تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

وودي آلن في برشلونة بحثاً عما تريده النساء

فيكي ـ كريستينا ـ برشلونة ثلاثي نسائي يبحث عن الحب والمغامرة خارج عوالم آلن المألوفة

ريما المسمار

"فيكي كريستينا برشلونة" ليس اسم شخصية نسائية واحدة كما يوحي. هو عنوان شريط وودي آلن الأخير ويختزل نساء حكايته: فيكي وكريستينا وبرشلونة المدينة وأيضاً روح ماريا إيلينا الشخصية النسائية الثالثة المتماهية مع المدينة. بهذا المعنى، يشكل "فيكي كريستينا برشلونة" الفيلم أكثر أعمال آلن تركيزاً على النساء وسخرية من الرجال في تحول ملحوظ عن أفلامه السابقة التي وإن غاصت على موضوعة العلاقة بين المرأة والرجل لم تكن يوماً على هذا القدر من استكشاف "ما تريده النساء" كما هي حال الفيلم الجديد.

لا يعني ذلك ان لا دور للرجال في الفيلم. بل ان آلن يمعن بدايةً في ايهام المشاهد بأن بطله "خوان أنتونيو" هو المحور الذي تدور في فلكه النساء الثلاث. ولكنه لا يلبث أن يسخّفه ويسطحه الى حد تهميشه في سياق الأحداث. ذلك ان ما ينطلق كمغامرة بين رجل وامرأتين يتحول شيئاً فشيئاً الى مغامرة ثلاث نساء في بحثهن عن الحب واللااستقرار. وما ابتعاد آلن من أجوائه المعهودة (نيويورك والطبقة الثرية) من دون الاستغناء عنها تماماً على ألاقل في الحوارات الا محاولة لحمل هواجس شخصياته الى أفق غير محمل بالاحكام المسبقة او المعرفة الذاتية العميقة. انه سحر آلن في اعادة تشكيل ما يعرفه ويحياه على أرضية "محايدة" يلعب فيها تماماً كبطلتيه الاميركيتين "فيكي" (ريبيكا هول) و"كريستينا" (سكارليت جوهانسن) دور السائح الذي يتيح له ولبطلتيه اعادة التفكير في الحب والعلاقات من زاوية أخرى. في هذا الإطار، يجوز القول ان "خوان أنتونيو" (خافيير بارديم) هو المحرض ومشعل فتيل تلك الرحلة التي لا تلبث ان تمتلك قوتها الدافعة من دونه وبصرف النظر عنه.

