شعار الموقع (Our Logo)

 

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

اندريه تاركوفسكي: «المرآة» يعمق تساؤلات عن الحياة والموت

سكورسيزي: صورة الذات عبر مجنون السينما والجراثيم والطيران

امير كوستوريكا طفل السينما العالمية المشاغب

باب الشمس اختارته الـ التايم من أفضل‏10‏ أفلام علي مستوي العالم

جيهان نجيم فيلمها القادم عن جون كيري

بيدرو المودوفار.. كلمة ختام حياتنا لم تكتب بعد

 

 

 

 

 

السينما بين الشعر والفن التشكيلي..

سيرة فيلم / بازوليني

ترجمة عن الاسبانية :أحمد يعقوب *

 

 

 

 

 

أتذكر.في العام الماضي وأنا أفكر في تحضير فيلم أكّاتوني، إذ ذاك، بدا لي أنني لن أقدر على فعل ذلك، لهذا، قضيت ليال من الأرق، كانت الليالي الوحيدة في حياتي. فمن عادتي أن أنام بعمق لتسع ساعات متتالية، تصاحبها أحلام في غاية الروعة والجمال. لكن، في تلك الليالي _ ليالي التحضير لأكاتوني_ ، وفي العكس من أيامي الاعتيادية زارتني منامات مريعة.

حلمت بالشمس في منتصف الليل _ أعي جيداً انه كان ليلا _ شمس حارقة لا تطاق وقاتلة بإشعاعاتها. ببساطة حدث ذلك، لأنها كانت الشمس التي يـُحلم بها ليلا.

شمس في وضح الليل.تلك الشمس كانت تصطدم بالأطياف، أو بشكل أفضل، كانت تصطدم بالمخططات الأولى لأصدقاء أكاتوني في حانة " باتانا "Patana Bar فوق التيبر “ Tiber" ، حيث التماثيل البيض لجسر لوس أنجلوس كانت ترتسم في الخلف. ومن أعماق الليل، أنار ضوء بنفسجي أطياف أكاتوني: فيبي”Pepe المجنون، الجوراب وساق من ذهب ، أنارها بضياء شديد البياض والذي كان مشوبا بشيء من الجنائزية، مثل بياض عظام الجثث التي أُ خرجت من التراب، وأُهملت للغبار في منتصف نهار صيفي.

هذا الإحساس الجنائزي الذي كان في الشمس التي كانت هائلة في كل الأحوال، يرجع إلى أنني لا أقدر على تحقيق تلك المخططات، فالظروف كانت تمنعني.

حدث لي الشيء نفسه في الليلتين الأخيرتين اللتين، مع ليالي أكاتوني كانت ليالي الأرق الوحيدة في حياتي على الإطلاق.

في منامي، يوقظني الخيال المستبد لمخطط أطياف أكاتوني، مخطط أولي ينتهي بالتجوال" Traveling، فأرى فرانكو شيتي Franco Cittiماشيا، شعره ضارب إلى الحمرة، وطيفه مكفهر يصبح أبيض تحت الشمس الجنائزية للعام الفائت، لأن اليوم، من جديد، لدي أمام عيوني، في منامي، في حلمي الخفيف والمؤرق، لدي مخططا أوليا لا يمكن تحقيقه بسبب الظروف التي تمانع.

إن فكرة الاستغناء عن "فرانكو شيتي"، تعني، أن شخصيتي الجديدة هي "كارمن"، ولهذه الفكرة وقع مرعب، إنها مثل كتابة صفحات من رواية أو قصائد، وفي أثناء نومي، وبينما أنا منشغل بشيء آخر فإن عصابة من السوقيين، التائهين، فاقدي الوعي، القساة، المأخوذين بالنشوة الجنائزية للجماعات العسكرية أو لمجموعات طلابية، ستحلّ في مكتبي، ستفتش أرشيفي، ستبحث في مخطوطاتي، وستقتلع صفحات. ستجعّدها، ستقطعها إربا وتجعلها تفنى. صفحات لن أستطيع كتابتها أبدا، لأنها وحيدة، وُلدت في لحظة خيال لا يمكن إعادته.

هذا المخطط الأولي عن "فرانكو"، الذي أرّق لياليّ مثل الكابوس، و الذي يمزّقني مثل طعنات كلما استيقظ قافزا من فراشي. إنه مثل ناقد، إنه مثال تقليدي لطريقتي في أفلامي المركبة من سلسلة مخططات قصيرة جدا، حيث كل لقطة لها أصل شعري _ تشكيلي أكثر منه سينمائي.

في الفترة الحالية فإن جميع مخططاتي القصيرة جدا يتم اختصارها بشكل إعجازي في هذا الخيال، في هذا الطيف، في هذا المخطط الأولي عن "فرانكوشيتي" الذي يمشي باتجاه عمق الشمس.

