كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

في عشرية رحيله..

يوسف شاهين تاريخ حافل بالحب والمشاكسة والفن والغضب

بقلم ـ عماد النويري

عن رحيل

يوسف شاهين

   
 
 
 
 

رحل يوسف شاهين، وقبلها رحلت ذاكرته، وغاب عن الوعي في مشهد سينمائي مؤثر لا يختلف كثيراً عن المشاهد التي حفلت بها أفلامه. بقي شاهين لمدة شهر غائباً عن الوعي وكأن وعيه يرفض أن يغيب. انتهى صراعه مع نفسه بعد صراع طويل مع الأحباب والأصحاب والأصدقاء والأعداء والبسطاء والحكام.

وفى مثل هذا اليوم 27 يوليو 2008 غاب أخيراً عن الوعي بشكل رسمي أعلنته الحكومة وأعلنته السماء. غاب واحد من أهم المخرجين العرب الذين أقاموا الدنيا وشغلوا الناس. وسواء شئنا أم أبينا.. وافقنا أو ترددنا، فإن يوسف شاهين –  نعيد ونؤكد كما يعيد ويؤكد كل من أحب سينماه –  هو الأب الروحي للسينما العربية الحديثة، والمؤسس لهذه السينما على مستوى المضمون والشكل.

هو المتمرد ضد جميع أشكال القهر، والمؤسس لسينما الأنا التي تطرح مشاكلها الذاتية الفردية وتحاول أن تتواصل مع الأخر من خلال صدق المكاشفة، وتعانق حين تنطلق متحررة من أسرها الوجود كله. السينما التي قدمها لنا شاهين عبر أفلامه عالجت كافة الأنواع وتمثل لنا عالماً يلتهم كافة مظاهر الحياة.

قدم لنا الكوميديا في (بابا أمين)، والدراما الاجتماعية في (ابن النيل)، والميلودراما في (نداء العشاق)، والكوميديا الموسيقية في (بياع الخواتم)، والدراما الملحمية في (صلاح الدين)، (المهاجر) و(وداعا بونابرت)، والسينما الحديثة في (الاختيار) والفيلم الوطني في (جميلة بوحيرد)، كما قدم لنا فانتازيا السيرة الذاتية في (حدوته مصرية)، (إسكندرية ليه؟)، (إسكندرية كمان وكمان) و(الآخر)، وفى كل أفلامه كان الموضوع الرئيسي هو الهوية.

إن أية مراجعة بسيطة لأفلام يوسف شاهين ولسينما يوسف شاهين إنما هي مراجعة عكسية في واقع الأمر للتاريخ العربي المعاصر منذ الخمسينات ولغاية يومنا هذا، منذ (بابا أمين) وحتى (هي فوضى).

ويمكن إرجاء التناقض الملحوظ في سيرته السينمائية طيلة السنوات الأخيرة إلى السير المتعرج للعمل السياسي في الوطن العربي الذي خرج إلى العالم بمبدأ تطبيق الوحدة بمثل الطريقة التي أدت إلى نشوء عصر الانفصال، وأخيراً التفتت الموجود في الوطن العربي الذي يعيش أزهى فترات انحطاطه.

أفلام شاهين تحتاج إلى أكثر من مشاهدة لأنها أفلام تحرض – بعد استمتاعنا بقيمتها الفنية العالية وجماليتها الحديثة –على التفكير، وتحثنا على التغيير بجرأة مذهلة، وتعلمنا منظومة من القيم، لعل أهمها قيمتي التأمل والتسامح إذا كان هناك ما يدعو للتسامح.

منذ البداية أدرك يوسف شاهين، المولود عام 1926، إن صنع الأفلام يتطلب جهدا شاقا ووقتا طويلا. ومن خلال رغبته في الخروج من دوائرها التقليدية تمكن من تجاوزها إلى حد كبير.

ويمكن أن نحدد عام 1954 كبداية أول مرحلة جدية خاضها شاهين حين حقق (صراع في الوادي)، بعد أن حقق أفلاماً قد تكون جيدة بالنسبة للسينما المصرية السائدة آنذاك إلا أنها لم تكن هي المرجوة منه، هذه الأفلام كانت (بابا أمين) أول أفلامه عام 1950 و(ابن النيل) 1951 و(المهرج الكبير) 1952 و(سيدة القطار) 1953 و(نساء بلا رجال )1953، و(شياطين في الصحراء) 1954 و(صراع في الميناء) 1956 و(ودعت حبك) 1957 و(أنت حبيبي) عام 1957 ثم (باب الحديد) 1958.

نجاح وشاعرية

سينمائياً كان (باب الحديد) أول نجاح عالمي لشاهين، وإذ ارتبط نضوج شاهين بالمرحلة التي تلت ثورة يوليو بسنوات، فإن هذا النضوج لم يكتمل إلا بعد فترة طويلة خضعت فيها تجربته لظروف التطور الاقتصادي والسياسي مما دفع بأفلامه إلى أن تكون تعبيراً عن واقع الحال. وبعد أربعة أفلام هي (حب العباد) 1959 و(بين ايديك) 1960 و(رجل في حياتي) 1961 و(نداء العشاق) 1961 وبعد خمسة أعوام من (باب الحديد) قدم شاهين عام 1963 (صلاح الدين الأيوبي) أول أفلامه الملونة وأفضل الأفلام التاريخية المصرية، وكانت مصر آنذاك في وحدة مع سوريا وصلاح الدين الأيوبي من أكبر رموز الوحدة العربية.

وفي (فجر يوم جديد) حاول شاهين تقديم الجانب المشرق من الحياة المصرية ثم يرحل إلى لبنان قبل هزيمة 67 بعامين ليقدم أول أفلام المطربة فيروز (بياع الخواتم) عن مسرحية للأخوين رحباني، ومن بطولة وغناء فيروز، وتكمن أهميته في كونه استفاد إلى حد كبير من أجواء الرحابنة الساحرة وأسس هذا الفيلم لتعامل شاهيني مع الأغنية والموسيقى سوف ينمو لاحقاً في بعض مشاهد (عودة الابن الضال) ثم (رمال من ذهب) عام 1966 الذي صور في لبنان والمغرب واسبانيا، ثم بعد ذلك في (اليوم السادس) و(الآخر) و(المصير)، وفى عام 1970 قدم شاهين فيلم (الأرض) حيث عاد إلى أجواء (صراع في الوادي) واقتبس رواية لعبد الرحمن الشرقاوي أضفى عليها رؤيته السينمائية التي كانت قد ازدادت مع الأيام تميزاً، ليجعل من هذا الفيلم واحدا من أفضل ما انتجته السينما العربية ليس في نظر النقاد  بل في نظر الجمهور أيضاً. وفى العام 1972 ظهر فيلم (العصفور) ليخبرنا أن شاهين يعيش قدراً كبيراً من التشويش، ويملك أسئلة أكثر من الأجوبة، ولأن شاهين أراد أن يقول فيه أشياء كثيرة وعديدة، ظل غامضاً على الفهم لكن كان (العصفور) يمثل حديثاً مهماً عن هزيمة 67، واستقبل حيثما عرض بترحاب شديد. ومن الناحية السينمائية شهد هذا الفيلم تطويرا جديا في استخدام شاهين للغته السينمائية.

لقد كانت أخر عشرين دقيقة من الفيلم من أجمل وأقوي وأصدق المشاهد السينمائية العربية على الإطلاق، وفيها يصور شاهين كيفية وقوع الهزيمة على إفراد الشعب العربي، واكتشافهم حقيقة وقوعهم ضحية لوسائل الإعلام الكاذبة. أن الصدق الذي يختم به شاهين فيلمه في أجواء ملحمية وشاعرية مفعمة بالحماس جاء دليلاً على وعى الفنان لشعبة وقضايا أمته.

وفي العام 1973 قدم شاهين (الناس والنيل)، وكان فيلم الاختيار (1971) بداية مرحلة، ونهاية مرحلة أخرى.. ومنذ فيلم (الاختيار) وشاهين يعلن المرة تلو الأخرى أنه ومنذ كارثة 67: (لم يعد يستطع أن يحكى حدوته، فليس ثمة قصة يمكنها أن تعكس أفكاره ومشاعره على نحو متكامل، وهو يريد أن يعبر بأسلوب خاص ومتحرر من وسائل السرد التقليدية عن رؤيته وإحساسه بالتلاحق السريع للأحداث والتغيرات التي تلحق بالوطن.

في (الاختيار) من الممكن أن تلمس واحدة من أفكار شاهين: فالمظهر النظيف المستقر غالباً ما يخفي مضموناً سيئاً ومتهالكاً، فوراء نجاحات سيد مثقف السلطة الانتهازي سلسلة من الجرائم والخيانات. إن خصوصية هذا الفيلم تكمن – حسب رأينا – في أن شاهين اخرج شريطاً مصمماً تصميماً سردياً على المثال الأوروبي، ينحو فيه منحى طلائعياً، وتتعرج فيه العقدة على النحو الذي تأخذه في الرواية أو في الفيلم البوليسي. وهو لذلك يعتبر فيلماً لا يساير توجهات سوق السينما العربية، الطاغية أنذاك، وبالتالي لا يلبى مطالب الجمهور.

وفي (العصفور) (1972) نجد أن وراء الملصقات والإعلانات الثورية التي ملأت الشوارع والجدران قبل حرب 67 بأيام قليلة، والتي تتحدث عن تماسك الجميع وعن القوة القاهرة التي لن يصمد العدو أمامها نجد إن وراء هذا المظهر جريمة مروعة. كان يوسف شاهين بحسه الفني وبصدقة المفرط في تعامله مع الواقع أكثر الناس تشاؤماً، وكان واقع السبعينيات المضطرب سريع التغير المليء بالصراعات يفرض نفسه بقوة على أفلامه.

منطق كوني

فيلم (إسكندرية ليه؟) (1978) في خط من خطوطه كان امتداداً أصيلاً لأفلام يوسف شاهين رغم ما قيل أيامها أنه مجرد حدوته ذاتية تدور داخل طبقة محدودة وأقلية معينة باعتبار أنه.. (لا يمكن لأحد أن ينكر دور الأقليات التي عاشت في مصر. لقد لعبت هذه الأقليات دوراً مؤثراً في الحياة الاقتصادية والثقافية والسياسية للمجتمع المصري وتصويري لهذا المناخ المنفتح يرد على ادعاءات الصهيونية الخاصة بأن العالم الإسلامي عالم متعصب).

