تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

مذكّرات نجيب الريحاني "شارلي شابلن العرب":

رأى سيد درويش أن ينفصل عنّا فكوّن مع عزيز عيد وعمر وصفي فرقة

ثم قدموا "أوبريت" شهرزاد لكنها لم تلاقِ نجاحاً يُذكر

مذكرات "كشكش بيه" أو نجيب الريحاني (شارلي شابلن العرب) صدرت آخيراً في القاهرة (عن المركز القومي للمسرح).

في هذه اليوميات يتتبع الريحاني (يُقال أنه من أصل لبناني) خطاه، منذ بداياته، وحتى قبيل وفاته. كيف انخرط في المسرح؟ كيف نجح؟ وكيف فشل؟ كيف تعرّف إلى بديعة مصابني وسيد درويش، وبديع خيري، ويوسف وهبي؟ كيف كانت أجواء الفن في بدايات القرن الماضي في القاهرة، وكيف كان الجمهور، والمسارح؟ يدوّن الريحاني كل ذلك بأسلوب بسيط أخّاذ، يتخلله كثير من السخرية، والفكاهة والألم... والفرح.

اخترنا، من هذه المذكرات نصوصاً تحيط بمجمل أجواء "زعيم المسرح الفكاهي".

[ موظف وغاوي تمثيل!

في عام بدأت صلتي بالمسرح، فرغم أنني موظف في شركة السكر بنجع حمادي إلا أنني كنت صديقاً شخصياً لكبار الممثلين في ذلك العهد، وكنت أجد لذة كبيرة في زمالة هؤلاء الممثلين... ولو أنها كانت حتى ذلك الحين مجرد زمالة من غير تمثيل...!

وكنت كثيراً ما أمضي أوقات فراغي متنقلاً بين قهوة برنتانيا ـ التي كانت بمثابة ناد للفنانين العاطلين، وبين مسارح عماد الدين، وكان من أصدقائي في ذلك الزمان الغابر الخواجة سليم أبيض، شقيق جورج بك أبيض، والمرحوم عزيز عيد والزميل استفان روستي وغيرهم...

وكنت أنا بالنسبة لهؤلاء كالمليونير بالنسبة لفقراء الهند... فقد كنت موظفاً أنال مرتباً شهرياً وأنا أضع ساقي فوق الأخرى... أما أغلبية الممثلين وقتذاك فكانوا يحصلون على مرتباتهم كل حين ومين.

[ أصبحت عاطلاً

وقد صدق رأيي في نفسي إذ بعد أن حصلت على نقودي التي اقترضتها لفرقة أبيض وحجازي... نقودي التي دفعتها جنيهات وقبضتها ملاليم... صارحني جورج أبيض بك برأيه فيي... وهو أنني ممثل فاشل لا أصلح حتى للقيام بالأدوار البسيطة... وقررت الفرقة بناء على ذلك الاستغناء عن خدماتي وخرجت من المولد بلا حمص... مع أنني دخلته وفي جيبي جنيهاً!

وهكذا أصبحت خالي الوفاض من كل شيء... فلا عمل... ولا نقود تظمئنني على المستقبل... ولكن الحياة كانت حلوة وقتئذ... فكنت أشاطر زملائي الممثلين العاطلين جلستهم على قهوة برنتانيا... التي كان يملكها رجل يوناني يدعى بركلي... وكانت هي محلنا المختار الذي يتحملنا عند الشدائد... وكان صاحب القهوة رجلاً يحب التمثيل والممثلين... لله في لله... فكان يعطينا ما نطلب ولا يشكو من تضخم حساب "الشكك" أبداً...!

[ عودة إلى البطالة!

ولكن... ولكن ما أصعب النجاح

لم يطل بنا الأمر في مسرح، "الاجبسيانا" حتى عدنا صفر الأيدي من جديد! وبعد أن كنا في "الطالع" أصبحنا في "النازل".

كان الجمهور قد مل مشاهدة رواياتنا التي كررناها مراراً وأعدنا تمثيلها تكراراً... أضف إلى هذا أن هذه الروايات لم تكن محلية لا قلباً ولا قالباً مما يستسيغ الجمهور أن يراه مرة فوق مرة... بل كانت كلها مسرحيات كوميدية مترجمة بالنص كما قلت... ولذلك بدأ الجمهور ينصرف عنا...

وبعد فترة وجيزة كان علينا أن نلقي السلاح...

