آخر ما كتب الراحل محسن زايد فرحان ملازم آدم يكشف تواطؤ الواقع والمنتجين؟! علا الشافعي |
فرحان ملازم آدم : جريمة أبطالها يعيشون بيننا! تراجيديا.. السلطة والسياسة والدين القاهرة ـ من كمال القاضي في مطلع الستينيات قدم المخرج الكبير صلاح أبو سيف رؤية سينمائية شديدة التميز لقصة يوسف أمين غراب شباب امرأة وكان من بين ما طرحه الفيلم قضية السلطة وإشكالية القهر الذي تمارسه السلطة الفعلية ضد المجتمع أو ذلك المفروض بقوة النفوذ من افراد ذات حظوة علي الاخرين لا يمتلكون نفس الميزة، وقد اختار أمين غراب في قصة شاب امرأة أن يقرب الصورة فجعل السلطة في يد امرأة شفعات التي ادت دورها في الفيلم تحية كاريوكا .. تلك السيدة الشهوانية المستبدة التي تهوي الرجال وتخلعهم كما تخلع قفازها، ومن خلال الشخصية الرئيسية قدم صلاح أبو سيف نماذج لحالات الخنوع والاستسلام وأكد من واقع التفاصيل علي معاني التحرر والحرية وانحاز في نهاية الفيلم لفكرة المقاومة والعصيان المتمثلين في صحوة الامام الشاب الريفي الذي جاء إلي القاهرة للدراسة فوقع في براثن الرذيلة واستعذب حياة الحرام، لولا انه استفاق مؤخراً وعاد إلي رشده.. لم تخرج رؤية السيناريست الراحل محسن زيدان عن هذا التكوين كثيراً في فيلمه الأخير فرحان ملازم آدم عن هذا المضمون فقد عرج علي ذات الشكل فبدلاًَ من أن يكون البطل طالبا جامعيا جعله محصلاً في أوتوبيس هيئة النقل العام وغير اسمه من إمام إلي فرحان وكذا بقية الأبطال من كاريوكا إلي لبلبة ومن شفعات إلي إحسان.. وهلم جرا.. ولكن برغم ثبوت تهمة التقليد أو الاقتباس مع سبق الإصرار والترصد يبقي هناك موضوع وهم درامي عام يستحق ان نضعه في الاعتبار.. فالبطل فرحان فتحي عبد الوهاب إنسان فطري ـ متدين ومسالم ـ يحصل علي الثانوية العامة وتراوده احلام الاستقرار والعيش تحت مظلة آمنة بعيداً عن العوز والفقر فينزح من قريته النائية ديمومة بأقصي الصعيد ليصل إلي القاهرة للعمل كمحصل بهيئة النقل العام كنوع من الاحتماء بالوظيفة الحكومية وضمان الاستقرار النسبي المفقود في القرية الجنوبية الغائبة عن الخريطة، وهي الإشارة الذكية من السيناريست محسن زايد للإلماح بانقسام المجتمع إلي نصفين ونسيان النصف العلوي منه في خضم الفساد وعبث السلطة وانشغالها.. يبحث البطل الساذج في رحلته الاضطرارية البائسة عن مرفأ للأمان بين عشوائيات العاصمة فتقوده قدماه إلي منزل إحسان لبلبة الكائن بإحدي الحواري العتيقة ذات الجو المقبض وهناك يجد آيات من البؤس والفقر لا تقل عما تركه في القرية كأنه همزة الوصل التي تربط بين فقرتين أو أنه بلاغة الاحتياج تتجسد في قوامه النحيل الذي يمشي علي قدمين.. ويمضي فرحان بين الذهاب والإياب من وإلي عمله أياماً يعيشها مكسوراً مهاناً بعد أن صفعته يد السلطة الغاشمة بأول ضربة علي قفاه دون رحمة وبلا سبب إثر اشتباكه مع مخبرالحارة عبده سامي العدل الذي يمارس فاشيته وينفس عن عجزه الجنسي بالبلطجة لتأكيد الرجــــولة الزائفة ومن هنا تبدأ اولي جولات الصراع والعداء بين الرجلين أو بالأحري بين طبقتين ـ الحاكم والمحكــــوم