تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

شارك فيلمه 'فجر العالم' في مهرجان السينما العربية الفرنسية بعمان مؤخرا عباس فاضل:

احاول وصل ما انقطع من السينما العراقية

رحاب أبو هوشر

ما زال المخرج العراقي عباس فاضل مرشحا لحصد مزيد من النجاح عن فيلمه الروائي الأول 'فجر العالم'، الذي حظي بثناء النقاد، وإعجاب المهتمين، كما نال عدة جوائز قيمة من خلال مشاركاته في المهرجانات السينمائية، كانت آخرها جائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف في حزيران (يونيو) 2009، بالإضافة إلى الجائزة الأولى لأفضل فيلم روائي طويل في مهرجان الخليج السينمائي عام 2009، وجائزة الجمهور وجائزة النقاد في مهرجان فيزول الدولي للسينما الآسيوية عام 2009، وجائزة أفضل سيناريو من المركز الوطني الفرنسي، بالإضافة إلى مشاركات في ألمانيا وبلجيكا وتونس وكوريا الجنوبية وغيرها.

الفيلم المكتوب بلغة سينمائية مؤثرة، يدور في منطقة الأهوار العراقية عن آلام الإنسان العراقي وعذاباته في زمن الحرب، فالشاب مستور الذي يتم اقتياده للحرب أثناء حرب الخليج الأولى، يقتل وتقتل معه قصة حبه لزهرة التي زف إليها للتو، ليوصي قبل موته صديقه رياض، الجندي القادم من بغداد والذي نجا من الموت في الحرب، بالزواج منها لرعايتها، لكن رياض يقع في حبها فعلا مع تواصل الثقل الكابوسي للخوف والحرب والموت.

وعباس فاضل هو مخرج وناقد سينمائي وكاتب سيناريو عراقي، من محافظة بابل، يقيم في فرنسا منذ سن الثامنة عشرة، ويحمل شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون في السينما. أخرج أعمالا تلفزيونية، ثم اتجه إلى السينما، فقدم ثلاثة أفلام قصيرة هي: الاشياء في الظل، يوم الأحد في مقهى الضواحي، عالم المصور ويجي. ثم أنجز فيلمين وثائقيين هما: 'العودة إلى بابل' عام 2002، عن آثار الحرب والحصار الذي فرض على العراق ، وفيلم 'نحن العراقيون' تأكيدا على الهوية الوطنية عام 2004
في مهرجان السينما العربية الفرنسية الذي يقام سنويا في عمان، كانت لفيلمه مشاركة جديدة، حيث جرى هذا الحوار حول الفيلم، وحول تجربته السينمائية:

قمت بإخراج الفيلمين الوثائقيين 'العودة إلى بابل' عام 2002، ثم فيلم 'نحن العراقيون'، وأخيرا فيلمك الروائي الطويل الأول 'فجر العالم' عام 2008، وكلها أفلام منشغلة بهاجس الوطن. هل كان حنين المهاجر دافعك لصناعة تلك الأفلام؟ أم ثمة دوافع أخرى؟

الحنين إلى الوطن -وأنا المهاجر عن العراق منذ كنت في الثامنة عشرة من عمري- هو بالتأكيد أحد الدوافع الأساسية لصنع تلك الأفلام، فرغم ابتعادي الطويل عن العراق، إلا أنه لم يبتعد عني يوما، إنني أحمله معي دائما في مهجري الفرنسي، لم أنسه يوما، وعايشت الأحداث التي عصفت به، وكنت شاهدا عليها. فيلمي 'العودة إلى بابل'، كان عام 2002، حيث ذهبت إلى العراق، ورصدت ما حل به وبالناس من أثر الحرب والحصار في تلك الفترة، كما أن صلتي بالوطن وبأهلي الموجودين فيه لم تنقطع يوما، وأقوم بزيارات دائمة. العراق حاضر في حياتي دائما، وهو همي الأكبر.

لكن المسألة لدي لم تكن حنينا مجردا، وهذا ما تناولته في أفلامي، فأنا أعتبر نفسي أحد الناجين من بين كثيرين، أصدقاء كنت أعرفهم، ابتلعتهم الحروب التي عاشها العراق وقضوا فيها. في أفلامي ذهبت إلى أيامي تلك، أتذكرهم وأبحث عنهم، وأميط اللثام عن مصائرهم التي كتبتها الحروب، وأرصد من خلالهم ما خلفت من بؤس على أرواح البشر.

