تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

"إيلاف" تفتح ملف الذاكرة المرئية في العراق، وتستجلي أسباب فقرها وقصورها (8)

فاروق داود: السينمائي العراقي متفائل وجاهز للعمل في كل لحظة

حاوره عدنان حسين أحمد من لندن

تشكّل الذاكرة الثقافية رصيداً بالغ الأهمية لأي شعب من الشعوب، فكيف اذا كان الأمر يتعلق ببلد عريق ذي حضارات متعددة وموغلة في القدم مثل العراق. ولأن الذاكرة الثقافية مفردة واسعة وعميقة الدلالة، وتضم في طياتها الذاكرة المرئية والمسموعة والمكتوبة، إلا أن استفتاء "إيلاف" مكرّس للذاكرة المرئية فقط، والتي تقتصر على السينما والتلفزيون على وجه التحديد. ونتيجة للتدمير الشامل الذي  تعرضت له دار  الإذاعة والتلفزيون، ومؤسسة السينما والمسرح، بحيث لم يبقَ للعراق، إلا ما ندر، أية وثيقة مرئية. فلقد تلاشى الأرشيف السينمائي العراقي بشقيه الروائي والوثائقي. وعلى الرغم من أن السينما العراقية لم تأخذ حقها الطبيعي على مر الأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق، كما لم يحضَ السينمائيون العراقيون بأدنى اهتمام من مختلف الحكومات العراقية التي كانت منشغلة بموازناتها السياسية، وبأرشفة أنشطتها المحدودة التي لا تخرج عن إطار الذات المرَضية المتضخمة. وقبل سقوط النظام الدكتاتوري في بغداد كان السينمائيون العراقيون يعلِّقون الآمال على حكومة العراق الجديد التي تمترست خلف أطاريح الديمقراطية، والتعددية السياسية، والتناوب السلمي على السلطة من دون انقلابات أو ثورات يفجرها مغامرون عسكريون مصابون بعقدتي السجادة الحمراء والموكب الرئاسي، غير أن واقع الحال يكشف، خلافاً للتمنيات المعقودة، بأن نصيب الذاكرة المرئية من الرعاية والاهتمام يكاد يكون معدوماً، بل أن بعض السينمائيين العراقيين قد بات يخشى من تحريم هذا الفن الرفيع أو اقامة الحد عليه. لقد عنَّ لـ "لإيلاف" أن تثير خمسة محاور أساسية في محاولة منها لاستجلاء واقع السينما العراقية عبر تفكيك منجزها الروائي والوثائقي على قلته، ورصد حاضرها المأزوم، واستشراف مستقبلها الذي نتمنى له أن يكون مشرقاً وواعداً بحجم تمنيات العراقيين وتطلعاتهم نحو حياة حرة، آمنة، مستقرة، كريمة.

أسئلة الملف السينمائي

1- على الرغم من غنى العراق وثرائه الشديدين، مادياً وبشرياً، إلا أنه يفتقر إلى الذاكرة المرئية. ما السبب في ذلك من وجهة نظرك كمخرج "أو ناقد" سينمائي؟

2- أيستطيع المخرجون العراقيون المقيمون في الداخل أو المُوزَعون في المنافي العالمية أن يصنعوا ذاكرة مرئية؟ وهل وضعنا بعض الأسس الصحيحة لهذه الذاكرة المرئية التي بلغت بالكاد " 105 " أفلام روائية فقط، ونحو 500 فيلم من الأفلام الوثائقية الناجحة فنياً؟

3- فيما يتعلق بـ " الذاكرة البصرية " كان غودار يقول " إذا كانت السينما هي الذاكرة فالتلفزيون هو النسيان " كيف تتعاطى مع التلفزيون، ألا يوجد عمل تلفزيوني ممكن أن يصمد مدة عشر سنوات أو أكثر؟ وهل كل ما يُصْنَع للتلفاز يُهمل ويُلقى به في سلة المهملات؟

4- كيف نُشيع ظاهرة الفيلم الوثائقي إذاً، أليس التلفاز من وجهة نظرك مجاله الحيوي. هناك المئات من الأفلام الوثائقية التي لا تحتملها صالات السينما، ألا يمكن إستيعابها من خلال الشاشة الفضية؟

5- في السابق كانت الدكتاتورية هي الشمّاعة التي نعلّق عليها أخطاءنا. ما هو عذرنا كسينمائيين في ظل العراق الجديد؟ وهل هناك بصيص أمل في التأسيس الجدي لذاكرة بصرية عراقية ترضي الجميع؟

فيما يلي الحلقة الثامنة التي يجيب فيها الفنان والمخرج فاروق داود على أسئلة ملف السينما العراقية.

