تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

أنجيلينا جولي تنضم الى بطلات كلينت ايستوود في مواجهة مجتمعاتهن الذكورية

"تبديل" عودة الى عناوين الطفولة الهشة وفقدان البراءة والعنف والفساد بخطاب شبه محافظ

ريما المسمار

قبل نصف قرن بالتمام، ظهر كلينت ايستوود على الشاشة للمرة الاولى في السلسلة التلفزيونية Rawhide في كانون الثاني 1959 في دور الشاب الوسيم "رودي ييتس". وعلى الرغم من ابتعاد السلسلة من هاجس الدقة التاريخية لحكاية انشاء السكة الحديد "تشيشولم ترايل" ووصولها الى "أبيلين" الا انها كرست ممثلها الشاب نجماً بفضل من نجاحها واستمراريتها. عزز ارتباط اسم ايستوود بنوع "الويسترن" تعاونه مع السينمائي الايطالي سيرجيو ليوني على ما أصبح يُعرف لاحقاً ب"ثلاثية الدولارات" اي: A Fistful of Dollars، For a few Dollars More وThe Good, The Bad and the Ugly وذلك بين 1964 و1966. جعلت افلام ليوني كلينت ايستوود نجماً عالمياً ممهدة لعودته الى الولايات المتحدة الاميركية ولتعاون آخر مثمر هذه المرة مع دون سيغل على أفلام من طراز Coogans Bluff (1968) و( Dirty Harry1971). ومع خروج الفيلم الأخير والاحتفاء الجماهيري والنقدي به كان ايستوود قد وقع باكورة أعماله الاخراجية: Play It Misty For Me الاول في سلسلة افلام "ايستوودية" تمحورت حول الذكورية والبطولية والسياسة الجنسية. ولكن الأمر تطلب بعض الوقت قبل ان يتم الاعتراف بموهبة ايستوود كمخرج. بل ان الجدل ظل قائماً حول مكانته كسينمائي مؤلف حتى فترة قصيرة خلت الى حين تراجع ظهوره في أفلامه لاسيما منذ (Mystic River 2003) وMillion (Dollar Baby 2004) وثنائية Iwo ( Jima2006). ولكن بالنظر الى افلامه الاولى، نلحظ ان ثمة ظلماً لحق بها من (The Outlaw Josey Wales 1976)و(ird 1988) الى( Unforgiven 1992)و (The Bridges of Madison County 1995) وغيرها. اليوم بات ايستوود يُنعت بآخر السينمائيين الكلاسيكيين في السينما الأميركية ومنهم من يضعه بين أفضل السينمائيين الاميركيين المنتجين الى يومنا هذا. يقابل تلك التصنيفات اصوات تختزل ايستوود ب "مخرج نوع" تعلم الدرس من ملهميه ليوني وسيغل من دون ان يتمكن من التوصل الى سحر سبيلبيرغ الشعبي وكفاءته التقنية او الى خصوصية سكورسيزي. ولكن في ذلك الاعتقاد ما يعود بالمديح على ايستوود ابن المدرسة السينمائية الكلاسيكية الذي مازال يؤمن بقوة السينما على سحب المشاهد اليها بأقل ما يمكن من الاستعراض مع ضرورة الانتباه الى ان فيلمي Iwo Jima تضمنا ما يكسر تلك الكلاسيكية ويحملنا على الأمل في قدرتهما على اتاحة هامش للتجريب وسط ما يسمى عرضاً "سينما حربية". في مطلق الأحوال، لم يكن ليستوود يوماً مخرج نوع ملتزم ووفي للنوع. حتى افلامه الاولى الويسترن حملت دائماً ما يكسر التوقعات في ما غردت أفلامه الاخرى خارج سرب التصنيف والجماهيرية.

مع الوقت الذي يحتفل فيه ايستوود بمرور نصف قرن على انطلاق مسيرته السينمائية، يخرج فيلمه الثامن والعشرون كمخرج في الصالات المحلية بعد عرضه الاول في مسابقة مهرجان "كان السينمائي" في أيار/مايو الفائت. انه Changeling الذي أعاد من جديد احياء الجدل حول "سينمائية" ايستوود وحول علاقته بالنوع السينمائي والذي يصلح بالفعل نموذجاً ربما لن يكون في صالح ايستوود على طول الخط مقارنة بأفلامه الأخيرة.