تتمحور الحبكة البسيطة حول الصديقتين "فيكي" و"كريستينا" اللتين تحطان في برشلونة لقضاء عطلة الصيف. تحضر الأولى لدراساتها العليا في "الفن الكتالوني" كما تحضر للزواج من خطيبها "دوغ" فور عودتها الى الولايات المتحدة الأميركية. أما "كريستينا" الاقل التزاماً فتبحث عن مغامرة في شكل علاقة لا تشبه ما هو متعارف عليه. وهي اذ تعجز عن تحديد ما تريد تعرف تماماً ما الذي لا تريده وفي مقدمه الارتباط بعلاقة روتينية كالتي تربط بين صديقتها وخطيبها. في "برشلونة"، تلتقيان الفنان التشكيلي "خوان أنتونيو" الذي لا يتوانى عن دعوتهما لقضاء نهاية الاسبوع برفقته في "أوفييدو" عارضاً عليهما السياحة والطعام الجيد والنبيذ و...الحب. يتراءى لنا ان هذا هو تماماً ما تبحث "كريستينا" عنه كما تظن هي ايضاً: مغامرة حقيقية من دون قيود ولا شروط. بعد ممانعة، توافق "فيكي" على مرافقتهما بينما تبقى الاجواء بينها وبين "خوان أنتونيو" مشحونة. غير أن صدفة غير متوقعة ستقلب الموازين. فحين تضطر "كريستينا" لملازمة الفراش بسبب من قرحتها المزمنة، تخلو الأجواء لخوان أنتونيو لإغواء "فيكي" الى عشاء رومنسي وحفلة موسيقية ساحرة تقع بعدهما في شركه. وحيدة تخوض "فيكي" صراعها الداخلي بين عاشق رومنسي لعوب وزوج مستقبلي سرعان ما يلحق بها الى "برشلونة" مدججاً بخطط مستقبلية لحياة زوجية مرفهة. أما "خوان أنتونيو" فيستقر مع "كريستينا" في منزله. يقترح آلن من خلال تينك العلاقتين نقاشاً أبعد حول أساليب الحياة وخيارات الفرد: الالتزام مقابل الحرية، الزواج مقابل المساكنة، الحياة المستقرة مقابل الحياة البوهيمية، المادية مقابل الفن... لا تحمل الحوارات فلسفة معقدة وانما عملية وحقيقية حول "مبادئ" العيش وخطورة الالتزام بمنظومة حياتية اجتماعية مغلقة مع ميله الى إعلاء وفاء الفرد لشغفه والتجاوب مع أحاسيسه. بالطبع يبدو آلن هنا أكثر تحرراً في قول ذلك بما لا يخلو من التبسيط في أحيانٍ كثيرة. والسبب هو تحرره من شخصيات منتصف العمر التي عاينها في أفلامه السابقة. فهو لم يتوانَ في Husbands and Wives (1992) عن دفع شخصيته "غايب" الكاتب الخمسيني الى قطع علاقته بتلميذته العشرينية تماماً كما فعل مع شخصيته "إيزاك" في Manhattan بابتعادها من المراهقة "ترايسي" والارتباط بامرأة (ديان كيتن) أقرب الى سنه دافعاً في الحالتين ثمن ذلك تفويته فرصة سعادة نادرة وان لوقت قصير. الفرق هنا مع Vicky Cristina Barcelona ان أبطاله في سن الشباب. حتى "خوان أنتونيو" الأربعيني مازال في سن تمكنه من الارتباط بفتاة عشرينية من دون أن يبدو ذلك علاقة محكومة بالفشل.

على صعيد آخر، يشحذ آلن فيلمه بنموذج علاقة أخرى لزوجين خمسينيين هما "جودي" (باتريشيا كلاركسن) و"مارك" (كيفن دان) وانما فقط كمؤشر الى ما قد تؤول اليه علاقة "فيكي" بزوجها "دوغ" ان هي تجاهلت نداءات قلبها.

يستمتع وودي آلن بخروجه ذاك عن شخصياته متوسطة العمر. يبدو متخففاً من أعباء الحديث على العلاقات في ذلك الحيز الذي ينتمي اليه. فعلاقة "جودي" و"مارك" لا تعنيه كثيراً بل ترد في سياق الأحداث كأنها منتهية للاسباب الكثيرة التي دأب على تشريحها في أفلامه السابقة. بينما يأتي مشهد القبلة بين "جودي" وشاب قد يصلح سنه ليكون ابنها عابرة هو الذي تحدث عن هذا النوع من العلاقات في أفلامه ايضاً انما بشكل معكوس اي بين رجل متوسط العمر وفتاة شابة. التركيز هنا على كريستينا التائهة وفيكي الهشة. بينما تقتحم "ماريا إيلينا" (بينيلوبي كروز)ـ زوجة "خوان أنتونيو" السابقةـ الفيلم كشخصية غير مالوفة خارجة على عالم آلن الذهني. انها بشخصيتها النارية والحدية والمتطرفة أقرب الى قوة طبيعية تصعب مقاومتها. وبدخولها الفيلم في منتصف الأحداث تقضي تماماً على "خوان انتونيو" وتفرّغه مما تبقى له من تأثير لتبدو شخصية الفنان مغوي النساء قناعاً خارجياً باعترافه الشخصي بأن تأثير أعمالها الفنية على أعماله أكثر مما اعترف به يوماً. على هذا المنوال، تتخذ ماريا إيلينا مكان خوان انتونيو في دفع كريستينا الى الامام. تعلمها التصوير الفوتوغرافي لتصبح ملهمتها وعشيقتها أيضاً ومفتاحها الحقيقي الى المدينة وفنها. فحين تلتقط "كريستينا" صور "ماريا إيلينا" تبدو وكأنها تقبض للمرة الاولى على روح "برشلونة" وتتمكن من موهبتها التي أنكرتها لسنوات. يجمع الشغف بين المرأتين وتلك القبلة المحمومة ـ المحذوفة بالطبع من النسخة المعروضة في صالاتنا ـ بينهما في غرفة التحميض فد تكون أكثر المشاهد أنثوية وعاطفة عند وودي آلن وان كان بعضهم قد وصفه بـ "مشهد المال" اي اللقطة التي ستؤمن الربح المادي للفيلم. غير أن آلن يعرف تماماً كيف يحافظ على حساسية المشهد بابقائه في إطاره من دون اي استغلال أبعد سوى إحراج شخصيات أخرى به. فحين تبوح "كريستينا" بما جرى بينها وبين "ماريا إيلينا" أمام صديقتها "فيكي" وزوجها "دوغ" انما هي طريقة آلن في ابراز الوجه المحافظ لدوغ ووسيلته ليقول ان ما جرى ليس بالشيء الكبير الذي يجب ان تبنى الاستنتاجات عليه كما يفعل "دوغ" حين يسارع الى سؤال "كريستينا" ان كانت مزدوجة الجنس.