ـ ويتصاعد الخــــلاف وتحدث المواجهة في أكثر من واقعـــــة علي رؤوس الأشهاد ويقف فيها اهـل الحارة موقف العجزة فيما يزداد بطش وتجبر المخبر أو السلطة الحاكمة، ولم يكن هناك من رادع سوي محاولات فردية تقوم بها فوتنة الفتاة الجميلة ابنة إحسان التي تربطها علاقة عاطفية بفرحان تتوطد مع مرور الأحداث وهي الشخصية الإيجابية الوحيدة التي اتخذها المخرج عمر عبد العزيز مثالاً لاستمرار المقاومة ومجابهة العنت والظلم فيما يدين علي الجانب الآخر السلطة الدينية المتشاغلة بالصلاة عن اداء الواجب الاجتماعي وصد اليد الغليظة المتسلطة علي رقاب العباد بينما يتواطأ أهل الحارة فيما فيهم شيخ الجامع عن العلاقة الآثمة التي تربط المخبر البلطجي بإحسان اتقاء الشر ويعجز الجميع عن المواجهة ويظل فرحان ملازم آدم هو البريء الوحيد داخل دائرة الشبهات يتنــسم هواءه النقي من رئة واحدة في قلب فتنــة أو ياسمين عبد العــــزيز حبيبته وظله في حرارة الغربة الحارقة، يضاف إليها حــــالة الأنس المتحقق في علاقته الخاصة باسماعيل مدمن الحشيش مساء والموظف بالشهر العقاري صباحاً.. مفارقة يضعها المخرج للتعبير عن إمكانية التقاء الأضداد في حالات استثنائية جداً لا تتكرر إلا في مجتمعات تعيش علي هامش الحياة، وهي تعكس مهارة التحايل علي الأوضاع الراهنــــــة والواقع القاسي.. وفي سياق الأحداث وزيادة الضغط السلطوي نلحظ وجود تغير في موقف أهــــل الحارة من عبده المخبر، حيث تـــــبدأ عمـــــليات التآمر ضده وتعقد النوايا للتخلص منه، وبعد تدبيرات تقـودها الأم العشيقة والابــــنة المتمردة يتم الإيقاع به في شـــرك الفضحية بعد أن تستدرجه إحســان إلي الفراش وتجرده من ملابسه وتطرده شر طردة لتـــــكون فضيحته المخجلة علي الملأ نهاية لما كسبت يداه، وفي ذلك إشـارة أيضاً لضـــرورة التكاتف لفضــــــح الرذائـــل وتعرية السلطة من سوءاتها.. وعلي قدر الجنوح نحو الفضيلة والرغبة في تطهير المجتمــع إلا أن هناك شيطان الغــرائز يسكن الإنسان ويأبي إلا أن يدنسه، وهو ما حدث لفرحان ذلك التقي الكادح الذي لا يقوي علي الاستمرار في تحدي شهواته ويستجيب لغواية المرأة اللعوب فيسـقط في بئر الخيانة متـــــورطاً في علاقة آثمة تحول دون زواجه من حبيبته التي هي ذاتها ابنة إحسان التي استجاب لغوايتها! إنه دنس المدينة الكبيرة الطاردة للبراءة والمتكيفــــة مع تنــــاقضاتها وامراضها المزمنـــة.. يعــــود البطل من حيث أتي حاملاً أمتعته المتهالكة ونفسه المكسورة وعجزه المقيت ليعيـش مرة اخري خارج الخريطة الجغرافية والإنسانية وتستمر الحياة الصاخبة في قلب العاصمة تعج بالخيانة والاستبداد ويظل شعار العجز مرفوعاً كأنه العلامة الدالة علي الأماكن والبشر!! إحساس مركب بالمأساة يتركه الفيلم داخل المشاهد وثمة تعاطف مشوب بالحزن تكتسبه شخصية فرحان.. ربما للمفارقة بين الاسم والواقع أو لإحساس كل منا بأنه جزء من التراجيديا الإنسانية وأن فرحان يسكننا ينطق بلساننا ويحمل اوجاعنا. موسيقي هاني مهنا المستوحاة من البيـــئة المصرية والتراث الشعبي أثرت هذا الإحساس وأكدت تلك القناعة، وقد عمقها بلا شك المخرج عمر عبد العزيز لربطه بين دور السلطة وصلفها ومسؤولية الشعب الغائبة وسلبيته. فرحان ملازم آدم.. هو كبش الفداء في جريمة أبطالها يعيشون بيننا. القدس العربي في 1 مارس 2005 |