وعدنا إلى قواعدنا قهوة الطيب الذكر "بركلي" ننعى العشرة جنيهات!

[ البورصة تصعد

وفي الفترة التي مرت بي عقب فشل مشروعنا... عادت بي الذاكرة إلى عهد الوظيفة... ورحت أتحسّر على الماضي... يوم أن كنت أقبض مرتباً ثابتاً وأنا أضع ساقي اليمنى على ساقي اليسرى... وبدأت ألعن قلة عقلي التي جعلتني أستند على "حيطة مايله"... هي التمثيل...!

ومكثت شهوراً أتحسّر...

وفي يوم جاءني الزميل استفان روستي يعرض عليّ عملاً بمسرح "الأبيي دي روز"، فتنفست الصعداء...!

[ ميلاد كشكش بيه!

وذات يوم سألني روزاتي عن المشروع الذي اقترحته، فقلت له انني أريد تقديم اسكتشات تمثيلية استعراضية يدخل فيها التمثيل دون أن يخرج منها الرقص والموسيقى فمثلاً عمدة من الريف يزور القاهرة بعد أن يبيع محصول القطن ويملأ جيوبه بالذهب، فتسحره ملاهي القاهرة وفتيات المراقص وإذا به يخسر كل نقوده، ولا يجد أجرة القطار التي يعود بها إلى قريته.

وما إن سمع روزاتي بالفكرة حتى أعجب بها وحبّذ تنفيذها وهكذا بدأت شخصية كشكش بيه عمدة كفر البلاص ترى النور!

[ عصر ذهبي

كان نجاحي في هذا اللون، "الفرانكو آراب" يفوق حدود الوصف... خصوصاً في مسرح الابيي دي روز... الذي لا يرتاده إلا الطبقات العليا من الناس... وبدأ الذهب يتدفق إلى جيوبي فارتفعت في الليلة إلى مائة وخمسين قرشاً ثم إلى جنيهين ثم إلى خمسة... وهكذا... وفي فترة قصيرة أصبحت كل شيء في مسرح الابيي دي روز.

كان روزاتي معجباً بي للنجاح الكبير الذي لقيته برامجنا... بينما كانت مدام روزاتي معجبة بي لأسباب أخرى.

وهكذا ضممت الفخر من أطرافه على رأي مهيار الديلمي...

[ حرب باردة

وبدأنا العمل في مسرح الرينسانس وفي النفس ما فيها من آثار التقاضي مع روزاتي، وانضم إلينا المرحوم أمين صدقي واستفان روستي، وعبد اللطيف المصري... كما انضم إلينا لأول مرة المرحوم عبد اللطيف جمجوم...

وفي أول رواية قدمناها، تعمدنا أن نثير غيظ روزاتي فأسميناها "ابقى قابلني" وكانت هذه الرواية فاتحة عهد جديد في فن "التريقة" و"التأويز" على المنافسين أو بعبارة أخرى كانت إلى حد كبير طريقة روسيا وأميركا في حربهما الباردة!

وقد انتشرت هذه التقليعة تقليعة الحرب الباردة في ذلك الحين انتشاراً واسعاً... فكانت الفرق المتنافسة تختار أسماء رواياتها بحيث تثير أعصاب الفرق الأخرى المنافسة لها، أو ترد بها على اسم رواية يثير أعصابها هي!

ولأول مرة في تاريخ المسرح المصري يستغرق عرض إحدى الروايات شهراً بأكمله. فقد نجحت رواية "إبقى قابلني" نجاحاً منقطع النظير، ولم يفتر إقبال الجمهور علينا خلال الشهر كله الذي واصلنا فيه تمثيلها ولم ينقص إيراد شباك التذاكر في أحد الأيام طوال ذلك الشهر، وبدأت "النغنغة" تعرف طريقها إلى نفوسنا.

[ كش كش بيه في باريس

وفي نهاية الشهر أخرجنا رواية (كش كش بيه في باريس) فدقت هذه الرواية آخر مسمار في نعش المرحوم "الابيي دي روز" إذ لاقت من النجاح ما لم تلاقه حتى رواية "إبقى قابلني"!

ثم أخرجنا بعدها رواية "وصية كش كش بيه".

ولم يكن نصيبها من النجاح بأقل من نصيب سابقاتها من الروايات التي قدمناها...

