تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

فى الذكرى الأولى لميلاده بعد رحيله.. يرد على المشككين

أفكار «لها أجنحة».. فى سينما شاهين

محمد بدرالدين

بدأ يوسف شاهين وطنياً، وفى مرحلة تالية كان وطنياً تقدمياً، ثم فى المرحلة الثالثة والأخيرة كان وطنياً تقدمياً ناصرياً. 

هكذا مرت بمراحل ثلاث، الرؤية الفكرية السياسية للمخرج فنان السينما المصرية والعربية الكبير والرائد يوسف شاهين، منذ بدأ اشتغاله بالسينما وإخراجه الأفلام التى تجاوزت الأربعين، مع انتصاف القرن العشرين (فيلمه الأول "بابا أمين" أخرجه عام 1950 وكان فى الرابعة والعشرين من العمر). 

وليست وحدها الآراء فى أفلامه ما يؤكد مرور شاهين بهذه المراحل الثلاث، وإنما معها كذلك حواراته وحديثه المباشر عن نفسه فى مرات كثيرة. 

وقد كان يتحدث عن المرحلة الأولى عادة، باعتبارها مرحلة لم يتعمق فيها وعيه السياسى، وهى تشمل الخمسينيات ومعظم الستينيات ربما حتى نكسة عام 1967، ومن أقواله المشهورة ـ التى كررها فى أكثر من حديث بأكثر من تعبير لكن بنفس المعنى تماماً ـ قوله: لقد تعلمت أثناء صنعى الأفلام وليس قبلها، وأعنى بالتعلم معرفة الطريق الصحيح، أى أننى لم أبدأ إخراج الأفلام وأنا أمتلك هذه المعرفة إنما أخذت أحصل عليها خلال عملى. أما المخرج الذى سبقنا فى هذا بوضوح فهو توفيق صالح، فقد كان يمتلك وجهة النظر المحددة والمعرفة والوعى السياسى حتى من قبل أن يخرج أول أفلامه. (من هذه الأحاديث حوار مع سمير فريد فى جريدة الجمهورية وحوار مع قصى درويش فى مجلة سينما وغيرهما). 

وقد كان شاهين "يبالغ" أحياناً حين يتحدث عن محدودية وعيه السياسى فى تلك المرحلة، كأن يقول: إنه لم يكن يعرف ما الجزائر ولا أين تقع على الخريطة؟!.. وذلك حينما رشحه عز الدين ذو الفقار ـ الذى يقدره شاهين كثيراً ويذكره دائماً بالاعتداد والاحترام ـ لإخراج فيلم "جميلة الجزائرية" (1958) ثم إخراج فيلم "الناصر صلاح الدين" (1962). 

كانت مبالغات شاهين من أجل أن يدلل على أن تركيزه واهتمامه لم يكن منصباً على القضايا السياسية، لكن الصحيح أيضاً ـ وما لا يتعارض مع ذلك ـ أن حسه الوطنى وأيضاً حسه الاجتماعى كان موجوداً. 

بل إنه أخرج قبل "جميلة الجزائرية" فيلم "صراع فى الوادي" (1954)، وأخرج قبل "الناصر صلاح الدين" فيلم "باب الحديد" (1958)، وفى هذين الفيلمين حس اجتماعى واضح، وليس متصوراً أن ينشأ ويتم التعبير عنه فى الفيلمين من فراغ، وخاصة بمثل قوة التعبير عن مأساة أوضاع الشعب فى القضية الاجتماعية قبل الثورة على نحو ما رأينا فى "صراع فى الوادي"، وعن قضية ضرورة أن توجد نقابة تحمى العمال ومصالحهم وتنال حقوقهم ـ كل العمال وفى أى موقع لهم ـ على نحو ما رأينا فى "باب الحديد". 

وقد كان مناخ الخمسينيات والستينيات فى مصر والوطن العربى، مجرد هذا المناخ بمعاركه فى الاستقلال والتنمية وقضاياه المثارة بقوة كان فى ذاته "معلماً"، كان "مناخ وعي" وطريقة وعى وطنى واجتماعى واضح ومشع يشمل الجميع من المواطنين المهتمين بالشأن العام إلى "الإنسان المصرى والعربى العادي"، وإلى أبسط المحتشدين فى الجماهير العاملة التى تبنى السد والمصانع وتتعلم وتقاتل. 

ولذلك فإن شاهين كما يردد مراراً، وفى حديثه عن تلك الفترة قد أحب عبد الناصر كثيراً وآمن بصدق بمبادئ الثورة، وبصرف النظر عن مدى تعمقه فى أبعاد القضايا المطروحة، وعلى مستويات الداخل والخارج. 

