لدي طقوسي الخاصة جداً.. في التمتع بمشروع مشاهدة فيلم ما..
تلك الطقوس التي أحرص دائماً على أن أحتفي بها في كل مرة..
أبرزها تلك الإعلانات المصورة التي تعرض قبل الفيلم.. والتي
نطلق عليها عامياً وصف (سَمّبَلْ).. لا أتصور بأنني سأستمتع
بأي فيلم دون أن أشاهد هذه الإعلانات أولاً، مهما كانت هذه
الإعلانات سطحية وتجارية.. فمثلاً تزداد متعتي وأعيش في
الذكريات البعيدة عندما يعرض إعلان سجائر مارلبورو.. (تعال إلى
حيث النكهة.. تعال إلى عالم مارلبورو).. فهو يذكرني تماماً
بسينما المحرق العتيقة، مع بداية السبعينيات.. فلهذا الإعلان
طعم خاص جداً.. الجميل في الموضوع، بأن هذا الإعلان لم يتغير
كثيراً عن السابق.. إن لم نقل هو هو.. نفس الإعلان منذ ذاك
العهد.
تستدعي الذاكرة.. بل تصر على استدعاء ذكريات سينما العيد
وأيامها.. لتشكل إلحاحاً دائماً.. فقد كان نصيب سينما العيد
كبيراً.. حيث كانت من أبرز وأهم المشاريع التي كنا نحتفي بها
ونحن صغار.. لذا عندما اقترحت على أطفالي مشروع مماثل كحالة من
حالات النوستالجيا.. اثارت موافقتهم فرحة غامضة في قلبي.. كما
لو انني استعدت تلك اللحظة من التاريخ.
لمتعة المشاهدة طقوس خاصة.. التهاون بها كارثة.. فهذه الصور
السحرية البلورية تعد بمثابة الحلم.. تظهر وتختفي عن طريق تلك
التلاشيات والمزج.. حيث الزمان والمكان يصبحان مرنين وقابلين
للتكيف.. السينما تقتضي منا، فقط، ذاكرة تكفي لربط هذه الصور..
ذاكرة تنسينا كل شيء ما عدا تلك الصور البلورية.. نغوص فيها..
نعيش بها.. لتصبح تجربة مشاهدة أي فيلم في دار العرض لا
يضاهيها أي شيء.
تستدعي هذه الذاكرة العتيقة.. ذلك الفرح الأول بعالم سحري
غرائبي جميل.. تسترجعه مشحوناً بغبار السنين البعيدة.. حتى
يكاد أن يختفي.. إلا أنه مازال يقبع في قاع الذاكرة.. قادراً
على التنبيه إلى تلك الفرحة الغامرة المصحوبة بالرهبة اللذيذة
ساعة المشاهدة.. الذاكرة مازالت تحتفي بسينما العيد بالذات..
حيث الشروع في مشاهدة مستقلة بعيداً عن وصايا الأهل.. إنه حقاً
الفرح بالتجربة الشخصية لمثل هكذا حدث.
مثل جميع أطفال تلك المرحلة، كنت أشاهد الأفلام والمسلسلات في
التلفزيون، وأتذكر بأني قد شهدت تدشين أول تلفزيون ماركة
(أندريا) دخل منزلنا، كان ذلك في الستينات من القرن الماضي،
وكانت هناك قناة الظهران السعودية، التي تعرض فيلماً مصرياً كل
ليلة جمعة، عدا المسلسلات الأجنبية المدبلجة باللغة العربية.
أما السينما، فكانت شيء آخر، فأول مرة دخلت فيها دار سينما
كانت بمعية أخي الأكبر "جاسم"، حيث أخذني إلى درا سينما
الزياني بالعاصمة، لمشاهدة فيلم مصري، لا أتذكر اسمة، وكنت في
سن العاشرة تقريباً.. ولكني أتذكر مدى اندهاشي من حجم الصورة
على الجدار، ومدى تفاعل الناس مع الشاشة.
فيما بعد، كانت متابعاتي للأفلام من خلال التلفزيون، باعتبار
أن سعر تذاكر السينما، كانت حكراً على الكبار فقط.. إلا أننا
كنا نضع في حساباتنا مشاهدة السينما، في أيام الأعياد. حيث
الذاكرة ملئ بما جسدته الشاشة البيضاء الكبيرة.. بحجم الكون..