 

فاروق داود: السينمائي العراقي متفائل وجاهز للعمل في كل لحظة

السينما من أرقى الفنون

1- لايكفي أن يكون بلد ما، ثرياً مادياً وبشرياً, كي ينتج ويوقظ وينعش ويحمي الذاكرة بصورة عامة والذاكرة المرئية بشكل خاص, وهي أي الذاكرة, نتاج الوعي واللاوعي البشري وبالعكس. 

إنها الحضارة التي تنطوي على مراحل طويلة تدريجية من الاستقر السياسي والاقتصادي مما يؤدي الى اشاعة الوعي الثقافي وغنى الحس الوطني ونبل الاخلاق العامة, ثم التحول بخطوات نوعية من مستوى الى اخر أرقى.

أليس الفن السينمائي أرقى الفنون "أو من أرقاها"؟, فكيف يمكن أن يرقى ويزدهر في ظل مجتمع الانقلابات والاضطرابات السياسية والحروب الخارجية والداخلي والصراع الطائفي وعدم الاستقرار.

السينما صناعة ذات قواعد وتقاليد وأخلاقيات انتاج وعمل, وتكنولوجيا, وقوانين خاصة بها. وهذ لايتم بقرار فوقي, سياسي, أو برغبة آنية ملحّة لانتاج فيلم يمجّد سلطة او متسلّطا ما, بل بالتراكم الانتاجي الحر والمستمر من جيل الى آخر.

لقد ولد الفيلم السينمائي العراقي بعد مخاض عسير, وفي ظروف صعبة للغاية! وهل ننسى أولئك الأوائل الذين باعوا حتى أثاث بيوتهم واستقطعوا من لقمة عيشهم وعائلاتهم, ليحققوا حلم فيلم عراقي, وأولئك الذين بين معتقل وكاميرا, أو منفى بارد طويل، وتلكم اللواتي تحدين التخلف ووقفن أمام الكاميرا بكل ثقة من أجل مستقبل أكثر عدلاً واشراقا.

ولكن حتى تلك المحاولات الخالدة في ذاكرة العراقيين كانت متقطعة ومتباعدة. والحد الفاصل الطويل بين فيلم وآخر كان ذاك الصراع المقيت على السلطة. ولهذا لا تلبث أن تنبت جذور لقواعد الانتاج "تقاليد عمل وتقنيات" حتى تجتثها عملية قفز الى السلطة، أو انقلاب عسكري، وحتى ثورة بيضاء!

لا مستقبل لبلد أو شعب أو لامّة, من دون ذاكرة. والذاكرة هي الخزين الديناميكي الفعّال لكافة النتاجات الانسانية الخاصة بمجتمع ما، خزين متّصل يربط الماضى بالحاضر والمستقبل, ويؤدي الى التفاعل فيما بينها, إنها الثروة الفعلية لأي شعب أو أمة تطمح للتحضر وهي الرأسمال الحقيقي، والذاكرة المرئية "البصرية" هي الأهم والأخطر وبخاصة الدور الفعّال والشامل والمركّز "المكثّف" الذي يلعبه الفيلم السينمائي في قدرته المرنة على تجسيد النتاج الجمعي بأشكاله المختلفة والربط والبناء التفاعلي بين الأزمنة من ناحية وبين الأمكنة من ناحية أخرى, وبين الزمان والمكان. ولا غناء الذاكرة المرئية "وبالذات انتاج الفيلم السينمائي" لا بد من الاستقرار السياسي وسيادة النظام الديمقراطي البرلماني الحقيقي واطلاق حرية التعبير  وحماية وصيانة واحترام حقوق المواطن، ثم ياتي الدور الداعم والمتمثل بالاقتصاد الفعّال. وسوق انتاج سينمائي حر ومدعوم من قبل مؤسسات الدولة ذات الصلة, بالاضافة الى اشراك وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني في هذا المجال.

