعلها تجد نفسها
وقد أصبحت طرفا فاعلا فيها، أحيانا دون إرادتها أو
رغبتها. إنها شخصيات كثيرا ما تبدو مدفوعة بالإغواء في
تحقيق الثراء والصعود أيا كانت الوسيلة. وهي لا تستفيق
سوى بعد أن تجد أن الهرم الذي صنعته من الرمال
والأوهام، قد أصبح مهددا بالسقوط والانهيار.
وفي مقدمة الكتاب يقول العمري إن سكورسيزي، كعاشق كبير
للسينما عموما، وللسينما الأوروبية بوجه خاص، ويمكن
القول إنه ينتمي، قلبا وقالبا، إلى مجموعة من المخرجين
الأمريكيين- الإيطاليين أو ذوي الأصول الإيطالية،
الذين تركوا بصمة شديدة الخصوصية على الفيلم الأمريكي.
من أكثر التقاليد التي تتبدى في أفلام سكورسيزي- كما
سنلاحظ فيما بعد عند تحليل أفلامه في هذا الكتاب-
الارتباط بالعائلة، أو تقديس العائلة، والولاء
للأقارب، والصداقة التي تجمع أبناء المجتمعات الصغيرة
من ذوي الأصول الإيطالية، وحب الموسيقى واللهو،
والاهتمام الكبير بالطعام وطهي الأطعمة الإيطالية
الشهيرة وشرب النبيذ، والاهتمام بتصوير كيف أصبح
"البادرون" (أو كبير الجماعة أو "الأب الروحي-
العراب")، بديلا عن سلطة الدولة، أي كيف أصبح هو
الملجأ، مصدر الحماية والأمان، فهو مصدر ثقة أبناء
الجالية أكثر من مؤسسات الدولة المتعددة الأصول. وليس
المقصود من شخصية "البادرون" التي تظهر في كثير من
الأفلام، زعماء المافيا فقط. هذه الشخصيات موجودة
بالطبع، وبكثرة في أفلام سكورسيزي وكوبولا ودو بالما
وشيمينو، ولكن المقصود شخصية "الرجل الكبير" عموما،
الذي يمنح الحماية، ويصبح هو الملجأ والملاذ. وقد برز
هذا الدور أساسا كرد فعل لعنصرية التجمعات المهاجرة
الأخرى إزاء الإيطاليين. وكان "البادرون" قد أصبح دورا
نمطيا في أفلام هوليوود قبل أن يصبح "أيقونة" على أيدي
الجيل الجديد من المخرجين- من أصل إيطالي- الذين ظهروا
في الستينيات والسبعينيات، سواء كان هذا "الرجل
الكبير"، شريرا، أم رومانسيا، أو مزيجا من الاثنين،
كما أنه يبدو مدفوعا إلى الشر بحكم أشياء كثيرة أكبر
منه، قوة قدرية.
في الفصل الذي يتناول فيه فيلم "سائق التاكسي" أحد
أشهر أفلام مخرجه، يقول العمري إن سكورسيزي يعود فيه
إلى اهتمامه الكبير بالشخصية في إطار المكان، مع
الموسيقى التي تعمق لنا إحساسنا بالشخصية، أي بالبطل
المأزوم الذي يندفع تدريجيا بتأثير عوامل عديدة، نحو
الجنون، مع سيطرة فكرة التطهير عن طريق القتل. أما
البطل المأزوم فهو "ترافيس بيكل" (روبرت دي نيرو) وهو
شاب في السادسة والعشرين من عمره، يلتحق بالعمل كسائق
تاكسي. والمكان ليس "إيطاليا الصغيرة" بل نيويورك
الكبيرة. وترافيس لا يستطيع النوم ليلا، لذا فهو يختار
العمل طوال الليل، لا يمانع من الانتقال إلى أي بقعة
في المدينة التي تتخذ في الليل شكلا مغايرا للبراءة
الظاهرية التي تبدو عليها في النهار. فهو يمر أثناء
قيادة سيارته، على كثير من العاهرات والقوادين
والصعاليك ومروجي المخدرات والسكارى واللصوص والشواذ
جنسيا. ورغم خطورة هذه الأجواء إلا أنه لا يجد مفرا من
التعامل مع كل هذه الأصناف البشرية، لكن شعوره بالقرف
والرفض يتصاعد. إنه يشم الروائح القذرة من حوله، روائح
التدني والسقوط، يريد أن يرى كل هذه الكائنات وقد
جرفتها مواسير المجاري.