أما الدافع الثاني، فهو قناعتي بضرورة الأرشفة لمرحلة من تاريخ العراق، ومحاولة وصل ما انقطع من تاريخ السينما العراقية، ولعلك تعلمين أن أرشيفنا السينمائي قد ضاع في الحرب الأخيرة.

وتجربتي ربما تختلف عن كثير من الفنانين العرب المهاجرين خارج أوطانهم، لا سيما في أوروبا. لقد وجهت طاقتي السينمائية واهتمامي نحو وطني، لأنه هويتي وذاكرتي، وهو ما يعنيني إطلاع العالم عليه، ومعالجة قضاياه وأزماته، ورغم الصعوبات والمشاكل التي تعرضت لها مثل كل عربي وعراقي مقيم في أوروبا، إلا أنها لم تشكل لدي هاجسا إبداعيا كما كانت بالنسبة لآخرين من المخرجين العرب، الذين صنعوا أفلامهم لمعالجة قضاياهم الحياتية في المهجر، ولم يلتفتوا لقضايا أوطانهم وبيئاتهم الأصلية. الجذور بالنسبة لي هاجس وهم دائم إنسانيا وإبداعيا.

في فيلمك 'فجر العالم' اشتغال فني رفيع على اللغة البصرية، خصوصا ما يتعلق بجماليات المكان، لقد شاهدنا لوحات فنية مرسومة بحساسية عالية. أفهم محورية المكان في الرواية مثلا، ولكن في فيلم ثمة عناصر فنية ربما تفوقه أهمية، لماذا كان كل ذلك الاحتفاء ببيئة الفيلم المكانية؟

في هذا الفيلم تحديدا كان المكان هو الشخصية الرئيسية بالنسبة لي، واشتغلت عليه فنيا على هذا الأساس. منطقة الأهوار تاريخيا هي ملتقى نهري دجلة والفرات، حيث تشكلت الدلتا، وكانت في الماضي تسمى 'جنة عدن'، وهذا رمز يحمل دلالة في الفيلم، فهي منطقة لها حضور تاريخي طويل في العراق. لم يكن اختياري لها عبثيا، ومن تلك البقعة، أردت التسجيل للوطن ضمن الاستمرارية التاريخية الحضارية للمنطقة. وقد عالجت العمل بدلالاته الأسطورية، فالأهوار ترمز لهذا العالم، وشخصية حجي نوح، الذي شكل مرجعية للأهالي، كان إحالة على سفينة نوح، عنوان النجاة من الطوفان القادم، أما شخصيتي الجندي رياض، والفتاة زهرة، فهما رمزان لآدم وحواء. في المشهد الأخير، تختفي كل العناصر، ولا يبقى سواهما، أردت من خلالهما القول أن الحب ينبت ثانية، وبقوته ستعيد البشرية بناء الحياة، من قلب الحرب والدمار والخوف.

ألا تجدها رؤية شديدة الطوباوية في ظل واقع يعمه الخراب؟

ولتكن رؤية طوباوية، أين المشكلة؟ ما قيمة الفن والإبداع إن اكتفى بنقل الحياة، وتقديمها كما هي؟ لا بد أن يحمل الفن رؤيته الخاصة به المبشرة بالجمال والخير، والتي تجعل من الأمل إمكانية دائمة لاستمرارية الحياة. لو لم أكن حالما لما كنت فنانا، ولما اتجهت بشكل أساسي لدراسة السينما.

في بعض المشاهد، بدا المكان كأنه مكان افتراضي، لا يحيل إلى بيئة محددة أو منطقة بعينها، ما المغزى من ذلك؟

هذا صحيح، لقد تعمدت التجريد في المكان، فالقرية في الفيلم لا يمكن ببنائها وديكورها أن تكون معبرة عن قرية حقيقية، عدد البيوت لم يكن يتجاوز الثلاثة، والشخصيات التي ظهرت كانت قليلة أيضا، وفي نهاية الفيلم، تختفي حتى الحيوانات والطيور، وتبدو الصورة بالغة التجريد، وهذا كله بالنسبة لي لخدمة فكرة العمل. لقد انطلقت من الخصوصية العراقية، لأذهب إلى الأفق الإنساني للفكرة، بحيث يمكنها أن تلامس أي متلقٍّ وفي أي مكان. وفي نفس الوقت، فإنها تمتلك القوة الكافية لعكس مأساة الإنسان العراقي، الذي عاش الحروب لأعوام طويلة، دون أن يتاح له عيش الحياة كغيره من البشر.

