تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

في «الحالة الغريبة لبينجامين بوتون»:

ليس مهماً أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء

دمشق ـ فجر يعقوب

لا نعرف ماإذا كان مشهد الساعة التي تعود عقاربها إلى الوراء بشكل عكسي يستحق كل هذا التصفيق من حوله كونه يلتحم مفصليا ب(الحالة الغريبة لبينجامين بوتون)، أو بوصفه مشهدا منفصلا لاعلاقة له بهذه الحالة الغريبة،وأنه يستمد أهميته وجمالياته لو قمنا بالنظر إليه من زاوية منفصلة تماما عن السياق السردي العام للفيلم.

تبدو لنا الساعة عن قرب بعيدة عن «حياة» بينجامين الحافلة بكل ماهو غريب واستثنائي وهي طارئة على القصة عموما، لاكما يبدو للوهلة الأولى وكأنها توطئة درامية للدخول في أحداث كان سببها السيد الضرير كاتو صانع الساعات الأجود في جنوب أميركا. وهو قد قام بصناعتها بهذه الطريقة عقب مقتل ابنه الوحيد في الحرب العالمية الأولى محاولا من جهته العبث بالزمن مستخدما فرضية (لو) السحرية التي لا تفيده هنا ، ذلك أنه لو عاد الزمن إلى الوراء لما ذهب الأولاد إلى الحرب، ولما جرحوا، ولعاشوا حياتهم وأحبوا وقاموا بخيانة بعضهم البعض .. وامتلكوا زاد الحياة نفسها بما فيها من ذكريات جميلة وبغيضة ومؤلمة. هذا ما يريده السيد كاتو ويعبر عنه عقب إزاحة الستار عن الساعة في محطة القطار. إنها لحظة مؤثرة تلك التي يعلن فيها صانع الساعات العبقري، أو الفيلسوف الوحيد في الفيلم عن أحاسيسه بهذه الطريقة، اذ يقدم لنا المخرج ديفيد فينشر مشاهد استردادية للمعركة التي أودت بحياة ابن السيد الضرير كاتو. المشهد بحد ذاته بدا عاديا في لحظة الاسترداد هذه، وهو لا يرتبط «سينمائيا» بحالة بينجامين، لأننا نفترض أن الشاب الذي قتل في الحرب يمتلك ذكريات طفولته وشبابه، أي المرحلة العمرية التي بلغها بشكل طبيعي ، وجمع فيها ذكريات تجيء من العيش ولايمتلكها بوتون الذي ولد مجردا منها، وهذا قد يعني بشكل أو بآخر أن مشهد الساعة قد يكون زائدا على القصة برمتها، وربما لو قدمت (الحالة الغريبة لبينجامين بوتون) من دونها لغدا الفيلم أكثر تماسكا وبريقا، بالرغم من برودة واضحة في سرد الأحداث بطريقة النجم براد بيت، وفيما احتفظ كاتو من خلال ساعته بالبعد الفلسفي لقصة بينجامين الذي يولد كهلا، ويموت رضيعا، ويشهد على أناس يولدون من أجل الرقص، ومن أجل الفن، ومن أجل أن تضرب بعضهم صاعقة، ومن أجل شكسبير الخ..، بدا لنا الفيلم الذي يفترض من حبكته أنه محمل بالأبعاد الفلسفية خاويا منها تماما، ذلك أن الحب الذي يبحث عنه المخرج فينشر، الحب الذي يرتبط بالموت، ويحتاج إليه ليصبح كلاسيكيا في أبعاده لا يتواجد في حالة بوتون. حتى علاقته العاطفية (المقلوبة) بديزي (كيت بلانشيت)، لايمكن العثور فيها على قصة حب، بل على تقاسم ذكريات تتجلى أكثر فأكثر في رحيل من هم حول بوتون بهذه الطريقة الغريبة، وما تفعله ديزي التسعينية وهي على فراش الموت، هو رواية القصة على مسامع ابنتها كارولين (جوليا اورموند) من خلال مذكرات بوتون نفسه التي كان يكتبها في أسفاره وتنقلاته، أي مما كان يكتسبه في فترة تشكل ملحمة نشوئه كهلا واندثاره رضيعا.