ويرصد المؤلف كيف كاتب سيناريو الفيلم، بول شريدر
استمد فكرة البطل المضطرب الذي يشعر بالغثيان، من
رواية سارتر الشهيرة بنفس الإسم، بل إن بطل "سائق
التاكسي" مثل بطل "غثيان" سارتر، يسجل يومياته في دفتر
خاص، ويصف ما يمر به في يومه، ونحن نتعرف من البداية
على قصته من خلال ما يسجله في يومياته. هذه الفوضى
البصرية الإنسانية المخيفة يجسدها سكورسيزي بالصورة
والصوت والأضواء والحركة، بحيث يجعلنا نشعر حتى بروائح
الأماكن التي يمر عليها بطله المأزوم في المدينة التي
تشبه الجحيم، في دورانه المستمر بسيارة التاكسي في
شوارع المدينة المضاءة بأضواء النيون الملونة المصطنعة
الكاذبة.
وفي الفصل السادس بعنوان "مأزق الثور الهائج" يقول
العمري إن مفتاح شخصية "جاك لاموتا"- بطلالفيلم- يكمن
تحديدا في فكرة "تدمير الذات" والعداء للمحيط
الاجتماعي، والرغبة المستعرة في الصعود اعتمادا على
قوته الذاتية، ورفض أي مساعدة من الآخرين، مع نزعة
تمرد عنيفة، وعدم القدرة على تقدير عواقب اختياراته.
وكان أهم ما توصل إليه المخرج والممثل (سكورسيزي ودي
نيرو)، أنهما قررا عدم البدء من بداية رحلة صعود البطل
المأزوم، بل من منتصف القصة، عندما كان جاك لاموتا قد
بدأ يحقق انتصاراته في عام 1941. واختار سكورسيزي أن
يصور الفيلم بالأبيض والأسود، أولا لكي يصبغ الفيلم
بطابع الفترة، خصوصا مشاهد تصوير مباريات الملاكمة،
وسماع صوت المعلق الرياضي الذي كان ينقل تلك المباريات
عبر الراديو، وثانيا كنوع من المشاركة في حملة
الاحتجاج التي ضمت عددا من السينمائيين في تلك الفترة،
ضد بدعة "تلوين" الأفلام القديمة في هوليوود. ولأن
فيلم "روكي" كان تقليديا في تصوير مشاهد القتال داخل
الحلبة فقد اختار سكورسيزي أن يصور تلك المشاهد من
داخل الحلبة، ومن وجهة نظر الملاكمين أنفسهم، وهو ما
منحها طابعا جديدا، أكثر عنفا وصدمة، وكثيرا ما بدت
مثل هذه المشاهد من وجهة نظر لاموتا، كما لو كانت تعكس
رغبته في تدمير الذات، أو معاقبة نفسه.