والدليل البارز على ذلك أن شاهين لم يكن مجرد مخرج منفذ لهذه الأفلام، ولم يكن ـ كمثال ـ فى "الناصر صلاح الدين"، لا هو ولا منتجته آسيا ولا بطله أحمد مظهر، مجرد منفذين لرغبات النظام فى صنع فيلم يعبر عن مواقفه السياسية، خاصة فى قضية تحرير فلسطين وتوحيد العرب ليكونوا أكثر منعة وقدرة على تحقيق الاستقلال والوحدة والتقدم، والتعبير عن ذلك خلال شخصية وقضية القائد صلاح الدين الأيوبى. 

نعم هذه كانت بالضبط أفكار وأهداف نظام الثورة بقيادة جمال عبد الناصر، لكن كل المخلصين والوطنيين ـ بوجه عام ـ كانوا أيضاً يؤمنون بهذه الأفكار والأهداف، لا يستثنى من ذلك إلا أصحاب المصلحة فى النظام القديم الذى ينهار، وتصارع فلولهم من أجل ألا تلفظ النفس الأخير، وإلا الذين دأبوا على النفاق وتملق أى نظام يصبح جديداً. 

ومن المعروف أن شاهين قد أجرى تعديلات ملحوظة فى السيناريو الذى تسلمه ليخرج "الناصر صلاح الدين"، وكان سيقوم بإخراجه عز الدين ذو الفقار لولا مرضه، فأصر على أن يخرجه شاهين بالذات (رافضاً حتى أن يخرجه شقيقه محمود ذو الفقار)، لكن شاهين أجرى تعديلاته مع كل محبته لـ "عز"، وذلك ببساطة لأنه كان لديه ـ حتى فى هذه المرحلة الأولى ـ وجهة نظر وتصور معين، ولم يكن شاهين ـ حتى فى هذه المرحلة ـ مجرد مخرج حرفى ينفذ سيناريو، ولا مخرج يفتقد للرؤية تماماً على الرغم من عدم تعمق رؤيته السياسية بعد. 

وهذا ما يفسر تعدد الأسماء فى الذين قاموا بكتابة فيلم "الناصر صلاح الدين"، وبينهم نجيب محفوظ نفسه، فقد كتب السيناريو أكثر من مرة، وكتبت فى عناوين الفيلم أسماء من شاركوا فى هذه الكتابات المتعددة..!. 

وطنيا تقدميا 

الثورات والانتصارات الوطنية الكبرى تحدث "طفرة" فى الوعى لدى مواطنيها وكذلك ـ تماماً ـ النكسات الوطنية والهزائم العسكرية (مثل يونيو 1967)، وهو ما حدث لشاهين وسواه.. فهذه وتلك جميعاً أحداث كبرى، تطرح على الأوطان ـ وأذهان الأفراد والجماعات ـ أسئلة جوهرية جديدة، والأسئلة تفتح مناطق جديدة للوعى والفهم والاستيعاب، ما الذى حدث ولماذا؟.. أين نحن الآن وإلى أين بعد الآن؟. هل نحن على الطريق الصحيح بالضبط وما الأخطاء بالضبط؟. ما "الوعي" الذى فاتنا وكيف التدارك؟. ما عصرنا وعالمنا؟.. وحقيقة هويتنا؟..إلخ. 

شعر شاهين ابتداء من "الأرض" (1970)، و"الاختيار" (1971)، و"العصفور" (1972) بأن رؤيته منذ الآن يجب أن تكون (رؤية نقدية). 

وذلك بقدر الصدمة الجديدة، والوعى الجديد، والرغبة المخلصة الحارة فى تجاوز الصدمة والهزيمة، وفى الانتقال بالبلاد إلى آفاق جديدة ـ فى كل المجالات ـ وهذا كان حال كل الوطنيين وأبناء الوطن، ومن القائد الذى يتحمل المسئولية وتحيط به الجماهير وينهض بعد عثرة النكسة ويقاتل من أجل التحرير والنصر إلى كل مواطن مخلص وصادق يحتشد من جديد من أجل التحرير والنصر. 

وأى رؤية نقدية للواقع هى تنشد واقعاً مختلفاً مغايراً أكثر تقدماً ولذلك فإنها تكون بالضرورة رؤية تقدمية، وأية رؤية نقدية للواقع تطلب واقعاً أفضل رافضة لكل العناصر التى تشد للخلف ـ سواء فى النظام أو المجتمع ـ وهى مع التغيير ولصالح أوسع الجماهير ولذلك فإنها تكون بالضرورة رؤية يسارية. 

