مع فابيوس وضد غافراس؟: مصائب التلفزيون عند قوم فوائد! توفيق رباحي |
التقي المنتج السينمائي العالمي، اليوناني الاصل، كوستا غافراس، رئيس الوزراء الفرنسي الاسبق، لوران فابيوس (1984 ـ 1986) في جلسة خاصة وطلب منه سن قانون يسمح بيوم في الاسبوع بدون تلفزيون. قال غافراس ان التلفزيون اصبح مزعجا بشكل غير مقبول وان اليوم المنشود يتيح للعائلات الانصراف لممارسة حياتها بصفة عادية، الذهاب للمسارح وقاعات السينما، الحديث اكثر من المعتاد، مداعبة الاولاد ومضاجعة الزوجات بشكل افضل الخ... ويروي ان فابيوس، الاشتراكي، رد بانه لو فعل لسقطت الحكومة في ستة اشهر! *** اكتشاف مخيف هذا الذي امامنا لو كان الوزير الاول صادقا. حكومة تسقط لانها استغنت عن التلفزيون. قد يكون في الامر مبالغة، لكن ما من حكومة تستطيع العيش اليوم من دون تلفزيون، فليست الحكومات التي ابتُليت بها بلداننا استثناء. الفرق، اذن، قليل: حكوماتهم تستعين بالتلفزيون للاستمرار في الحكم الي ان يحين موعد الانتخابات المقبلة، وحكوماتنا تحكمنا بتلفزيونات تمارس علينا ما تمارسه الشرطة واجهزة الحكم الاخري. بعيارة اخري، عندهم الحكومة تستفيد (من التلفزيون) دون ان يتضرر الشعب، وعندنا يتضرر الشعب من دون ان تستفيد الحكومات، بدليل ان من يشاهدهم الناس في نشرات الاخبار عندنا يكرهونهم اكثر، ولو كانوا صادقين واكفاء في عملهم. المشكلة ليست فيهم، بل في تلفزيون يضر اكثر مما ينفع بسبب تراكمات كلها سلبية. ليتهم يفهمون. عندما عينوا احمد اويحيي رئيسا لوزراء الجزائر في منتصف التسعينات وراح الاعلام يتباهي به وبعمره (آنذاك 43 سنة)، قلت لاصدقاء في لندن يا الهي.. علي الجزائريين ان يتحملوا صورته في نشرة الاخبار اليومية الـ30 سنة المقبلة . بعد عشر سنوات، لم يترك الرجل نفسا جزائرية واحدة لم يؤلبها ضده. الله يستر مع العشرين عاما الباقية. وانتابتني نفس الافكار وانا اري كونداليزا رايس تؤدي يمين تولي وزارة الخارجية الامريكية قبل شهرين: مسافة الالف ميل تبدأ بخطوة.. هذا القدر النحس سيعيّشنا مع هذا الجمال الفتّان اكثر من مرة في اليوم طيلة السنوات الاربع المقبلة. الله يعيننا علي التحمل . انا علي يقين ان لكل قناة تلفزيونية عربية من يحتلها عنوة ويسكن فيها علي مدار السنة. هناك نكتة يرويها الجزائريون عن الرئيس بوتفليقة، لكنها تصلح لجميع الملوك والامراء والرؤساء من المحيط الهادر الي الخليج الغابر. يقال انه ذهب في زيارة لاحدي مناطق البلاد ففوجئ بعدد الناس المطالبين بمساكن وبينهم واحد قاطعه وراح يعدد له مشاكله ومعاناة عائلته كثيرة العدد، فرد بهدوء: يا اخ، اننا نعاني جميعا من ازمة السكن.. ألا تري انني شخصيا اسكن في التلفزيون! ويروي ان المواطنين اشتكوا من كثرة ظهوره في التلفزيون فنصحه مستشاروه بالتقليل من الظهور في الشاشة فسأل بما ينوون تعويضه. قالوا برامج ثقافية ومنوعات. قال لدي ما اقول في الثقافة. قالوا رياضة. قال انا رياضي سابق ولدي ما افيد به شعبي. يئسوا، ولسد اي فرصة امامه، قالوا قرآن كريم لنعيد للشعب ما ضاع من دينه: قال طيب، انا المقرئ جيبوا لي مصحف! لا اخفيكم انني فكرت اكثر من مرة ان اضع لنفسي يوما بدون تلفزيون. لقد مللت وسئمت وجوها تلفزيونية كأنها تقاسمني بيتي دون اخذ رأيي. غير انني فشلت ولم تفدني تجربة