من هو بينجامين بوتون في مثل هذه الحالة الغريبة؟

إنه الكهل كما تخبرنا القصة الذي يولد ومعه التهاب مفاصل حاد ، وأطراف متحجرة ، وجلد فقد مرونته لرجل ثمانيني. هذه هي المعاينة الأولى له بعد أن يلقي به أبوه صانع الأزرار على أدراج دار للعجزة، وتلفظ أمه الحقيقية أنفاسها بعد ولادته مباشرة، حيث تلتقطه «أمه الجديدة « الزنجية كويني التي تحتفظ به بالرغم من أنه «معجزة ليست من النوع التي يحب أن يراها المرء». وهو الكهل الذي يولد بهذا المعنى من رحم الحرب العالمية الأولى. الحرب التي تقتل الناس وتضيع على الشباب فرص التنعم بالحياة وأسرارها لكسب الحكمة، وتبادل الكثير من الذكريات فيما بينهم . وهنا مابين الولادة والموت ، مابين هذين الحيزين المحيرين تولد عادة الحكمة التي تستند إلى العداوات والعلاقات العاطفية والبغض والشقاء الانساني، وكل هذه المفردات التي يحتاج إليها الانسان في مسيرته الطبيعية نحو غابات المشاعر الانسانية العامرة، لأنه لو قدر له أن يعيش بذات الطريقة التي عاش بها بوتون ، فإنه سيفتقد إليها بالتأكيد ، وسيعيش ملامح باردة، محايدة، غير مندغمة في الحياة التي يعيشها الناس الطبيعيون من حوله، وهم يتهاوون الواحد تلو الآخر، فيما هو يسير بشكل عكسي» مثل عقارب الساعة « من دون أن يسترد شيئا من حكمته ، لأنها لم تكن ضائعة في يوم من الأيام.

يبدأ الكهل الثمانيني بوتون حياته الفاقدة في مأوى للعجزة. أي أنه يفترض مثل الكثيرين غيره أن يكون قد ودع الكثير من الصحاب خلف ظهره، ولكن مشاهد تعرفه إلى ديزي (الطفلة) تكشف أنه بلا أسرار، وليس لديه أدنى تصور عن الحياة، وأنه مجرد بالتالي من «حكمة» عودة عقارب الساعة إلى الوراء، لأنها لا تعني له شيئا، ولا ترتبط به في سياق معين، وانما تظل معزولة، وماخلا المشهد الأول عام 1918 الذي يكشف فيه كاتو عن معجزة العبث بالزمن لا يعود لها وجود، باستثناء تبديلها في عام 2003 بساعة الكترونية في محطة القطار نفسها حيث يغمض بينجامين بوتون وهو رضيع عينيه إلى الأبد وهو في حضن زوجته المتقدمة في السن ديزي.

حين تعود عقارب الساعة إلى الوراء ، يعود معها في المشهد الاستردادي أناس كثيرون كانوا قد ذهبوا إلى الحرب بمحض اراداتهم، بعكس بينجامين بوتون الذي يعود وحيدا في رحلة لم يكن له فيها يد، وفي طريق عودته القدرية لايبدو مفهوما البتة هذا القطع في اكتساب الذكريات، اذ لايعود يتعرف على ديزي، ويشعر بالخوف منها، وحتى لو لو بدا الفيلم متلبسا حالة بوتون بالكامل، فإن رواية ديزي وهي ممددة على فراش الموت عن زوجها الذي ولد عجوزا وتحول إلى فتى يحمل سمات هووليود التي لاغنى عنها في هذه الحالة يقلل من قيمة الحكاية، اذ يقررمغادرتها بعد ولادة ابنتهما كارولين التي تكتشف من أمها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة أن هذا ال (بينجامين) هو والدها في الواقع.

لم يكن مفاجئا أن يفوز الفيلم في ترشيحات الأوسكار بأفضل ماكياج وديكور ومؤثرات، بعد أن ذهبت ترشيحاته ألأخرى الثلاثة عشر إلى الأفلام الأخرى، ولكن بناء الفيلم على فرضية (لو) الدرامية السحرية لا تجدي هنا، فالماكياج مهما بلغ في دقته وبراعته لا يصنع فيلما كلاسيكيا عن الحب كما أريد له أن يكون اذ يتم ربطه بالموت أو الانسحاق أمام الموت بهذا الشكل، ويكفي أن نتذكر المشهد الذي يدفع ببينجامين بوتون إلى الذهاب إلى باريس لأن ديزي أصيبت في حادث سيارة بكسر في ساقها سيمنعها عن الرقص إلى الأبد، وهو الحادث الذي سيبدد رمزية الرقص نفسه متساوقا مع حركة عقارب الساعة إن وجد. هذا المشهد سيعيد بوتون بناءه، فهو لا يتذكر هنا، وانما يبني تصورات على فرضية (لو)، فلو أن الصديقة لم تقرر الذهاب لشراء هدية، والعاملة في المتجر لو لم تغادر عملها وتنسى تغليف الهدية والسائق لو لم يتأخر لأن الشاحنة أغلقت عليه الطريق لما اصيبت ديزي بكسر ساقها.

(لو) فرضية متعسفة لم تنقذ حالة بينجامين بوتون الغريبة من التبدد ، بعكس الشباب الذين ذهبوا إلى الحرب وعادوا ثانية إلى الحياة في فرضية سينمائية ليست غريبة أبدا.

المستقبل اللبنانية في

15/03/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)