جاءني حدس أن ذاك المخطط كان طرازي الأساس، الطراز التقليدي لأفلامي، عند تصوير وقائع أكاتوني التي تحدث في بورغاتا غوردياني" Borgata Gordiani”، والتي جاءت في المنام، وتلك حيث أكاتوني يكون مع باليا" Balilla يتساءل أيهما أفضل أن تكون لصا أم قوادا ؟

حقيقة, كانت الأيام الأولى لوقت جيد، فالشمس القوية كانت تضيء بشكل عشوائي، يائس، وفي الوقت نفسه، بشكل سعيد جدا_ تضيء_ آثار بورغاتا غوردياني.يمكن القول: إنها كانت تضيء فوق مأساة مزدوجة: المأساة التاريخية لبورغاتا، والمأساة الماقبل تاريخية للسراديب التي تلقى فيها العظام والحجارة.

تلك الشمس التي كانت مزيجا من حياة وموت، من سعادة وعزاء، كانت تضيء، في تلك الأيام، طيف أكاتوني بشكل خاص.

لقد أعطت المخططات شيئا لا أعرف ما هو ،لكنه، غريب بشدة عن الواقع، أي غير واقعي بقوة، ولأنها كانت الأيام الأولى التي أكلنا فيها الكرز، فإن لونها الحامض والضارب إلى الحمرة والذي لم يكن مرئيا, فلقد جاء منصهرا من بياض الشمس.


3 مايو  1962

الشمس الأكثر شاعرية والأكثر شحنة بالذكريات عن ذاك الصباح قد اختفت.
غيوم عاقرة بلا مستقبل, بلا مطر, جافة، خاملة, كانت تغطي الشمس وتمنع العمل.لذلك أنسحب إلى غرفة صغيرة في شقة في شيكافومو"
cecafumo" رفقة "دي كارلو" ومهندس الصوت.

أعتقد أن التشويه الأسوأ للنقد السينمائي هو غياب تذوق فقه اللغة. إنه نقد واحد بمضار واضحة, في عمق المدرسة المثالية وخارجها منذ أكثر من عدة سنوات, في الحد الأدنى 20 أو 30.سنة.وعندما لا يكون مثاليا, فإننا نقع في النقد الماركسي الممنهج, المعتمد بدقة على المضمون, والذي هو للصحف اليسارية.وفي كلتا الحالتين, فإن فقه اللغة هو الغائب.

إن منابع الأعمال السينمائية تعتبر دائما كأنها شيء غيبي وليس تاريخي. يمكنني القول إنه من أجل تحويلها إلى نقد يعتمد على فقه اللغة فسيكون ضروريا أن تكتسب الكتابة السينمائية مصطلحاتها في الحد الأدنى.

لقد أخذت غياب ذلك بالحسبان بشكل طبيعي جدا: عند قراءة نقد أكاتوني بشكل منتظم فهي قراءة جميلة جدا ودقيقة جدا، لكن، في أيّ من تلك الحالات النقدية التي أمكنني قراءتها لم أعثر على الاختراق الفيلولوجي للنص والذي بدونه في الحالة النهائية هو نص غير مفهوم.

لا أعتقد أنه يوجد في يومنا هذا ناقد أدبي يعتقد أنه قادر على إدراك قصيدة من خلال قيامه بتجريد الفحص الفيلولوجي لذلك العمل في المعنى الأكثر تبسيطا للكلمة.

بالنسبة لأكّاتوني, فإن للفيلم عناصر حاسمة جدا. وقد تكون كذلك بسبب غيابها أو بسبب حضورها.

سأعطي بعض الأمثلة. في أكّاتوني هناك نقص في جزء كبير للوسائل التقنية التي بشكل عام يتم استخدامها في السينما:في أكّاتوني لا توجد ثغرة واحدة، سواء في مخطط أولي أوفي مخطط ثاني, حيث تُرى شخصية من الظهر أو جزء من تلك الشخصية في مخطط أولي, لا توجد أبدا شخصية تدخل المجال وتخرج لاحقا منه. لا يوجد أبدا أي مخطط مع "دولي" لتدليس حركاته المتعرجة والمثيرة للدهشة، توجد مخططات "انطباعية"، هناك مخططات أولية ضئيلة جدا فيما يخص "البرفيل" هذا إن وجدت، فإنها فقط في حالة حركة. وهكذا تتواصل حالة لا تنتهي من معطيات التقنية الأخرى من الصنف ذاته..