وفي شهر مايو عام كانت مدة العقد الذي استأجر به الخواجة ديمو مسرح الرينسانس قد انتهت، ولم يشأ ديمو أن يجدده، بل فضل أن نشتغل على مسرح جديد يكون ملكاً له، وفاتحني في ذلك، فوافقته على وجهة نظره، لأن قيمة الايجار الذي كان يدفعه للرينسانس مرتفعة جداً... وإذا دخلت هذه القيمة جيوبنا، فسيزيد الخير خيرين!

[ كيف عرفت بديع خيري

كان لي صديق اسمه جورج شفتشي، كان زميلاً لي أيام كنت موظفاً في البنك الزراعي... وكان هذا الصديق يتردد عليّ كثيراً...

وذات يوم عرض عليّ جورج شفتشي رواية عنوانها "على كيفك" وأعجبتني الرواية... ولم يخب ظني فيها عندما قدمناها... إذ نالت نجاحاً جعلتني أبحث عن مؤلفها... أما لماذا أبحث عن مؤلفها فلأنني كنت أعرف أن صديقي جورج شفتشي لا يستطيع أن يؤلف الروايات بهذه السهولة... فطفت "أشمشم" حتى عرفت أنه فعلاً لم يكن مؤلف الرواية... وإنما مؤلفها مدرّس اسمه بديع خيري.

[ منافس يظهر

وكانت فرقة الكسار قد لاقت المتاعب لنجاح فرقتنا التي كانت تجاورها وأراد الكسار أن ينافسنا، فاستأجر قطعة الأرض التي تجاورنا وبنى عليها مسرحاً يشبه مسرحنا... بسقفه القماش وسمّاه "مسرح الماجستيك" وهو مكان سينما الماجستيك الآن بشارع عماد الدين. ثم استقل الكسار بالفرقة هو والمرحوم أمين صدقي، بعد أن أخرجا منها مصطفى أمين...

[ سيد درويش

وفي هذه الأثناء انضم إلينا المرحوم سيد درويش فأخرجنا رواية "ولو" التي ألفها الأستاذ بديع خيري ووضع ألحانها سيد درويش...

وكانت "ولو" هذه رداً على انتقال الكسار على مسرح الماجستيك ومحاولة تقليد مسرحنا... جرياً على سياسة الحرب الباردة...!

وأرادت فرقة الكسار أن ترد إلينا التحية فأخرجت رواية "راحت عليك" فأسرعنا بتقديم رواية لبديع خيري بعنوان "رن".

وأخذنا نتبادل حرب الأعصاب في الوقت الذي كانت فيه المنافسة قد اشتدت وزادت حرارة...

[ سيد درويش يظهر

وحطت فرقة جورج أبيض رحالها في مدينة الاسكندرية، ولعبت الصدفة مرة أخرى دورها.

كان الشيخ سيد درويش يعمل مغنياً في مقهى صغير بحي كوم الدكة (مسقط رأسه) وكانت له صلات ببعض الممثلين، فلما وصلت فرقة جورج بك إلى الاسكندرية، ذهب سيد درويش إليها ليزور بعض أصدقائه من ممثليها، وفي فترة الاستراحة سمع حامد مرسي فأعجب بصوته، وطلب إليه أن يقابله بعد انتهاء عمله...

ولما تقابلا عرض الشيخ سيد على حامد أن يغني مقطوعة لحنها له خصيصاً وهي "زوروني في السنة مرة".

ونالت الأغنية نجاحاً كبيراً وكانت فرقة جورج أبيض في حاجة إلى ملحن، فعرضت على الشيخ سيد أن ينضم إليها...

وعادت الفرقة إلى القاهرة وفي "خرجها" صبيان أحدهما المطرب حامد مرسي والثاني الملحن سيد درويش!

[ كيف عرفت سيد درويش؟

في ذلك الوقت كنا نقوم بتمثيل روايات فكاهية استعراضية على مسرح الاجبسيانة كما أسلفت، وقد كان نجاح فرقتنا في هذا اللون المسرحي مشجعاً لكثير من الفرق المحترمة وغير المحترمة على منافستنا فيه، فأردت أن أضرب عصفورين بحجر واحد والعصفور الأول هو التجديد، والعصفور الثاني هو استغلال نجاح سيد درويش كملحن...

وكانت الألحان المتناثرة التي تصل إلى أذني ممن شاهدوا "فيروزشاه" سبباً في توجيه فكري إلى سيد درويش.