فيلم (إسكندرية ليه؟) والذي قدمه شاهين عام 1978 قابل لأكثر من قراءة وظهر خط جديد في رؤية يوسف شاهين: خط باتجاه التسامح ولا نقول المسالمة قال أيامها (من حقي مناقشة بعض الشعارات والأسئلة التي اطرحها من منطلق كوني شامل)، إن ثمة تحولاً جذرياً تاماً قد مس أسلوب شاهين السينمائي في (إسكندرية ليه؟). فالقلق الدائم الذي نلاحظه يعتري مسيرة تطوره السينمائي ذلك الذي يدفعه دائماً من فيلم إلى فيلم، إلى الإضافة والى توسيع الرؤية، قد أوصل أسلوبه في هذا الفيلم إلى مرحلة كاملة من الممكن أن نسميها بالمرحلة التركيبية وكان لهذه المرحلة أن تلقى بظلالها على أغلب أفلامه اللاحقة.

محاكمة وحسابات

وفي (حدوتة مصرية) (1982) قدم شاهين محاكمة لنفسه وفى (إسكندرية كمان وكمان) 1990 أكد فيه شاهين على المنحى الذاتي والنفسي الذي يتميز بين المراوحة والتداخل بين هموم الوطن ورغبات الفرد الفنان.

وتؤكد الثلاثية على أن شاهين قد تعلم عن طريق ملاحظاته المباشرة التي ميزت أنماط الأفلام التي تتقبلها المهرجانات السينمائية الغربية بعد تجاربه في مهرجان كان مع فيلم (ابن النيل) ومهرجان برلين مع فيلم (باب الحديد) ومع مهرجان موسكو مع فيلم (جميلة).

تحوير وحذف

وفي (وداعا بونابرت) رفض شاهين منطق بكر القائم على الانغلاق والتعصب). وفى فيلم (اليوم السادس) عام 1986 نجد الحضور الطاغي لولع شاهين بالسينما.. وإذا كان شاهين في أغلب أفلامه يهتم بتناول الجنس وتصويره بشتى أبعاده ومستوياته: الواقعية والرمزية، الاجتماعية والسيكولوجية، السوية والشذوذيه، المتحررة والمكبوتة، فإنه في (اليوم السادس) يظهره كعنصر أو محرك أساسي يحكم العلاقات ويحدد توجهات الأفراد. ومن ثم فإن شاهين هو الأكثر جرأة من بين المخرجين المصريين في معالجة موضوع الجنس والأكثر حساسية تجاه هذا العنصر الجوهري منذ (باب الحديد) وحتى أخر أعماله.

ويتناول فيلم (المهاجر) 1994 قصة سيدنا يوسف مع بعض التحوير والحذف والإضافة وهو يذكرنا بملحمته هذه بروائع الأفلام التاريخية الهوليوديه مثل (الوصايا العشر) و(شمشون ودليلة) و(بن هور) وكان من الواضح إن الفيلم يحتشد بأفكار شاهينية خاصة عن التعصب والتسامح والسلطة الدينية والعسكرية لكن كما يبدو فإن تناول شاهين للمجتمع المصري القديم جاء بصورة مسطحة وتبسيطية للغاية وكاريكاتورية في أغلب الأحيان وبما يتناقض مع الأفكار الكبيرة والقيم النبيلة التي مثلها بطل الفيلم.

متناقضات وتكريم

وفي العام 1997 وفى الدورة الاحتفالية لمناسبة مرور نصف قرن على مهرجان كان عرض فيلم (المصير)، وكان الفيلم العربي الوحيد في المسابقة الرسمية للمهرجان، وعبر الفيلم وكعادته دائماً طرح شاهين مجموعة من الإشكاليات والتساؤلات. فإذا كانت الأديان في الأساس جاءت وأحدثت طفرة وقفزات في تاريخ البشرية، فما الذي حدث حتى تستخدم الأديان لإرجاع حركة التاريخ إلى الخلف؟!، وهل هو حتمي أن تصطدم سلطة الفكر في أغلب الأحيان بفكر السلطة؟، ومزج الفيلم في أسلوبه بين عدة متناقضات وأنواع سينمائية في وقت واحد.

وفى هذه الدورة حصد شاهين على أهم جائزة سينمائية في حياته وهي تكريمه وتقدير عن مجمل أعماله السينمائية، ولم يتوقف شاهين بعد أن نال تقدير العالم في مهرجان كان وإنما كان ذلك دافعاً له لتقديم المزيد من النتاجات السينمائية فقدم فيلم (الآخر) عام 1999 وبعدها بعامين قدم (سكوت حنصور) ثم (إسكندرية نيويورك) 2004. و(هي فوضى) عام 2007 مع المخرج خالد يوسف. وغير أفلامه الروائية الطويلة قدم شاهين مجموعة من الأفلام القصيرة وهي (عيد النيترون) 1968، و(سلوى) 1972 و(الانطلاق) 1973 و(القاهرة منورة بأهلها) 1993.

إن الصورة التي قد تحمل، بلا حرج، شيئاً من الادعاء بالنسبة لطبيعة التزامات شاهين السياسية، لا تمنع من القول أن هذا السينمائي ترك في الأذهان انطباع تمتعه بنظرة تقدمية ظلت على يسار المنهج السياسي الدائر ويمكن إرجاء التناقض الملحوظ في سيرته السينمائية طيلة السنوات الأخيرة إلى السير المتعرج للعمل السياسي في الوطن العربي الذي خرج إلى العالم بمبدأ تطبيق الوحدة بمثل الطريقة التي أدت إلى نشوء عصر الانفصال وأخيرا التفتت الموجود في الوطن العربي.

لذا فإن أية مراجعة بسيطة لأفلام يوسف شاهين ولسينما يوسف شاهين إنما هي مراجعة عكسية في واقع الأمر للتاريخ العربي المعاصر منذ الخمسينات وحتى رحيله.

برحيله رحل الابن الضال ليستريح

وبرحيله رحل فنان جرىْ وشجاع.

وفقدت الثقافة العربية الحديثة واحدا من أهم أعمدتها.

وتبقى الذكرى والافكار والصور.

سينماتوغراف في

27.07.2018

 
 

بالتعاون مع مجلة الفيلم

في الذكرى العاشرة لرحيله..

يوسف شاهين كمان وكمان (ملف)

يوسف شاهين مخرج استثنائى، يشكل تجربة فريدة فى تاريخ السينما المصرية، ملهم، كحبة الخردل فهى أصغر جميع البذور التى على الأرض، لكن متى زُرعت ونمت تصير أكبر الأشجار حتى إن طيور السماء تأتى إليها وتحول أغصانها مسكنا لها.. شاهين حبة تبدو صغيرة.. لكنه صار شجرة كبيرة لطيور السماء، إلى الآن تتغذى من ثمارها.

بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل المخرج السينمائى يوسف شاهين، التى تحل اليوم، تنشر «الشروق» ملفا خاصا عن المخرج الكبير، يتناول جوانب مختلفة من سيرته وأعماله، بالتعاون مع مجلة «الفيلم» الصادرة عن «جزويت القاهرة»، والتي يرأس تحريرها الزميل سامح سامي، وتخصص عددها الجديد بالكامل عن يوسف شاهين.

اقرأ أيضا:

في ذكرى رحيله العاشرة.. رئيس أرشيف السينماتك الفرنسى: «يوسف شاهين» إرث للفن والإنسانية

ذكرى رحيل يوسف شاهين.. محمود حميدة: كنت أحتد عليه بكل الحب وكان يسبّنى بكل الحب أيضًا

ذكرى رحيل يوسف شاهين.. يسرى نصر الله: ضحيت بـ3 آلاف دولار شهريا لأعمل مساعدا له بـ30 جنيها

ذكرى رحيل يوسف شاهين.. رمسيس مرزوق: كان يلازمنى فى أول أيام التصوير ثم يقولى «أنا عاوز جَنُّونة»

ذكرى رحيل يوسف شاهين.. عميد معهد السينما: لقاءات القاعة 35 كسرت الحواجز بين الطالب والأستاذ

ذكرى رحيل يوسف شاهين.. يحيى الموجى: منطقه فى إلغاء مقطوعة «مينفعش المزيكا تاكل الحوار بتاعى»

ذكرى رحيل يوسف شاهين.. ننشر نص تسجيلاته النادرة مع يوسف إدريس حول فيلم «حدوتة مصرية»

####

بالتعاون مع مجلة الفيلم

ذكرى رحيل يوسف شاهين.. ننشر نص تسجيلاته النادرة مع يوسف إدريس حول فيلم «حدوتة مصرية»

على مدار 6 أشهر قبل تنفيذ فيلم «حدوتة مصرية»، اتفق الأديب يوسف إدريس ويوسف شاهين، على عقد جلسات عملٍ أسبوعية فى بيت شاهين، واتفقا على أن يكون شكل الكتابة بينهما هو أن يسرد إدريس الحدوتة فى شكل مشاهد متتابعة، وجهاز التسجيل يسجل ما يرويه، ثم يجمع «شاهين» التسجيلات لاحقًا ويكتبها فى شكل سيناريو، ثم يرسله إلى إدريس ليضع وجهة نظره النهائية، وفى السطور التالية ننشر لأول مرة مقتطفات من الجلسات التى عقدها قبل الفيلم.

* شاهينإحنا بنكتب المادة للصورة، إن الأدب والثقافة تكون صورة، انت ككاتب او انا كمخرج.. ازاى نقدر نإسر الناس، ايه رأيك؟.. اللى علينا اننا نبدأ بيه كأسلوب، يحتاج أى مشهد جميل زى ما انت بتخش، وقدامك الناس والكاميرا.

إدريسالكشاكيل اللى كانت هنا لقيت فيها شوية تجارب تبتدى من نقطة البداية.

شاهينكويس جدا

ادريسلقيت فيه واحد بيتألم على سرير.. بيدخل مستشفى مريحه هادية، زى مستشفى فى لندن، ودكتور مهم ذو شخصيه هامة، مش زى أى كومبارس وبابتسامة.. بيقوله: اسمك إيه؟ ورد المريض عليه انت مش عارف اسمى يا دكتور؟ انا عايزك تقولى اسمك ايه؟

شاهينالمهم يعنى قاله على اسمه، فبيقوله: ممكن تستحمل تاخد حقنة فى الوريد؟ فقاله: لا أنا مش هستحمل.. لأ إنت هتخاف.. قاله لأ.. أخاف إيه.. أنا أخاف؟ طب تعرف تمسك ايدك علشان أديلك الحقنة؟ فجه يمسك إيده.. معرفش يقبض على ايده، ف بتدخل اتنين، واحدة منهم راهبة، من شكلها يبان إنها من طبقه عالية، ومعاها ممرضة اخرى، يعنى فقيرة.