الآن حسنا، كل هذا يتطلب شروحا له، لكن، التفسير يتطلب قاعدة تحليلية، تقريظ فلولوجي من وجهة نظري، كل الخصائص التي انتهيت من تعدادها بشكل مختصر تعود إلى أن ذائقتي السينمائية لا تعود أصولها إلى السينما إنما إلى الفن التشكيلي، وما أجده في رأسي، في رؤيتي، في مجالي البصري هي عذوبة "ماساتشيو” Masaccio ، و "جيوتو"، رساماي المفضلان، وكذلك أولئك المهووسين، منهم على سبيل المثال" فونتورمو”Pontormo "، ولا أتمكن من استيعاب تصورات أو مشاهد أو توليفة أشكال بعيدا عن هواي التصويري الأول، العائد للقرون الوسطى، حيث الإنسان منظورها الوحيد.

وبشكل متواصل عندما تكون تخيلاتي في حركة فإنها تتحرك قليلا كأن الكاميرا تقترب إليهم في شكل كادر/ إطار، لهذا أستوعب العمق دائما وكأنه عمق كادر، مثل ديكور. ولهذا السبب أهاجم دائما من الأمام، فتنتقل الشخصيات دائما في مواجهة هذا العمق بشكل متناسق في كل الأحوال، وفي كل مرة يكون ممكنا فإن المخطط الأول يتضاد مع المخطط الأول، مشهدية ذهاب ضد مشهدية إياب، ومنظم إيقاعي ( ثلاثي إن كان ممكنا) في اختيار اللقطات..الخ, بشكل تطبيقي لا يوجد ما هو فوق الموقع للمخططات الأولى وللمخططات العامة.

الشخصيات الموجودة في المخطط العام تتضمن المخطط الثاني والشخصيات في المخطط الأول تتحرك في داخل هذا المخطط الثاني، تتبعها المشهديات، أكرر، بشكل متناسق في الأغلب دائما، وكأنني أنا نفسي أجعل نظراتي تطوف فوق الكادر _ الذي على الشخصيات فيه أن تكون غير متحركة _ لتتمكن من رؤيتها بشكل أفضل. هذا يشرح لماذا تتحرك كاميرتي في العمق وعلى الشخصيات التي تظهر كأنها غير متحركة وعلى التي تؤدي البدائل بفضل المعالجة بأسلوب واضح _ غامق.


4 مايو 1962

على السطوح ذات اللون الرئوي لبيوت "شيكافومو” Cecafumo, المتشابهة جميعها( تصطف عقارات كبيرة من الحجم نفسه بشكل متناسق ضد عمق السماء،و فوق مجاري المياه، تسقط أمطار كاذبة وغزيرة).( بداية طيبة كبيرة إلى حد ما تجعلني أوافق على النقاش مع" أننا" Anna تحت نوافذ شقة العمال، كأن شارع السوق يرتعش ويعلن الحداد بمقاعده المكشوطة المبللة وبآلاف السقالات بسيقانها المنقلبة نحو الأعلى.

في أسوء هذه الحالات، فإن شاعرية "أننا”Anna , هي شاعرية رومانسية وطبيعاتية، بينما شاعريتي هي لجمالي( مختص بعلم الجمال)، وهي مهووسة قبل أي شيء. تبحث عن التشكيلي, تشكيلية المتخيل، بطريقة الرسام "ماساتشيو” Masaccio ، التي لا تضيع أبدا وطريقته: واضح _ غامق، بياضه وسواده، أو إذا أردتم فهي طريقة القدماء جدا في تحالف عريض بين الرقة والفظاظة، لهذا لا يمكنني أن أكون انطباعيا.

يعجبني المخطط الثاني، ولا يعجبني المشهد، ولا شخصيات الحكاية التي لا يمكن وضعها في حركة. لأنني أمقت أن تتحرك الشخصيات, لهذا فإن أي من مخططاتي لا يمكن ابتداؤه من " الحقل /المجال". أي بالمشهد الفارغ. دائما يمكن رؤية الشخصية، حتى لو كانت صغيرة جدا جدا للحظة واحدة، عندها أصرخ بشكل فوري على المخلص "ديلي كوللي" Deli colli ، أن يضع الـ(75)ملم, وعندها أكون قد حصلت على الشخصية التي أريد، على طيفها وعلى معطياتها. وفي الخلف: المخطط الثاني. المخطط الثاني وليس المشهد.

حشود "كفر نعوم" Cafarnaum ، حدائق "جيستاماني Gestemani ، الصحارى،السماوات الممتلئة بالغيوم، والرومانسية "أننا” Anna التي ترى الشخصيات في المشهد، والشخصية في حالة حركة ملقاة بين الأشياء، كما لو تم تنفيذها انطباعيا.لكن، عند التمكن من الحصول على قوة إعادة الأسود “ Renoir : ظلال وإضاءات في الحركة، فوق الشخصية وفوق المشهد، فإن صورة الخيال ترقص في وجه المخططات الثانية بشكل منظوري، وليس بشكل عامودي: ضفاف نهر، بحار بأمواج قليلة، طبق إفطار على العشب - " Cespede de dejeuner sur lherbe" بالفرنسية في النص الأصلي-، ومتاهات المحتفلات بعيد الفصح.