ثمة ما أثار استياء البعض، خصوصا من العراقيين الذين شاهدوا الفيلم، إن كان بالنسبة للهجة العراقية غير المتقنة للممثلين، الازياء، تصميم بيوت منطقة الأهوار، نمط العيش، فكيف ترد عليهم؟

أتفهم استياءهم، للأسف فإن الجمهور العربي بشكل عام، معتاد على نوعيات محددة من الأفلام العربية وأفلام الأكشن. لقد خططت لكل ذلك ولم تكن أخطاء تقنية كما فهمها البعض. لم أشأ تقديم الفلكلور، وكانت رؤيتي الفنية تقوم على الثيمة في فضائها الإنساني، لذلك اخترت أزياء لا تمت بصلة لأهل الأهوار، وتصميم البيوت كذلك، وحتى الموسيقى، فقد طلبت من المؤلف قطعة موسيقية عالمية، ووظفت أغنيتين للمغنية الفلسطينية ريم البنا. كنت أقدم فيلما برؤية سينمائية خاصة، ولم أكن أقدم وثيقة تاريخية عن المنطقة، لأني أردت المشهد إنسانيا في أقصى حالاته. مأساة العراقي هي مأساة إنسانية قبل كل شيء.

إذن، فهل تعتبر نفسك فنانا ملتزما بقضية عراقية، أم أن ما قدمته من أفلام ارتبط فقط بلحظة تاريخية يعيشها العراق، بينما تجد ذاتك كمخرج في منطقة أخرى؟

بداية فإنني أعرّف نفسي بأنني عربي عراقي قبل أن أكون فنانا، فعلاقتي بالوطن سابقة على علاقتي بالفن، وهو كما قلت سابقا، همّ أحمله معي دائما، لذلك فإن علاقتي الإبداعية به متواصلة، وإن كانت اللحظة الحالية الأكثر حرجا. ولكن هذا الارتباط بوطني لن يقل في المستقبل بالضرورة، فموقفي الفني لا ينفصل عن موقفي الفكري. ولكني لا أود تحديد هويتي الفنية بالعراق، إنني أشتغل على أفكار وهموم إنسانية، قضية فلسطين مثلا تهمني كعربي، كما تعنيني المجاعات التي يتعرض لها الإنسان في إفريقيا، كل هذه هموم وقضايا ألتزم بها كإنسان وفنان أيضا. لذلك أعمل على منح تجربتي السينمائية بعدا إنسانيا حتى في إطار الموضوع العراقي. من الضروري أن أنجح بإقامة الجسور كإنسان وكفنان مع الآخر.

ولكن البعض قد يعتبر موقفك هذا تنصلا من هوية وطنية، لتحقيق انتشار ربما أو شهرة؟

إن من يوجه لي مثل هذا الاتهام لا يدين إلا نفسه. ما الذي يضطرني لخوض الصراعات ومواجهة الصعوبات أكثر من ثلاثة أعوام حتى أتمكن من العثور على تمويل لتحقيق فيلم، علاوة على معاناة صعوبات الإنتاج الأخرى؟ وهل الانتشار حافز كاف يدفعني للتصوير في مناطق وظروف خطرة تهدد حتى حياتي، كالتي واجهناها أثناء تصوير فيلم 'بابل'؟ كما أنني لا أصنع أفلاما تجارية، يمكن أن تشاهد في دور السينما العادية، وبالتالي تحقق لي الشهرة والانتشار. هذا كلام عار عن الصحة، وبالتأكيد ليس لدي حسابات شخصية.

من جانب آخر، من حقي كسينمائي أن أمتلك أسلوبي الخاص، الذي قد يتفق أو يختلف مع آخرين، بل إن ذلك طموح بالنسبة لي، بأن أمتلك بصمتي في كل فيلم أقدمه، والوصول إلى سينما حقيقية، مع معرفتي بأن الجمهور في الوطن العربي يفتقر إلى الثقافة السينمائية، بالإضافة إلى قلة المبدعين ذوي الأسلوب الإخراجي الخاص بهم، والساعين نحو سينما حقيقية خالصة. ولهذا كانت فرحتي غامرة عندما نلت جائزة المؤلف في مهرجان الرباط السينمائي، لأنها مثلت اعترافا بقدرتي على امتلاك أدواتي الفنية المتفردة. وأرى أنه على كل مبدع أن يمتلك أسلوبا يشير إليه فور مشاهدة أعماله.