ففي يوم استدعيت أحد أفراد الفرقة ممن يقومون بدور "الكورس" أي "البطانة" وطلبت إليه أن يسمعني ألحان "فيروزشاه" فأسمعني لحناً يقول مطلعه:

أنا لقيت روحي في بستان كان وقتها الفجر يلالي

وكنت أشوف بين الأغصان نور القمر يحكي خيالي

وأذهلتني روعة اللحن، وحدست أن ملحنه (سيد درويش) سوف تطغى شهرته على غيره من الملحنين بسرعة ومن هنا صممت على أن تحصل فرقتنا على سيد درويش!

وأسررت بالأمر في أذن صديقي الأستاذ بديع خيري وطلبت إليه أن يحاول الاتفاق مع سيد درويش للعمل معنا.

وذهب بديع إلى مسرح الرينسانس ليرى بعينيه نجاح فيروزشاه، وليستمع بنفسه إلى ألحانها تمهيداً لمحادثة الشيخ سيد.

[ "العشرة الطيبة"

عندما نجحت رواية "ولو" أغرانا النجاح باستغلال النوع الغنائي الكامل "الأوبريت" فاستأجرنا مسرح كازينو دي باري الذي كان مغلقاً في ذلك الحين وهو الذي تقع مكانه سينما ستوديو مصر الآن، لكي نخصصه لهذا النوع من الروايات، بينما نواصل عملنا في نفس الوقت على مسرح الاجبسيانة الذي يجاوره ـ في النوع الاستعراضي.

وكانت أول أوبريت قدمناها هي "العشرة الطيبة" التي ألفها الأستاذ بديع خيري ووضع ألحانها الشيخ سيد درويش.

[ فشل

ولكن مشروع الأوبريت لاقى الفشل الذريع، على الرغم من النفقات الباهظة التي كلفنا إياها استئجار المسرح وإخراج "العشرة الطيبة" إذ ثارت حولها الاشاعات تقول انها رواية تخدم أغراض الانكليز وتوضح الفرق بين استعمار الولاة الأتراك لمصر وبين استعمار الانكليز لها، وبهذا لم يقبل الناس على الرواية وماتت في عمر الزهور!

وكان هذا سبباً في انصرافنا عن هذا اللون الذي لا يأتي من ورائه إلا وجع الدماغ، مضافاً إليه ما تتكبده فيه من مصاريف الايجار، وإخراج الروايات الغنائية الذي يحتاج للاسراف في النفقات، إلى جانب ما كان يتناوله سيد درويش من أجر كبير، إذ وصل أجره في ذلك الحين إلى ثلاثمئة جنيه في الشهر الواحد مئة وخمسون عن تلحين الروايات الاستعراضية، ومثلها لتلحين الأوبريت!

[ سيد درويش يتركنا

وكان سيد درويش ـ رحمه الله ـ قد رأى أن ينفصل عنا ليكوِّن فرقة أخرى والتأم شمل عزيز عيد وعمر وصفي وسيد درويش ـ يرحمهم الله ـ فكوّنوا فرقة في ما بينهم لكل منهم نصيب الثلث فيها. ثم قدّموا أوبريت "شهرزاد" على مسرح برنتانيا القديم بشارع ألفي بك ولكن الأوبريت لم تلاق نجاحاً يذكر فانتقلت فرقة الفرسان الثلاثة إلى مسرح دار التمثيل العربي، حيث قدموا أوبريت أخرى هي "البروكة" ولكن حظها لم يكن أسعد من حظ "شهرزاد" فسقطت هي الأخرى.

انتهيت الآن من شرح تاريخ صداقتي بالمرحوم سيد درويش ولما كان الشيء بالشيء يذكر فسأروي صلاتي ببعض نوابغ الممثلين... سواء الذين عملوا معي، أو الذين لم يسعدني الحظ بالعمل معهم في الزمان الغابر.

إنها وقفة من الخاطر... دعتني إليها شجون الماضي المليء بحوادثه وصوره... بفقره وغناه...!

[ عبد الوهاب المطرب الصغير

والمطرب الصغير ـ باعتبار ما كان ـ هو الآن مطرب كبير جداً... وموسيقار عظيم وهو الصديق العزيز محمد عبد الوهاب...!

كيف رأيته للمرة الأولى؟

كانت قصة مقابلتي لمحمد عبد الوهاب تشبه من بعض وجوهها قصة مقابلتي ليوسف بك وهبي... فقد جاء به إليّ أحد الأصدقاء، وأفهمني أنه مطرب يمتاز بصوت جميل وموهبة موسيقية نادرة... ورجاني في أن أجد له مكاناً في فرقتي إذ يغني بين الفصول...