اذا وبخلاصة، لانتاج الذاكرة المرئية العراقية, لا بد من الثراء المادي والبشري وحرية العراقي والعراقية. 

الساعة المستحيلة  

2- نعم استطاع المخرجون العراقيون أن يصنعوا ذاكرة مرئية, وخاصة الجيل الجديد من الشباب في الداخل, وبالذات مع البدايات الاولى للحرب, أي بعد عام 2003, حيث كانت امكاناتهم عبارة عن كاميرا قديمة وفيلم خام في معظم الحالات يفتقر الى الصلاحية التقنية, أو الحد الادنى من أجهزة رقمية "كاميرا  ديجيتال مثلا", وقليلا من الخبز, وكثيراً جداً من الاصرار والعزيمة والايمان بالمستقبل, وبسينما عراقية مستقلة. نعم تبين أن هذه الافلام صالحة للعرض, وليس هذا حسب, بل وحصدت جوائز مهمة في المهرجانات السينمائية.

كانت حمّى الابداع تغلي في عروق هذا الجيل, الى أن حلّت فسحة للحرية, فكان الانطلاق, ولكن بين ألغام الصراع الدامي من كل إتجاه. 

لم يكتف همج عشاق السلطة بسحق الناس في الداخل, وانما طاردوهم في الخارج واستخدموا شتى الوسائل لشل حركتهم, ومنهم من المبدعين في كافة المجالات, حيث تعلّم النظام بان افضل طريقة لقتل الفنان والمبدع, هي بالحيلولة دونه والعمل الفني، وهكذا أصبح جيلا ًمن المبدعين والسينمائيين, جيلاً مقهوراً محبطا, ووجد الكثير منهم نفسه في ترحال لا نهائي بين المنافي. وبالرغم من ذلك استطاعوا أن يرفدوا الذاكرة المرئية, بأفلام عبّرت بأساليب وموضوعات شتى عن مرحلة هامة من تاريخ الشعب العراقي, وكان هاجسهم الدائم الانتاج من الداخل, حتى حلّت الساعة المستحيلة, فدبّت تلك الحمّى اللذيذة في العروق, ودق ناقوس الأمل دقته بعد انتظار طويل فدارت كاميراتهم دورتها على أرض الوطن, وبالمساندة والتمازج مع سينمائيي الداخل, مبشّرة بظهور بوادر جدية لسينما عراقية تذكرنا ببعض ملامحها بالسينما الواقعية الايطالية بعد الحرب العالمية الثانية, وهكذا أصبح الفيلم العراقي أهم وأنشط سفير يمثل العراق في مختلف أنحاء العالم في هذه المرحلة, والأمثلة كثيرة. أنا أشكرك لاختيارك تعبير بعض الأسس, وليس صناعة وتقاليد عمل..الخ. هذه الأسس التي تمثلت بالمبادرات الفردية التي اجتهد بعض الذين درسوا السينما بالخارج لترسيخها بين طلبتهم وأخذت شكلاً "في أغلب وأفضل الاحوال" يؤكد على أهمية السينما كثقافة وفن هام وسلاح فعال وايديولوجي ..الخ, وبشكل نظري, ثم كانت تلك المحاولات الانتاجية المتباعدة كما أسلفت سابقا. وهذه الأسس كانت بمثابة بذور طيبة زرعها الأساتذة الأوائل, ما لبثت أن انعكست بعض نتائجها في اصرار الأجيال اللاحقة على حب السينما وانتاج الأفلام. وحتى أن بعض هذه الافلام التي نوّهت عنها حضرتك, تعرّضت للإهمال أو لتدخل مقص أحمق أو حتى للنفي بمعية صانعيها, وأسهل حالات النفي وأكثرها قهراً, كانت باهمال وبالغاء عمل المبدع الحقيقي ونفيه في وطنه, وأمّا ما تبقى من الـ105 و الـ500 فيلم,  فكان من نصيب  صعقة أو صدمة رامسفيلد!