تنوعت جنسيات الممثلين في فيلمك، مصرية، لبنانية، فلسطينية، تونسية، لماذا لم تستعن بممثلين عراقيين؟

رغبتي الأولى والحقيقية كانت العمل مع ممثلين عراقيين، كنت أفضل ذلك، ولكن صعوبة الظروف الإنتاجية وقفت عائقا، فقد كان من شروط التمويل الأوروبي، مشاركة ثلاثة ممثلين على الأقل من حملة الجنسيات الأوروبية في الفيلم، ولم أعثر على ممثلين عراقيين يحملون تلك الجنسيات، بالإضافة إلى تعقيدات إنتاجية أخرى، فكان الحل باللجوء لممثلين عرب.

هل تتفق معي بانتماء أسلوبك الإخراجي في هذا الفيلم لما يعرف بتيار السينما الشاعرية؟ كيف قمت بتوليف عناصر الفيلم لتحقيق ذلك الأسلوب؟

نعم أتفق معك إلى حد كبير، فثيمة العمل القائمة على الأحاسيس الإنسانية قادتني لذلك وفق رؤيتي الفنية. كانت العناصر مكتملة في مخيلتي، فالقرية قمت برسمها بشكل الهلال، مع دراسة وافية لزوايا شروق الشمس وغروبها، بما يخدم مشهدية المكان التي رغبت بإبرازها، وذلك كله قبل تنفيذ الديكور في منطقة بورسعيد المصرية، وكان لا بد من تكامل بقية العناصر لتكون في نفس السياق الشاعري مثل الموسيقى وأداء الممثلين والتقطيع وغير ذلك.

نال الفيلم جائزة أحسن سيناريو، وأنت بالطبع كاتبه. جاء الحوار على قلته، مشحونا بلغة شعرية عالية، من أين أتيت بتلك اللغة؟ هل خلف المخرج يختبئ شاعر مثلا؟

لست شاعرا بالتأكيد، ولكنها ربما روح شاعرية أمتلكها، وأردت توظيفها في أسلوبي، خصوصا وأن العمل يتحرك في إطار المشاعر الإنسانية، وبما أن الفيلم يقوم على الصورة الشاعرية، والحوار جزء من هذه الصورة، فكان لا يمكن كسر هذا المناخ وهذه الصورة، بحوار صارخ مباشر مثلا، أو مفردات قاسية. إذن فهو التكامل الذي كان ضروريا لتحقيق الأسلوب السينمائي، وإنجاح الفيلم.

اتسم أداء الممثلين بالتعبيرية، واستغلال لغة الجسد إلى حد كبير، ما هو مفهومك للصورة للوصول إلى لغة سينمائية عالية؟

السينما تتأسس على لغة الصورة، واعتماد الأداء على كثرة الحوار المنطوق دلالة عجز من قبل المخرج عن امتلاك أدواته الفنية، أو كسل على أقل تقدير. لا أستطيع الاستمرار بمشاهدة فيلم لا يقدم لي سينما حقيقية، وهذا ليس ذوقا شخصيا، وإنما فهما علميا للسينما، فحيث عشت بفرنسا، وهي رائدة فن السينما في العالم، تمكنت من صقل موهبتي بمشاهدة المئات من أفلام السينما الخالصة، وبالتالي لم يكن صعبا بالنسبة لي أن أسيطر على أدواتي في فن أعشقه منذ طفولتي. وبالمناسبة، فقد بدأت السينما صامتة، باعتبارها فن الصورة، ثم أضيف الحوار لاحقا لإكمال الصورة، وليس للاستعاضة عنها.

كانت أحداث الفيلم مختزلة ومكثفة. لم تذهب في الفيلم إلى تفاصيل الأحداث، كانت هناك إيحاءات تحيل إلى الحدث، لماذا؟ هل تقصدت التركيز في مستوى معين من الفكرة؟

بالتأكيد تقصدت ذلك، فأنا من المؤمنين بضرورة إشراك المشاهد وتحقيق تفاعله مع الصورة السينمائية، لا بد أن أستفز ذهن المشاهد ومخيلته ليكمل معي الكلمات المختبئة خلف السطور، وأنا هنا لا أتحدث فقط عن المشاهد العراقي أو العربي، وإنما المشاهد الغربي أيضا، الذي سيفهم ويشعر بما أردت قوله، لأنني أختزل ولكني لا ألغي الوقائع الأساسية التي بني عليها الفيلم، وهي رؤيتي الفنية بشكل عام ولا تقتصر على هذا الفيلم.

