|
يُنافس ضمن مسابقة «الجونة السينمائي»
..
مراجعة فيلم | «رائحة أبي ـ كولونيا» لـ محمد صيام
الجونة ـ خاص «سينماتوغراف»
تبدأ أحداث فيلم "رائحة أبي ـ كولونيا"، المشارك في
المسابقة الرسمية للدورة الثامنة لمهرجان الجونة السينمائي، برجل مسن مصاب
بسرطان في مراحله النهائية، دخل في غيبوبة منذ ستة أشهر، وخرج لتوه من
المستشفى (أو كما وصفه أحد المتسولين "المدمنين" في أحد المشاهد، عاد من
العالم الآخر).
ثم يقضي الرجل المسن يومه الأول خارج المستشفى مع ابنه
الأصغر مدمن المخدرات، ليموت في اليوم التالي.
الأخ الأكبر (علي، الذي يؤدي دوره عابد عناني)، يُلقي
باللوم على الأخ الأصغر (فاروق، بطل الفيلم، الذي يؤدي دوره أحمد مالك)،
بعنفٍ وقسوة.
قد تُقنعك تعابير مالك وأفعاله وكذلك ردود أفعاله بأن
الشكوك ليست بلا أساس. ومع ذلك، حتى لو لم يكن فاروق موضع شك، فهو آخر من
رأى الفقيد.
يتبين أن هذه المقدمة هي لمحة سريعة، حيث يكشف الفيلم بعد
ذلك عن أحداث تلك الليلة الأخيرة بين فاروق ووالده، على وقع مناظر
الإسكندرية الخلابة والحالمة.
وبمصاحبة موسيقى تصويرية من الأغاني المصرية الكلاسيكية
وموسيقى إلكترونية هادئة، يُثير الفيلم أجواءً من الحنين إلى الماضي.
أول ما يلفت الانتباه أثناء مشاهدة فيلم "رائحة أبي ـ
كولونيا" هو مدى ضجر الجميع وعدائهم الصريح. من الأخوين إلى الأب، يتفاعل
الجميع مع بعضهم البعض بعدوانية، حتى في المزاح والسخرية. يكسر فاروق
مرآتين في مشهدين مختلفين. من الواضح أن الجميع قد تحمّلوا هراء بعضهم
البعض لفترة طويلة، ويقولون ذلك لأنفسهم.
يكاد هذا يُعوّض عن كل المشاعر المكبوتة وكل ما يُهمل في
العديد من أفلام السينما "المستقلة" المصرية.
لذا، يمكن القول إن فيلم "رائحة والدي ـ كولونيا" يبدو
وكأنه فيلم لجون كاسافيتس، أو بالأحرى، انطباع جيد بما يكفي لمخرج يقدم
عمله لأول مرة.
يُعتبر الفيلم محدود، مكانيًا وزمانيًا (لدرجة أن المتفرج
يصبح على دراية تامة بالشقة الرئيسية التي تدور الأحداث داخلها في الغالب،
ويعرف الجغرافيا والديكورات، ولكنه سيفتقد المكان بمجرد انتهاء الفيلم).
الأهم هو أن عواطف الشخصيات بعيدة كل البعد عن أن تكون
محدودة، حيث يحاول العمل إظهار كل المشاعر تحت الشمس (الغضب، والتأمل،
والسلام، والمرح، والغرابة، والكآبة، والتطهير)، فهو يختصر سنوات أو عقودًا
من القصص الخلفية، أو المشاعر، أو الذكريات في مشهد حوار مطول تلو الآخر.
هذا يُجدي نفعًا في الغالب. حيث يتمتع الفيلم بجرأة وعمق
كافٍ يجعلان هذا النوع من الأفلام التأملية الغنية بالحوارات ناجحًا.
حتى عندما ترتكب الخطيئة التي غالبًا ما تصاحب هذه
الطموحات: يبدو الحوار أحيانًا مُصطنعًا وغير طبيعي، جميع الحوارات في جميع
الأعمال الروائية هي في النهاية أداة للكاتب لنقل المعلومات، لكن أفضل
الكُتّاب يجعلونها تبدو طبيعية ومرتبطة بالشخصية في هذا الموقف تحديدًا.
لحسن الحظ، ينجح الفيلم في عرضه وتحولاته العاطفية القاسية،
بحيث يكون لكل شخصية في النهاية صوت فريد. ويعود ذلك إلى أجواء الفيلم
القوية وإخراج محمد صيام القوي والصادق، وبالطبع إلى الممثلين.
يقدم مالك أفضل أداء له في الفيلم، فأسلوبه في التمثيل يجعل
شخصيته الأكثر تكاملاً، ويضفي الممثل الفلسطيني المخضرم كامل الباشا الكثير
من العاطفة والكاريزما على دوره. حتى عندما يكون حواره أسوأ قليلاً ولا
يبدو ولا يشعر بالمرض والموت كما يُصر الحوار، وكانت مايان السيد مفاجئة
بأداء متميز.
الفيلم مُتمردٌّ بمهارةٍ وتلقائيةٍ وإثارةٍ للاهتمام في
جوانبَ عديدة، وكان التصويرُ الأكثرُ تعاطفًا لتعاطي المخدرات في أيِّ
فيلمٍ مصري، ربما يُضاهي روايةَ "ثرثرةٍ على النيل " لنجيب محفوظ، ولكنه
يبدو أكثرَ هشاشةً وفهمًا.
وتُعدّ شخصية دينا ماهر إضافةً مثيرةً للاهتمام، إذ تُنسجم
مع موضوعي الفيلم، القمع وتقديم الذات.
كما أن النهاية تُقدّم قرارًا بشأن شخصية، وهو تصويرٌ مثيرٌ
للاهتمام لموضوعٍ أيضاً مثيرٍ للجدل، يُقدّمه الفيلم دون إصدار أيّ أحكام
على الآخرين.
فيلم "رائحة أبي، (العنوان بالإنجليزية) ـ كولونيا، العنوان
باللغة العربية"، يعكسان إجمالاً رائحة العطر التي يرشها الابن للتخلص من
رائحة الأب المزعجة عقب عودته من الغيبوبة، ليبدو العمل رغم شخصياته
القاسية، اشبه بمحاكمة بين ابن غير مستوعب، وأب قاس يبث كراهيته تجاه الابن
عبر ساعات ليلته الأخيرة. |