ولكن قناعتي بما وصلت إليه الفرقة في ذلك الوقت من نجاح في حدود ما تملكه من كفاءات جعلني لا أقيم وزناً لشيء آخر...

وبناء عليه اعتذرت للصديق بضيق ذات الأمكنة...

وكانت براعم عبد الوهاب قد بدأت تتفتح عن مواهب عظيمة... فما إن مرت ثلاث سنوات حتى رأيته يتولى دور "أنطونيو" أمام منيرة المهدية في رواية "كليوبترا".

[ سارة برنار

أطلق عليها النقاد في فترة ما لقب سارة برنار الشرق، فقد وصلت في تمثيل دور النسر الصغير إلى قمة المجد في ذلك الزمان... ولأن دور النسر الصغير كان من الأدوار الخالدة للممثلة العالمية سارة برنار... فقد أطلقوا عليها لقبها...

وكانت فاطمة رشدي عندما خطت خطوتها الأولى في حياتها المسرحية تعمل بفرقتي... مع مجموعة الفتيات اللائي يغنين الألحان "كورس".

وكان من الطبيعي أن تظل فاطمة الفتاة الصغيرة الحلوة التقاطيع في صفوف الكورس لولا أنها كانت تضم جوانحها على موهبة كبيرة...

ولما توسمت فيها النبوغ إلى جانب قوة صوتها وحلاوته أخذت أعهد إليها بإلقاء بعض الأغاني والمونولوجات الخفيفة في فترات الاستراحة.

ولم يطل بها الوقت حتى التقت بالمرحوم عزيز عيد... الذي صعد بها إلى ما كانت تصبو إليه من نجاح...!

[ مغنية من الشام

وقفت بالقرّاء في الفصل الأول من ذكرياتي عندما بدأنا تمثيل رواية " قيراط" والنجاح الكبير الذي صادفته هذه الرواية، وفي حوالي الساعة العاشرة مساء من إحدى الليالي التي كنا نقدم فيها هذه الرواية سمعت طرقاً ناعماً على باب غرفتي... ثم دخلت فتاة حسناء تنطق كل أجزاء جسمها ووجهها بالجمال الصافي والأنوثة المتدفقة... قالت لي أنها شامية وأنها تريد العمل معي...

طلبت إليها أن تسمعني صوتها فغنت لي أغنية سورية أثرت فيّ تأثيراً قوياً فتنبأت لها في الحال بمستقبل زاهر في عالم الغناء... وفي الحال حررت معها أن تبدأ عملها في اليوم التالي مباشرة.

وكم كانت دهشتي بالغة عندما علمت في اليوم التالي أن الفتاة المذكورة واسمها "بديعة مصابني" قد اختفت ولا أثر لها في القاهرة فأسدلت ستاراً على قصة هذه الفتاة... وتناسيتها!

[ شركة ترقية التمثيل العربي

وبعد أيام قامت ضجة كبيرة في الوسط الفني حول شركة جديدة تسمى شركة ترقية التمثيل العربي أسسها طلعت حرب باشا وعدد كبير من الماليين...

وبدأت الشركة عملها فكوّنت فرقة تمثيلية على رأسها العكاشيون الثلاثة "عبد الله وزكي وعبد الحميد" وبدأت الشركة باكورة انتاجها فسخّرت كبار المؤلفين والكتّاب والممثلين والملحنين... كما قامت بحملة دعاية واسعة النطاق ولكي أكون صريحاً معكم كما هي عادتي دائماً أقول أثرت علينا تأثيراً كبيراً فبدأت أسهمنا في الهبوط والتدهور كما هبطت روحي المعنوية، فبرمت بالعمل وضقت ذرعاً بالتمثيل حتى إني كدت أشعر مرة أخرى أنني ارتكبت خطأ كبيراً باحترافي التمثيل...!

[ أخوات رشدي

جاءني أحد موظفي المسرح ليخبرني بأن فتاتين وطفلة يردن مقابلتي، ولما طلبت إليه أن يدخلهن رأيت أمامي فتاتين ناضجتين تمسكان بيدهما طفلة في حوالي الحادية عشرة من عمرها، وبعد تقديم التحيات وفروض الولاء والطاعة وعبارات الاعجاب أعلنّ أنه يشرفهن أن يعملن معي في المسرح... سألكت كبراهن عن اسمها فقالت إنها رتيبة رشدي، ثم أشارت إليّ شقيقتها الأخرى قائلة إنها انصاف، ثم قالت، أما هذه الطفلة فتسمى فاطمة...! لم أرَ مانعاً من قبولهن في الفرقة... فأجبت طلبهن...