تدور أحداث الشريط في لوس أنجيليس بين اواخر عشرينيات واوائل ثلاثينيات القرن الماضي حول القصة الحقيقية لكريستين كولينز (أنجيلينا جولي) الأم العازبة التي تربي ابنها "والتر" ابن السنوات التسع. في أحد أيام السبت، تعود من عملها الاضافي لتكتشف ان ابنها قد اختفى. في البدء، تتلكأ الشرطة في التجاوب معها ولكن مع ما تلحقه بها الحادثة من توصيفات بالفساد والاهمال يقودها القس المسيّس "غوستاف بريغليب" (جون مالكوفيتش)، تعود الى "كريستين" بعد خمسة شهور بخبر العثور على "والتر" في ايلينوي. امام عدسات الصحافة وحضور العمدة تلتقي "كريستين" الصبي لتفاجأ بأنه ليس ابنها. ولكن الشرطة والصبي يصران على خلاف ذلك. ما يلي سيتمركز حول معركة امرأة منفردة مع أنظمة الشرطة ومؤسسات الطب في لوس أنجيليس ينضم اليها لاحقاً فيها القس "غوستاف". كإمرأة، تُنعت "كريستين" بالهشاشة والهستيرية واللامنطق في حين يتولى أمور المنطق رجال الشرطة والطب والسياسة معلنين "كريستين" مختلة عقلياً ودافعين بها الى مصح خوفاً من أن تثير احتجاجاتها حول حقيقة ان الولد ليس ابنها الاسئلة حول أداء الشرطة واستغلالها السلطة. في الوقت الذي تعاني فيه "كريستين" من سوء المعاملة في المصح وتلتقي نساء أخريات يعانين الظلم بسبب وقوفهم في وجه نظام الشرطة، تنتشر الاخبار عن مقبرة أطفال في مزرعة نائية.

كما أفلام ايستوود السابقة، يقاوم Changeling التصنيف السهل. فهو من جهة ميلودراما حقبة ومن جهة أخرى حكاية بوليسية. كما يقوم على عناصر أفلام المحكمة والمرافعات ولا يخلو من مقومات أفلام القتلة المتسلسلين او دراما الاختلال النفسي. يجمع سيناريو جاي مايكل سترازينسكي بين كل تلك العناصر للخروج بدراما متماسكة ذات ثقلين اساسيين: معركة امرأة في سبيل العدالة واثبات الحقيقة من جهة ورسم صورة للوس أنجيليس اواخر العشرينات في ظل حكم عمدتها جورج إي كراير وقائد الشرطة جايمس إي دايفيس من جهة ثانية. وهذا الاتجاه الأخير يضع الفيلم في خانة واحدة مع أفلام مثل L.A. Confidential وChinatown. ولكنه، اي الفيلم، وقبل اي شيء على تماس مع هواجس مخرجه ايستوود وموضوعاته الأثيرة. فهو أولاً فيلم شخصي ليس فقط لأن أحداثه تجري حيث ترعرع ايستوود على بعد سنوات قليلة من الحادثة الواقعية التي يرويها الفيلم ولكن ايضاً لأنه يتناول موضوعات سبق للمخرج التطرق اليها في افلامه السابقة وابرزها الطفولة الهشة وفقدان البراءة التي نعثر عليها في Pale Rider (1985) وA Perfect World (1993) وخصوصاً في Mystic River (2003). ها هنا يتخذ ايستوود من العنف وصوره مادة تصاعدية ولعل هذا التصاعد هو الذي يجعل من شريطه عملاً مؤرقاً يربط العنف المؤسساتي بالعنف الفردي. فلا نكاد نعتاد فكرة زج "كريستين" في مستشفى الأمراض العقلية وأساليب الاهانات المتعددة والتعذيب المباشر وغير المباشر حتى يطلع علينا ايستوود بحكاية القاتل المختل "غوردن نورثكوت". وبحنكة درامية لا تليق الا بأمثال ايستوود يقصي الأخير عن الصورة لينوب عنه قريبه المراهق (إدي ألدرسن) في رواية أفعاله الاجرامية التي أُجبر على المشاركة فيها. هنا يتفرد Changeling بحكاية الطفولة والعنف عن باقي أفلام ايستوود حين يجعل من قريب القاتل المراهق شاهداً حياً ومشاركاً رغماً عن إرادته في أفعال مشينة لن تغادر ذاكرته طوال حياته. وفي مشهد بالغ التأثير، يقوم الشرطي بإجباره على انتشال جثث الاطفال الذين شهد على قتلهم كأنما في فعل تطهير للذات.