صديقتين (واحدة في امريكا) تعيشان من دون تلفزيون (عندما سألتهما كيف تستطيعان، ردت احداهما بسخرية انت تؤدي الواجب واكثر! ). ولم تفدني تجربة المرأة المسترجلة في حزب المحافظين البريطاني، آن وايدكومب (وزيرة الداخلية في حكومة الظل في منتصف التسعينات)، التي كتبت عنها الصحف انها لا تمتلك جهاز تلفزيون في بيتها. غير ان صورا تناقلتها الفضائيات العالمية الاسبوع الماضي من لبنان جعلتني اعيد النظر في عدائي للشاشات. برغم ما فيها من مخاوف وقبض للانفاس، لو اتيح لي اختيار صور الاسبوع او السنة لكنت اخترتها الافضل علي الاطلاق، لانها كشفت ان الزمن الذي كانت تبدو فيه جورجيا شكازفيلي واوكرانيا يوتشنكو بعيدتين ومستحيلتين، قد ولي. فهنيئا للبنان واللبنانيين علي تقريب المسافات، وشكرا لعمر كرامي الذي انسحب بكبرياء قبل ان تسوء عليه الاحوال، وشكرا لامير قطر لانه شهد ضد زملائه الـ22 بينما كنا نعتقد ان اي حاكم عربي سينحاز في هذه الظروف للحاكمين في سورية ولبنان. موقف طريف فعلا! اهم شيء ان الرسالة وصلت للحكام والمحكومين، والحمد لله ان المياه جرت من تحت الجسور. الحمد لله رغم كل شيء، رغم انها مياه بتزكية امريكية اسرائيلية فرنسية عالمية، رغم انها مياه نفاق امريكي موصوف وانفصام فرنسي واضح، رغم انها مياه لم تجر حبا في لبنان بل كرها في سورية، رغم انها مياه لا تتعارض مع المصالح الامريكية، رغم انها مياه يصعب ان تجري في عاصمة عربية اخري من العواصم الحليفة لامريكا لان هذه الامريكا ستمنع جريانها، رغم انها جرت بينما هناك اكثر من احتلال وقمع متاخم للبنان وسورية ولا يختلف عن ثنائيتهما : في العراق احتلال. في فلسطين احتلال وقمع. في الاردن قمع. في تركيا قمع بقفازات من حرير. مفهوم غضب اسياد دمشق عندما ينقلب عليهم العالم، لكن لا عزاء لهم وقد انقلب عليهم حلفاؤهم التقليديون في الرياض وسلطوا عليهم اعلامهم حتي بات اكثر الازعاج الذي تتعرض له سورية مصدره الاعلام السعودي لا الامريكي. ولا اعتقد ان الجبهة غير الضرورية التي فتحتها قناة العربية ، بمبالغة واضحة، ضد المخابرات ووزارة الخارجية السوريتين بريئة وتخرج عن مخطط توّج بتسريب مقصود (سعودي طبعا) لوكالة رويترز عن توبيخ وتحذير من الامير عبد الله للرئيس بشار الاسد بسحب قواته من لبنان فورا. وقد فشلت الآلة الاعلامية السورية المهترئة المسكينة في تفنيد التسريب فظلت تغرد خارج السرب لا يسمعها احد لان كل القنوات الفضائية والصحف اهتمت بالتحذير الذي شكل، من وجهة نظر اعلامية، الحدث. اما التكذيب فضاع في الرجلين . *** لا اعرف بماذا يفكر غافراس اليوم، هو الذي اشتكي من ازعاج التلفزيون قبل الغزو الفضائي الذي تعرضت له البشرية. واتساءل عن رأيه في العلاقة التي نريدها مع التلفزيون، نحن بالذات في المنطقة العربية المنكوبة بالجهل والقمع والفقر والبؤس وكل انواع الحرمان، فجعلنا من هذا الجهاز السحري اداة تعويض عن كل ما نفتقده، تثقيف وتغذية وتعويض نفسي وممارسة سياسية. ننتظر من الفضائيات ان تحقق ما عجز عنه السياسيون. حكومات تحكم بواسطة التلفزيون، وشعوب تحلم بالاطاحة بهذه الانظمة من خلاله. لكل هذه الاسباب، اعذرنا يا غافراس، لن نناضل في صفك من اجل يوم بدون تلفزيون. *كاتب من أسرة القدس العربي toufik@alquds.co.uk القدس العربي في 7 مارس 2005 |
|