[ جولة بين الأقطار الشقيقة

وبينما كانت موجات الخمود والاضطراب، بل واليأس، تتجاذبني يميناً وشمالاً... جاءني الحاج مصطفى حفني مدير تياترو برنتانيا في ذلك الوقت وعرض عليّ أن يشاركني في جولة نقوم بها بين الأقطار الشقيقة... فلم أر مانعاً من القيام بهذه الجولة... لعلها تزيل عني جانباً من الهموم التي كانت تثقل كاهلي في ذلك الوقت...

وقبل أن أنتقل بكم إلى سوريا ولبنان أقول ان الأقدار أبت إلا أن تتكاتف عليّ "عكننتني" فحدث خلاف بيني وبين صديقتي لوسي ـ وقد سبق أن تحدثت عنها ـ فافترقنا ـ فانتقلت حالتي من سيئ إلى أسوأ لأن لوسي كانت عضدي الأيمن التي تشد من أزري لنجتاز المصاعب التي كانت تصدمنا من وقت لآخر كما كنت أشعر في قرارة نفسي بأن هذا النجاح الذي صادفته إنما كان يرجع إلى عزيمة لوسي القوية حتى إنني كدت أوقن أنني سأفقد كل شيء بفقد لوسي...

انتقلنا إلى لبنان وأنا أطمع في أن تتحسن روحي المعنوية وحالتي المادية...

فإذا بي أصدم صدمة كادت تفقدني صوابي... كان الاقبال على رواياتنا قليلاً جداً... فرحت أبحث عن السبب فإذا هو يتلخص في أن حضرة الزميل اللبناني أمين عطا الله ـ جزاه الله خيراً ـ وقد كان يعمل معي في فرقتي بالقاهرة منذ وقت غير قصير قد سرق رواياتي وألحاني وراح يقدمها للشعب اللبناني والسوري... ولم يقف عند هذا الحد... بل وصلت به الجرأة إلى أن يسرق شخصية كشكش بيه...

وكان يضم الكاف في كلمة "كشكش" عندما يمثل للبنانيين... ويفتحها أي ينصبها عندما يمثل للسوريين...!

والذي زاد الطين بلة أن الأستاذ أمين عطا الله كان يعرف عادات وطباع السوريين واللبنانيين أكثر مني بوصفه واحداً منهم فكان يتفنن في اجتذابهم إليه بأن يقدم لهم (الكوميدي المفتعل) الذي يدور حول المرمطة في الأرض والإتيان بحركات بهلوانية كلها تكلُّف وتصنُّع... ولكنها للأسف كانت تعجب اللبنانيين والسوريين أكثر من أي نوع آخر من التمثيل... ولما كنت لم أجرب بعد هذا النوع من "البهدلة" فقد فشلت أمام أمين عطا الله.

وبناءً عليه صار أمين عطا الله هو الأصل... أما أنا فقد أصبحت كشكش بك تقليد... وقد سمعت بنفسي إحدى اللبنانيات الفاضلات تحدث إحدى زميلاتها مشيرة إليّ "هايدى مانه كشكش... هايدى تقليد".

[ عودة بديعة

كنت منهمكاً في تمثيل دوري على المسرح عندما شاهدت سيدة في أحد الألواج القريبة مني تصفق لي بحرارة وحماسة... قلما شاهدت مثله من زميلاتها اللبنانيات...

سألت نفسي: ما السر في كل هذه الحماسة والتصفيق... ولكن السؤال لم يجد جواباً إلا عندما أسدل الستار عن الفصل... وجاءت إليّ السيدة تقول:

ـ ألا تتذكرني...؟ أنا بديعة مصابني... التي حررت معها عقداً للعمل معك في مصر... ولكني اضطررت للعودة إلى لبنان لأمور مستعجلة...!

تذكرتها... حررت عقداً آخر على أن تعمل معي في لبنان بمرتب شهري قدره أربعون جنيهاً وفي لبنان علمت أن بديعة تدير صالة... وأنها راقصة ممتازة... وأن لها معجبين كثيرين.

[ عودة.. وقضية

وبعد ثلاثة أشهر قضيتها في سوريا ولبنان كان الايراد فيها يساوي الدخل بدون مكسب أو خسارة عدت إلى القاهرة لكي أجد قضية تنتظرني...