إنها تمطر بالشكل الذي يملئ الجرار: شكرا يا إلهي. في الأعماق، صناعة السينما هي قضية شمس.


خريف 1965

أتذكر أنني قلت، في مقابلة مع" فايسي سيرا” Paese sera ، منذ سنة تقريبا عندما أعلن عن إنتاج فيلم المبشر وفق القديس متى، وكان سيصور الفيلم الجديد " في الشارع"، مع " ممثلين من الشارع" استنادا إلى التعبير المقدس، شبه السوقي، أي، مثل أكّاتوني، أراد القول، مع نفس الارتباط الواقعي في أكّاتوني، وفي الهواء الطلق. مثل رسام انطباعي يمكن تفريقه عن رسام الإيتيليه.

كخلاصة، كان قد استخدم الوسائل التقنية واللغوية نفسها، نفس " الإشارات" التي، كما يعرف الجميع، ليست كثيرة، خمسة أو ستة مصوتات، أربع أو خمس حركات للكاميرا، بعض الإمكانيات للإنارة ( معاكسة الضوء، ضوء المناخ، هجوم، شمس، غيوم، ضوء مختلط، ليل ). بالطبع فإن الـقياس بين الحركات المختلفة للكاميرا متعدد، كذاك أصناف الضوء، و التجوال( Traveling بالإنكليزية في النص)، يمكن أن يتم بدءا من بعض العشريات، كسور من المتر، إلى عشرين أو ثلاثين مترا. الخ.هذا يعادل القول إنه أمام مصطلحات اللغة، و مصطلحات الموسيقى أو مصطلحات الرسم، فالأشياء لا تعدّ أمامها.

ولأنه لم يكن لي أي تجربة سينمائية عندما أنجزت أكّاتوني، فلقد بسطت هذه التبسيطات إلى النهاية وهي الموجودة في كلّ فيلم، والنتيجة بدت لي أنها _ وكانت في جزء منها _ الصفة المقدسة للتقنية التي وانطلاقا منها اقتحمت المشاهد والأشخاص بعمق .

لا يوجد شيء مقدس من وجهة النظر التقنية أكثر من المشهدية البطيئة، وفوق هذا، عندما يقوم هاو باكتشاف تلك الحركة ويستخدمها للمرة الأولى ( لا أزال أشعر بسعادة هذه المشهدية فوق تلك الأسوار المكشوطة، المقفرة، والمهجورة عن المتصدق).

خاصية مقدسة. حدودية، ودينية في النهاية. وبشكل عام تم التحدث عن العمق الديني في أكاتوني, عن الجبرية في الجانب النفسي..الخ

الأهداف ذاتها تم اختزالها بقسوة إلى(50)ملم، و (75)ملم: أهداف تشحن المادة، تبرز الممثلين البديلين، وكذلك تبرز التباين في الإضاءة، التي، وبشكل شائع تمنح الشخصية السماجة والطابع غير المحبب لقطعة الخشب مع نمل الأرضة أو للحجر الإسفنجي.

فوق كل شيء إذا تم استخدامها مع ضوء " وسخ" _ وضد ضوء، وأيضا مع تعميق المسارات والمدارات والظلال تحت الأنف، وحول الفم، تستفز تأثيرات التمدد والتوسع ويصلب الخيال في اللحظة التي تعطى بها تقريبا حبيبات للشكل المضاد.

من هنا فإن الحضور في كل الفيلم، في آليّته التشكيلية البلاستيكية، من هذه الجمالية "الثقيلة للموت " التي حدثني عنها الناقد "فيترو شيتاتي” Pietro Citati ، آخذا بالحسبان هذا المسار التقني ، أو إذا تم تفضيل الطرازية فمن العدل الحديث عن " تديّنية " _ أكثر من الحديث عن " دين" _ بما يخص أكاتوني ، وكما تم فعله بشكل شائع .

في الحقيقة فإنه من خلال المسارات التقنية فقط ومن تأثيرات الطراز يمكن معرفة القيمة الحقيقية لهذه " التديّنية" والتي تم اكتشافها بفضل المضامين، الظاهرة أو المستترة، وتعود تقريبية و" دورية".

المحصلة فإن " التديّنية" لم تكن في البحث العالي عن الخلاص الشخصي للشخصية (الذي بهذه الجبرية يمضي من القوّاد إلى اللص!!) ، وليس ، بشكل أكثر عمومي في الجبرية إشارة للصليب النهائي ، النتيجة التي تتقارب إليها الأشياء ، إنما " كانت التديّنية" بشكل أفضل "بالطريقة التي يرى فيها العالم": في الطريقة المقدسة تقنيا لرؤية العالم.