وما اليسار؟. إنه معارضة الواقع لصالح الأغلبية، وبهذا المعنى فقد قال عبد الناصر: إنه يسارى، وكلمة اليسار نفسها وبهذا المعنى معروفة منذ الثورة الفرنسية وإن استخدمها الماركسيون كثيراً مثلها كمصطلحات "التقدمية" و"العلمية" و"الاشتراكية" حتى كادت تقترن بها لكن اليسار الماركسى هو اتجاه واحد فقط ضمن اليسار متعدد الاتجاهات، ونفس الشيء تماماً بالنسبة لكل هذه المصطلحات. 

بهذا المفهوم والمعنى صار شاهين صاحب رؤية نقدية، إلا أن هذه الرؤية بلغت أوجها، وبلغت صورة التعبير عنها أعلى نضجها، فى فيلم "عودة الابن الضال" (1976). 

وقد كانت الرؤية النقدية التى عبر عنها هذا الفيلم، خلاصة رؤية يوسف شاهين، التى وصل إليها بعد معاناة وكبد، وفى ذات الوقت كانت هى رؤية صلاح جاهين، الشاعر والرسام الذى عبر عن جوهر ثورة يوليو الناصرية ومشروعها كما لم يعبر شاعر آخر ولا رسام آخر. 

جاءت الرؤية التى جسدتها معالجة "عودة الابن الضال"، رؤية فى مرحلة مفصلية ـ إن جاز التعبير ـ حيث كان مشروع يوليو قد ضرب وأجهز عليه فى سلطة الحكم خاصة منذ (1974)، منتقلاً إلى الشارع، وبدأ فى التنفيذ على قدم وساق مخطط موجهى القوى المضادة للثورة مدفوعين بمصالحهم ومدفوعين أولاً بالخارج (خاصة الأمريكى ـ الصهيوني) الذى لم تتوقف خططه فى هذا السبيل (خاصة منذ عام 1955)، هنا فى هذه اللحظة كان على رؤية (شاهين ـ جاهين) أن تلتفت إلى الأمس القريب الطعين لكن المشع لا يزال، الأمس (الناصري)، من أجل التقييم واجتهاد فى التحليل، وإلى اليوم البائس الجديد الكئيب الذى بدأ يلقى بظلاله وكتل ظلامه ومعاول هدمه، من أجل التحذير والتنوير. 

مضى فيلم "عودة الابن الضال" فى محاولة لتحليل نموذج ابن المرحلة الناصرية أو الممثل للمرحلة، وللبناء الشاهق فيها "على المدبولي" (أداه أحمد محرز)، بكل التعثرات التى واجهت عملية البناء ثم مدى الانهيارات والنتيجة الصادمة، وأن هذا الفتى الممثل للمرحلة "علي" قد حاول وتطلع وطمح فيها، لكن المرحلة الجديدة التى بات يمثلها أخوه "طلبة المدبولي" (أداه شكرى سرحان)، تتطلب الآن جيلاً جديداً وأفقاً جديداً ومحاولة جديدة متطورة بقدر ما هى مرحلة بالغة الصعوبة والقسوة (وقد تمثل هذا الجيل فى نموذجى ماجدة الرومى وهشام سليم). 

"إيه العمل فى الوقت ده يا صديق 

غير إننا عند افتراق الطريق 

نبص قدامنا 

على شمس أحلامنا 

نلقاها بتشق السحاب الغميق". 

ومن جهة أخرى فقد حقق شاهين فى هذا الفيلم حلمه بانجاز فيلم موسيقى، يجسد فيه تأملاته الفكرية خلال الموسيقى والغناء، فأطلق على فيلمه "مأساة موسيقية"، وشاهين كان يحب أن يعبر عن نفسه دائماً، كفنان، بل أيضاً كإنسان بالموسيقى والرقص. فإنه يهوى كليهما بشدة، لكن هوايته هنا ـ وهذا ما لا يعرفه عديدون ـ بمستوى محترف حقيقى بالغ الرقى والدراية والمهارة (انظر على الخصوص مجموعة الأفلام المميزة الممتعة عن يوسف شاهين للمخرجة منى الغندور وبينها مشاهد مدهشة عن شاهين راقصاً وموسيقياً). 