كما أنني لا أريد فيلما يؤدي دور الوثيقة التاريخية، ثمة فرق بين العمل الفني السينمائي الخالص والعمل التوثيقي، أريد أفلاما تبقى ويمكن مشاهدتها حتى بعد تجاوز العراق لمرحلة الحرب وآلامها. أريد فيلما إنسانيا وسينمائيا بالدرجة الأولى. أعلم طبعا أننا هنا في العالم العربي لم نصل بعد إلى ثقافة سينمائية حقيقية، فالمشاهد يطالب بتفسيرات وإيضاحات، وقد لمست هذا بالنسبة لبعض المشاهدين العراقيين تحديدا، الذين ربما توقعوا مشاهدة تسجيل لمرحلة، لكنهم سيتفهمون اسلوبي لاحقا.

في فرنسا، وأنت مقيم فيها منذ سنوات طويلة، هل تعتبر نفسك مهاجرا، أم منفيا؟ ماذا أعطتك تجربتك في فرنسا شخصيا وفنيا؟

إنني من جيل نشأ على حب الثقافة والمعرفة، وعندما غادرت إلى فرنسا، كان التحصيل العلمي والمعرفة دافعي، وأحد الأسباب كان رغبتي بداية بتعلم اللغة الفرنسية، عشت هناك وعانيت مشاكل المهاجرين العرب الآخرين في أوروبا، كما استمتعت وتعلمت الكثير من ثقافة ذلك البلد في بناء شخصيتي الإنسانية والفنية. ولا أعتبر نفسي منفيا، فخروجي لم يكن قسريا، ولا يحمل أبعادا سياسية، وإنما أقيم في بلد تعلمت وأعمل فيه، وفي نفس الوقت أحمل مسؤوليتي الوطنية ومشروعي الثقافي الذي يمكنني من خلاله خدمة بلدي العراق والإنسان العراقي. وبعد المهرجان سأغادر عمان إلى العراق، لزيارة الأهل، حاملا في نفس الوقت فكرة فيلم وثائقي، متمنيا أن تتيح لنا الظروف هناك تنفيذه.

في مشهد بين الجندي رياض صديق مستور وزهرة، جرى حوار عذب وجميل، يعكس موقفا تقدميا تجاه المرأة، ورفضا لظلمها من قبل المجتمع. كيف ترى علاقتك مع المرأة؟ وماذا يمكن أن تقدم لها على صعيد أعمالك السينمائية أيضا؟

لن أكرر كليشيهات مستهلكة حول أهمية المرأة في الحياة، ببساطة نشأت محاطا بنساء، أمي وثلاث أخوات أعتز بهن، ولن أضيف الكثير إذا قلت أن وجود المرأة مهم جدا في حياتي، وفي حياة المجتمع أيضا، كما أنها المؤشر على ارتقائه أو انحطاطه. وقد راعني تراجع وضع المرأة العراقية الحالي، وعودة الحجاب بقسوة، وانكفاؤهن على منجزاتهن المبكرة نسبيا. وهو تراجع أصاب المرأة العربية ايضا.

النساء كن دائما من دفعن ثمن الحروب في العراق، كما هو الحال دائما في كل مكان، حيث تكون النساء أول المتضررين من الحرب وآثارها. ومأساة العراقيات على خطورتها، إلا أنها للأسف مغيبة ولا تحظى بالاهتمام حتى الآن. إنني من أشد الرافضين لهذا الوضع البائس للمرأة العربية، الذي يكاد يقضي على إمكانياتها الإنسانية في العراق، وفي العالم العربي. وأعتبر أن مسؤوليتي تاريخية تجاه المرأة ثقافيا وسينمائيا. فمثلا خلال بحثنا لتنفيذ الفيلم، كان من أحد أسباب رفضي للتصوير في الجانب الإيراني من الأهوار، هو اشتراطهم ظهور الممثلات محجبات.

إنني فنان، وواجب الفن والسينما تحديدا التبشير بالتغيير لا تكريس الواقع، وعلينا كفنانين العمل على تفعيل رؤانا الفكرية والفنية في تناولنا لما يمس المرأة بما يطور واقعها، لا بما يتواطأ مع الاختلالات الحاصلة حاليا. حتى اختياري للممثلات في أعمالي، فإنه يقوم على سمات وخصائص تعزز صورة المرأة القوية المجابهة لظروفها، والرافضة للخضوع.