قبل أن أسافر إلى لبنان قد تركت لدى مسيو كونجاس ستمائة جنيه احتياطياً لكي يخصم منها خمسة جنيهات من كل ليلة أقضيها خارج القطر، ولكن مسيو كونجاس نقض الاتفاق ورفع عليّ قضية يطالبني فيها بتعويض لأنني تركت العمل بمصر... لكن الله سلم، إذ كان حكم المحكمة في صالحي.

[ أنا كسلان

عدت إلى مصر ومعي السيدة بديعة مصابني بعد أن عملت معي على مسرح سوريا ولبنان نظير مرتب شهري قدره أربعون جنيهاً عدنا إلى استئناف الجهاد فاشتركت أنا والأستاذ بديع خيري في تأليف رواية "الليالي الملاح"... وزعنا أدوارنا وبدأنا إجراء البروات فإذا بي اكتشفت في بديعة ناحية عجيبة وهي أنها لا تصمد في البروات، فكثيراً ما كانت تتضايق منها ولكني كنت أقابلها دائماً بشدة وحزم وذلك لأنني كنت أعتقد في قرارة نفسي أن هذه الفتاة موهوبة وأنها ستصبح في يوم من الأيام نجمة في عالم الفن...

فكنت أؤنبها بشدة إذا تأخرت في الحضور أو تبرمت بالبروفات... فكانت تثور وتغضب كما كنت ألمح لها أن هذه السياسة التي أتبعها معها إنما هي لمصلحتها ولكنها لم تكن تأبه بهذا التلميح حتى إنها أوشكت ذات مرة على ترك العمل...؟

قدمنا رواية "الليالي الملاح" فإذا بها تنجح نجاحاً منقطع النظير، وإذا بالفنانة بديعة ترتفع إلى الذروة مرة واحدة فيتحدث عنها الناس والفنانون في جميع الأندية والمقاهي... وهنا شعرت بديعة بلذة الانتصار واقتنعت بأن الشدة التي أعاملها بها كان من نتيجتها أن أدت دورها بنجاح ففازت بالاعجاب فانقلبت رأساً علي عقب... انقلبت من ساخطة متبرمة إلى شعلة من النشاط والحركة... فراحت تطلب تمثيل روايات أخرى وهي تجهل الصعوبات الكامنة في المراحل المختلفة التي تمر بها الرواية حتى تمثل على المسرح... فكنت أطيب خاطرها بكلمات معسولة... وأعدها بأننا سنقدم قريباً رواية وروايات... ولكنها لم تقتنع بهذه الكلمات المعسولة فراحت تصر على ضرورة عمل رواية أخرى واتهمتني بالكسل...

وهنا يجب أن نقف قليلاً لكي أقول إن هذه التهمة التي لاقت التأييد من معظم الناس والفنانين والتي أصبحت تقرن باسمي في كل مكان... إنما ابتداعها يرجع إلى بديعة جزاها الله خيراً...

[ ريا وسكينة

وفي هذه الأثناء ظهرت في الاسكندرية موجة من الجرائم كانت بطلتاها سيدتين "ريا" و"سكينةى و"حسب الله" زوج إحداهما... وكانت جرائم فظيعة جداً تدور حول "اصطياد" السيدات من الطرقات واقتيادهن إلى أماكن خفية حيث يستولي المجرمون على حليهن وملابسهن ثم يقتلونهن ويدفنونهن في الخرائب وخارج المدينة...

وهنا بدأ الشيطان يلعب في عبي... لم لا أقدم دراما عنيفة حول هذه المآسي والجرائم...؟

ولعل الذي قوى في نفسي هذه الرغبة أنني ـ كما سبق أن قلت ـ قد نشأت نشأة درامية... فكنت أمني نفسي بأنني سأصبح في يوم من الأيام ممثل دراما على سن ورمح... لأنني والحمد لله أجمع بين جوانبي كل مؤهلات ممثلي البكاء والحزن والأنين...

وهنا أقف وقفة قصيرة لأقول ان تاريخ التمثيل في جميع أنحاء العالم يؤكد لنا أن معظم ممثلي الكوميديا يتمنون في نفوسهم أن يصبحوا ممثلي دراما... لماذا؟

لا أدري...!