وفى اعتقادى أن أبرع وأجمل نقد لمرحلة الثورة الناصرية تمثل فى عملين ابداعيين كبيرين هما فيلم "عودة الابن الضال" (لشاهين ـ جاهين)، وقصيدة "مرثية العمر الجميل" (للشاعر أحمد عبد المعطى حجازي). وكلهم أبناء المرحلة. 

وفى أثناء المرحلة كان حجازى قد قدم بقصائد الفصحى، وبمقدار ما قدم جاهين بقصائد العامية، أجمل وأبرع وأصدق الأشعار عن ثورة يوليو وقائدها وقضاياها، لكن الفارق أن جاهين رغم صدمته بعد يونيو ونقده لم يفقد يوماً على الإطلاق إيمانه بمشروع يوليو وجوهره وبقيمة قائد يوليو التاريخى ودوره (وعلى عكس ما يحلو للبعض أن يردد عن جاهين جهلاً أو غرضاً!)، بينما أصيب تفكير حجازى بتشويش بالغ واضطرابات أو لنقل بتراجعات فادحة. 

وطنياً تقدمياً ناصرياً 

فى المرحلة الثالثة لأفكار يوسف شاهين التى أعقبت عقد السبعينيات الماضية، وبصورة متزايدة على مدار العقدين الأخيرين حتى رحيله ـ فى 27/7/2008 ـ وفى كثير من أحاديثه وفى ندوات له بمعرض الكتاب لم يكن يكتفى بالحديث عن (حبه لعبد الناصر) ـ واعتزازه الخاص بجائزته ـ وإنما كان يتحدث أيضاً عن (الإيمان بخطه)، ويستخدم تعبير (أنا كناصري) أو على حد تعبيره فى ندوة شهيرة بمعرض الكتاب أعادتها القناة الثقافية فى اليوم التالى لرحيله (نحن كناصريين نري).. الخ. 

وتنظيمياً شارك شاهين فى تأسيس حزب التجمع الوطنى التقدمى، فى السبعينيات الماضية وأيام أن كان كل اليساريين بل والوطنيين بعامة يرون فى "التجمع" تعبيراً بدرجة أو أخرى عن توجهاتهم، لكن الحزب تخلى عن هذه المكانة والاشعاع منذ أكثر من عشرين عاماً بفعل التأثير السلبى والمطرد لقيادته الحالية. 

ثم شارك شاهين أجيالاً وسيطة وشابة وكذلك رموزاً وطنية كبيرة مثل المفكر الموسوعى الراحل محمد عودة فى تأسيس "حركة الكرامة"، وهى ائتلاف وطنى تنظيمى بمبادرة ناصرية. 

لم يترك شاهين طيلة هذه السنوات، فى ظل هذا الحكم (الكابوسي) البوليسى الطويل، موقفاً ولا قضية وطنية مصرية أو عربية دون أن يشارك فيها بالرأى الواضح اللاذع الصريح ـ كعادته وبلهجته المحببة وبمفرداته الجريئة الخاصة! ـ وحتى بالمشاركة فى المظاهرات وهو فى السبعين بل وفى الثمانين..!. وقد كان وهو فى هذه السن ورغم المرض (تماماً مثله كعبد الوهاب المسيرى الذى رحل قبله بأيام معدودات) ينزل إلى الشارع ويتحدى اجتراء وهراوات عسكر الأمن المركزى الباطشة الجاهلة، بسخرية واصرار، وبنفس القدر كان شاهين أيضاً يعبر عن آرائه ومواقفه ضد الهمجية والغطرسة الأمريكية المعاصرة فى فيلم "اسكندرية ـ نيويورك" (2004)، (وهو الجزء الرابع من رباعية سيرته الذاتية المدهشة والممتعة التى بدأت بـ "اسكنرية ليه" 1978)، وكذلك ضد "العولمة" المقيتة للإمبراطورية الأمريكية والمقصود بها السيطرة على العالم بدءاً من الأفكار والفنون إلى "عسكرة العولمة" فى فيلم "الآخر" (1999)، وقد وجه يوسف شاهين فى فيلمه الأخير "هى فوضي" (2007) نداءه الأخير أو وصيته.. ومفادها أن لا حل إلا بهبة وثورة شعبية كاملة، تطيح بكل عصابة أصحاب المصالح الممسكة بالمقاليد، وبخناقنا، وأنه قد آن التغيير. 

بالشعب والشعب وحده. 

وفى هذا الفيلم منح الجمهور ـ بدوره ـ مشوار يوسف شاهين الطويل والحافل والمدهش والجميل، أكبر احتفاء وأوسع إقبال شهده! 

العربي المصرية

03/02/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)