ماجدة موريس تكتب: «راي» عندما تعزف السينما علي وتر الصدق |
· الفيلم درس في تقديم حياة المشاهد بحلوها ومرها.. بخيرها وشرها.. دون التركيز علي الوجه الملائكي فقط · كان فقيرا ذلك الفقر الدكر.. وكانت أمه غسالة باليومية.. وبدأ حياته بالعزف في الحانات الصغيرة، ووقع فترة أسيرا لإدمان المخدرات.. كما لعب بذيله أحيانا بعيدا عن زوجته.. وليس هناك مجال للانزعاج فهذا الفنان ليس مصريا أو عربيا.. وإنما أمريكي واسمه راي تشارلز.. والسؤال الآن هو: أيهما أفضل.. أن نقدم حياة العظماء والكبار كما هي بحلوها ومرها.. أم نقدم الصورة الجميلة فقط.. ونترك القبح مدفونا؟ إنه سؤال قديم جديد طرحناه مرارا في كل مرة تم فيها تقديم حياة واحد أو واحدة والشخصيات المهمة في حياتنا.. ولدينا أسماء مثل طه حسين والعقاد وأم كلثوم والسادات وقاسم أمين.. وبالطبع فسوف نعيد السؤال عقب مشاهدتنا لفيلم »حليم« الذي يجري تصويره الآن.. لكن مشاهدة هذا الفيلم الذي نافس علي جائزة أفضل فيلم في الأوسكار بين أربعة أفلام وصلت للتصفيات النهائية تستحق منا إعادة النظر في منهجنا، خاصة في ضوء الرسالة التي تصلنا منه، والتي أجدها مقنعة لكثيرين من المشاهدين حول قضية التعرض لحياة الفنانين، وحيث يفضل هؤلاء نظام القدوة الذي لا يخطئ ولا يأتيه الباطل أبدا، بينما استطاع هذا المغني الموسيقي عازف البيانو الكفيف »راي تشارلز« أن يصلح أخطاءه، وأن يمتلك إرادة حقيقية في ظروف قد تسهل الانحراف له ولغيره من الذين يمتلكون الشهرة والنقود والمال، ولكنه بمقدرة فذة تعامل مع التجربة وقاوم بضراوة ذلك الإدمان الذي تمكن منه نفسيا حتي ينسي حادثة موت أخيه الوحيد بسببه وهو في السابعة من عمره.. أي نوع من الإدمان الاختياري تحول إلي إجباري وأوشك أن يقوض موهبة عملاقة في العزف والتأليف والغناء.. »راي« فيلم كلاسيكي رفيع المستوي عن حياة عازف البيانو الذي أصبح واحدا من أهم صناع الموسيقي في جيله وفي تاريخ أمريكا علي مدي أربعة عقود حتي وفاته في أوائل العام الماضي وبعد أن شهد مشروع المخرج تيلور هكفورد لتقديم هذا الفيلم عن حياته، الذي بلغ حماسه له ـ أي هكفورد ـ إلي المشاركة في إنتاجه مع ثلاثة آخرين، والمشاركة في صياغة القصة مع كاتب السيناريو جيمي وايت.. وبعد أن اطمأن راي تشارلز علي الفيلم.. مات سعيدا وبدا أنه أدرك بحساسيته التي عوضته عن عينيه مدي قدرة الممثل الصاعد جيمي فوكس في تقمص شخصيته في الفيلم.. ولست وحدي الذي سعد بحصول هذا الممثل علي الأوسكار كأفضل ممثل للدور الأول متجاوزا بذلك أسماء أكبر منه تاريخا وشهرة »كلينت إستود وجوني ويب وليوناردو دي كابريو« ولكن جيمي فوكس يبدو كالشمس الساطعة في فيلم يقوم علي أداء الممثل أساسا برغم قيمة وبراعة جميع العناصر الفنية فيه التي حصلت ستة منها علي ترشيحات الأوسكار لأفضليتها مثل أفضل إخراج وتصوير »بادل ايديلمان« ومونتاج »بول هيرش« ومؤثرات صوتية وتصميم أزياء بالإضافة للتمثيل الذي يجعلك في حالة نشوة لفرط صدق الأداء وقوة التعبير عن الشخصية الحقيقية التي اختفت من الساحة لتوها بعد حضور طويل ومميز وهو ما كان له تقدير خاص في رأيي لدي المشاهدين الأمريكيين الذين عاش راي تشارلز بينهم وكانت دماؤه لاتزال ساخنة والفيلم يعرض ليؤكد ويثبت صورة النجم أو ينفيها ويزيفها. السود.. والسياسة في إطار فيلم النجم لابد من الفريق الملائم، وهنا تبدو أدوار بقية ممثلي وممثلات