بالنسبة للمزج،فلقد أضفت إلى تلك الخيارات التقنية تقنية شديدة البساطة من الـ(50)ملم ومن الـ(70)ملم، من المشهديات الأساسية ، من التجوالات الصعبة،ولم يستعمل البانسينور( Pancinor كثيرا بسبب عدساته الطويلة من (100)م وما فوق ، كذلك ما تبثه مادة الموضوع، الذي من وجهة نظري الأتية من التعلم في إتيليه الرسام "ماساتشيو", فإنه يمكن تحقيق تأثيرات حتى ولو كانت مثمرة جدا ، التي تسطّح الخيالات ، تجعلها أكثر دفئا وأكثر سماجة _ نوعا ما _ ترفعها مثل كسرة خبز وتعيدها في الوقت نفسه أكثر ثقة وخفة .

إذا كان هذا المساق يسمح لي بالمقارنة البالية،( جهاز خفيف جدا مثل القلم البخاري والذي على أية حال يبدع التباينات الأكثر قوة ليعطي بدائل للوحة رسم تضع الإنسان في مركزها ، وبسبب، ومن ضوء إلى الضوء الكوني.

وفي العكس مما قلته بدون حذر للصحافي "فايسي سيرا” Paese sera ، فإن تصوير فيلم المبشّر كان قد تم بشكل مغاير تماما لفيلم أكاتوني.

أتذكر برعب الأيام الأولى للعمل، التي خلالها كنت لا أزال أصور بالطريقة التي كنت أعرفها، بغاياتي الودودة، وبالتجوال المحبوب. كيف لم أتمكن من أخذ ذلك بالحسبان، قبل أن أبدأ ؟

ومع هذا، كان قاطعا أن الطابع المقدس للتنقية, البساطة، والأبنية التي تغيظ البلاغية المستخدمة، واصطلاح " المادة" ،ولهجة الروماني، فجأة عادت بلاغية ومبتذلة عند تطبيقها على" المادة" المقدسة نفسها والتي كنت أنا أرويها.

مهرج يكتسي بالريش تم النظر إليه كما لو كان معمارية رومانية أو شخصية من رسومات ماساتشيو، ويمكنها المرور، لكن.. ماذا عن السيد المسيح؟ مسيح شاقولي. تم تصويره ب(50)ملم أو ب(75)ملم و ترافقه مشهديات مختصرة و مكثفة، كانت تلك مؤثرات فقط، كانت إعادة إنتاج.

ارتكبت ذلك الخطأ عندما صورت بداية ساحة "جيستاماني “ Gestemani كلها، من جهة المعتقل، فيما بعد، فقط، أمكنني العودة إلى تصوير قسم يحمل الشارة التي لا تمحى أبدا لذاك الخطأ الأولي.

اليوم، عندما أرى تلك الساحة/الميدان على الشاشة _ وقد تم تسويتها وترتيبها في المونتاج _ أشعر بخجل فظيع.

وخلال أيام الاختبار"الروداج" لميدان التعميد في نهر الأردن في ليلة تستحق اللامسمى عند "مانزوني". وفي فندق متواضع في "فيتيربو" Viterbo ، تنبهت إلى أنني كنت ذاهبا مباشرة إلى الكارثة. حقا لم يـُبدع شيء بطريقة قطعية.

يكلف الكثير تأليف كتاب أو لفّ فيلم: إنه عمل شاق خارج عن أية تناسبية. وبعد كل أزمة, يكون لدينا الانطباع أنها تكون النهاية وأن كل شيء قد ضاع، لكن، الأمر ليس كذلك, فتلك الأزمة ليست أكثر من الخطوة الأولى لمسلسل من المعاناة المستقبلية, التي تتكرر يوما بعد يوم, و تفاصيل بعد تفاصيل.

هذا الصباح, في "فيتيربو” Viterbo ، استيقظت بالنية القوية لأصور الجموع وتفصيلات الحشود في المعمدانية وهم يتعمدون وذلك من خلال طائرة هيلوكبتر. لم يكن ممكنا الحصول على الطائرة, فـ" أركوفيلم" لم تكن شركة أمريكية. لكن الوادي الصغير لـ" "تشيا” Chia ، الذي أخذ دور نهر الأردن كان محاطا بصخوريات تستحق ان تكون الأكثر خيالا.

لقد تسلقت معدات التصوير مع البطولي "ديللي كوللي” delli colli،
كما لو كانت قمة جبل، ومن هناك من فوق، كنت أقوم بعمليات "الزووم”
zoom، صورت المجاميع، الأشخاص وقوفا والمخططات الأولى.