د. رفيق الصبان يكتب عن «فرحان ملازم آدم» المجد للسينما الحقيقية * فتحي عبدالوهاب ولبلبة وياسمين وعمر عبدالعزيز يعزفون قصيدة سينمائية بليغة تعيد للسينما المصرية بريقها الضائع مفاجأة حقيقية يقدمها لنا فيلم «فرحان ملازم آدم» الذي جاءنا كموجة بحر نقية ترفعنا كلنا.. إلي سماء نقية من السينما طال انتظارنا إليها. مفاجأة علي كل المستويات: إخراجا وتصويرا وتمثيلا وموسيقي وكل العناصر الفنية الأخري التي يجب أن تتوافر في فيلم سينمائي. المكافأة الوحيدة التي لم «تفاجئنا» بالمعني الحرفي للكلمة.. هي «السيناريو» لأننا تعودنا دائما من الراحل محسن زايد أن يقدم لنا دررا سينمائية مدهشة جعلته منذ بداياته وحتي رحيله المفاجئ والحزين العام الماضي.. واحدا من أهم وأقدر كاتبي السيناريو الذين عرفتهم السينما المصرية طوال تاريخها. محسن زايد يطل علينا من خلال أحداث هذا الفيلم الذي كتب قصته وحواره إلي جانب السيناريو البديع الذي نسج خيوطه وشخصياته بأصابع المحبة والشجن والعبقرية معا. إنه بحق.. كما قالت مقدمة الفيلم.. يحدثنا هذا الفيلم بعد رحيله.. ليذكرنا بأن السينما يمكن أن تكون ويجب أن تكون.. نشيدا وتأملا وعشقا ونشوة وموسيقي وفكرا عميقا معا، محسن زايد يغوص في فيلمه الأخير هذا في أعماق الحارة المصرية والشخصية المصرية النابضة بالشوق والرغبة والأحلام.. ويغرقها كلها كعادته في سحابة من الشبق الجنسي والشاعرية الطافحة بغنائية صامتة ذات معقول كالمخدر. التيمات المفضلة لديه، الحب والعشق والرغبة والأمل والبراءة المفقودة والسلطة الفاسدة تتصارع وتتضارب وتتواجه في هذا الفيلم كما تواجهت سابقا في السيناريوهات التي كتبها حتي لو كانت من خلال مؤلفين آخرين كـ «يوسف السباعي أو نجيب محفوظ أو إسماعيل ولي الدين أو محمد جلال»، ولكنها هذه المرة جاءت صافية كماء النبع.. لامعة كحبات الزمرد.. قوية ككأس من النبيذ المعتق. لأنها نبعت من قلبه ومن خياله القصصي.. دون الرجوع إلي أعمال غيره.. يسقط عليها أفكاره وحساسيته كما فعل في أفلام سابقة له. محسن زايد هو الذي كتب قصة «فرحان ملازم آدم» قبل أن يحولها إلي سيناريو أخرجه بموهبة وحساسية فائقة عمر عبدالعزيز، كما لم يفعل قط في أي من أفلامه السابقة. المخرج الشاب هذه المرة بدا في أعلي مستوي من كفاءته ومن قدرته علي خلق الجو. وعلي التعبير عن الإحساس العميق.. وعن العواطف الظاهرة والباطنة معا. ساعده علي ذلك مصور شاعر.. عرف كيف يلعب بإضاءته وبأنواره وظلاله.. سواء في مشاهده الداخلية أو الخارجية التي أسبغ عليها شاعرية ودفئا وجمالا مليئا بالشجن العميق، كما في مشهد الحشيش علي شاطئ النيل بين فتحي عبدالوهاب وحسن حسني. بالإضافة إلي ذلك.. توفيقا بعيد المدي في اختيار نجومه الذين أدوا الشخصيات التي عهدت إليهم بقناعة تصل إلي حد التقمص التام. فتحي عبدالوهاب في هذه البطولة