فلقى الراهبة بتقوله أمسك أنا إيده أحسن.. فقولتلها: يعنى تقدرى تمسكيه فى دراعه ماسكة جامدة؟.. قالتله آه.. فمسكت دراعه بتقول ان المادة اللى أنا باديهالك عايزه أشوف تأثيرها إيه اسمك مثلا.. اسمه كان ثلاثى.. أدهم محمد الشرقاوى فالراجل بيجيب عرق.

إدريسما اعرفش ليه المخرجين عندكم يخافوا انهم يحطوا الابرة فى العرق، مع إن ده شىء طبيعى، كل الناس أخدت حقنة قبل كده، وبيحطوا الإبره فى الوريد، وابتدى يدخل أول سن فى الوريد.. فلقيته بينطق كويس أوى: مــمــمــمحمد اــاــاــال، لا استنى.. وتبتدى تتحول الاوضة إلى نوع من الدوامة الأرضية..

شاهيندوامة ارضية زى إيه؟

ادريسزى نقرة كبيرة أوى، وحواليها جبل، قمة من التلج الابيض.. وبدأت تلف والتلفزيون هنا يبتدى يتحول.. وده كله بياخد المسافة، كلمة الشرقاوى بتتحول من حروف وأصوات، فى مزيج من الدوامة الصوتية السمعية الموسيقية، وفى صمت كامل لمدة 6 ثوانى، وآخر حاجة تسمعها اخخخخخخ.. الدكتور بيبص وحط ايده فى جنبه وبيقول للممرضة، خدوه على التروللى.. ويطلع فى الممر، إحنا فى قسم العمليات.. حركه جامدة، وكل حاجة نضيفة.. وهمس بين الحكيمة والراهبة، بتقولها: بره فيه اكتر من ميت صحفى، قلتلها أوعى حد يهوّب من دول هيدخلوا عليكى متخفيين، الكل منتظر العملية.. لأن واضح إن الراجل ده مهم جدا.. واخد بالك؟ إزاى أنا حاسس إن الراجل إللى انا جايبه فى القصة، عملته عالم مصرى اكتشف اكتشاف خطير اوى فى العلم.. وبعدين لما حب يجرى عملية جه مصر، علشان يعملها ودى كانت ظاهرة استرعت الانتباه..

شاهينجه فين..؟

إدريسجه مصر، علشان يعملها.. يعنى الكلمة اللى إحنا قلناها إحنا الاتنين، لما حبينا نعمل عملية، أنا قلت ان ده جاى مصر، علشان احساسه فى مصر، أضمن.. وبعدين اذا مات.. برضه يموت هنا.. يعنى ان مصيره و قدره فى الرأى العام المحلى.. وبعدين بنشوف الجراح بيتكلم مع الطبيب عن احتمالات خطورة العملية.. وبعدين نخش على الاوبريت.

بعد مناقشات طويلة، يتابع إدريس: أنا بقولك فيه توازن لازم نعمله.. إنت قلت كلمة مهمة جدا فى بداية كلامك.. قلت: عايز أصحى المتفرج.. فاتصور انك بتعمل سيمفونية.. يعنى ممكن تكتبها زى السيمفونية الخامسه لبيتهوفن.. فلابد إننا نحدد النغمة إللى إحنا هنبتدى بيها.. لأن ده مهم أوى.. أصل الحوادث دية جاية كلها سواء فى الأول أو فى الآخر.. يعنى مثلا، وانت بتتكلم.. أنا قلت، بدل ما نكتب إن ده راجل عالم عظيم.. طب وليه ما جبش انا جايزة نوبل؟ بتسلمه جايزة نوبل، وفى اللحظه اللى بتسلمه فيها الجايزة يشيلوه على المستشفى.. فيحسوا إن ده مهم.. أنا هدفى من هذا الإحساس.. إن هذه اللقطة الأولى، تأكيد أهمية هذا العيان فقط.. وبعدين هاعيش معاه، يعنى هافضل عايش معاه ساعتين.. فهل هبتدى بالسيمفونية الخامسة ولا هبتدى بالتانية؟

شاهينأنا رأيى التانية.. والتانية مصرية زيادة..

إدريسأنا بقولك إن إحنا بنتناقش..

شاهيندى آراء.. وده اختيارى.. وحاسس بيه وأنا بكلمك.

####

بالتعاون مع مجلة الفيلم

ذكرى رحيل يوسف شاهين.. يحيى الموجى: منطقه فى إلغاء مقطوعة «مينفعش المزيكا تاكل الحوار بتاعى»

عملت فى تأليف الموسيقى لأكثر من فيلم، لكن العمل مع شاهين كان مختلفًا، هو أكثر المخرجين الذين قابلتهم فهمًا لتفاصيل الموسيقى التصويرية.

كان عملى يبدأ بعد انتهاء تصوير الفيلم، أشاهد النسخة مرة واثنتين وثلاث، وبعدها نبدأ فى النقاش، يدلى فيه شاهين بملاحظاته: «هذا المشهد يحتاج إلى موسيقى، وهذا لا يحتاج»، لكنه كان مستمعًا جيدًا، فأحيانًا أقترح ما يخالف وجهة نظره، بإضافة الموسيقى لمشهد يراه هو لا يحتاج، فكان يقتنع، وفى مرات أخرى كان لا يوافق.

أذكر أننا طوال عملنا ألغى لى مقطوعة وحيدة بعد أن بذلت فيها مجهودًا كبيرًا، واستعنت فيها بآلات نفخ وأصوات كورال، كنت أراها جميلةً جدًا، لكنه بعد أن استمع إليها مع المشهد قال لى كلمة واحدة «وِحشة»، فسألته وِحشة ليه؟ ده أنا بذلت فيها مجهود خرافى، فكرر «وحشة» ثم بدأ يفسر.. «المزيكا دى جميلة جدًا، وعشان كده هى وحشة، الناس هتسمع الموسيقى الجميلة وهتنسى الحوار، والحوار بتاعى مينفعش المزيكا تأكله».

كمال الطويل كان قد اعتزل التلحين قبل فترة طويلة من فيلم «المصير»، ولكن يوسف شاهين أقنعه بالعودة لتلحين أغانى الأفلام، وحاول تكرار التعاون معه لاحقًا، لكن الطويل رحل قبل إكمال هذا التعاون، وعكس الشائع، فإن الطويل لم يؤلف الموسيقى التصويرية للفيلم، هو لحن الأغانى وقدم جملًا موسيقيةً، بينما وزعت الأغانى وألفت الموسيقى التصويرية بالكامل.

كان من المفترض أن يغنى على الحجار الأغنيات الثلاث لفيلم «إسكندرية نيويورك» وهى «إنت» و«بنت وولد» و«نيويورك»، والأغنيات من تلحين فاروق الشرنوبى وتوزيعى، لكن يوسف شاهين قرر الاستعانة بصوت فاروق الشرنوبى، ليكون هو صاحب أغنية «إنت» التى صاحبت تترات البداية.. بعد تسجيل الحجار الأغنية بشكل مضبوطٍ وسليمٍ جدًا، لكن شاهين قال: «أنا عايز حاجه بعبلها كده، أنا عاجبنى الإحساس بتاع فاروق أكتر».

يوسف شاهين كان فنانًا شاملًا.. مخرج وكاتب سيناريو ويرقص باليه وملحن أيضًا، المقدمة الموسيقية لأغنية «آدم وحنان» الخاصة بفيلم «الآخر«، هو من ألفها، عزفها أمامى على البيانو وطلب منى أن تكون هى دخول الأغنية التى لحنها فاروق الشرنوبى.

####

بالتعاون مع مجلة الفيلم

ذكرى رحيل يوسف شاهين.. عميد معهد السينما: لقاءات القاعة 35 كسرت الحواجز بين الطالب والأستاذ

«كان شاهين حريصًا على صلته القوية بالمعهد، فبالرغم من انشغاله بأفلامه، فإنه كان يستغل كل فرصةٍ تسنح له للقاء الطلاب فى القاعة 35، فعلاقته بالمعهد بدأت مع نشأته عام 1959 واستمرت حتى عام 1993 كمدرسٍ ومحاضرٍ.

وتشهد قاعة 16 على تصوير فيلم «القاهرة منورة بأهلها» عام 1991، حيث تم تصويره بالمعهد وزواياه واستعان بطلابٍ من المعهد وقدم هذا الفيلم التسجيلى.

كان «شاهين» كثير المشاغل ولكنه كان يحضر دائمًا للمعهد فى يوم الاثنين، حسب وقته، لم يستطع أن يدرس مادةً نظاميةً، لهذا كان يكتفى بمادة تدعى «سمينار» وهى عبارة عن وصفٍ وشرحٍ وتحليلٍ للميزانسين (تكوين المشهد) وحركة الممثل، ولم يعتمد كتابًا بل كان التدريس عمليًا ووصفًا للمشاهد وتمثيلها لتوضيح التأثير الدرامى للحركة وتكوين المشهد ككل، وكيفية تكوين المشهد السينمائى لإعطاء التأثير الدرامى المطلوب منه.

حضرت محاضرات «سمينار» (مادة حرة) لشاهين فى عام 1980، وهو عامى الأول بالمعهد وما لاحظته أنه كسر حواجز الطالب والأستاذ والمسافة التى طالما وجدت بين الطلاب والأساتذة التقليديين، فكان صديقًا للطلاب يقدم العون للجميع ويدعم مواهبهم، وهناك من عمل معه فى أفلامه كمساعدين أمثال دكتور نجوى صابر وغيرها.

كانت له عادةٌ جميلةٌ للغاية، كان يحضر إلى المعهد فى الثامنة والنصف صباحًا، رغم أن المعهد كان يفتح أبوابه من التاسعة صباحًا، لكنه كان يحضر قبل أى فردٍ ويجلس يتحدث مع «عم حمدى» وعمال المعهد ويتسامرون حتى يحضر الطلاب، لم يكن أحدٌ يفوت محاضراته، حيث كانت موسميةً فى أغلب الأحيان، لهذا كان يحضرها الطلاب من جميع الأقسام والدفعات من داخل المعهد وأحيانًا طلابٌ من معهد الفنون المسرحية.

شاهين لم يعتمد نهج التدريس النمطى، ولكنه كان قادرًا على التبسيط والتسهيل للطلاب ولم يك يستعرض قدراته وخبراته، بل أراد أن يستفيد طلاب المعهد من هذه الخبرات لتكوين كوادر، وكان يحضر مع مساعديه، فى البداية كان علاء كريم وبعد ذلك خالد يوسف لنقل تجاربهم، وكان يرحب بالجميع إن رغب فى الانضمام إلى فريقه.

