الطوق والإسورة

إنتاج عام 1986

 
 
 

نشر هذا المقال في مجلة هنا البحرين في 6 أبريل 1994

 
 
 
 

بطاقة الفيلم

 

فردوس عبد الحميد + عزت العلايلي + شريهان + أحمد عبد العزيز + أحمد بدير + عبدالله محمود

تصوير: طارق التلمساني ـ حوار: عبد الرحمن الأبنودي ـ سيناريو: يحيى عزمي, خيري بشارة ـ قصة: يحيى الطاهر عبدالله ـ مناظر: محمود محسن ـ موسيقى: انتصار عبد الفتاح ـ مونتاج: عادل منير

 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 
 
 
 

ثلاثية التناسخ: الثبات.. العجز.. الخصوبة

في فيلمه (الطوق والإسورة) إنتاج عام 1986، يكشف لنا خيري بشارة عن موهبته الفذة وطاقاته الفنية القادرة على مفاجأتنا وإذهالنا. ففي هذا الفيلم تبلغ العناصر الفنية مستوى عالي من الإتقان وتأتي لتجسيد شكل مغاير لم تألفه بقية الأفلام المصرية. هذا إضافة إلى السيناريو الخلاق الذي كتبه مع المخرج الدكتور يحيى عزمي، والذي اعتمد علي خلق حالات وأجواء أكثر من اعتماده على الحدوتة والحبكة الدرامية.

يعتمد الفيلم أساساً على رواية بنفس الاسم للأديب المصري الراحل يحيي الطاهر عبدالله، ومن بين أهم ما يمتاز به الفيلم أنه أول عمل سينمائي عربي مستوحى من رواية يجري تصويره في نفس القرية التي ولد فيها كاتبها وعاش بها أيام الطفولة والصبا، حيث غادر خيري بشارة القاهرة المدينة مصطحباً معه فريقه الفني من فنانين وفنيين متجهاً إلى الصعيد الجواني، وبالتحديد الأقصر، حيث قرية الكرنك مسقط رأس صاحب (الطوق والإسورة) الرواية، من هنا جاء ذلك الإحساس لدى مشاهدة الفيلم، بصدق الأمكنة وواقعية الأحداث التي تتوالى صورها أمامنا محملة بالأوجاع والهموم الشيء الكثير.

يبدأ الفيلم بالتحديد في بيت "بخيت البشاري" (عزت العلايلي)، حيث ينام وزوجته "حزينة" (فردوس عبدالحميد) وابنته "فهيمة" (شيريهان) في حجرة واحدة، وحيث نرى الثلاثة محاصرين بالظلمة والسكون والتعب، منتظرين "مصطفى".. الغائب الغالي الذي رحل مع الرجال هناك إلى البلاد البعيدة. هذا الغائب/ الحاضر الذي يعيش في عقل الأب المقعد العاجز الذي يبكي في الليل خلسة من آلام مرضه، ويقاوم إلى أن يدركه الموت، كما يعيش هذا الغائب في قلب الأم الملهوفة التي تخطف رسائله لتشمها وتقبلها ثم تدسها في الصدر الحنون، وهو أيضاً في حواس الأخت الوحيدة وفي ذاكرتها ومخيلتها.

وينتهي الفيلم بعد عودة مصطفى من غربته فاشلاً أمياً كما كان من غير تحقيق أي شيء، لذا نراه في النهاية يصرخ كالذبيحة (الواحد منا يسافر.. يسافر، والغربة تفك قيوده، فيتحرر من الطوق.. يكبر ويوعى ويقطع السلاسل.. ولما يرجع لداره.. لناسه، يكتشف الوهم.. الأساور في اليد أقوى من زمان، والطوق على الرقبة أضيق من زمان.. والجذور هنا، الجذور قوية ومادة في الناس).

وفيما بين البداية والنهاية يحدثنا الفيلم ـ بصدق وجرأة ـ عن ذلك التخلف الذي يعيشه مجتمع القرية بجميع أشكاله المتعددة، الاجتماعية منها والاقتصادية، ويحكي كذلك عن مظاهر هذا التخلف المتمثلة في هيمنة الخرافة الكبت بكل الصور والمستويات، والجهل، وازدواجية الإنسان العربي في مواقفه وعلاقاته، وكلها مظاهر وظواهر تولد إنساناً عاجزاً ومتخلفاً.  