التي يتحملها كاملة.. ويحمل علي عاتقه عبء فيلم كبير ومدهش كهذا.. أثبت أنه وصل إلي مرحلة النجومية الحيقية التي تجعلنا نأمل منه بعد ذلك أدوارا تليق به وبموهبته.. وتفتح أمامنا بابا واسعا للأمل في مستقبل التمثيل في مصر. إنه في دور فرحان الصعيدي.. يقدم نموذجا خارقا للريفي البريء.. الذي أتي حاملا آماله كعصفور صغير.. تخفق أجنحته برعشات تشبه دقات القلب.. تود أن تنطلق بعيدا بعيدا إلي حيث لا يعيقه حاجز.. أو يقف في وجهه حاجز. إنه يقدم براءته علي طبق من فضة.. ليواجه بقسوة الواقع ووحشيته في هذه الحارة الشعبية التي يسيطر عليها فتوة من نوع جديد.. يحمل عصاه ويسير مختالا مزهوا.. تكاد الأرض لا تسع قدميه.. في حماية دولة وسلطة.. تقف في أحيان كثيرة في جانب الظالم.. ضد أبرياء لا يملكون من أنفسهم شيئا.. يحاولون قدر الإمكان التلاؤم مع مجتمع قاس لا يرحم. وعندما يعجزون عن مواجهة حرمانهم والظلم الواقع عليهم لا يجدون ملجئا إلا الدخان الأزرق.. يهربون إليه.. كما يهرب بهم بدوره إلي دوامات من الصفاء الكاذب.. يبعدهم عن الواقع المؤلم الذي يعيشون فيه. فرحان أتي ليعمل كومساريا في هيئة النقل العام.. وليواجه لأول مرة ظلم السلطة الذي يضطره لأن يسأل نفسه أول سؤال وجودي يواجهه في حياته القصيرة.. لماذا يقع هذا الظلم علي.. وكيف أفعل كي أقاومه؟ وهو حقا يحاول المقاومة.. ولكن المقاومة تتغلب عليه.. جرحا مميتا يكاد يقتله حقا.. والسلطة ساكنة.. ساخطة.. هازئة.. تنظر ولا تفعل شيئا. وعندما تسقط مقاومته أمام إغراء جسدي لا يعرف كيف يقاومه.. يخسر مقابل ليلة هوي واحدة.. عاشها من خلال وعي ناقص.. وعدم قدرة علي المقاومة.. الحب الحقيقي الذي لاح في حياته.. وكاد يعطيها معني وهدفا. فتحي عبدالوهاب.. ابتعد كثيرا في أدائه عن شكري سرحان في «شباب امرأة».. وعن أحمد زكي في «البريء» وأعطي ملامحه وضحكته.. وسهوم عينيه وصوته المبحوح ونظرته الزائغة.. دفئا وحساسية ورؤيا تختلف تماما عن النجمين السابقين.. رغم أن الأدوار الثلاثة تدور تقريبا في فلك واحد. حسن حسني.. يعود مرة واحدة وبقوة لا جدال حولها إلي تذكرينا بأنه مازال حسن حسني الذي أثار إعجابنا في «دماء علي الأسفلت» وأدوار أخري مماثلة.. وخاصة في رسمه لهذه الشخصية الغارقة في دخان الحشيش.. الذي يحاول أن ينسي عجزه وفشله وتحطم أحلامه.. في ضباب شيشة مسمومة يرتشفها بعمق تخالطه النشوة علي أنغام أغاني أم كلثوم. إنه حسن حسني الذي أحببناه.. وعشقنا عبقرية أدائه.. والذي كادت أفلامه الأخيرة وشخصياته النمطية المكررة.. أن تنسينا أنه مازال واحدا من أقدر وأعمق ممثلي جيله. ياسمين عبدالعزيز.. تتألق كما لم تتألق بعد.. في دور «فتنة» بائعة الكشري التي تقع في حب الصعيدي الشاب القادم من الريف.. وتحاول أن تعلمه مبادئ الحياة في هذه الحارة الغارقة في تقاليدها وشهواتها ومباذلها وبراءتها العميقة التي تختفي وراء ستار كاذب من الفساد. ياسمين في عفويتها.. في جمالها البسيط.. في ثوراتها ضد ما تراه بعيدا عن الحق.. في أنوثتها الغائبة وفي قدرتها علي الاقتحام.. أثبتت في هذا الدور أحقيتها في