الفيلم مميزة برغم قصرها، ويؤديها ممثلون وممثلات كبار فنا علي رأسهم شارون وارن في دور أم راي، ممثلة سمراء قصيرة قوية الحضور لدرجة مؤثرة علي حياة البطل بعد وفاتها لسنوات طويلة، وكيري واشنطن في دور زوجته.. قوية الشخصية وأسماء أخري لا تعرفها من مصنع الممثلين والممثلات السود في أمريكا والذين عادة ما نراهم في الأفلام المستقلة التي لا توزعها شركات السينما الكبيرة والتي تقدم حياة الأمريكي الأسود بكثير والصدق الذي يتضاءل في الأفلام الكبيرة، حيث يفضلون البطل الأسود في المجتمع الأبيض.. في »راي« اقتضي الموضوع أن يكون البطل وأمه وزوجته والمرأتان اللتان انجرف إليهما لفترة، وكذلك أغلب مساعديه من السود وهو ما ظلل الشاشة بعبق سينما الأبيض والأسود، بينما اختار المخرج الألوان الزاهية للفلاشات، ومنها ما يخص قصة الطفولة التعيسة للبطل الذي ولد فقيرا عام 1930، وتوفي والده وهو في السابعة وتركه وشقيقه الأصغر في رقبة أمه بلا مورد.. اسودت الدنيا بالأسرة السوداء ولكن الأم الشجاعة خرجت تجني القطن في حقول أغنياء جورجيا البيض، بينما كان طفلها الأكبر يتسلل إلي الكنيسة الفقيرة ليسمع عزف البيانو من زنجي عجوز، وبعد فترة بدأ العجوز يدربه بعدما اكتشف مرونة أصابعه الصغيرة.. لكن الدنيا اسودت أكثر فقد مات شقيقه الأصغر أمام عينيه غرقا في طشت الغسيل الذي جهزته أمه بماء مغلي وتسمر هو فلم يتحرك، ويومها فقدت الحياة معناها للأم، خاصة بعد أن هاجم المرض عينيه حتي فقد الإبصار، وحاولت الأم معه لكي تعلمه الاعتماد علي النفس، قبل أن ترسله يوما وهي تبكي إلي دار تعليم للمكفوفين وبعدها ماتت، وهكذا بدأت رحلة شاقة لطفل رأي الحياة بأذنه، وتحول من صاحب عاهة إلي محارب ضد اليأس والألم حتي وصل إلي القمة، واستمر عليها سنوات طويلة قبل أن يهدأ إيقاعه وينعم بدور الرمز الذي تكرمه ولاية التفرقة العنصرية الكبري »جورجيا« التي قاضته ومنعت حفلاته بعد أن رفض الغناء لجمهور فصلوا فيه البيض عن السود، مرت الأيام وانتهت العنصرية وعادت الولاية تكرم الفنان الرمز وتختار أغنيته عنها نشيدا قوميا لها.. إن ذلك الجزء من الفيلم درس جديد علي كيفية طرح السياسة من خلال الفن بنعومة فائقة، وقد طرحه علينا السيناريو بلا ادعاء أية بطولة لذلك النجم الكبير الذي انغس في البحث عن ذاته وفنه حتي واجه الموقف الذي أضاء بصيرته وصححها حينما واجه مظاهرة سود تنتظره أثناء وصوله لإحياء حفل مع فرقته، وتقدم منه معجب أسود يعاتبه لغنائه في مكان يفصل بين المعجبين بفعل المتعهد الأبيض العنصري، فيجلس البيض في الصالة ويذهب السود لمقاعد الترسو، ويتنبه »راي« خلال هذا إلي أنه لا يليق به أن يغني في مكان يهان فيه الذين خرج وعاش بينهم.. فيرفض ويعود من حيث أتي.. ويتحمل القضايا والتعويض ويقرر أنه لن يغني بعدها في أي مكان عنصري.. وليست السياسة فقط وإنما تلك التفاصيل الصغيرة المهمة والمؤثرة في رحلة فنان مثل تعرضه للاستغلال من الآخرين، وتعرضه للسرقة استغلالا لكونه أعمي، وإدراكه أحيانا لما يحدث وصمته ثم قلقه حتي يجد دليلا أو يجد نفسه في موقف أقوي وأكثر مقدرة علي امتلاك زمام حياته، إنها رحلة من جانبين، جانب البطل المحوري ومسيرته، وجانب الآخرين في مواجهات مختلفة بعضها سلبي، والبعض الآخر إيجابي وكيف أبحر الفنان بينها وأخطأ وأعاد استخدام عقله وبصيرته متذكرا دائما أمه التي تركته يقع ويبكي وهو طفل حتي