وعن أحد اشهر أفلام سكورسيزي وهو فيلم "الإغواء الأخير
للمسيح" يقول العمري أن الفكرة الأساسية التي أغوت
سكورسيزي في رواية نيكوس كازانتزاكيس، هي فكرة أن
المسيح لم يكن كله كيانا مقدسا، أو "إلها"، بل كان
نصفه "بشريا"، أي أن الفيلم يقر بفكرة أنه "ابن الله"،
لكنه يؤنسنه ويجعله إنسانا، ويجعل النصف الإنساني فيه
يصارع النصف المقدس، ويقاوم فكرة المبعوث الإلهي
ويتمرد عليها، ومن هنا ينشأ صراع داخلي عنيف بين
الإنساني والمقدس، بل وحتى عندما يقوم "المسيح"
بمعجزاته، مثل شفاء الأعمى، فإن الفيلم لا يقطع بوضوح،
ما إذا كان يمارس العلاج بالأعشاب كما كان مألوفا في
عصره، أو يمارس شيئا آخر أقرب إلى "السحر" أو كان يطبق
المعجزة ذات الطبيعة القدسية. وقد صوره سكورسيزي وهو
يقف مشدوها أمام معجزاته، يشعر بالفزع. وكلما أدخل في
روعه أنه "مبعوث" العناية الإلهية لهداية البشر
وافتداء البشرية، كلما شعر
كانت الفكرة الأساسية التي أغوت سكورسيزي في رواية
نيكوس كازانتزاكيس، هي فكرة أن المسيح لم يكن كله
كيانا مقدسا، أو "إلها"، بل كان نصفه "بشريا"، أي أن
الفيلم يقر بفكرة أنه "ابن الله"، لكنه يؤنسنه ويجعله
إنسانا، ويجعل النصف الإنساني فيه يصارع النصف المقدس،
ويقاوم فكرة المبعوث الإلهي ويتمرد عليها، ومن هنا
ينشأ صراع داخلي عنيف بين الإنساني والمقدس، بل وحتى
عندما يقوم "المسيح" بمعجزاته، مثل شفاء الأعمى، فإن
الفيلم لا يقطع بوضوح، ما إذا كان يمارس العلاج
بالأعشاب كما كان مألوفا في عصره، أو يمارس شيئا آخر
أقرب إلى "السحر" أو كان يطبق المعجزة ذات الطبيعة
القدسية. وقد صوره سكورسيزي وهو يقف مشدوها أمام
معجزاته، يشعر بالفزع. وكلما أدخل في روعه أنه "مبعوث"
العناية الإلهية لهداية البشر وافتداء البشرية، كلما
شعر بالفزع خشية من تحمل ذلك الحمل الثقيل. ومن
هنا تنشأ "أزمته"، ومن هنا نصبح، ليس أمام شخصية راضية
عن نفسها وعما تفعله تماما، أي أمام كيان مقدس، إلهي،
بل أمام شخصية "مأزومة" قريبة من البشر. وتقريب المسيح
من البشر، وتصوير الجانب "البشري" الإنساني في تكوينه،
لا ينفي الجانب الآخر، بل يفسره بطريقة أكثر إقناعا،
وأكثر قربا من العقل البشري. ولذلك ليس من الممكن
اتهام سكورسيزي بهدم العقيدة المسيحية أو التشكيك في
دعوة المسيح. صحيح أنه يترك المجال لخياله الخاص في
المشاهد الأخيرة من الفيلم، التي يعود خلالها "المسيح"
يحلم ويتغلب في حلمه، على طبيعته المقدسة ويقبل العيش
مثل البشر، يتزوج ويمارس الجنس وينجب الأطفال ويزرع
الأرض، لكنه سيدرك فيما بعد، أنه قد انحرف بفعل وسوسة
الشيطان، وأن قدره هو ألا يعيش حياة عادية مثل سائر
البشر على الأرض، بل أن يُصلب ويصعد على السماء، وبذلك
يغفر للبشر خطاياهم. وهذا كله حسب الفيلم بالطبع.
الكتاب يقع في 368 صفحة من القطع المتوسط وهو مزود
بصور كثيرة من أفلام سكورسيزي ويختتمه مؤلفه بقائمة
تفصيلية بكل أفلامه، وقائمة بالمراجع الأجنبية العديدة
التي استعان بها المؤلف في دراسته، ومنها مقاطع من
المقالات التي كتبها أشهر النقاد الأمريكيون عن أفلام
سكورسيزي وقت عرضها الأول. |