هناك أسس وبعض ذاكرة مرئية "عدد من الأفلام التي أنقذها بعض اللصوص الظرفاء ووصلت الى ايدٍ أمينة", وأجيال من السينمائيين الطموحين وأمل بنظام ديمقراطي يسوده القانون واحترام الفرد وانسانيته. اذا نستطيع أن نتفاءل بصناعة ذاكرة مرئية عراقية قادمة.

ربما ستقول بأنني أبالغ في التفاؤل, ولكني أعتمد على الواقع الملموس وأنطلق من خلال التجربة العملية, نعم إن توفرت هذه العناصر فعجلة الانتاج ستدور وستقوم صناعة سينمائية وسيكون الحديث بعد ذلك عن السينما العراقية, ولكن ليس بثقة كاملة، وإنما حتى يتحقق المجتمع الحضاري أسوة بالعالم المتحضر, بحيث تترسخ الثقافة والوعي الحضاري في ضمير وأخلاقية وسلوك الفرد عندها ومهما سيحدث من مآسٍ أو حروب مفروضة لا مناص منها, فلن يؤدي ذلك الى تدمير أو طمس الذاكرة المرئية. فمنذ اختراع أفلام سينما الأخوين لوميير "فرنسا" أو أديسون "أمريكا" في نهاية القرن التاسع عشر, وحتى اليوم, نجد أن هناك متاحف سينمائية ودور عرض متخصصة بعروض أفلام تمثل تاريخ السينما العالمية, ابتداءً من تاريخ ظهور أول الأفلام وهو شريط يصور قطار يصل الى محطته, أو لقطة ملاكمة ..الخ,  هذا بالرغم من أن العالم كان قد دخل تجربتي حرب ضروس, وحروب اصغر كثيرة.

ونحن في هذا اللقاء وكما هو واضح نتحدث عن صناعة الذاكرة المرئية وسبل صيانتها وليس الشكل والمحتوى.

الزائر الدائم

3- جاء غودار صحفياً الى السينما وفتح باباً لتمر عبره حركة سينمائية جديدة تعتمد على متابعة الحدث الواقعي أو دراما الواقع, محررا كاميرته من التأثير  التكنولوجي والايديولوجي للسينما التقليدية مثل إستخدام الرافعة "كرين" أو السكّة "دولي" والاضاءة الصناعية وغيرها, وابتعد عن التركيز المتّبع على نجومية الممثل والاغراق في تجريد الواقع, والسيناريو المحكم ....الخ. وباتت الكاميرا محمولة في أغلب الأحيان, تسجل على الشريط السينمائي وجهة نظر مراقب ومتابع للحدث, ومحلل صحفي وبأسلوب السينما الوثائقية. وهكذا سمّيت حركته السينمائية أحياناً بسينما الشارع، أو سينما الحقيقة. 

انطلاقا من ذالك نجد في تاريخ السينما محاولات جريئة للانعتاق عن سينما الواقع الوهم والبطل النجم, الاسطوري الذي خلقته هوليود, وايجاد بديل يعكس هموم وطموح الانسان المعاصر الاعتيادي من ناحية, ومحاولة انقاذ هذا الزائر الدائم لكل بيت "التلفاز" من سطوة جماليات الانتاج الهوليوودي وكذا من رقابة وهيمنة السلطات بكافة أشكالها.

اذاً هناك اختراع لخدمة انسانية حضارية، وهناك سوق وحسابات وصراع, ولو أحصينا عدد الاختراعات التي جاءت لتطوير الحياة البشرية, وانقلبت ضدها لكان الرقم مذهلا.

فليس عجيباً أو مفاجئاً نعت غودار للتلفزيون بأنه النسيان "قال ذلك قبل عقود", لا تذهب بعيدا. أنظر اليوم الى طبيعة محطات التلفاز العراقية وما تبثه, وقدرتها السريعة على التكاثر "رغم عمق الماساة التي حلّت بالعراق", فستعرف ما هو النسيان.

للسينما لغة خاصة بها, لها قواعدها عند التنفيذ, وطريقتها في العرض والتلقّي, ادواتها هي الصورة "اللقطات" والصوت "المؤثرات الحية, الحوارات والموسيقى ..الخ  "ثم تقوم عملية البناء بالتوليف أو المونتاج بين اللقطات وبداخلها, وبينها وبين الأصوات, مونتاج الحركة, واللون والضوء" لتؤدي بالنتيجة الى مادة مركبة بالغة التكثيف متعددة الرسائل الذهنية والجمالية.