يتعلم أن ينهض وحده وهو درس أفاده في مراحل عديدة كاد فيها أن يضل فنيا أو إنسانيا وأخلاقيا.. من هنا تأتي قيمة ذلك التعليق الذي قاله راي تشارلز الحقيقي قبل وفاته: »أنا علي يقين بأن تيلور أنجز عمله بنجاح وصور حياتي كأفضل ما يكون، أريد من المشاهدين أن يستوعبوا جيدا الأحداث والظروف الصعبة والسهلة في حياتي، بمعني أن حياتي كان بها الكثير من الأحداث السعيدة ولكن في المقابل كانت بها أيضا أحداث مؤسفة تستطيع أن تتغلب عليها فقط حين يكون أمامك طريق محدد تعرف تماما حدودك فيه.. ولقد كان طريقي هو طريق الروح.. والروح تسمو بالموسيقي.. وسموها هو بداية الطريق لحياة جميلة.. ولكنه دائما الطريق الأصعب«.. إنه كلام فيلسوف وليس موسيقيا فقط، ولكن بدون هذا المخرج القدير الواعي لم تكن تلك الرسالة لتصل إلينا.. وعلي هذا النحو البالغ الروعة.. ومازال سؤال البداية مطروحا.. أيهما أقوي وأفضل.. أن نري الحياة كما هي.. أم نراها من خلال فلتر لا ينفذ منه إلا شعاع ضوء واحد يشير إلي ما يريده فقط المخرج والمؤلف؟ القاهرة المصرية في 15 مارس 2005 |
«راي» فيلم عن الموسيقى وعلاقة المبدع بالحب والحياة والآخرين عمان - ناجح حسن افلام عديدة ظهرت عن الفن الموسيقي وعالم المغنين والعازفين، طموحاتهم، معاناتهم، وعلاقاتهم المتشابكة بالحياة، بيد ان الفيلم الاميركي «راي» الذي انتزع قبل ايام جائزة الاوسكار لافضل تمثيل، وتعرضه حاليا صالات العاصمة بعمان ينحى في اتجاه آخر، وهو ليس مجرد فيلم عن مبدع موسيقي من طراز خاص فحسب بل يأتي كعمل بصري ممتع حققه مخرج متمرس مثل تايلور هاكفورد ناقش فيه اثار موسيقي زنجي قادم من بيئة فقيرة عانت ويلات البؤس والتشرد والحرمان والفقر، وفوق هذا كله موجة الاضطهاد والعنصرية، وعندما اصاب شهرة خلال تنقلاته عازفا بين الولايات المتحدة والعواصم العالمية التي اخذت تتنافس على دعوته للغناء وعزف موسيقاه المستوحاة من موسيقى الجاز والترانيم والجنوب والغرب الاميركي كان لا زال يعيش آلامه وعذاباته ومشاعره وهي تختلط بابداعه الفني، وعلاقته باختياراته لمضامين موسيقاه وألحانه في قدرة ابداعية على الوصول الى ما لا يستطيع اقرانه مجاراته بالوصول الى الفكرة واسرار لحظة توهج ابداعه خاصة وهو الموسيقي الاسود الكفيف الذي فقد البصر ابان طفولته. محطات عديدة يتوقف عندها فيلم «راي» الذي اضطلع بدوره الرئيسي الممثل الاسود الصاعد بقوة هذه الأيام جيمي فوكس والذي توج عن دوره في تقمص شخصية الموسيقي والمغني راي تشارلز بجائزة الاوسكار بكل اقتدار واعجاب. يختار المخرج تايلور هاكفورد ان يتتبع مسيرة الموسيقار راي تشارلز منذ كان طفلا يلهو مع شقيقه الاصفر مع اقرانه في حي فقير مخصص للزنوج، ويحدث مرة ان يموت شقيقه امام عينيه غرقا في حادث مأساوي صوره وهاكفورد بدقة ومتانة وفي لحظات قاسية غير مسبوقة على الشاشة البيضاء ومما جعل راي الفتى يعيش بندم طوال عمره بانه فشل في مساعدة شقيقه على النجاة وظل شبح شقيقه الطفل وغرقه في وعاء الماء يطارده بين حين وآخر. قبل ان يقبض راي على لحظة الابداع يختاره عجوز زنجي لتعليمه العزف على بيانو كان يمتلكه في متجره الخاص، وبعد فترة وجيزة يتعرض الطفل راي الى مرض في عينيه مما يقوده سريعا الى العمى، لكن والدته الشابة تأبى على طفلها ان يكون اعمى يشفق عليه الناس وتطلب منه بصرامة متناهية ان يكون جديرا بالانسان العادي المثابر والطموح