د.محسن التوني

عميد المعهد العالي للسينما

####

بالتعاون مع مجلة الفيلم

ذكرى رحيل يوسف شاهين.. رمسيس مرزوق: كان يلازمنى فى أول أيام التصوير ثم يقولى «أنا عاوز جَنُّونة»

كانت الثقة بيننا قويةً جدًا لدرجة أنه كان يقول لى: «عاوز جنُّونة من جنوناتك»، فهو يفهم فى التصوير جيدا.. وأذكر أنه أثناء عملنا معًا كان يلازمنى فى أول عشرة أيامٍ من تصوير الفيلم ليرى ما أفعله ويحدد لى ما يريده ثم بعد ذلك لا يتدخل أبدًا بل يقول لى: «أنا عاوز جنونة»، وحينما كنت أقول له: «أنت بتصعبها علىّ زيادة، جنونة إيه؟»، يرد: «إعمل ما تريد المهم الجنونة». 

وأذكر أننا فى أحد الأفلام كنا نصور فى «المريديان» على النيل وأراد أن يصور الممر الذى يواجه النيل، وكانت كل الحجرات مشغولة ولا يمكن فتح أى منها ليخرج منها النور لأن الضيوف أجانب وإدارة الفندق لا تستطيع أن تدخل أحد إلى حجراتهم، فجلست أفكر فى طريقة فقال لى بهزار: مش عارف تنوّره؟، ورديت عليه: نوّره إنت، وجلست أتفرج وبعد دقيقتين جاءتنى الفكرة، ولكن انتظرت لأرى ماذا سيفعل، استمر يحاول ثلاث ساعات يركب لمبات وأبولوهات ثم قال لى: أهو صوّر، فقلت له ضاحكا: ما هذا؟ هذا الشغل ينفع فى الثلاثينيات عندك، أنا لا أضع اسمى على هذا العك، وضحك ونفذت فكرتى البسيطة وهى إنى غيرت لمبة السقف من 20 وات إلى 150 وات.

فى أحد الأفلام حدث خلافٌ بيننا فاستعان بمدير تصوير فرنسى بدلا منى، لكنه تركه وعاد ليعمل معى وأرسل لى خالد يوسف ليقول لى: كلم الأستاذ واعتذر له فذهبت له ووجدته هو الذى يعتذر لى، فقلت له: كل واحد له وجهة نظره وأنت كانت وجهة نظرك المصور الفرنسى فرد: لأ ده زفت.

####

بالتعاون مع مجلة الفيلم

ذكرى رحيل يوسف شاهين.. يسرى نصر الله: ضحيت بـ3 آلاف دولار شهريا لأعمل مساعدا له بـ30 جنيها

* ذات مرةٍ كان يختبر ممثلةً ناشئةً وطلب منى أن أظل موجودًا لأخبره رأيى فيها وسجلنا معها 11 مرة وعندما سألنى قلت: مش مصدقها، فانفجر فى: إنت حمار كل ممثل عنده حدود وهى كده كويسة. تركته وأنا أشعر بقهرة.

لم يكن بينى وبين شاهين احتكاكٌ كبيرٌ كالمجموعة القريبة منه التى تضم أحمد محرز وخيرية عباس وغيرهما، هو كان مليان ناس وأنا بعيد، بعد عشرة أيام سمعت صوته يزعق فى أول البلاتوه: هاتوا لى الولد اللى بيشتغل فى لبنان ده، وقال لى: قف معى حتى ترى أنه حتى «نور الشريف» عنده حدود، وأذهلنى إنه افتكر إن فى شاب يريد تعلم السينما فينادى عليه ليرى ويفهم.

* اضطررت لعدم البقاء حتى ينتهى التصوير وعدت لبيروت وطلبوا منى عمل فيلم عن المقاومة الفلسطينية وعدت إلى مصر مرة أخرى سنة 1982 وزرت «شاهين» وقال لى: تعالى اشتغل معى وسأعطيك 30 جنيهًا فى الشهر، ووقتها كنت أحصل من جريدة السفير على 3 آلاف دولار فى الشهر، وفورا قبلت العرض وصفيت كل شيء فى بيروت وعدت للقاهرة لأجد يوسف شاهين قد اختفى، وبعد فترة عرفت إنه فى أربعين «جان خورى» والد ماريان فقررت أذهب للتعزية وبالمرة أقابله ومددت يدى لمصافحته فسألنى: إنت مين؟

* يوسف شاهين بالنسبة لى أستاذى فبعد عملى مساعدا أول معه فى «وداعا بونابرت»، كتبت فيلمى الأول «سرقات صيفية» ورفض ممثلون كثيرون العمل فيه منهم يسرا وعزت العلايلى فشاهين قال لى: أنت لا تحتاج لأحد.. هذا هو ما علمنى إياه فالتكنيك وغيره نتعلمه ونحن نتفرج على الأفلام، لكن شاهين علمنى إنه لابد أن أحب الممثل.

* كان يقول لى أنت تقنيًا هائلٌ، لكن لا تعرف عمل المعادلة، وكان يرى أنه من الجنون أن أعمل فيلمًا بطولة «باسم سمرة» لأنه ليس نجمًا، كان دقةً قديمةً يرى أن الممثل لابد أن يكون حصل على تدريب المعهد وتقاطيعه تعدى، ولا يصح أن تستعين بممثلٍ ملامحه عدوانية وليس وسيمًا بالمعنى المتعارف عليه.

* أوقف «شاهين» عرض فيلم «المدينة» فترة طويلة وكان غاضبًا بشدة منى وقتها، وكان فى ذلك الوقت يتردد على دكتور سمع صديقى فى ألمانيا واشتكى له قائلًا: يسرى خسرنا عدة ملايين وأنا غضبان عليه، فرد صاحبى أنه أنا من أحضرت تمويل الفيلم فقال: لكن لو وضعت الفلوس فى فيلم «عِدل» كنا كسبنا.

####

بالتعاون مع مجلة الفيلم

ذكرى رحيل يوسف شاهين.. محمود حميدة: كنت أحتد عليه بكل الحب وكان يسبّنى بكل الحب أيضًا

دعانى شاهين لاجتماع، ولم نكن على معرفة ببعضنا البعض، كنت ما زلت فى بداية مشوارى الفنى، وقال لى إنه يخاف من النجوم الجدد، ومن غرورهم، ومنى أنا؛ لأنى أبدو أكثر تعاليا منهم، فبادلته القول بأننى أيضًا لا أحبه؛ لأننى لا أفهم أفلامه وهذا يشعرنى بالغباء، وهو شعور لا أحبه، فضحك وسألنى عن الأجر الذى أريده، فأخبرته بأننى لن أتقاضى أجرًا، فأخبرنى بأنه يرفض ذلك لأنه لا يحب أن يضحى أحد لأجله، ولكنى أخبرته بأننى لا أضحى عندما أفعل ذلك، لأننى سأتعلم من خلال العمل معه، أو كما يقول فؤاد حداد «مفيش حياة الا عند غيرك تعيش فى خيره ويعيش فى خيرك».

وبالفعل اتفقنا على أجر زهيد، وباشرنا العمل فى البروفات، وكان الفيلم هو «المهاجر»، وبرغم صغر دورى، فإننى أمتلك أصولًا للتمثيل، وللعمل، وكان لابد من توضيح هذه الأشياء لشاهين بالطبع

«بص لى فى عينى» هكذا قال، فكان ردى «لأ، بص أنت فى ودانى» فسألنى عن مقصدى، فأخبرته بأن يخبرنى بما يريدنى أن أفعله، ففعل، ثم طلبت منه أن يذهب خلف الكاميرا وأنا سأقوم بالتركيز لثوان، وعندما أهز رأسى فهذا يعنى أننى جاهز.. كنت أقوم بدور ميناهار بينما يدخل المعبد ليقطع رأس التمثال الكائن خلفه، وكان من المفترض أن أقذف التمثال بالسيف، وكان من الصعب أن يتم تصوير المشهد من أول مرة، لكن وعلى عكس المتوقع، سارت الأمور على ما يرام، ووافق شاهين على المشهد، واستمرت علاقة التوجيه الدرامى بيننا على هذا الأساس، شاهين يخبرنى بما يريد، وأنا أركز وأنفذ ما يطلبه.

لم يفرض أحدنا طريقته على الآخر، واختلافى معه أدى إلى نتائج جيدة. هذا الاختلاف أستطيع أن أشبهه باختلافى مع أبى على بيع قطعة من الأرض، ولهذا كنت أحتد عليه بكل الحب، بينما كان هو يسبنى بكل الحب أيضًا.

####

بالتعاون مع مجلة الفيلم

في ذكرى رحيله العاشرة..

رئيس أرشيف السينماتك الفرنسى:

«يوسف شاهين» إرث للفن والإنسانية

* وهبنا مجموعته السينمائية فى حياته.. وعائلته طلبت المساعدة لحفظ أرشيفه عام 2010

* مهرجان «كان» لعب دورا مهما فى شهرة أفلامه عالميًّا.. وكانت تربطه علاقة قوية بمؤسس السينماتك

* نقيم احتفالية كبرى بمناسبة ذكراه العاشرة تجوب فرنسا وتنتهى فى مكتبة الإسكندرية

* رمَّمنا «المصير» و«وداعا بونابرت».. ونتميز بنسخة حصريّة لفيلم «النيل والحياة»

جميع ملفّاته كانت فى حالة خطرة ومعرّضة للتلف.. وكان هناك حاجة طارئة لنقل أرشيفه إلى فرنسا وإنقاذه

* النماذج الأولية للسيناريو تكشف أنه كان يفكر بالإنجليزية والفرنسية ثم يحول ما يكتب إلى العربية قبل التصوير

لم يكن يوسف شاهين يفكّر باللغة العربيّة، هكذا تقول النماذج الأوليّة للحوارات التى كتبها لأفلامه، والموجودة فى أرشيف السينماتك الفرنسى.. فى بداية دخوله مهنة السينما كان يكتب حواراته وملاحظاته باللغة الإنجليزيّة، وابتداءً من 1984ــ 1985 وبالتحديد مع فيلم «وداعًا بونابرت» وقيامه بإنتاج أفلامه بالاشتراك مع شركات فرنسيّة، بدأت يكتب السيناريو باللغة الفرنسيّة، يأتى الحوار باللهجة المصريّة كخطوة نهائيّة قبل تصوير الأفلام.