بهذه الطريقة، فإن الحدودية، النظام، التماثل كانت تماما مقلوبة، والمغنطة، وما هو احتمالي،و اللاتماثلي كانوا قد أظهروا أفعالهم ، فهاهي الأطياف لم يعد بالإمكان رؤيتها من جهة جانبية ولا من مركز الكادر،انها تظهر فجأة، حسب كل الأشياء الممكنة للقطع، ودائما ليست غير مركزة في العدسات الأميرية اذ تحولت بشكل فج إلى (300)ملم، بهذا الغرض أمكن الحصول على تأثيرين: توسيع الشخصيات، وأخيرا جعلها أكثر تصويرية (أربعمائة، خمسمائة) وفي الوقت نفسه إعطاؤها هذا الطابع الفوري والإحتمالي الذي يتضمن الملاحظات ( الوصول، في سباق الدراجات الهوائية).

مرة وقد خرّبت عاداتي _ بشكل ناعم وكما هو دائما " أصور وأعود للتصوير"_ بدأت أتحرر كل مرة أكثر من رسوماتي التخطيطية، من الطابع المقدس للتقنية، وأنطلق نحو "الصهارة Magma ":إلى الـ"300"ملم، أضفت له نقيضه، الـ"25" ملم إلى المخططات الأولى!! شيء كان يرعبني في ما مضى.

نعم ،حقا ان التشويه الذي لحق بالأطياف بسبب استخدام ال(25)ملم يوجد حدّ له في الفضاء بتأثير مقتول وبكثير من "البطاقة الجديدة ، cart nouvea "، لكن بشكل تعويضي، و " تعبيري " في هذا المسار ( مسار) الوضوح، مسار التنقية ، والرجوع التخطيطي ، بإطالة الخطوط، بشفافية السطوح ( كل هذا، بالضبط هو نقيض ما كتبت عنه دائما في المخططات الأولى، ويتم تسجيله وكتابته في الكاووس الجديد لي في الجمالية، مثل تناقض أو حرية متفاقمة.

في المونتاج أهملوا الرقم القياسي للمخططات الأولى المصورة أولا بـ"300"ملم، “و القفزات" قفزات نفس المخطط الأول المصور أولا بعدسة طويلةبـ"75 " ملم أوبـ"100"ملم وفيما بعد ب"25"الخ.. وبالطريقة نفسها، في عملية الروداج أزهرت حالة الأخذ برؤية المحتار التي تم تحقيقها بالـ"300 "ملم والتي أمكن التقاطها عن بعد الخ.

عندما كان الفيلم لا يزال في حالة المادة، وهذه لحظة رائعة، كان عندي الانطباع أن هذه الصهارة، Magma "، عندما دنست ميثيولوجيتي، و تقنيات قديمة فقد أعادت بناء شيء جديد, اقل تديّنا وأكثر شعرية ملحمية، أقل تطرفا وأكثر حداثة، أقل رومانية وأكثر انطباعية تعبيرية ، وأخرجت من ذلك انطباعا ذي حيوية كبيرة، طالما لم يكن المحتوى شيئا غريبا لما كان مختارا من أجل التصوير وليست طريقة تصويره فقط!!

اليوم، أمام الفيلم الموّزع, إنه شيء أخر: أجدني أمام فيلم، حيث من وجهة النظر التقنية له نقاء بسمات لم أكن أنتظرها. بحيث أثلجت بصفاء كل قممي الفطحلية،التعبيرية،والمحتارة وكل حرياتي في المونتاج ،كل خروجي عما هو منتظم، بما في ذلك مواعيد دراير"Dreyer" و"ايزنشتاين Eisenstein أو ذكريات "ميزوغوتشي" mizoguchi، التي وجب عليها الخروج بعنف _والبروز من تلقاء نفسها_ عن سياق النص الهادىء والذي أضعفه النسيج العام ومحدد المستوى للفيلم بما في ذلك الحيوية الموضوعية لمخطوطة الأطياف ، المأخوذة في تواضعها اليومي والتي لفلاحي" لوكانيا" و" كالابريا " أو هذه الأطياف التي تم تأشيرتها من قبل حداثة تاريخية للأحاسيس التي لأصدقائي المثقفين والبرجوازيين الذين يأخذون حظا طبيعيا بلا مبالاة مطلقة وبالصمت.

أما اليوم فإن الحفريات والتنقيب تناقض التقديم التمثيلي.

لقد حدث الكاووس على تقنية مدارسية هادئة ليست مثيرة للريبة، إنني أحاول أن أجد لها المسببات..

(........)