والقوي والذي يقتحم الصعاب وان يجد له مكانا لائقا بين البشر. ظلت مقولة والدة راي هاجسه الشخصي عندما سار في اتجاهات شتى داخل الولايات المتحدة ابان حقبة الاربعينات بعد ان هدأت الحرب العالمية الثانية عازفا متجولا في اكثر من ملهى مقابل الشيء القليل مستغلين اعاقته وبساطته مما كان يعرضه للخداع في الحصول على اجره مثل سائر اقرانه العازفين وباقي اعضاء الفرقة التي يعمل معها، قبل ان يلتقي فجأة مع احد منتجي الاسطوانات عارضا عليه اتفاق باصدار اغنية بلغ فيها النجاح والشهرة، ومكنه من تأسيس فرقة استعراض وغناء خاصة وبدأت شهرته تتعدى خارج نطاق جماعات السود وتتهافت عليه كبرى الشركات الموسيقية المتنافسة، مما يجعله يقع بأول اصطدام من نوعه عندما ينحاز الى بني قومه ضد عنصرية الرجال البيض وتبدأ الصحافة تشير اليه كواحد من المدافعين عن حقوق الانسان ضد التمييز العنصري، وعندما ينجح في معركته يبدأ يخوض صراعا من نوع آخر عندما يقع في براثن الادمان على المخدرات ومحاولات اصدقائه وزوجته ثنيه عن ذلك ولكنه ينغمس في التعاطي حتى يسقط في كمائن للشرطة سواء داخل اميركا او لدى الشرطة الدولية ابان سفره للخارج مما يستدعي ضرورة ادخاله الى احد العيادات المعالجة لادمان المشاهير ليعود الى عائلته وابداعه على نحو افضل ما يكون. رغم كون الفيلم مستمدة احداثه عن كتاب يؤرخ في المشوار حياة راي تشارلز ظهر عقب وفاته العام 2004 فان المخرج هاكفورد سار بالعمل على نحو انه ليس فيلما ادبيا، فالقصة لا تعدو سوى اطار عام يسمح للسينمائي باقصى درجات الحرية في التناول ورسم الشخصيات والاجواء المحيطة بها، من هنا فقد جاء الفيلم الذي استمر عرضه لمدة ساعتين ونصف الساعة مليئا بلحظات الابداع الموسيقى والتوهج النادر الذي يكشف عن موهبة صاحب السيرة، والمزنر باستعراضات الغناء والمحافظة على اجواء الفترة التاريخية من ديكورات وملابس واكسسوارات، وكأنها الواقع ذاته الذي عاش فيه راي داخل احياء المهمشين والمنبوذين او على هامش الحياة والمجتمع في المدن الكبيرة التي تمتلىء بها الموسيقى والغناء والاستعراض والملاهي والمسارح المتفاوتة الفخامة. كما يتميز الفيلم باسلوبيته التي سعى فيها الى المشاهد بكل سلاسة وبساطة في توصيل جوانب من الشخصية المحورية الى المتفرج وحكايات ابداعاته وقوته حينا، وضعفه، وادمانه، وعزلته حينا آخر. انها قصة مليئة بالألم والمعاناة، تقدمها كاميرا هاكفورد من خلال صور مرئية للناس والأمكنة، في بناء دقيق وباسلوب الواقعية ويوظف شريط الصوت بالموسيقى والاغاني التي تساهم في التعليق على الاحداث كما يخفف من وقع موضوعه القاسي احيانا والمجبول بعذابات الفقر، والعتمة، والادمان، والخيانة الزوجية، والعبث بالتهور في العلاقات غير المتكافئة عن طريق المواقف والدعابات في اكثر من مشهد بالفيلم. ويحسب للممثل جيمي فوكس اداءه اللافت لشخصية «راي» مما شكل خروجا كاملا على ادواره السابقة مما اعتبره البعض تحديا له نجح في اجتيازه بثقة شديدة، بتمكنه من التعبير بعينيه المطفأتين وعرجه الخفيف، وتلون قامته، وحركات شفتيه وابرازه لاسنانه بشكل يقترب مع دقائق الشخصية الحقيقية اضافة الى تعبيرات الوجه المتعددة التي تفيض بالألم والسأم، ودفقات البهجة والسرور واحساسه بالمحيط الذي تعيش فيه عائلته الصغيرة ومجتمعه الذي تطلع الى الحرية ونالها بتصميم انساني نادر. الرأي الأردنية في 5 مارس 2005
|