لعل هذا التحقق المهني من جهة وخوض علاقة غرامية مختلفة مع امرأة او في مثلث غرامي هو ما يخفف عن "كريستينا" ذلك السعي المحموم خلف شيء لا تستطيع تحديد ماهيته. لقد تحررت بشكل ما الامر الذي يدفعها الى الخروج من العلاقة الثلاثية مع "خوان أنتونيو" و"ماريا إيلينا" في مشهد طريف يتصرف فيه الأخيران كأنهما والدان يواجهان تمرد ابنتهما على القيود العائلية والابوية. وفي ذلك الشكل الابوي للعلاقة بين الثلاثة، تبدو ماريا إيلينا الاكثر تأثراً. فإذ يبدو واضحاً أن خوان أنتونيو سيمضي في مهمته الاثيرة بإغواء النساء وستكمل كريستينا بحثها عن مغامرات جديدة انما هذه المرة بثقة أكبر بالنفس، تبقى ماريا إيلينا معلقة في حاجة ماسة الى طرف ثالث يحقق لها التوازن في علاقتها بخوان أنتونيو وبطبيعتها المتطرفة. اما "فيكي" فتظل تائهة بين ما لديها وبين ما شرعته علاقتها الخاطفة بخوان انتونيو من احتمالات وأفكار. مرة أخرى ليس خوان انتونيو هو الهدف في حد ذاته كما يتضح مع النساء الثلاث بل هو ذلك الشيء الغامض واللانهائي المسمى الرغبة او الشغف. بين "كريستينا" و"فيكي" و"ماريا إيلينا" يقدم آلن ثلاث شخصيات للمرأة في كافة أطوارها ولا ضير من القول إن أبدعهن هي بينيلوبي كروز في دور ماريا ايلينا التي تشع في هذا الفيلم الى حد شعور المتفرج بأنها في مكانها الطبيعي تمتزج بالمدينة وبجدرانها ومائها كما لم تفعل في اي من أدوارها خارج اسبانيا. اما باردم فيؤدي دور "خوان انتونيو" بالتسطيح المطلوب تماماً كما فعل مع شخصية القاتل المتسلسل "أنتون شيغورغ" في فيلم الاخوين كوين No Country for Old Men.

في نهاية المطاف، يترك آلن العلاقات كافة مفتوحة ربماً ايماناً بمقولة ماريا إيلينا بأن الحب غير المكتمل هو وحده الرومنسي.

المستقبل اللبنانية في 23 يناير 2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)