والدليل على ذلك ماثل أمامنا في "شارلي شابلن" عندما داعبته هذه الرغبة فأصر على أن يقدّم رواية "نابليون" و"هملت" وهما من أقوى الدرامات...

ما علينا...

ألفنا رواية "ريا وسكينة" وقدمناها على المسرح، فإذا بي أشعر بالفرح يملأ جوانحي عندما أشاهد المئات من حضرات المتفرجين الأفاضل يبكون أثناء التمثيل فيخرجون مناديلهم ليجففوا دموعهم... كما راحت عبارات الألم والأسى تتجاوب بين جدران المسرح... هذا يقول "كفاية بقى وحياتك"... وتلك تصيح "يا كبدي عليها... راحت المسكينة"... ثم تجهش في البكاء بصوت كان يزيدني حماسة وقوة، فكنت أقتل وأشنق بلا أدنى شفقة أو رحمة...

[ تزوجت بديعة

تركت التمثيل وركنت الي الراحة، بعد أن تزوجت بريمادونة الفرقة "بديعة مصابني"... ولكن بعد فترة من الوقت ضاق بي الحال... وتضايقت من الراحة... فداعبت خيالي فكرة طارئة...

لم لا أسافر إلى الخارج...؟

ترددت كثيراً... وترددت بديعة معي...!

[ سوريا في البرازيل

وهنا أقف قليلاً لأتحدث عن الصحافة السورية في البرازيل وقبل أن أتحدث عنها أقول إن السوريين في البرازيل يقومون بنفس الدور الذي يقوم به اليونانيون في مصر... وإنني أذكر قول اللورد كرومر: "حفرت في الأراضي المصرية وجدت إلى جوار كل جثة مصرية جثة أخرى يونانية"...!

هذا القول ينطبق تماماً على السوريين في البرازيل... فعددهم كبير ولهم جالية محترمة ولهم عدة جرائد ومجلات.

تحدثت الصحف السورية عنا. فرحبت بنا ورفعتنا إلى القمة، أما الصحف البرازيلية فوقفت موقف الحياد... لا هي رحبت ولا أساءت إلينا... وكل ما قالته إنها تساءلت:

ـ ماذا يستطيع أولئك الناس أن يفعلوا...؟

اقترب موعد حفلتها الأولى... فسألت عن إيراد شباك التذاكر حتى الآن فإذا بي أذهل عندما علمت أنه قد أربى على الألفي جنيه...!

إذن فالشعب البرازيلي ينظر إلينا نظرة أخرى غير نظرة الجرائد البرازيلية ورأينا أنه يجب علينا أن نكون محلاً لهذا العطف والتقدير...

[ الحفلة الأولى

رفع الستار عن الفصل الأول من مسرحية "ريا وسكينة" فإذا بي أشعر بشيء من الرهبة عندما رأيت سادة الشعب البرازيلي وعظماءه يملأون الصالة فلا تستطيع عيناك إلا أن تقع على عظماء في كل مكان...

أدينا رواية "ريا وسكينة" وهي فصل واحد فشعرنا بخيبة أمل عندما وقف المتفرجون منا موقفاً كله صمت ووجوم... لا تصفيق ولا هتاف... فأيقنت أن البرازيليين لا يفضلون هذا النوع من التمثيل التراجيدي...

[ مسيو ريحاني

وما كاد الستار يسدل على الفصل الأخير من رواية "البرنسيس" حتى هب جميع المتفرجين يصفقون بحماسة ويهتفون بأعلى أصواتهم: براو مسيو ريحاني... براو...! فكانت أول مرة أسمع فيها هتافاً بالإفرنجية..!

[ فاطمة رشدي ويوسف بك وهبي

عدت إلى القاهرة لكي أجد خلافاً كبيراً قد قام بين السيدة فاطمة رشدي وبين يوسف بك وهبي انضم فيه المرحوم عزيز عيد إلى السيدة فاطمة رشدي، وانتهى الخلاف بانشقاق... فكوّن عزيز عيد وفاطمة رشدي فرقة وقررا العمل على مسرحي فأجرته لهما نظير أربعة جنيهات في الليلة... وظلت الفرقة تعمل على مسرحي ما يقرب من شهر ونصف، ويعلم الله أنني لم أقبض مليماً واحداً من إيجار المسرح طيلة هذه المدة...!

ثم عدت للعمل مع فرقتي على مسرحي فقدمنا روايات "علشان بوسه" و"آه م النسوان" و"ابقى اغمرني"...

المستقبل اللبنانية

10/02/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)