وهذا يتوافق مع طريقة العرض السينمائي, السيكوفسيولوجية, حيث يبدأ طقس التلقي بالتوجه الى صالة العرض, والدخول التدريجي في مرحلة الاستعداد والتهيؤ للمشاهدة والانعزال شبه الكامل في الظلمة عن الاخرين والتوحد مع الشاشة حيث التتابع في تلقي شبكية العين لصدمات النور والظلمة, مما يؤدي الى التركيز. وهذا لا يحدث تماما في حالة التلفزيون الذي يبقى كقطعة ديكور في منزل أو منتدى، ومهما تطورت تقنياته. ثم وبدلاً من أن يلعب الدور الأساس كوسيلة اتصال حضارية, كان وأصبح من السهولة استخدامه كأداة صراع في حروب الفضائيات اليوم ولأغراض سلطوية في معظم الحالات, بينما نأت السينما عن ذلك كثيراً بحكم اختلاف قواعدها وطبيعتها، الفنية، التجارية ..الخ.

المشكلة لا تكمن في قدرة التلفاز على بث أعمال تعيش طويلاً وتتحول الى ذاكرة مرئية أيضاً, خاصة وأن عجلة التطور التقني لا تتوقف كما يبدو، ولكن المشكلة في كيفية استخدامه ولأية أهداف.

مقياس الجودة

4- أحب هذا السؤال كثيراً لانه يحثني على التأكيد بأن فن الفيلم هو فن واحد قائم بذاته, ولكن هناك تقسيمات وتعريفات لأنواع مختلفة من الافلام, وهذه مجرد تسميات لأغراض الدراسات "النقد السينمائي مثلا", وتنظيم مناهج تعليم وبرامج مهرجانات عرض افلام ..الخ. 

الفيلم الجيد يجد مكانه في أرقى وأوسع صالات العرض مهما كانت الخانة التي وضع فيها, روائياً كان, أم وثائقياً, تعليمياً أم علمياً. وهناك أفلام وثائقية وروائية على السواء لم تنمحي من الذاكرة الانسانية منذ عقود. وأقول لك سراً بأن أفلاماً وثائقية عراقية أُنتجت بعد 2003 لا تزال تغزو صالات مهرجانات الأفلام العالمية.

لا يوجد فيلم غير جيد, لأنه لا يمكن تسميته فيلماً اذا لم يكن جيدا, فسيكون نتاجا من شكل آخر قد يكون مفيدا في مجال ما، ولكن يصبح الفيلم فيلماً اذا شاهدناه, ومقياس الجودة لا يكمن فقط في عدد المشاهدين، وإنما بقدرته على البقاء في ذاكرة الناس وتفاعله مع احاسيسهم وعقلهم, فيغني هذه الذاكرة ويتحول الى رصيد لها.

لندع جانبا تلفاز المنزل أو الحي, فغالبا مفاتيحه ليست بيدنا, وليس عبثا من وضعه في خانة السلطة "الرابعة" , وهو بالأمس واليوم في كثير من البلاد بمثابة السلطة الثانية بعد سلطة المخابرات!, إنه فقط في الاحلأم يمكن ان يتحرر التلفزيون "دول العالم الثالث خاصة" ....

أن يتحرر, يعني أن تديره عقول نيّرة, حضارية تؤمن بالانسان وتحترم عقله ومشاعره, وحقه في أن يتلقى الأفضل من على الشاشة الفضية, وهذا لن يتم الا في مناخ ديمقراطي ووسط قابل للتطور. حيث سينفض التلفاز عنه غبار التخلف, وحينها يمكن احتضان ورعاية الافلام بانواعها واختيار ما هو مناسب وفعّال للعرض التلفزيوني.