يؤكد روبير ريجيس رئيس قسم الأرشيف والبحث فى السينماتك الفرنسى فى حوار خاص بمناسبة الذكرى العاشرة على رحيل «شاهين»، أن السبب الرئيسيّ لاهتمام الغرب بيوسف شاهين، أنه يجيد استخدام الرموز والمصطلحات الغربيّة ويقدّم بواسطتها المجتمع الشرقيّ، فهو يمثّل نافذة حيّة وحيويّة يطلّ من خلالها السينمائيون فى أوروبّا على المجتمع الشرقيّ، وبواسطة انفتاحه وإجادته لاستخدام الأدوات السينمائيّة الغربيّة يمكّنهم أيضا من فكّ شفرة المجتمع الشرقى فى تقاليده وفنّه وأفكاره التى تختلف تمامًا عن المجتمع الغربى.

يقول روبير، إن أرشيف شاهين هو إرث للفنّ والإنسانيّة فى العالم أجمع، والسينماتك الفرنسىّ يعى تماما، الأهميّة القصوى لأعماله بالنسبة للمجتمع المصرى، ويرى أنه من واجبه بل رسالته، مساعدة المصريين فى التعرّف على تلك الأعمال مجدّدًا، وأن يجعلها فى متناول جميع العرب، كما يسعى من خلال مشروع «شاهين» إلى إعادة اكتشاف أعماله وفنّه العظيم وإقامة جسر من خلالها بين السينمائيّين والمثقفّين فى الشرق والغرب.

يوضح روبير، أن عائلة يوسف شاهين جاءت إلى السينماتك عام 2010، لتطلب المساعدة لحفظ أرشيفه الموجود فى شقّته بالقاهرة. تلك الشقة التى عمل فيها من العام 1971، مشيرا إلى أنه كان مرسلا من قِبل السينماتك الفرنسيّ لبحث سبل صيانة هذا الأرشيف وترميمه، لم يكن هذا الإرث عبارة عن أفلام فقط، فقد عمل «شاهين» كرئيس تحرير إحدى المجلات السينمائيّة، وهناك العديد من لحظات التكريم والمقالات التى كُتبت عنه والتى تملأ أرجاء مكتبه.

يتابع روبير: «قضيت سبعة أيّام فى تلك الشقّة، وأستطيع أن أشهد بحضوره الطاغى الذى يملأ أرجاء المكان حتّى بعد رحيله، ولكن أرشيفه كان يعانى، السيناريو والأفيشات والصور والأكسسورات، جميع ملفّاته كانت فى حالة خطرة ومعرّضة للتلف، ذلك لأنّ شاهين كان مدخّنًا شرهًا وسبّب تدخينه خطرًا على هذه الملفّات، كما قمنا بزيارة «بهنا فيلم» فى القاهرة وهى أوّل شركة إنتاج تعامل معها فى بداية مشواره، وهناك اكتشفنا كنزًا من أرشيف الأفلام الغنائيّة التى أغنت تلك الثقافة على مرّ العصور».

يؤكد رئيس أرشيف السينماتك، أنه كانت هناك حاجة طارئة لنقل أرشيف شاهين إلى فرنسا، لإنقاذ إرثه طبقًا للتخصّص والخبرة، والسعى بالتعاون مع ابنة اخته لتحليل وصيانة هذا الإرث الفنّيّ الضخم، وبدأ العمل بالفعل منذ 2010، لذلك كان من الطبيعى فى الذكرى العاشرة لرحيل «شاهين»، أن يقيم السينماتك احتفاليّة لتكريم اسمه وفنّه، وهناك العديد من اللقاءات التليفزيونيّة التى سجّلتها معه وسائل الإعلام الفرنسيّة المختلفة، منها لقاء مسجّل سيتم الاستعانة به فى الاحتفالية، وهو عبارة عن زيارة خاصّة لمكتبته ويتحدّث فيه بصورة رائعة عن الأدب وغيرها من الموضوعات.

يضيف روربير، أن أكثر ما يشغلهم، هو دعوة الباحثين العرب المقيمين فى باريس إلى زيارة السينماتك من أجل اكتشاف هذا الإرث، وزيارة المعرض الطويل ليوسف شاهين فى الفترة من 14 نوفمبر 2018 إلى 28 يوليو 2019، كما أن هناك la Retrospective du Film وهو «الأفلام المعروضة بأثر رجعيّ» ما بين نوفمبر وديسمبر، والتى ستجوب فرنسا بالكامل، قبل أن تصل مكتبة الإسكندريّة، بالإضافة إلى احتفاليّات فى المركز الثقافيّ الفرنسيّ فى القاهرة والإسكندريّة واحتفاليّة بانوراما السينما الأوربيّة التى ترعاها أسرة يوسف شاهين نفسها.

أما فيما يتعلق بمعرض المانحين La Galerie des donateurs، فهو مساحة من متحف السينما مكرّسة للمانحين الذين أغنوا عمل السينماتك بدعمهم، فهو نشاط لتكريم الأشخاص الذين وهبوا إرثهم السينمائيّ الشخصيّ للسينماتك الفرنسيّ، وهذا ما حدث مع يوسف شاهين الذى وهب فى حياته مجموعته السينمائيّة من الأفلام لمركزين للسينما: السينماتك فى الجزائر وفى باريس، والسينماتك الفرنسيّ يتميّز بنسخة حصريّة ووحيدة لفيلمه «النيل والحياة» والتى أنقذها، كما رمم أيضا فيلم «المصير» وعرضه فى مهرجان «كان» الذى لعب دورا مهما فى جعل سينما يوسف شاهين معروفة عالميًّا، كما قام أيضا بترميم فيلم «وداعًا بونابرت» قبل عامين.

وختم روبير حواره، بالحديث عن العلاقة القوية بين شاهين وهنرى لانجلو مؤسس السينماتك الفرنسىّ، والتى كشفها فى فيلم «حدوتة مصريّة»، إذ تظهر شخصيّة لانجلو فى أحداث الفيلم الذى يمثّل سيرة ذاتيّة لشاهين.

الشروق المصرية في

27.07.2018

 
 

طارق الشناوي لـ"مصراوي":

يوسف شاهين هدّد "الرقابة" لتفرج عن "هي فوضى"

كتب- بهاء حجازي:

في مثل هذا اليوم قبل 10 أعوام، رحل عن عالمنا المخرج العالمي يوسف شاهين، بعد مشوار طويل في عالم الفن، وفي ذكرى، ننشر كيف نجح في الحصول على موافقة "الرقابة"، على عرض فيلمه الجريء "هي فوضى".

قال الناقد طارق الشناوي إن الرقابة اعترضت على فيلم "هي فوضى" للمخرج يوسف شاهين والمخرج خالد يوسف، من تأليف ناصر عبدالرحمن، الأمر الذي أزعج "جو" جدًا.

وأضاف الشناوي في تصريحات خاصة لموقع "مصراوي": "شاهين هدد أن يقوم بربط نفسه في عمود أمام مجلس الشعب إذا لم يتم الموافقة على سيناريو الفيلم لذا رضخت الرقابة ليوسف شاهين ووافقت على الفيلم بالرغم من جرأته".

ويرى الشناوي أن فيلم "هي فوضي" به 90 % من روح خالد يوسف و 10 % فقط من روح يوسف شاهين، بسبب الظروف الصحية التي كان يمر بها أثناء التصوير.

"هي فوضى" بطولة خالد صالح، منة شلبي، هالة صدقي، يوسف الشريف، ماهر عصام، درة، هالة فاخر.

موقع "مصراوي" في

27.07.2018

 
 

سامح سامي يكتب: شاهين.. حبة الخردل

افتتاحية العدد التذكاري عن يوسف شاهين

“أنا لا أرغب أن تكون أفلامي نوعا من المخدر الذي يسلي الجمهور لمدة ساعتين، ولكن ما أسعى إليه من خلال أفلامي أن يخرج المتفرج من صالة العرض وفي ذهنه تساؤل هو ماذا يريد أن يقوله هذا الرجل؟ هذا السؤال ما أبحث عنه في كل عمل أقدمه، فأنا رافض تماما عمليات غسيل المخ التي يتعرض لها جيل كامل حتى يصير الشخص مستعدا لقبول أي فكرة أو تنفيذ أي تصرف يطلب منه دون تفكير. لذا فقد أصبحت أتوقع الهجوم في أي وقت وعلى أي عمل أقدمه، ويبدو أن المسألة لم تنحصر في يوسف شاهين وحده ولكنها مأساة الإبداع الحر بشكل عام فهناك فئة ترفض التنوير وترفض مخاطبة العقول، وتريد مع المبدعين أن يكمموا أفواهم ويريدون من أمثالي تقديم الأعمال الهابطة التي ترضي الغرائز وتدغدغ الأحاسيس.. للكني سأظل أقدم الأعمال التي تناسب فكري وتكويني..”*

أنت أمام مخرج استثنائي، يشكل تجربة فريدة في تاريخ السينما المصرية، ملهم، كحبة الخردل فـ”هي أصغر جميع البذور التي على الأرض. لكن متى زُرعت ونمت تصير أكبر الأشجار حتى إن طيور السماء تأتي إليها وتحول أغصانها مسكنا لها”.

شاهين حبة تبدو صغيرة. لكنه صار شجرة كبيرة لطيور السماء، إلى الآن تتغذى من ثمارها. وهذا العدد من مجلة الفيلم، الذي أعتبره مختلفا وفارقا في مسارها، أتصور أنه نتاج ذلك الثمر الذي خلفه شاهين، ليس فقط عبر أفلامه المهمة والضرورية في تاريخ السينما المصرية؛ وإنما  عبر أرشيفه الخاص، الذي أتيح لنا بإذن خاص من أسرة يوسف شاهين، خاصة من الشقيقين ماريان خوري وجابي خوري، الشكر لهما ولكل الأسرة، التي تعاملت بروح فائقة الجمال، نفتقدها في المجال العام. وشكر خاص للأب وليم سيدهم اليسوعي وروحه الشابة المنطلقة نحو الجمال ودعم الفن والثقافة، وللأستاذ حسن شعراوي صاحب الحلم والمبادرة، الذي فكر منذ سنتين، قبل أن أتولى رئاسة تحرير المجلة، في إصدار عدد تذكاري عن شاهين، في الذكرى  العاشرة لرحيله، يخرج من أرشيف السينمائي الكبير، فهو المخرج الضرورة حسب وصف شعراوي. 