أن تكون واحدة من خير ممثلات جيلها الشاب.. وأنها تقف في مكانة حقيقية تجعلها تقف في مقدمتهن دون جدال. أما «لبلبة» التي تخطو في كل فيلم مقدمة خطوات جبارة إلي الأمام.. تتحول من فيلم إلي آخر.. وتقدم وترا جديدا من موهبتها تعزفه ببراعة وتضيفه إلي مجموعة أخيرة من الأدوار اختارتها بعناية وذكاء.. وجعلتها منذ فيلمها الرائع «ليلة ساخنة» واحدة من أقدر ممثلاتنا علي الإطلاق.. وأشدهن تنوعا وموهبة وحساسية. إنها في دور أم «فتنة».. تجسد دور المرأة الناجحة.. التي مازال جسدها يشتعل رغبة.. والتي تطفئ ظمأها الجسدي في صراخ عصبي.. أو في ثورة لا مبرر لها.. أو في نظرة يأس منكسرة تعبر عن الكثير وتصل إلي القلب مباشرة.. دون وسيط.. إنها الأنثي الظمآنة إلي دفء الجسد أمام ساعات العمر التي تهرب ولا تعود.. بل إنها في مشهد الحشيش المشترك وسماع أغنية أم كلثوم مع بقية سكان الدار (وهو في الحق مشهد من أجمل مشاهد الفيلم.. بل واحد من أجمل المشاهد السينمائية التي رأيناها مؤخرا علي شاشاتنا).. تقدم نموذجا من التمثيل.. يصح أن نقارنه بما تقدمه كبريات نجوم السينما في العالم. كل الممثلين في هذا الفيلم.. بدءا من سامي العدل.. ووصولا إلي الأدوار الثانوية الصغيرة قد قدموا لنا من خلال سيناريو عبقري أتاح لهم أن يظهروا كل ما في أعماقهم من موهبة.. وقدرة.. حطت الأفلام الأخيرة منها.. وحجبتها وراء ستار سميك من الضحالة واللامعني. ما علينا إلا أن نذكر مشهد المؤامرة ضد سامي العدل.. الذي يمثل السلطة.. وإخراجه عاريا أمام نظرات سكان الحي الساخرة الشامتة.. لنري أين تقف الكوميديا الحقيقية.. وكم هي بعيدة بعد السماء عن الأرض عن الأفلام الضاحكة التافهة والسطحية التي تدعي زورا أنها كوميديا. لا أدري إلي من يعود قصب السبق في التمثيل في «فرحان ملازم آدم».. فكل واحد من ممثليه كان عملاقا في حدود دوره.. عظيما في تشكيل هذه السيمفونية من الأداء التي رأيناها مبهوتين.. معجبين.. وشعرنا كم أصبحنا بعيدين عن السينما الحقيقية النابعة من أعماقنا.. والتي يعيدنا إليها محسن زايد برقة وحسية ونعومة وقوة لا مثيل لها. في «فرحان ملازم آدم» يغني فتحي عبدالوهاب أغنية صعيدية جبلية.. يعبر بها عن عواطف بعيدة وعن أشواق مكبوتة وعن حنين لا نهاية له. أغنية تجعل القلب ينزف والخيال يذهب بعيدا بعيدا نحو سماء لا حدود لها، وفيلم محسن زايد.. يشبه هذه الأغنية في معناها ومحتواها.. أغنية لم يغنها الرائع فتحي عبدالوهاب وحده.. بل غناها معه طاقم الفيلم كله.. من فنيين وممثلين.. اشتركوا معا في جوقة واحدة.. لتقديم أغنية في مجد السينما وبنائها وجموحها وقوة تأثيرها. جريدة القاهرة المصرية في 1 مارس 2005
|