ويمكن اشاعة الفعل الثقافي والعلمي والفني بين الاجيال وفورا, وبكلفة لا تذكر نسبة الى بلد مثل العراق, وذلك بتعميم صالات العرض في المدارس والمعاهد كافة, أو فقط تجهيز الصف المدرسي, أو حتى احدى غرف المدرسة, بقطعة قماش بيضاء وجهاز عرض, وهذا لن يكلف كثيرا، ثم دع ما تبقى فسيتكفل به منتجو الافلام من العراقيين وغيرهم.

وهنا سيجد الفيلم الوثائقي مكانه الأرحب, وكذا الكثير من الأفلام الروائية, خاصة اذا كان العرض ضمن المنهج الدراسي, ودع التلفاز لاصحابه, حتى يتحرر بعض الشيء من التوجهات أحادية المصالح, فهي مسالة وقت في حال التوجه الديمقراطي, وأما التطوير المستمر في تقنيات التلفزة, فانه سيساعد كثيراً في استيعاب الافلام بأنواعها, ومن ضمنها الأفلام الوثائقية.

العراق الذي نحلم به ونشتهيه 

5- مشكلة الانتاج السينمائي في العراق "ودول أخرى" ليست في الأخطاء التي يقترفها السينمائيون, والأخطاء واردة في أثناء الانتاج, ولكن المشكلة هي  في عدم تجاوز هذه الاخطاء, والسبب هو في تلكؤ عجلة الانتاج وارتباطها المباشر بالسلطة "الدكتاتورية" .. هذه هي الشمّاعة الاساسية!

أما في ظل العراق "الجديد" الذي نحلم به كل يوم وكل ساعة ونشتهيه!, فنحار في اختيارالشماعة التي سنعلّق عليها أخطاءنا. لانها كثيرة, ومن بينها وأهمها هو الوضع الامني, هذا اذا افترضنا أننا تجاوزنا المعضلات الانتاجية الكثيرة الأخرى.

وقد يقال هنا بأنك قد قلت للتو بأن هناك ذاكرة مرئية تجسّد بالصورة والصوت أحداث حروب عالمية قاسية. فأقول بأن تلك الحروب كانت بين عدوين وبين جبهتين. أما في حالة العراق وبعيد سقوط النظام المتخلف, وأنت كسينمائي فستعمل في سيناريو واحد وعنوانه: من هو العدو ومن هو الصديق؟ وان تجاوزت كل التحديات وغامرت, فدخلت مرحلة التصوير, فمن المحتمل أن يكمّل المشوار عنك, أحد زملائك الشجعان "من أهل الداخل كما يقال أحيانا", ويغيّر عنوان الفيلم الى .. عاد ليدفن في أرض الوطن!. وحقيقة الأمر وبالرغم من المصائب الجمّة والرهيبة التي مرّت بالعراق فهناك أوضاع جديدة بدأت تنجلي عن شعلة أمل، وليس أملاً حسب, حيث بوادر تحرر الأفكار, في سيناريوهات الأفلام الجديدة, وتبوأ جيل جديد مركز الصدارة في مشاريع جادة تحمل طابعاً تنويرياً مبتعداً بعض الشيء عن عقد الماضي. هذا بالتوافق مع تحسن الأوضاع الأمنية ومع بدايات الاهتمام من قبل بعض الدوائر الحكومية ولو بشكل فردي غير منظم بدعم وتشجيع بعض المحاولات الفردية الجادّة.

لم توجد بعد السينما "الذاكرة البصرية السينمائية", التي ترضي الجميع, ولن توجد مستقبلا, حتى على صعيد الانتاج العالمي, فما بالك بالافلام العراقية الشحيحة!. إن جدلية العلاقة بين وعي الانسان والعمل تحتّم عملية التطور, فلا تتوقف عجلة الانتاج والابداع في الفن والعلم والثقافة عند حد, فالسينما كغيرها من النتاجات في تطور مستمر. وهذا يعكس ويتناسب مع الطبيعة البشرية مع اختلاف في المستوى هنا وهناك مما له أسبابه. السينمائي العراقي اليوم قد أثبت بانه يريد أن يعمل وهو جاهز للعمل في كل يوم وكل لحظة, ومتفائل، ولكنه يصطدم كغيره من الناس بجدران محصّنة "شمّاعات من طراز جديد", جدران البيروقراطية الأنانية المشبّعة بالمصلحة الضيقة!.

إيلاف في

17/05/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)