|
محمد قناوي يكتب:
جلسة شريف عرفة في الجونة درسًا في التواضع والصدق الفني
الجلسة الحوارية للمخرج شريف عرفة أمس بمهرجان الجونة
السينمائي في دورته الثامنة، حملت الكثير من الصراحة والعمق، وفيها استعاد
المخرج الكبيرمسيرته وتجربته السينمائية، متأملاً معنى الفن وجدواه في زمن
السرعة والتقنية، ومؤكداً أن السينما الحقيقية لا تقاس بعدد اللقطات ولا
بحداثة الكاميرات، بل بصدق الإنسان أمام العدسة.
الجلسة أدارها الفنان والكاتب عباس أبو الحسن كانت بمثابة
حوار مفتوح بين جيلين من السينمائيين،وجاءت لتعيد تعريف العلاقة بين الفن
والإنسان، الصورة والمعنى، التقنية والمشاعر.
منذ الدقائق الأولى، أعلن شريف عرفة موقفه الحاسم: «الناس
بتتفرج على الممثل مش على تكنيك المخرج». جملة تختصر فلسفة مخرج يرى أن
جوهر السينما هو الوجه الإنساني، لا العدسة أو المؤثرات، فهو لا يقدّس
التقنية، بل يستخدمها كأداة تخدم المشاعر. ويرى أن نجاح الفيلم لا يُقاس
بحجم إنتاجه أو جودة صوره، بل بقدر ما يلمس المتفرج ويعيش في وجدانه.
هذه الرؤية تعيد الاعتبار للممثل ودوره كمحور التجربة
السينمائية. لذلك، يكرر عرفة أن «المخرج الذي لا يحب الممثل لا يجب أن يعمل
في السينما»، وهي عبارة تعبّر عن تواضع الفنان أمام شريكه الإبداعي، وعن
إيمانه بأن الكاميرا بلا روح إذا غاب عنها صدق الممثل.
وحين تطرّق إلى بعض محطات مشواره، كشف شريف عرفة كواليس من
أفلامه الشهيرة، مؤكداً أن فيلم"الناظر" مثلاً كان تجربة "شاقة وصعبة" من
حيث تعدد الشخصيات والظروف الإنتاجية، ومع ذلك ظلّ واحداً من أكثر الأفلام
التصاقاً بذاكرة الجمهور، أما في" الجزيرة والكنز وطيورالظلام"، فقدّم
نماذج إنسانية شديدة التناقض، لا تقدّم وعظاً مباشراً، بل تضع المشاهد أمام
مرآة الواقع، ليحكم بنفسه.. هنا تتضح فلسفة عرفة في السرد: لا قضية جاهزة،
بل معالجة إنسانية تتخلّق داخل الصورة، فالقضية عنده ليست شعاراً يرفع، بل
تجربة تعاش.
يرفض شريف عرفة تصنيف أفلامه ضمن “السينما ذات القضية”،
مؤكداً أن الفيلم الناجح ليس بالضرورة أن يحمل رسالة مباشرة، بل أن يمسّ
المشاعر ويفتح باب التساؤل. يقول:"لوعندك قضية ممكن تكتب عنها مقال، لكن
الفيلم لازم يعيش بالمشاعر"، هذا التوجه لا يعني تنكراً للقضايا العامة، بل
هو دعوة لتحرير الفن من الخطاب المباشر، ومن تحويل الفيلم إلى منبر،
السينما عنده لغة بصرية وموقف وجداني، تُبنى بالصورة والإحساس لا بالبيان
أو الشعارات.
رغم رفضه تقديس التقنية، لا يقلل عرفة من شأن الصورة
السينمائية. بل يراها شرطاً أساسياً للمعنى: "الفيلم يفقد معناه إن لم
يُقدَّم بمستوى بصري يليق به"، إنه بذلك يرسم معادلة دقيقة بين الشكل
والمضمون، بين الفن كمتعة بصرية والفن كقيمة فكرية. فالصورة الجميلة، في
نظره، لا تبرر خواء الفكرة، كما أن الفكرة العظيمة لا تنجو دون حسٍّ بصريٍّ
راقٍ.
كان لافتاً حديثه عن الفنان الراحل أحمد زكي، الذي وصفه
بأنه"لم يكن أباً عظيماً في حياته، لكنه عاش الأبوة على الشاشة بصدق"، هذه
الجملة تكشف وعي عرفة بطبيعة الأداء التمثيلي كتحوّل وجودي، لا تقليد
واقعي، فالفنان، كما يرى، يستطيع أن يُعيد خلق ما لم يعشه، وأن يُقنعنا بما
هو أكبر من تجربته الشخصية. وهنا تكمن عبقرية المخرج في اكتشاف تلك المسافة
بين الواقع والخيال.
في ختام الجلسة، قدّم عرفة ما يشبه الخلاصة الفلسفية
لمسيرته: لا يخطط طويلاً، بل يترك أفلامه تولد من الإحساس، فالخيط الذي
يجمعها – كما قال – هو"الحلم"، هذه العفوية ليست ارتجالاً، بل انحيازٌ
للتجربة الإنسانية المتجددة، فهو لا يرى السينما مشروعاً مغلقاً، بل حواراً
دائماً بين المخرج والجمهور، بين الواقع والحلم.
جلسة شريف عرفة في مهرجان الجونة كانت درساً في التواضع
والصدق الفني..لقد قدّم خلالها مرافعة بليغة عن الإنسان كجوهر السينما،
ودعا إلى إعادة الاعتبار للحسّ الإنساني في زمن يطغى فيه الشكل على الروح.
فبينما ينشغل كثيرون بتقنيات الكاميرا، كان عرفة يذكّر
الجميع بأن السينما في جوهرها ليست شاشة تُشاهد، بل مرآة تُحِسّ |