جاء عرض الفيلم السينمائي فرحان ملازم آدم في هذا التوقيت ليضعنا أمام مجموعة من التساؤلات حول واقع سينمائي بدأت ملامحه في التبلور بدءا من ضرورة وجود موسم سينمائي جديد في هذه الفترة من العام بعيدا عن موسم الأعياد والإجازات, أو مذبحة الموسم الصيفي خاصة وأننا لو شجعنا هذه التجربة سنتيح الفرصة لسينما مختلفة, والأهم هو الأفلام التي أنتجت في الفترة الماضية لحساب قناة روتانا السينمائية وشكل هذا الإنتاج وتأثيره علي الفنانين المشاركين, وهل سيفرز أفلاما قليلة التكلفة, والسؤال الذي سيطرح نفسه بقوة عن حال النجم شديد الموهبة, والذي يعمل بمفرده دون وجود شركة قوية تدعمه أو تسانده إعلاميا ودعائيا مقابل أنصاف المواهب الذين تقف وراءهم شركات قوية, ماذا سيفعل هؤلاء في مواجهة الطوفان من حولهم؟ حلم زايد أذكر أن تحويل سيناريو فرحان ملازم آدم إلي فيلم سينمائي من أحد أحلام الكاتب الراحل محسن زايد, لأنه وعلي حد تعبيره في وقت كتابته حمله الكثير من روحه, وأجواء الحارة المحببة إليه بكل تناقضاتها والسلطة وقمعها للإنسان, حالة التواطؤ ما بين الظالم والمظلوم, الانحناء خوفا حتي لو كان من مخبر تافه يستغل سلطاته, الأشخاص المغيبين بكامل إراداتهم, أصحاب العجز الوعيي بكارة الريف في مواجهة هيستيريا المدينة, هكذا كان يحلم محسن زايد بأن تتحول كل هذه المعاني إلي صورة غنية ينتصر هو في نهايتها لبراءة الأشياء التي أصبحت مفقودة. ولكن حظ السيناريو أن الراحل أنهي كتابته في أواخر عام96 وبداية عام97 حيث كانت موجة الكوميديا في أوجها وكان صناع السينما لا يقبلون سوي الاسكتشات المضحكة بعيدا عن كوميديا الموقف, التي ينتمي إليها فيلم فرحان ملازم آدم والمحملة بمرارة الحياة وسخريتها, وبعد رحيله بسنوات تحقق الحلم, ولكن السؤال الأهم ماذا تبقي من الحلم؟! فرحان ملازم آدم سينمائيا بدءا من اسم الفيلم الذي يحمل مفارقة درامية في حد ذاته, فبطلنا فرحان ليس اسما علي مسمي, فهو شخص محمل بالأعباء, يحلم ويتخبط في سبيل تحقق حلمه, قادم من الديمومة وهي بلد يبعد عن أسوان وليس له محل علي الخريطة وهو يحاول أن يجد له مكانا, حاصل علي الثانوية العامة, واستلم وظيفة كمساري في هيئة النقل العام بالقاهرة, وهو قادم إلي القاهرة محمل بشيئين براءته ومرآة حملتها له الأم, وذكريات السهر والسمر في تلك البلدة, فالطريقة الوحيدة التي يرفه أهل قريته عن أنفسهم هي المبارزة في الزجل والغناء, كل هذه البكارة في مواجهة المدينة بكل جنونها. وسيناريو الفيلم شديد التعقيد, فالعلاقات المركبة حاضرة بقوة, فهناك امرأة بين رجلين, ورجل بين امرأتين وثلاثة أحيانا, الشخصية وضدها, آلية القمع التي تنهش مجتمعاتنا, لعبة التواطؤ التي اعتدنا ممارستها, نقصد بين المضطهدين والمضطهدين, المطاطاة للسلطة في مقابل أن تغمض هي عيناها عن تجاوزات عشوائية الحياة, مشروع السيناريو أحياه المنتج مطيع زايد, شقيق الكاتب محسن زايد, وذلك بعد أن ظهرت شركة روتانا في الأفق, وظهرت معها مجموعة من المنتجين تعاملوا مع الشركة بطريقة المنتج المنفذ, لولا ذلك لما خرج المشروع للنور. الفيلم جسد شخصياته فرحان فتحي عبدالوهاب في أول بطولة سينمائية, وتشاركه ياسمين عبدالعزيزفتنة ولبلبة أم فتنة ـ إحسان وحسن حسني عم إسماعيل, يبدأ المشهد الافتتاحي مع البطل النازح من الصعيد قادما محملا بأشيائه المعتادة, وعلي غير العادة مرآة عزيزة عليه, نعرف ذلك من خلال خوفه الشديد عليها, والمرآة تحمل معاني درامية لم يلق لها المخرج بالا ولم يوظفها كتفصيلة