المدهش أن ما فعله شاهين في أرشيفه يوضح إلى أي مدى كان يفكر هذا الرجل، وماذا كان يخطط حتى بعد رحيله. يسجل جلساته مع الأديب يوسف إدريس ليخرجا للنور فيلم “حدوتة مصرية”، يعمل على توثيق كل ما يفعله. لا بد أنه كان يعرف _بوصفه نبيًا_ أنه بعد رحيله بعشر سنوات سوف تأتي مجلة ما، مثل الفيلم، تهتم بإتاحة أرشيفه العظيم للقراء، ولمحبي فنه، ولدارسي السينما، وخاصة للفئة الأخيرة، حيث لا يظهر عدد من المجلة لا نكون مهتمين بسؤال أساسي ماذا يفيد هذا العدد لدارسي السينما، ولصنّاع الأفلام؟ وظني أن هذا العدد يأتي متسقا مع إطلاق جمعية النهضة العلمية والثقافية “جزويت القاهرة” بدء الدفعة الحادية عشر من مدرسة السينما بالقاهرة، ومحاولتها أيضا لتأسيس مدرسة مجلة الفيلم التي تعني بالنقد السينمائي والكتابة للصورة، وصناعة الأفلام. وكذلك مع انطلاق التعليم المتطور لدفعة مدرسة أسيوط للسينما التسجيلية وإنتاج أفلام تليق بنا وبالجزويت.

ويأتي هذا العدد متسقا أكثر مع تجربة الجزويت في تعليم السينما، التي تحاول القول إن السينما الجادة يمكن أن تؤثر في الناس، وقادرة على التغيير. فيوسف شاهين هو النموذج المكتمل لرؤية الجزويت لتكوين فنان شامل جريء في التعبير عن ذاته وعن قضايا الآخرين، فمن ينظر لمساره يجد أنه حل “عقدة” الكلام المحبط، الذي يقال إن السينما البديلة، تغرد بعيدة عن الجمهور وعن التأثير. 

فسلام على النائمين

سلام على الحالمين

ببستان فردوسهم آمنين

سلام على الصاعدين خفافا

على سُلَّم الله   

* جزء من شهادة ليوسف شاهين منشورة في كتاب “سلطة السينما..سلطة الرقابة” لأمل عريان فؤاد، وكالة الصحافة العربية،1999.

نقلا عن مجلة “الفيلم”

####

كيف جمع القلب المفتوح بين “شاهين” و”أدريس”؟

آية طنطاوي

16 يونيو  2008، حرارة الصيف تشّتد والصحف والمجلات تفاجئنا بخبرٍ مؤلمٍ ومربكٍ في آنٍ؛ يوسف شاهين يرقد في غرفة العناية المركزة بمستشفى القوات المسلحة بالمعادي، المؤلم هو الخطر الصحي الذي يتعرض له شاهين فازداد قلق محبيه عليه من أهله وأصدقائه وتلاميذه وجمهوره، والمربك أن هذا الخبر يستدعي في الذاكرة “نور الشريف” في فيلم “حدوتة مصرية” وهو مستلقي في غرفة العمليات بين يدي طبيبٍ يجري له جراحةً دقيقةً في قلبه في مشهدٍ هو إعادة تمثيلٍ لما عاشه شاهين بالفعل قبل سنواتٍ في يونيو 1976 في لندن كلينك وقلبه يستميت ليحيا، وكان بالفعل اسمه في الفيلم “يحيى” كعادة شخصية شاهين في أفلامه، وما حدث أنه عاش بعدها بالفعل في الحياة، وفي الفيلم.

يترقب الجميع مصير شاهين، توزّع الجرائد صباح كل يوم فيقبل عليها جمهوره ليطمئنوا على حالته، والتوتر بدأ يزيد، انتشرت الشائعات “لا أمل”.. “شاهين يموت”، فخرج مدير المستشفى د. أحمد عبد الحليم في مؤتمر صحفي ليؤكد أنها مجرد غيبوبةٍ عميقةٍ وليست موتًا إكلينيكيًا كما يُشاع، مشهدٌ جديدٌ يذكرنا بأول مشاهد المحاكمة في فيلم “حدوتة مصرية” حيث يتوافد الجميع ويقف الصحافيون ووكالات الأنباء لتغطية أخبار “يحيى” بطل الفيلم الذي بدأ لتوّه العمليّة/ المحاكمة، كأن الواقع يعيد تمثيل الفيلم مشهدًا مشهدًا.

بداية الحدوتة:

لم تبدأ فكرة فيلم “حدوتة مصرية” كما شاهدناها من قلب شاهين، بل كانت لها بدايتان:

الأولى يرويها سمير فريد حيث أن لقاءً جمع بينه وبين شاهين والمخرج سمير نصري في نهاية السبعينات بعد عرض فيلم عودة الابن الضال، قال شاهين “لم يعد أمامي سوى الاعتزال.. كفى.. عمري خمسون سنة وأخرجت ٢٥ فيلمًا وليس لدي ما أقوله”، فأجابه فريد “عندك خمسون سنة.. اصنع فيلمًا عن حياتك.. عن شبابك.. وسيكون عن مصر أيضًا”، فأعجب نصري بالفكرة وصمت شاهين، بعدها قدّم شاهين سيرته الذاتية في فيلم “إسكندرية.. ليه؟” واختتم الفيلم بشاهين الشاب الذي يسافر إلى أمريكا في نهاية توحي بأن الحدوتة لم تنتهِ بعد.

والثانية بدأت من قلبين تعرضا يومًا ما لعملية قلبٍ دقيقةٍ؛ قلبِ “يوسف إدريس”، وقلبِ “يوسف شاهين”. اجتمع إدريس وشاهين في إحدى الجلسات، لم يكونا يومًا صديقين مقربين، لكن فكرة فيلمٍ جديدٍ جمعتهما سويًا، واتفقا على عقد جلسات عملٍ أسبوعية في بيت شاهين، على طاولةٍ تفصل بينهما ألقى إدريس بالخيط الأول للفكرة، أعجبت شاهين، فاستمر إدريس في فرد خيوطه بغزارةٍ، وبمرور الجلسات ألقى شاهين بخيوطه أيضًا وأخذ ينسج معه قالب الحدوتة،واتفقا على أن يكون شكل الكتابة بينهما هو أن يسرد إدريس الحدوتة في شكل مشاهد متتابعة، وجهاز التسجيل يسجل ما يدور في جلسات العمل المكثفة، ثم يجمع شاهين التسجيلات لاحقًا ويكتبها في شكل سيناريو ويرسله إلي إدريس في النهاية ليضع وجهة نظره النهائية، كانت هذه هي طبيعة جلسات العمل التي اتفق عليها الاثنان، وبطل الحكاية يتشكل شيئًا فشيئًا.

بدأت قصة إدريس بطفلٍ صغيرٍ – وهو البطل في صغره – يقف خلف القضبان ويُحاكَم بتهمة محاولة قتل بطل الحدوتة والذي استقر  إدريس على أنه رجلٌ ذو شأنٍ هامٍ، ويختار إدريس مصر  كملاذ أخيرٍ للبطل، ويختار القدر لشاهين بعد حوالي خمسةٍ وعشرين سنةً نفس مصير البطل، فبعد رحلة علاجٍ في فرنسا عام 2008 يدخل شاهين مستشفى المعادي، والتجمهر بالخارج واحدٌ ولم يهدأ، والمحكمة التي نصبها إدريس للطفل سينصبها لشاهين لاحقًا.

الأفكار تتدفق في جلسات العمل، وبطل الحدوتة ذو القلب المفتوح يستدعي معه ذكريات الآلم والخوف، يتذكر إدريس قلبه الذي فُتح وتوقف لساعتين، والخوف والقلق الذي كاد يقتله قبل العملية، وشاهين أيضًا يتذكر ارتباكه وخوفه من الموت وانزعاجه لشعوره أن حياته قد تنتهي فجأة في الخمسين وتنطفئ سجائره وأفلامه للأبد، يتوقف بينهما الكلام عن البطل وينغمس كلٌّ منهما في ذاته أكثر، مواقفُ شخصيةٌ ومشاعرُ مسكوتٌ عنها وأحداثٌ تخبئها الذاكرة كل هذا راح يطفو على السطح، اختيار إدريس لشخصية عالمٍ مصريٍ تؤكد أنه لم يفكر في نفسه بصفته كبطل للحدوتة، بل إنه اختار  شخصًا أخر ليعيره جسده ويكسبه شخصيته وحياته، والبعد الذي يضفيه هو خوفه الشخصي من الموت، فيحكي إدريس موقفًا تعرض له قبل إجرائه العملية حيث تردد في شراء بيجامةٍ واحدةٍ أم ثلاثٍ من أحد متاجر لندن الشهيرة، لما يعكسه هذا الموقف من المساحة الشائكة داخل إدريس التي تفصل بين خوفه من الموت وتمسكه بالحياة.

أما شاهين كان بكامل وعيه يتتبع الشخصية ويفكر في أدق تفاصيلها، يرسم ملامحها بتروٍ، يحكي إدريس موقفًا يحدث له فيدون شاهين الموقف كمشهدٍ في الفيلم وكل شاغله هو تقنية الحدوتة وكيف ستُحكى؟ والمعالجة الإنسانية من وراء هذه الحدوتة، ومدى مصريّة الحدوتة، فتمسك شاهين مثلاً بمشهد البيجامة ليكون جزءًا من حدوتة البطل الذي يضفي له بعدًا إنسانيًا، ولأنه يستدعي أيضًا موقفًا مشابهًا تعرض له شاهين قبل إجرائه العملية، رأى شاهين أن مشهد المحاكمة يضع الفيلم في قالب فانتازيا، لكن ما أراده شاهين ليميز معالجته الدرامية هو البعد الإنساني الذي يريد إضفاءه، وليس فقط الوقوف على الفكرة البراقة لمحاكمة تُجرى داخل قلب رجلٍ مشهورٍ للطفل الذي كانه، وهو ما يراه شاهين المختلف عما يقدمه سيلفادور دالي مثلاً، فالأخير كل شاغله هو المغامرة والبعد الفانتازي، وما يهم شاهين هو البعد الإنساني حتى لو كانت الحدوتة في قالبٍ فانتازي، وهو ما سيكتبه  لاحقًا عبد الرحيم منصور ببراعةٍ في كلمات أغنية الفيلم “يهمني الإنسان ولو ملوش عنوان”.

