تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

الفيلم المكسيكي «الصحراء في الداخل»

تأمل سينمائي في الشمولية والتعصب الديني

غالية قباني

بعد أن لفت الانتباه إليه من خلال فيلمه الأول «لا زونا/ أو/ المنطقة» الذي تناول حاضر بلاده، يعود المخرج المكسيكي «رودريغو بلا» الى الماضي في فيلمه الثاني «الصحراء في الداخل» (2008)، ليتناول فترة الثورة المكسيكية عام 1928 وما تلاها من تداعيات على المجتمع، عندما منعت الحكومة الجديدة المواطنين من ممارسة طقوس الدين وزيارة الكنيسة الكاثوليكية وكذلك التعامل مع رجال الدين، تحت طائلة الإعدام. في المقابل كانت هناك حركة تمرد منظمة قاومت الحكومة الجديدة. إلا أن أحد الأفراد المتدينين يقرر أن يقاوم بطريقته سلبياً. فماذا يفعل التعصب الديني والتطرف في أوضاع مثل هذه تتطلب إحكام العقل لا العاطفة؟ تأتي الإجابة من خلال نموذج «الياس» الرجل الذي قاد عائلته الى بقعة نائية هرباً بدينه هروباً فردياً، وبدأت بعدها المتتاليات الفجائعية لرجل عاش وأسرته في الصحراء القاحلة، أو عاشت هي فيه.

عندما وقعت زوجة الياس الحامل من على السلم وهي تقوم بأعمال البيت، خشي زوجها ان تلد قبل الأوان ولداً ميتاً يضطرون الى دفنه من غير تعميد، الأمر الذي لم يتقبله وهو المسيحي الكاثوليكي المتدين. يصر الياس على الذهاب الى القس السابق للقرية ويرجوه كثيراً كي يأتي معه خفية، في ليلة ماطرة اعتقد أن أحداً لن يلاحظ فيها تحركات الآخرين، وأن أعين جواسيس الحكومة ساهية عنه. بعد انتهاء مهمة القس يطلب الياس من ابنه المراهق اصطحاب القس مرة أخرى الى بيته على ظهر حصانه، لكنهما ينكشفان ويقعان ضحية القوات الحكومية التي ترتكب مجزرة في جانب من القرية كعقاب جماعي على محاولة أحد سكانها التعامل مع رجل دين.

عندما يعرف الياس بالخبر يهرب مع عائلته بمن فيها والدته الى خارج القرية، وفي الطريق تلد زوجته ثم تموت بالحمى. وهو كي يكفر عن ذنوبه يقرر أن يكون ملجأه الصحراء، لكن والدته تعترض وتطالبه ان يقف مع المعارضين الساعين لإزاحة السلطة الطاغية، ففي تلك المعارضة يتحقق هدفان، استعادة شرعية الحكم واستعادة حرية ممارسة الدين. لكنه يرفض فتعود والدته الى القرية، ويوغل هو في صحرائه ويحط وسط الأرض القفر مع أبنائه الثمانية بمن فيهم الرضيع، وهنا كي يكفر عن ذنوبه السابقة يقرر أن يبني كنيسة بعد أن يبني بيتاً لأسرته. القسوة التي يعيشها الأب ويطبقها على أبنائه تجعلهم يتحولون شيئا فشيئاً الى الهشاشة الروحية والعقلية معاً، فتتراءى لبعضهم صور وهواجس بعيدة عن الواقع. 

الأرض القاسية والطقس المتطرف لا يساعدان كثيراً في نمو حياة طبيعية. يموت أكثر من ولد أثناء بناء الكنيسة، والابن الصغير الذي يكبر محبوساً داخل غرفة تطل نافذتها على الكنيسة (بحجة ان رئته لا تحتمل غبار الصحراء) مطلوب منه ان ينظر من خلال النافذة الى البناء وهو يرتفع ويرسمه كي تعلق الرسومات لاحقاً في الكنيسة. يرسم الصغير لوحات ملونة بألوان غير موجودة في الحقيقة، وتكون تلك الإشارة الوحيدة الى ما هو نقيض اللون الواحد، تشي بنبوءات قادمة في واقع الفيلم.

ألوان الفن وظلمة الواقع

لا شيء يقف في وجه الياس الرجل جامد الفكر، لا القبور التي يتزايد عددها في القرب منه بعد موت أبنائه، ولا تململ وشكوى من تبقى من الأبناء للانعتاق من هذه الصحراء. يظل مصراً على البقاء في هذه البيئة المتطرفة في كل شيء، ويوماً بعد يوم تنمو الصحراء داخله بقحطها وعقمها عن إعطاء أي جديد في الحياة. وفي إحدى المهام التي يرسل فيها الياس ابنيه الى مكان قريب، يرى الاثنان مسيرة دينية باتجاه المدينة فيعرفان ان الظرف قد تغير منذ سنوات وان الحرية الدينية عادت من جديد، وربما كان الأب يعرف بذلك عندما كان يتصل بأقرب مكان مأهول ليشتري منه بعض الحاجيات. وعلى رغم ذلك لا يتخلى الياس عن صحرائه وتشدده في البقاء فيها، ولا عن فكرة استكمال بناء الكنيسة التي انهارت في إحدى المرات وقتلت اثنين من الأبناء على التتابع، فالذنب عظيم بحسب هذا الرجل ولا بد من معاقبة النفس والتقرب الى الله بالألم.

لا يتبقى في النهاية سوى ثلاثة من أبنائه، يهرب أحدهم الى جدته، بينما يرتكب المراهقان الباقيان إثماً جسدياً في البرية يعبر عن توقهما للتواصل مع الحياة. وعندما يكتشف الأب تلك العلاقة يضربهما ضرباً مبرحاً ويحبس البنت في غرفة معتمة، بينما يترك الشاب معه لإكمال بناء الكنيسة. تموت البنت في سجنها فيدفنها أخوها ويقتل أباه بعد ذلك، ثم يعود الى البلدة والى حيث مسار الحياة الطبيعية.

على رغم ان القصة في مسارها الدرامي مقنعة تماماً وهي تتابع تزايد ضيق الأفق الديني لرب الأسرة، إلا أن المخرج استعان بقصص من الكتاب المقدس نفذها من خلال الرسوم المتحركة للربط بين أمثلة في التعصب والتشدد من التاريخ والنصوص الدينية، وبين حالة الياس.

فيلم «الصحراء في الداخل» دراسة سينمائية تأملية في التعصب الديني وفي الشمولية السياسية التي تنتج عصبيات أخرى. ان ما حدث في الماضي يمكن تطبيقه على الحاضر تماماً وهذه هي رسالة الفيلم.

أخيراً لا بد من التنويه بمستوى التصوير والإضاءة اللذين كانا عنصراً سرد أساسيين في كشفهما عن قحط الصحراء وفراغها، بينما كانت الألوان تعود والإضاءة تصير أجمل مع مواقف إنسانية أخرى. الفيلم حصل على تسع جوائز وترشيحين لجوائز من مهرجانات عدة (مهرجان هافانا الدولي مثالاً)، بعضها معني بالسينما اللاتينية وسينما العالم الثالث، وذهبت إحدى الجوائز للسيناريو الذي كتبه المخرج «رودريغو بلا» بالتعاون مع لورا سنتاللو، التي كتبت له سيناريو فيلمه الأول.

الحياة اللندنية

06/02/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)