مهمة, نشاهد من خلالها الأنا والآخر, يدخل فرحان إلي الحارة العشوائية بصحبة زميل له في هيئة النقل بعد أن دله علي حجرة بمنزل أم فتنة ومنذ اللقطة الأولي, ستسأل لماذا لم نر ذلك الشاب في لحظة نزوله من القطار, وهي لحظة درامية مهمة فهي المرة الأولي التي سيري فيها القاهرة وستصيبه الدهشة, أمام الأشياء, حتي من فكرة الزحام, وإحساسه بالضآلة أمام هذه المدينة ومشاهد الشارع كانت ستزيد من تأكيد هذا المعني والذي بالتأكيد كان يفرق مع المشاهد, وأيضا مع الممثل فتحي عبدالوهاب, ولكن السبب الوحيد لعدم تصوير مثل هذه التفاصيل, وردود أفعال فرحان التي تتسم بالسذاجة, والتي بالتأكيد حفل بها السيناريو بخل الإنتاج عليها, وهذا العكس بشدة علي الثراء البصري للصورة؟! واكتفي المخرج باستعراض الحارة التي جاء ديكورها مناسبا إلي حد ما, لأنه يؤكد علي عشوائيتها أو كأنها منطقة خارج التاريخ أيضا, وفي استعراض سريع نري تلاتفاز حجاج عبدالعظيم, صاحب محل الأدوات الكهربائية وفتنة التي تقوم ببيع الكشري علي عربتها, وحسن حسني الذي لا يفارق الدخان الأزرق, وفي حالة غياب عن الوعي باستمرار, وهو يعمل موظفا بالشهر العقاري, وزوجته التي لا هم لها سوي العلاقة الحميمة, بينهما والتي يتهرب منها دوما, وطالبة قادمة من إحدي المحافظات تدرس وتعمل, هؤلاء هم جيران فرحان في المنزل, والذي يقطن كل منهم في حجرة عند أم فتنة. ومنذ اللقطة الأولي ستشعر بذلك الرابط القوي الذي كان يجمع بين كاتبنا نجيب محفوظ, والكاتب محسن زايد, أحد مريديه, والذي عشق الحارة مثله بخجلها وعريها, المخبر عبدالقادر يجسده سامي العدل والذي يحاكي فتوات محفوظ, يرفض سطوته وإتاواته علي الحارة, وهذا طبيعي فهم يسكنون في منطقة عشوائية يسرقون الكهرباء والمياه ويخالفون البلدية, والإسكان وكل ما عليهم أن ينصاعوا إليه في مقابل أن يغمض هو عينه, عينه التي تزوغ بالضرورة علي بعض نساء الحارة وتحديدا إحسان, أم فتنة التي علمتها الحياة أن تتحايل عليها بكل الطرق المشروعة, وغير المشروعة, خاصة بعد أن دخل زوجها السجن في قضية مخدرات, ويكون حظ فرحان عثر فصدامه الأول يكون مع المخبر فهو يرفض الظلم, والمخبر يطبقه وفرحان يملك الجدعنة والرعونة والمخبر لا يملك إلا عصاه وعندما يتصدي المخبر لـ فتنة وأمها, يطاطيء كل من في الحارة رؤوسهم فهم لا يسمعون, ولا يرون ولكن بالطبع يتكلمون سرا؟! ويجمع الحب بين فرحان وفتنة وفي لحظة من لحظات تحايل الأم علي المخبر نكتشف عجزه الجنسي فالسلطة عاجزة لا تملك إلا العصا!! وتتشابك العلاقات, ويصبح فرحان هو الشغل الشاغل للمخبر الذي لا يتردد في أن يرسل له بلطجية يلاحقونه في الأتوبيس لحظة عمله ويضربونه بمطواه, ويسرقون الإيراد. في الفيلم لا توجد أحداث رئيسية كثيرة, ولكن تفاصيل يتم تعشيقها وأشخاص يكتشفون بعضهم البعض, ولكن الحدث الأهم يتعلق بالأم, التي تعرف تماما بعلاقة ابنتها بفرحان, ولا يرجعها ذلك عن غوايته في لحظة غيابه عن الوعي بعد أن تعاطي الحشيش مع حسن حسني واستطاعت الأم بتحايلها علي الحياة وشبقها أن تقضي علي قصة الحب, الأمل الوحيد الذي كان