ملئ بصور سحرية شفافة تشهق لها القلوب.. وملئ بذكريات تتجدد
باستمرار.. كل يوم.. كل مرة.. كل مشاهدة.
في أيام العيد.. بعد أن يأتي رجال العائلة من صلاة العيد..
وينتهون من زيارة بيتنا الكبير للمباركة بالعيد.. يبدأ مشوارنا
الخاص نحن.. للتجول من بيت إلى بيت لتكون حصيلتنا في النهاية
مبلغاً لا بأس به من المال لا يتعدى العشرين روبية أو ما
يعادلها دينارين فقط.. يعيننا على الترتيب لغداء في كازينو
المحرق.. تلك الحديقة التي كانت دائماً تحوطنا بظلال نخيلها
وأغصان شجيراتها.. لتحيل مشاجراتنا المتفرقة إلى حياة ملؤها
الفرح والبهجة. ومن ثم الذهاب إلى سينما المحرق.. حتى مع عدم
معرفتنا باسم الفيلم أو نوعيته.. المهم هو تكملة المشروع
السنوي.. والتمتع بما لدينا من مال.
أتذكر جيداً.. كيف أننا مع طول هذا المشوار.. أقصد ذلك الطريق
الذي يمتد من بيتنا القريب من فريق الحياك.. إلى كازينو
المحرق.. وحتى السينما مشياً على الأقدام.. كنا نستمتع بالحديث
والتندر في استذكار أفلام سابقة شاهدناها سوياً.. حتى أننا كنا
نتحدث عن كيف سيكون الفيلم الذي سنشاهده مع عدم معرفتنا به..
وتصل أحياناً في أننا نحكي عن سيناريو لم يوجد..
نتخيل مثلاً بأن فريد شوقي في "عنتر بن شداد" سوف يقوم بتصفية
خصومه بشكل أكثر قوة.. ولن يسمح لأحد أن يتغلب عليه.
وفاتن حمامه.. هذه المغلوبة على أمرها.. نتعاطف معها دوماً..
ولكننا نحلم في دواخلنا بأن تتغلب على خوفها واستحيائها..
لتكون أكثر إيجابية.. ونرسم لها سيناريو كامل.. نوصيها بأن
تكون البطلة دوماً.. بل نحاول أن نكون لها عوناً وموجهاً لها
في تحاشي أي مشكلة ستعترض طريقها في سبيل الخير.
حكاوي أطفال صغار فقط.. يشتاقون لتنفيذ مشروع ترفيهي شخصي..
بعيداً عن توجيهات الأهل.
أما موضوع قطع تذاكر السينما.. فهذه قصة لوحدها.. فمع صعوبة
الحصول على تذاكر السينما في أيام العيد.. كان المتبرع للدخول
في طابور عشوائي مثل طابور التذاكر.. يعد من المحاربين
الاشداء.. أو البطل المغوار.. وهو يقدم علينا حاملاً تذاكر
العرض.. وكأنه حاملاً سيفه منتصراً..!! ربما يبدأ كل منا في
الإشارة إلى من يقطع التذاكر، منذ خروجنا من المنزل.. أو ربما
منذ الليلة التي تسبق الحدث..!!
كان الفيلم العربي أو الهندي في تلك السنين.. هو مبتغانا
الوحيد.. باعتبار أن الفيلم الأجنبي سيكون عصياً على الفهم..
ونحن صغار لا يمكننا أو أننا لا نأبه بمتابعة الترجمة العربية
في أسفل الشاشة.
روبية.. أو مائة فلس.. هي قيمة التذكرة الواحدة أيام العيد..
كانت بالفعل مبلغاً كبيراً ندخره لمثل ذلك اليوم.. أو أننا
نستقطعه من عيادي العيد ليكون لثلاثة أيام العيد.
تختلط هذه الذكريات.. بمشاهد حاضرة ومستمرة إلى يومنا هذا..
حيث أصبحت السينما هي الشغل الشاغل لدينا.. بل إننا نحيا بها..
وتشكل محور الكون الذي نعيشه..!!