يحدثنا فيلم (الطوق والإسورة) عن تلك الأسرة الريفية الفقيرة (بخيت البشاري، حزينة، فهيمة) والتي سافر ابنها للسودان ومنها لفلسطين أثناء خدمته بالجيش، فهم ينتظرونه متصورين أن الحل كله في عودته، وهو لا يعود.. يموت الأب وتتزوج الأخت من حداد عاقر (أحمد عبدالعزيز)، وبعد اجتهادات عديدة من الأم تذهب بابنتها إلى المعبد (وهي عقيدة غريبة هناك، واقعها أن رجلاً يقوم بإخصابها فيه).. وتموت الأخت بحمى النفاس بعد أن تضع طفلتها "فرحانة". وتكبر فرحانة حاملة معها سمات التخلف لرمز هام يفتح آفاقاً واسعة للتأمل في كل مقومات ذلك المجتمع وما يمكن أن يولد منه. وبعد ربع قرن يعود الابن الضال مصطفى، لتنكشف من خلاله، حقيقة هذا المجتمع المجدب العاجز عن الإخصاب، حيث نراه في النهاية بثور ويحطم كل شيء.. لينتهي عاجزاً عن فعل أي شيء.

يقول خيري بشارة عن فيلمه: (...الخصوبة هي قلب الموضوع.. نحن غير قادرين على الإخصاب.. لست معنياً أساساً بالعادات والتقاليد بقدر ما أنا معني بالتركيبة العقلية أو الذهنية.. أنا معني بالخصوبة وعلاقة ذلك بالفاعلية والقدرة على التغيير. فالفيلم يتحدث عن فقدان الخصوبة الإنسانية...).

ولكي يؤكد خيري بشارة رؤيته هذه فهو يلجأ إلى تجسيدها في أكثر من موضع وبأشكال مختلفة. فنحن نصادف حالة العجز هذه، سواء جنسياً أو اجتماعياً، عند الحداد العاقر، عند مصطفى الذي يطلق زوجته الشامية لأنها لم تنجب له ابناً، وهو العاجز أيضاً عن فهم ما يدور حوله، نصادفها أيضاً عند الأم حزينة العاجزة عن إنقاذ حفيدتها، وعند ابن الحداد العاجز عن امتلاك فرحانة فيقتلها، عند المدرس العاجز عن تغيير الخطأ.

فيلم (الطوق والإسورة)، بشكل عام، لا يعتمد على الحبكة الخيط الدرامي الواحد، وإنما يعتمد أسلوب التفاصيل والمواقف والحالات العديدة، وبذلك لا يهتم بعرض تطور الشخصيات وتصوير مراحلها التاريخية، حيث أن القصد من الامتداد الزمني ليس رواية تاريخ بقدر ما هو تجسيد لامتداد سيكولوجية الشخصيات ووعيها ومواقفها، وبالتالي نجد بأن الشخصيات والحالات تتكرر أو بمعنى أصح تتناسخ في شخصيات وحالات أخرى.

ففرحانة هي امتداد لأمها فهيمة وليس هناك مجال للمصادفة أن تمثل الدورين ممثلة واحدة (شيريهان)، وأن تموت الشخصيتان بعد ظهور علامات الخصوبة عليهما. كذلك مصطفى الذي نجده امتداداً لأبيه العاجز والمقعد (يمثل الدورين عزت العلايلي أيضاً)، فمصطفى في النهاية يصل إلى نفس الحالة التي وصل إليها أبوه. وهناك أيضاً ابن الحداد الذي يشكل امتداداً لخاله، فكلاهما انتهى بفعل عنيف، الخال حرق زوجته ونفسه وابن الأخت قتل فرحانة.

هذا التكرار أو التناسخ في الشخصيات إنما يعبر عن حالة الثبات في المجتمع وتوارث القيم والمفاهيم المتخلفة. ثم أن الفيلم بما يقدمه من أفكار وشخصيات لا يطرح حلولاً بل يقدم وجهة نظره القاسية معتمداً على ذكاء المتفرج في اكتشاف الخلل والسعي لتغيير تلك البنية المركبة التي أفرزت وضعاً ونظاماً كهذا.

وبعيداً عما ذكرناه عن الطرح الفكري، فالفيلم يقدم مستويات فنية راقية في مجمل عناصره، حيث نجح المخرج في إدارته للممثلين واستطاع أن ينتزع منهم طاقات أدائية مدهشة بدون استثناء. كما برع مدير التصوير طارق التلمساني في تجسيد جماليات بصرية رائعة جاءت كنتيجة حتمية للاختيار الموفق لمواقع التصوير وزوايا الكاميرا وحركتها. أما بالنسبة للمخرج خيري بشارة، فقد نجح في تحقيق إيقاع بطيء وهادئ يتناسب وموضوع الفيلم وزمانه.

وأخيراً، لا بد من القول بأن (الطوق والإسورة) فيلم سيظل علامة هامة ليس بالنسبة لمخرجه وحسب، وإنما بالنسبة لتاريخ السينما المصرية.

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004