مين الناس اللي بنتكلم عنهم؟

هنا بدأت الأنا تأخذ مقعدًا في الجلسات التي استمرت لحوالي ستة شهور، كل منهما يستدعي ألمه وتجربته الخاصة، والشخصية بدأت تنفلت خيوطها من أيديهم بمرور الوقت، من يد إدريس بالتحديد، وشاهين كعادته يسجل كل هذه الجلسات على أشرطة كاسيت ثم يعيد تفريغها، في أكثر من مرة يطلب إدريس أن يتوقف التسجيل، هذا التوقف يعني أن إدريس سيحكي شيئًا شديد الخصوصية لا يريده أن يسجّل، وهو ما يعني بالتأكيد أنه متحفظٌ على ما يقال وما لا يقال، يوافق شاهين، ثم يعود للتفكير والاشتباك معه من جديد حول الشخصية، فيقاطعه إدريس معترضًا على تدخلات شاهين التي بدأت تقولب أفكاره وتقيدها، فيحاول شاهين أن يعيد الأمور إلى نصابها من جديد ويؤكد له “الصراع ليس بيننا، بل بيننا وبين الشخصية”.

يمسك شاهين بالورقة والقلم ويدوّن المواقف التي لا تزال تتداعى أثناء الحديث بينهما، والمواقف التي يستدعيها إدريس قبل إجرائه العملية وعلى الأغلب نسي الشخصية، ربما لأنه سحب من داخله كل خيوط الشخصية لينسجها بها؛ فتحول إدريس إلى بطل الحدوتة دون أن يدري، لكنه وفق قواعد شاهين كان البطل بكل المواقف والمشاعر الخاصة التي تحدث عنها في الجلسات، وهو ما رفضه إدريس رفضًا قاطعًا فثار بشدةٍ معلنًا رفضه ما فعله شاهين بعد أن سلمه المسودة الأولى من السيناريو لأنه في ظنه رأى أن شاهين خانه في هذه الجلسات وكشف كل اعترافاته وألصقها بالشخصية، ما أراه أن إدريس صُدم حقًا عندما رأى حياته ستكشف على الملأ وهو لم يملك الجرأة الكافية لكشفها، فهو اتفق على عرض القشور السطحية لا أكثر من ذلك، لم تهدأ نار إدريس وهدد برفع قضية على شاهين الذي خان العمل وقدم رؤيةً لم يتفق عليها ولم يأذن بها، هنا تبدّل المشهد كليًا، بالتأكيد انزعج شاهين من موقف إدريس، وما أزعجه أنه كان مضطرًأ لقبول طلب إدريس بإنهاء الحدوتة، تراجع للوراء، أخذ نفسًا عميقًا وفي هذا النفس استعاد روحه، وتذكر أن الطاولة التي جلس عليها مع إدريس كانت تحمل قلبين، وأن قلبه ما زال ينبض ومستعدٌ أن يخوض التجربة بشجاعةٍ أكثر.

بالفعل قرر شاهين أن مشروع الفيلم لن ينتهي، فاستكمل ما لم ينهيه في فيلمه السابق “إسكندرية.. ليه؟”، والولد الذي سافر في نهاية الفيلم ليدرس السينما في أمريكا عاد ليكشف جزءًأ جديدًا من حياته، جزءًا جديدًأ يؤرقه، أو لنكن أكثر صراحةٍ، فالموت هو الذي كان يؤرقه، احتفظ باسم يوسف إدريس كصاحب فكرة الفيلم، واحتفظ بالمشاهد الأولى لإجراء العملية واحتفظ أيضًا بالطفل الصغير وفكرة المحاكمة، لكنه بدّل قلب إدريس بقلبه، ويحيى الذي يقبض على صدره من شدة الآلم سيحكي لنا حدوتة شاهين بصدقٍ أكثر وجرأةٍ أكثر، وبالفعل يعترف يوسف شاهين في لقاء له مع منى غندور أنه تجرأ كثيرًا في هذا الفيلم.

كل واحد منا أعرج بطريقته:

في إحدى جلسات العمل يقترح إدريس أن بداية الفيلم لن تكون المحاكمة، بل أن تكون من نقطة أبعد من ذلك، نقطة البداية من سرير في مستشفى ويرقد عليه البطل وطبيب التخدير يدخل عليه، يطلب منه الطبيب أن يقول اسمه وهو يعطيه مادة معينة مخدرة في الحقنة فيرد عليه البطل متعجبًا “نسيت اسمي؟” فينفي الطبيب ويطلب منه أن يذكر اسمه ليختبر مفعول المادة، في هذه اللحظة تدخل ممرضتان، يعطيه الطبيب حقنة التخدير والبطل يقول اسمه الثلاثي.. لم يكن إدريس فكر بعد في اسم البطل، لكنه يريده أن يكون اسم “يعلّم”، فيختار “أدهم محمد الشرقاوي”.. يدخل أول سنتي من الحقنة في الوريد.. البطل يردد اسمه.. أدهم محمد.. الشرقاااا.. هنا في هذه اللحظة يتخيل  إدريس المشهد فيقترح صورة بصرية تتحول فيها الغرفة  فجاة من خلال جهاز التليفزيون مثلاً إلى نقرة حولها جبل قممه من الثلج الأبيض، وقبل أن ينتهي من استكمال اسمه الشرقااااوي تتحول الحروف والأصوات في مزيج لدوامة – بحد وصفه- صوتية سمعية موسيقية، ثم صمتٌ تامٌ لست ثوانٍ نسمع بعده صوت شخير البطل، ثم يأمر الطبيب الحكيمة والممرضة “خدوه”، يدخل البطل على السرير في ممرٍ في قسم العمليات في صمتٍ شديدٍ وجديةٍ،وكل الأطباء والممرضين والمرضى فيه يرتدون ثيابًا خضراء، ثم تبدأ الحكيمة والممرضة تتهامسان بشأن الصحفيين المتجمهرين بالخارج، فتحذرها منهم ومن محاولة أحدهم للدخول لأن الجميع بالخارج متخوفين من العملية التي ستجرى له، هنا يفكر إدريس -كما ذكرنا سابقًا- أن البطل هو عالِمٌ مصريٌ يعمل في أمريكا، وقد اكتشف اختراعًا علميًا هامًا ثم جاء ليجري عمليةً في قلبه على يد طبيبٍ مصريٍ -لاحقًا في نفس الجلسة سيقترح عليه شاهين أن البطل “مشهور” ليس مهمًا أن يكون عالمًا فقط، بل أن يكون كاتبًا مثل نجيب محفوظ أو يوسف إدريس نفسه أو فاروق الباز أو أية شخصية مصرية مشهورة.

ويفكر  إدريس أن البطل يجب أن يكون ممثلًا ذا شعبية فيقترح عادل إمام، أو فؤاد المهندس، وهو ما لم يعترض عليه شاهين رغم أن من حقه الاعتراض، فاختيار الممثل هو دور المخرج لا الكاتب، والاستغراق في التفكير في الممثل يعطل التفكير في الكتابة، هنا يتجاوز شاهين هذه النقطة في النقاش للتفكير فيها لاحقًا والمهم الانتهاء في التفكير في الحدوتة “اديني الشخصية و forget the people”. مع تأكيد شاهين أن الشخصية ذكيةٌ ومعرفتها بخطورة العملية يجب أن تأتي بذكاءٍ أيضًا فهذه هي حيلة السيناريو التي يجب أن تقدم بحرفيةٍ، وأن المعرفة السطحية أو الساذجة تضر برسم الشخصية، يستطرد إدريس ويصل للمشهد التالي حيث ننتقل فيه إلى مظاهرات للصحفيين والمرضى وسائقي التاكسي وجملٍ حواريةٍ سريعةٍ جدًا من المتجمهرين يتحدثون عن هذا العالِم المصري والعملية الجراحية التي سيجريها.

أفكار إدريس هي مطابقة دقيقة لفكرة “التفكير بالصورة” والتي هي جوهر العمل السينمائي، والصورة السينمائية التي يطرحها إدريس تعكس بالتأكيد رؤيته الفنية التي يرى بها تتابع المشاهد بأدق تفاصيلها كأن يختار حكيمة وممرضة وليس ممرضتين عاديتين، واختياره لأن يكون مكان التصوير في العمليات وليس عنبرًا عاديًا، وأن الدوامة الصوتية الموسيقية تبدأ مع نطق البطل لاسمه الأخير والذي يجب أن يكون طويلًا جدًا ليحدث تناغمًأ ومزجًا بين الاسم والموسيقى، هذه لم تكن التجربة الأولى لإدريس للكتابة للسينما بل عمل على كتابة سيناريو أفلام لا وقت للحب (1963)، العيب (1967)، حادثة شرف (1971).