كعنوان للفوضى،تأتي ملاحظات الفلاش باك، ليوميات شخصية كشاهد خاص وأثري، لشخصي ذاته، يمكنني القول إنه بينما كنت أعمل في فيلم المبشّر، من الكرسي”set"، أي أمام خيارات استحواذية( مع أنه عندما تم تحضيرها بشكل كسول، في الظهيرة الماضية أو خلال الليل، أو بما في ذلك أثناء مرحلة التوجيه فقد تحولت إلى شيء ما قبل تاريخي وفضائحي مجرد بسبب الوقائع الطارئة للأشياء، وعلى الهواء مباشرة، محاطا بحشود فضوليين، بمعدات، بالشمس، بهذه الشمس الملعونة والنافذة إلى الجسد، الحاقدة بغموضها ، وسط الغيوم "، في عدم غيابها، في نوباتها وايقاعها.

يمكنني القول إن قدرية هذه المعاناة قد حرمت هذه الخيارات ( موضوعية، حركات كاميرا، تركيب، مجموعات، تجسيد الشخصيات ، حركات ممثلين الخ)، وتطابقت مع حاجة صدق لي مفاجأة واضحة وجريئة ، ما يمكن قوله: الرعب لغياب الصدق والإخلاص. وإذا كانت التحليلات النفسية دقيقة، في الوقت نفسه فإنني أرغب بغياب الصدق. لكنني أدع للأخرين الحذر حذاري أن ينشغلوا بلا وعي أنا.

وليكن ما يكن، فإنني أعرف شيئا واحدا فقط:احتجت أن أكون صادقا بشكل ميؤوس منه.

ومن أجل تجسيد هذا الصدق أحتاج لأعذار مكيانيكية وفيزيولوجية. تلك الابتسامة الدقيقة ليسوع، ذاك البريق الدقيق لعيون "أندرس" أو "جوان", تلك الطريقة الدقيقة لتركيب الميدان. وهذه الأعذار الميكانيكية الفيزيائية كان بالإمكان اختلاقها بطريقتين: الأولى من جانب الكاميرا الذي من هنا، حيث ابتكارها يتطلب فكرة مونتاج ، مع أنها ستكون مؤقتة ،يتطلب فضيحة قياسية،"فطحلية" أي ، تعبيرية ، وهكذا ، صادقة..

الثانية: أما م الكاميرا، هناك حيث كانوا يحثونهم بشكل مريع أمام عيوني _ ما كان يتم فعله كل مرة لا تطاق أكثر _ الملابس، إعادة الإعمار التاريخية ( مع أنها تقلصت إلى تعبيرها الأكثر بساطة).

حشود من المؤدين العاطلين ، لا واعية وغير أبالية، أكثر تحملا _ لو كان ذلك ممكنا _ في البدانة ، حيث الشمس والغيوم.

في كل هذه المادة المعقدة و كريهة الرائحة بعناصرها من أجل لاشيء له علاقة فيما بينها، كي تُقدم أمام سينمائي، كان الخطر ليس فقط من الفشل وعدم الحساسية، إنما أيضا من الفضيحة، مما هو مؤسف، من الخزي الكلي. كان عليّ أن أسيطر على هذه المادة, أن أبحث لكل دقيقة الجزء الذي من هنا للكاميرا(موضوعي وحركات مشوشة، الخ) بما يخص القسم الأمامي للكاميرا، قلت إنني شعرت بحاجة دائمة لمرجعية إلى الحياة المعاصرة بالشكل الذي لا شيء يعيد بناءه إطلاقا من وجهة النظر التاريخية. لم يكن الماضي تحت قناع الحاضر، إنما الحاضر تحت قناع الماضي.

الخيارات الأساسية لم تشكل لي معضلة وقد صممت على آلية المقارنة بين الظواهر, بدلت عالم الرعاة, الإقطاعي، الفلاحيّ للعبرانيين بالعالم المقارن لجنوب إيطاليا, مقدما إياه كما هو (بمشاهده الفقيرة كما الغنية) وبالطريقة ذاتها، استبدلت أشخاص هذا العالم بأشخاص لعالم مشابه، بأن آخذهم كما هم.

الصعوبة الأكبر كانت في الخيارات الأقل أهمية التي كان يحلو تقديمها بالشكل غير المفكر فيه في الروداج ليوم أو آخر.

هكذا، بالنسبة للجنود الرومانيين في تنقيح للقدس. كان عليّ أن أفكر في الشرطة الحديثة, بالنسبة لجنود هيرودس تماما قبل مجزرة الأبرياء. إن عليّ أن أفكر بحشود الفاشستية..

يوسف والعذراء أوحاهما لي في المنفى، اللاجئون نتاج درا مات مقارنة للعالم الحديث ( على سبيل المثال الجزائر)، وهكذا بشكل متتالي.