يقع عليه عبء تغيير شكل هذه الحياة, شديدة القسوة, وهكذا قضي التحايل علي البراءة, الأم في مواجهة الابنة. ولا يملك فرحان إلا أن يعود إلي قريته, فلا هو استطاع أن يجد لها مكانا علي الخريطة, ولا هو عرف الخريطة بأكملها, وبالطبع لم يأخذ معه المرآة, فالعالم ينكشف بأكمله أمامه, وحتي هذه التفصيلة بخل بها المخرج. الفيلم في مجمله مختلفا عن السائد في السوق, فهو قائم علي كوميديا الموقف التي تصيبك بالسخرية والمرارة حتي في حالة الضحك, فهو ضحك إلي درجة البكاء, وكما سبق وأن أشرنا. فقر الإنتاج وإيقاع المخرج عمر عبدالعزيز وعدم اهتمامه بالكثير من التفاصيل والشخصيات مثل شخصية الفتاة جارة فرحان وفتنة جاءت مبتورة الملامح, كل ذلك أخذ كثيرا من روح النص, وكذلك الموسيقي التصويرية لهاني مهني, والتي كانت في أغلب الأحوال أعلي من الصوت ومكساج الفيلم السيء جدا, ولكن أجمل ما في الفيلم هو المباراة في التمثيل التي استمتعنا بها بين نجوم العمل فتحي عبدالوهاب, الذي اجتهد في عمل تفاصيل خاصة بالشخصية ومن أجمل مشاهدة, المشهد الذي جمعه بياسمين عبدالعزيز بعد أن ضرب في القسم وأهمية وقوفه علي النيل معه باكيا, وعلق قائلا: بقي كده يا مصر اللي يعشقك تضربيه ومشاهده مع حسن حسني والذي هو بحق ممثل من العيار الثقيل يملك حضورا, ولمحية خاصتين تجعلانه يلقي بالإفيه في سرعة تدهشك, وكذلك ياسمين عبدالعزيز, والتي لم تشعرك للحظة سوي أنها فتنة البريئة الجدعة, ولبلبة التي أجادت تماما في تنفيذ مشهد الغواية, ولكن سوء تنفيذ المشهد إخراجيا خذلها. وأمام هذا الإنتاج الفقير, والذي في رأيي أهان السيناريو, أسأل المنتج مطيع زايد, ألم يكن شقيقك الكاتب الراحل يستحق سخاء أكثر في مشروع هو آخر ما كتب للسينما, وأيضا ظروف عرض أفضل بعيدا عن سينما ريفولي والتي أساءت بسوء ماكينة العرض فيها إلي جهد العاملين في الفيلم, بدءا من مدير التصوير سمير فرج, وكذلك الممثلين وبالتأكيد المخرج, ويكفي الصوت الذي لم يكن مسموعا بشكل واضح, خاصة أنك كمنتج لا يهمك الربح أو الخسارة, فالفيلم مباع مقدما ولكن الخاسرين بالطبع هم الفنانون والفنيون؟! نجم بدون مؤسسة أقسي شيء علي أي فنان حقيقي صاحب موهبة ويملك الوعي والثقافة أن يعمل بمفرده بدون وجود مؤسسة أو شركة إنتاجية تدعمه, وتقف وراءه ففتحي عبدالوهاب أحد هؤلاءالنجوم القلائل, وحظه أوقعه في أن أول بطولة له تكون سيناريو لكاتب بحجم محسن زايد, لم يستطع مقاومته ولكن حظه العاثر أن الإنتاج كان ضيقا سواء في تكاليف إنتاج العمل, أم شكل ومواد الدعاية المناسبة وأصبح فتحي يعمل ليس فقط كبطل للفيلم ولكن أيضا مسئول دعاية وإعلان يدور علي الشوارع يتساءل عن الأفيشات ومواد الدعاية في القنوات والمنتج غير مهتم, فهو قد ضمن أرباحه؟! وفعلا ما أقسي صناعة السينما في مصر فالسيناريوهات الجيدة لا تصادف إنتاجا جيدا وثريا والعكس هو الصحيح دوما في الوقت الذي يشهد فيه العالم كله احتفاء بالمواهب نصر نحن علي قمعها! وفي ظل وجود هذه النوعية من المنتجين يبقي الفنان هو المظلوم الأول والأخير. الأهرام العربي في 26 فبراير 2005 |