في الفيلم نجد أن نقطة البداية كانت مختلفة تمامًا، فاختار  شاهين أن تكون البداية من موقع تصوير فيلم “العصفور” في استعادةٍ جديدةٍ لمشهد “هنحارب” للممثلة محسنة توفيق، يتوقف التصوير لتعب “يحيى” بطل الفيلم، يأتي الطبيب يحاول أن يوضح له خطورة حالته الصحية، ينظر يحيى لطبيبه، لغة العيون عنصرٌ دراميٌ هامٌ في سينما شاهين، هذه النظرة توضح له خطورة الحالة وهذا هو الذكاء الذي يريد شاهين إضفاءه على معرفة الشخصية فيقول له يحيى: “يبقى قلبي اتنيل على عينه .. أحسن .. نخلص”، ثم نرى مشاحناتٍ بين أصدقائه المحيطين به في موقع التصوير، ثم ننتقل إلى المشهد التالي حيث يحيى يستعد للسفر إلى لندن ليجري الجراحة، ولا يخبر  زوجته ولا أبناءه وتبدأ أيضًا مشاحناتٍ بينه وبين زوجته في ظل صمت الأبناء، ثم يسافر بالفعل يحيى إلى لندن كما وعد طبيبه، هنا اختيار شاهين للبداية يختلف عن بداية إدريس الذي أراد أن يورطنا منذ البداية في العملية التي ستُجرَى للبطل، لكن رؤية شاهين والتي حاول فرضها وتوضيحها لإدريس في الجلسات أنه بحاجة إلى بداية تورطنا أكثر مع الشخصية قبل العملية، فالاختلاف بين طريقة تفكير كلٍ منهما كانت واضحة، وهو ما أدركه إدريس بالفعل بطريقةٍ ذكيةٍ؛ فيقول لشاهين أن الفرق بينهما في طريقة تقديم الحدوتة مثل تأليف سيمفونية إما أن تبدأ بداية هادئة، أو أن تبدأ مثل سيمفونية بيتهون السابعة، البدايتان مختلفتان، ولا توجد قواعد في الإبداع تحدد أن هذه البداية أعظم من تلك، ولكن اختيار البداية في السيمفونية أو في الفيلم أو في أي عملٍ فنيٍ يفرضها العمل بالأساس، ومنهجية تفكير المبدع والتي تسير على نهج العمل وطبيعته، وفي حالة جلسة العمل هذه يفرضها من له الكلمة الأولى في الكتابة، لكن في رأيي أن البداية لم تكن هي المشكلة التي اختلف فيها الاثنان، بدليل أن شاهين خلق البداية التي تروق له في الفيلم ثم أخذ من أفكار إدريس لمشاهد العملية الجراحية، والنقطة الخلافية الأساسية هي “الشخصية” والتي لم يكونا مستقرين عليها منذ البداية، فانجراف إدريس وراء الفكرة جعل الشخصية ليست محل أولوية، أو أن التفكير فيها سهلٌ أن يأتي لاحقًا، وهو ما كان يحاول شاهين العودة له والوقوف عنده “مين الناس اللي بنتكلم عنهم؟” يؤكد أن الشخصية هي “إحنا”، والشخصية “لازم تنطقها”، مما دفع إدريس للتوضيح لشاهين أنه يستطيع أن يكتب فيلمًا كاملًا ينتهي بدخول الشخصية لغرفة العمليات وهو طريقٌ أخرٌ لسرد معالجة الفيلم الدرامية لكنها تجعلنا نقف عند وجهة نظر شاهين أن العملية هي الخط الرئيس الذي ينفجر منه الأحداث، لكنها ليست كل الأحداث فهناك أبعادٌ أخرى يجب الوقوف عليها والتفكير فيها، فيقترح إدريس أن يكون البطل فاز بنوبل ويبدأ الفيلم من هنا، فلا تروق الفكرة لشاهين الذي لا يراها “مصرية” بما يكفي، كما أن شخصية العالِم تختلف عن شخصية الأديب تختلف عن أية شخصيةٍ أخرى. وإذا كانت قوالب الحدوتة واضحةً لكن الشخصية تبدو مذبذبةً وغير واضحة المعالم وتتأرجح بين الحقيقة والخيال، بين هذا العالم وبين إدريس وشاهين،  لذلك اختار شاهين أن يكون إدريس هو الشخصية، وبعد رفضه اختار  شاهين أن يكون بنفسه بطل حكايته.

وبالعودة لاختيار بداية الفيلم أراد شاهين أن يتعرف المشاهد على الشخصية أولاً، وأن يعرف يحيى هو شاهين، فكانت البداية بالدخول في عالم يحيى المحيط به قبل أن ندخل معه المحاكمة بدون معرفةٍ مسبقةٍ عن هويته، وهو في رأيي اختيارٌ دراميٌ كلاسيكيٌ ذكيٌ يمهد للشخصية من الخارج أولاً ثم من الداخل، ويجعل العملية هي الموقف الذي يدفع لتغيير  الأحداث، ثم يستطرد في سرد مشاعر شاهين قبل إجرائه العملية فهو خائفٌ من الموت لكنه يحاول التظاهر بالعكس، ويقرر يحيى أن لا يخبر أحدًا بأنه سيجري العملية “لا أمي ولا أختي ولا امرأتي” يقولها يحيى تمامًا مثلما قالها شاهين في جلسته مع إدريس، ثم يختار سائقًا غريبًا يجلس معه ويحكي له عن مشاعره ومخاوفه، ويختار أن يستطرد في عدد من المشاهد التي نرى فيها يحيى قبل دخوله لإجراء العملية، وهي بالتأكيد جاءت من وحي حكايات إدريس عن الأسبوع الذي قضاه قبل العملية، وعن الفترة التي قضاها شاهين أيضًا، ثم ينتقل إلى مشهد العملية.. كل من في المستشفى يرتدون ثيابًا خضراء، يسأله طبيب التخدير عن اسمه فيقول “يحيى شكري مراد”، لكن الدوامة لا تبدأ هنا، بل سندخل مع يحيى غرفة العمليات، نراقب العملية كما يراقبها الأطباء بالأعلى من النافذة وجهاز التليفزيون، ومع بداية شق الصدر وبدء العملية تبدأ عملية المحاكمة بالداخل، ونسمع الدوامة الموسيقية التي اقترحها إدريس فوظفها شاهين في هذا المشهد لتنذر عن بداية الخطر، ثم نرى الطفل الصغير وهو قابع بداخل القلب، ومن هنا تبدأ الفانتازيا، وتظهر مانشيتات الجرائد وتجمهر الصحافة بالخارج بالتزامن مع بداية العملية، وبداية محاكمة الطفل الذي اعترف أنه لا يحاول أن يقتله، بل إنه يقتله بالفعل “لغاية ما يجيب أجله”، ويعترف أيضًا أنه ليس الوحيد المتورط في محاولة القتل، فيشير بأصابع الاتهام إلى عدد من الحضور أولهم الأستاذ جبرائيل الذي قام بدوره عبدالعزيز مخيون، هنا توقف شاهين عن الاستلهام من إدريس ليفرد لنفسه مساحته الخاصة في تقديم حكايته، حتى أنه لم يلتزم بالجبال البيضاء  التي تخيلها إدريس كمكان تجرى فيه المحاكمة، بل صمم شاهين المحاكمة بداخل صدر البطل، واستبدل الجبال بالقفص الصدري يحيط بقاعة المحكمة، واستبدل الدماء  ببالونات حمراء وبيضاء، وشرايين القلب بأنابيب شفافه والطفل الصغير يحمل الكرات التي يسد بها شرايين القلب ليقتل يحيى، وتوظيف الديكور هنا يخدم بالأساس القالب الفانتازي لمشهد المحاكمة الذي يقوم عليه الفيلم.

انتهى الفيلم.. وعرض لأول مرةٍ في مسابقة مهرجان فينسيا عام ١٩٨٢ لكن الفيلم لم يمر  بسلامٍ بل قوبل بإنتقادات النقاد الذين رأوا أن الفيلم هو نسخةٌ من الفيلم الأمريكي All That Jazz للمخرج بوب فوس الذي تم عرضه عام 1979 والذي يتشابه في فكرته مع بطل الفيلم الذي يجري عملية قلب مفتوح ويستعرض حياته فيما يشبه محاكمة والتي هي أيضًا السيرة الشخصية للمخرج، وعندما عرض الفيلم في مهرجان القاهرة السينمائي في دورته السادسة في ديسمبر 1982 نال يوسف شاهين جائزة أفضل مخرجٍ في تكريم يليق بمجهوده ورؤيته الفنية غير المسبوقة على مستوى السينما المصرية،”حدوتة مصرية” التصقت به الكثير من الشخصيات، يوسف إدريس في البداية ثم يوسف شاهين وفي النهاية المخرج بوب فوسي وشخصيات مسرحية أغوار الروح لنيقولا إفرينوف، لكن الفيلم وحده كوثيقةٍ فنيةٍ يختلف في مضمونه وبعده الإنسانيين ويختلف فيه آلم “يحيى” عن أي ألمٍ آخر.

إنه يقتل نفسه:

الصحف تعود من جديد لتوافينا بأخبار شاهين في مستشفى المعادي، نقرأ أن مخه “حي” وأجهزته لا تزال تعمل، ثم يأتينا خبرٌ أنه حرك يديه لثوانٍ وحاول أن يفتح عينيه بصعوبة، أخبارٌ تستدعي مرةً أخرى مشاهد من الفيلم عندما فوجئ الأطباء في غرفة العمليات بخيط العملية في قلب “يحيى” ينفك، فنرى الطفل الصغير وهو يحاول أن يقطع خيوط العملية ليؤذيه ويُفشل العملية، لأن الطفل بداخله لم يهدأ شغبه بعد ولم يعد يتحمل هذا العجوز الذي يدّعي أنه يحاول قتله، تُرى عندما حاول شاهين تحريك يديه وفتح عينيه ما الذي كان يريد أن يقول؟ بالتأكيد ننتظر إجابة، لكن للآسف القدر لم يمهلنا إياها، ولم يسمح لنا بمساحة للتخيل، عرفنا الإجابة بعدها بأيام، فهذا القلب وهذا الجسد كان يقاتل ليحيا، لكنه استسلم في النهاية للموت الذي نحمل حزنه حتى الآن.

نقلا عن مجلة “الفيلم

####

خالد يوسف:

لولا يوسف شاهين لما دخلت السينما

قال المخرج خالد يوسف إنّه بعد سنوات من التوقف عن ممارسة السينما بسبب انشغاله بما يدور في مصر لكونه عضوا في البرلمان، قرر العودة إلى السينما بفيلم “كارما” الذي يتكلم عن إنسان لا يستطيع اكتشاف نفسه إلا باكتشاف الآخر.

أوضح “يوسف” في ندوة صحفية، صباح اليوم الجمعة، بفندق”الروايال”، بمناسبة تكريمه ومشاركة فيلمه في مهرجان وهران للفيلم العربي، أنّ عودته إلى السينما كانت ممتعة بعد 7 سنوات “عجاب”، انشغل فيها بما يدور في مصر لكونه عضوًا في مجلس النواب المصري.

تابع أن العودة إلى السينما تأجلت كم مرّة حتى بلغت سبع سنوات، ولن يترك هذا الفن ثانية، لأنه مهتم بالناس وبالمواطن المصري ولا ينشغل بالسياسة حتى ولو بقبعة البرلماني.

أشار “يوسف” إلى أن وجوده في البرلمان يدل على نضاله من أجل هذا الهدف السامي في الحرية والديمقراطية، حتى يعيش أبناء الجيل الجديد في مصر جديدة ليس كالتي تعلّم فيها هو وجيله.

أكدّ خالد يوسف أنّ فيلمه إنساني ويتكلم عن الإنسان بكل تناقضاته ويقدم أفلامه للناس ولا يستهدف طبقة معينة سواء مثقفين أو رجال أعمال. وتكلم في عمله عن الإنسان الذي يكتشف نفسه بعد أن يكتشف الأخر. واعتبر أنّ نهاية القصة تلخص أنّ الإنسان هو الإنسان ونحن كبشر من صنعنا الفوارق، مشددًا على ضرورة عدم التركيز على العرق أو الدين ولا الطبقات، فملايين البشر ضحايا لمثل هذه الصراعات والفوارق.

وبخصوص أستاذه المخرج يوسف شاهين قال خالد إنّ شاهين سيبقى علامة فارقة في السينما العربية رغم وجود قامات أخرى كبيرة مثل المخرج الجزائري لخضر حمينة، ولولا يوسف شاهين لما دخل عالم الفن السابع.

موقع "إعلام.أورغ" في

31.07.2018

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)