كما أسعى لتقديم نماذج مضيئة من النساء، فلدي حاليا مشروع سينمائي حول مناضلة جزائرية اسمها جميلة بوباشا، من زمن الاستعمار الفرنسي، امرأة قوية مؤمنة بعدالة قضيتها، تعرضت للاعتقال والتعذيب فترات طويلة، وقدمت التضحيات في سبيل قضيتها الوطنية. مثل هذا النموذج من النساء الوطني والإنساني هو ما يثير إعجابي وما يهمني فعلا.

في الفيلم مشهد للجندي رياض بعد مقتل صديقه مستور في حرب الخليج الأولى، يسير في الصحراء، بين جثث الجنود القتلى، في رمزية للتيه واليأس وعبثية تلك الحرب، ثم يخرج جندي أمريكي يسير باتجاهه بنفس ملامح التيه، ليقع ويموت. هل كنت تسجل في ذلك المشهد موقفا يدين الحروب؟ وهل ينسحب موقفك هذا على حروب التحرير مثلا؟

مبدئيا فإنني أرفض الحروب وأدينها، وأعتبرها عبثا مدمرا، إنها ضد الإنسان وضد استمرارية الحياة، لأنها تسلب الإنسان حياة منحت له ليحياها، ولا تخلف سوى الدمار واليأس والأرواح المشوهة، والمآسي على اختلافها. هذا هو موقفي الوجودي من الحروب، والذي سجلته في الفيلم، ولكن النضال بالتأكيد مسألة أخرى. يقول سميح القاسم: أكره كل حرب إلا حروب التحرير.

لا يمكن اعتبار الحركة السينمائية العراقية طارئة، فقد بدأت إرهاصاتها في الأربعينات، على أنها لم تسجل حضورا كبيرا في المشهد السينمائي العربي، هل تعتبر نفسك ومجايليك مؤسسين للسينما العراقية، أم متابعين للتجارب السابقة؟

نعم لقد كانت هناك بدايات منذ الأربعينات، لكن لم تكن هناك يوما صناعة سينمائية عراقية، وإنما كانت هناك أفلام متفرقة ومتباعدة زمنيا، متفاوتة المستوى فنيا، وأول تلك الأفلام وأهمها تجربة الفنان سعيد الأفندي.

قطعا لا أعد نفسي من المؤسسين ، ولكن الأفلام التي نصنعها هي محاولات جادة ومخلصة للعمل، من قبلي ومن قبل فنانين آخرين مثل المخرجين محمد الدراجي، قاسم حول، وعدي رشيد، وآخرين ربما لم أتمكن من الاطلاع على تجاربهم، ونرجو أن تكون تجاربنا مشجعة لتبني صناعة السينما في العراق مستقبلا، حيث أنها صناعة تتطلب إمكانيات ضخمة وتمويلا لا بد من مساهمة مؤسسات عديدة فيها.

وأعتقد أن الوضع المأساوي في العراق بكل ما فيه من فوضى وعبثية، يعتبر مصدرا غنيا حاليا للفنانين وخصوصا المخرجين للتعامل معه سينمائيا، بما يمكننا من خلق صناعة سينما عراقية تليق بالعراق الذي نطمح لبنائه في المستقبل.

شاركت بفيلمك في العديد من المهرجانات وما زال مرشحا لمهرجانات أخرى، كما نلت عدة جوائز عنه في تلك المهرجانات. ما أهمية تلك المهرجانات بالنسبة لك؟ وما دورها في تطوير الحركة السينمائية العربية؟

لهذه المهرجانات أهمية بالغة، وإن كانت تتم في شبه غياب للإنتاج السينمائي، خصوصا في منطقة الخليج، ولكن من خلالها يتمكن المخرجون أمثالي من عرض أفلامهم التي لا يمكن مشاهدتها في مكان آخر، لأنها ليست أفلاما تجارية. كما يشاهد الفيلم من قبل جمهور واسع، بفضل المهرجانات، لقد عرض فيلمي في كوريا الجنوبية، ذلك ما كان ليحدث لولا المهرجانات السينمائية. كما أن المهرجانات تشكل حافزا للتجارب السينمائية، فمثلا إقامة مهرجان الخليج الأول، شجعت العديد من الشبان على صناعة أفلام للمشاركة في السنة التالية، بالإضافة إلى التفاعل بين السينمائيين والاطلاع على التجارب الأخرى الأكثر تقدما مما يساهم في زيادة الخبرات ورفع مستوى ما يقدم من أعمال سينمائية.

القدس العربي في

02/08/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)