كل هذا توجب إظهاره من خلال الخبث، من خلال عنف الحكاية، وقد تم تحضيره كما قلت: بالشكل الذي توضع التفاصيل فيه بوضوح وكأنها قمم تعبيرية. لم يكن كذلك:تماما كما هو بالنسبة لتفاصيل الطرازية المدارسية العنيفة فلقد تم تنعيمها وتم إدخالها كمكونات في مجموعة الطراز، صافية وتأخذ تقريبا كل التفصيلات التاريخية والميثيولوجية التي بالطبع كان يجب أن تفسد انطلاقا من وجهة الرؤية الدرامية.

على سبيل المثال يوسف ليس مألوفا في أي مكان للتصوير الإيقوني ويمكن العثور على أحد يشبهه من الناحية الفيزيولوجية ثم إعادة امتصاصه من قبل يوسف الموجود في الأسطورة. ما يثبت أنه لم يكن لدي القوة أو الإرادة الحقيقية من أجل(تدمير وإفساد إلى أي درجة كنت صادقا ؟ ّّّّّّّّّّّإصراري على المصداقية.

هل تم الاهتمام بالتفاصيل أكثر من الاهتمام بالمجموعة؟ وبالنسبة للحساب العبقري بأن المجموعة تكون دائما أكثر صدقا لأنها تكون دائما جامعة للتفاصيل الصريحة؟؟

انتصاراتي المتتالية، المتحققة في النهايات وفي حسرة وصلت تقريبا إلى الأحاسيس العصبية للاشمئزاز وللرغبات في التقيؤ. تلوب في دواخلي بوهم عمل محكوم عليه بالمصداقية. لكن، تصميم المجموعة للعمل دائما يختلف عن تفاصيلها. وهذه التفاصيل لا تتحول إلى أجزاء مجهرية كثيرة والتي فقط تعيد إنتاجها بشكل وفيّ للمنظومة العامة للعمل عندما تكون في طور اكتمالها.

تفصيل يولد من النشوة أريد القول إنه يخضع إلى قوانين مدارسية غير منتظمة. كما على سبيل المثال، قمة تعبيرية ،مستقلة عن أي رابط منطقي أو جمالي.

تفصيل يأتي من توسيع صاف، من انتشاء، من هندسية حسابية, وعند النهاية في مجموعة العمل يمكن أن يكون قد أضيف بإحكام صاف وسهل، فتكون مضللة ، متحدة بأواصر ربما غامضة، لكن في كل الأحوال ليست مجانية وليست خارجة عن منطق المجموعة. هذا لا يعني أن حقيقتها هي تلك الحقيقة القاطعة لما كان يهدف. وإن الفكرة المسيطرة للحقيقة التعبيرية_ صادقة.

بالنسبة للثيمة فإن الفكرة التي سيطرت عليّ كانت فكرة جمالية_ دينية من تلقاء نفسها:والرغبة في المصداقية (صادق!!) أتت لتعكرها. وكما هو معروف، الرغبة الجمالية لها الشعر كغرض مباشر. وعدوّها الأكثر حقدا هو البلاغية أي, غياب المصداقية. لكن، الرغبة الجمالية هي بعمق فقدان المصداقية. والشعر الذي يتم البحث عنه بوساطة الرغبة الجمالية ليس له وجود. وإذا وجد فهذا يعني أنه نمى في أطوار أخرى عن مسار الابتكار.

بحثت عن الفضيحة التي دائما تأخذ إلى الشعر من خلال الفضيحة التي يمكن أن تجلبها المصداقية معها. ومع هذا، أكرر ذلك، إنه حازم وقاطع ومن خلال النتيجة العامة انها تعبيرية وليست فطحلية . إنها منظمة بشكل دقيق، وهي طبيعية حسب طريقتها، لقد استخدمت الفضيحة التعبيرية من أجل العثور على الشعر.  

* احمد يعقوب

·         شاعر ومترجم وصحفي من فلسطين

·         عضو اتحاد الكتاب والصحفيين والفلسطينين

·         عضو هيئة تحرير مجلة الزاوية الثقافية

 

الأعمال الأدبية:

1- مختارات شعرية عن أوغاريت للنشر

2- دليل تربوي لمدرسي الابتدائية في المسرح ترجمة عن الإسبانية القطان

3- شعراء تشيليون من أصل فلسطيني ( ترجمة عن الإسبانية مجلة شعراء)

4- نصوص من الانتفاضة تحت الطبع

5- حكايات وأساطير عالمية للفتيان من أفريقيا وأمريكا اللاتينية

6- من الأدب الصيني القديم ترجمة عن الإسبانية

7- دراسة في تيارات الفكر الإسلامي

8- أوراق نقدية

9- مقالات صحفية وسياسية

موقع "القصة العراقية" في 13 مارس 2005