على صعيد آخر وعلى الرغم من ان أبطال ايستوود يجسدون معنى الذكورة الا ان شخصية "كريستين" لا تقف وحيدة بين ابطاله بل هي واحدة من مجموعة نساء تناولهن في أفلامه في صراعهن وسط مجتمعاتهن الابوية. من شكوى المومس المباشرة في Unforgiven انتقل ايستوود الى شخصيات نسائية ذات حضور قوي ومؤثر كما هي حال ميريل ستريب في Bridges of Madison County وهيلاري سوانك في Million Dollar Baby والآن أنجيلينا جولي في Changeling والثلاثة يقدمهن كأفراد ويحولهن بطلات من دون تناسي تاثير وأحوالهن الاقتصادية وجنسانيتهن في جعلهن هشات في مواجهة آلة المجتمع الذكوري.

العنوان الثالث الذي يحتل هامشاً كبيراً في Changeling هو فساد السلطة المتجسد في رجال السياسة والاعمال والجيش وكافة مؤسسات المجتمع. ولكن في حين حملت أفلامه السابقة دلالات مباشرة الى الواقع كما في فساد رئيس الجمهورية مثلاً في Absolute Power، جاءت أفلامه الأخيرة على قدر أكبر من الذكاء والعمق في تجسيد ذلك العنوان لاسيما في Flags of our Fathers حيث مزج بين استغلال رجال الحرب للصورة الفوتوغرافية لفبركة النصر وبين قدرة الصورة على الخداع. في Changeling يتناول موضوع تواطؤ الشرطة والاعلام والمؤسسة الطبية ورجال السياسة على الفساد في ما هو ليس اكتشافاً ولكنه تجسيد لحقبة مهمة من تاريخ لوس أنجيليس كما يحمل صدى الحاضر لاسيما ما بعد 11 أيلول. ولعل هذا الاهتمام بالتاريخ الاميركي شهد هو الآخر تحولاً في أفلام ايستوود من اهتمام بالبطولة واساطيرها الى اهتمام بكشف صلتها بمحيطها. من هنا لا يكتفي أبطاله المعاصرون بفكرة الحلم الأميركي وانما يذهبون أبعد في محاولة اكتشاف معاني السعادة والظلم والموت. ذلك ما يجعل أفلام ايستوود الاخيرة الاكثر تقديراً من الجمهور والنقاد أفلاماً تميل الى السوداوية والتشاؤم توظف التقشف في الاداء والتقنية والميلودراما وحتى السرد اذا ما ثبت انه قد يقلل من قيمة الشخصيات او عمقها. لهذا ربما يرى كثيرون في ايستوود خلفاً لجون فورد وهاورد هوكس في استعداده الدائم لتمويه الخطوط بين الانواع السينمائية والذهاب أبعد في استكشافها.

على الرغم من كل تلك المميزات التي تجعل من Changeling فيلماً أصيلاً ينتمي الى مخرجه، يأتي الأخير دون أفلامه الاخيرة منذ Mystic River. ربما لأن حكاية الفرد هنا بخلافها في Mystic River وMillion Dollar Baby تفقد شيئاً من فرادتها في الاطار السياسي الاجتماعي الاكبر. وذلك العمق الانساني والحياتي الذي يشع حكمة وتجربة في الافلام الأخيرة نراه في Changeling مروضاً في ظل خطاب عام محافظ بعض الشيء يمثله القس. فكرة العودة الى الكنيسة والمسيحية من خلال شخصية قس مسيّس ومنفتح على مشكلات المجتمع ليست تماماً الفكرة المثالية التي يمكنها توسيع آفاق رؤية ايستوود. الى ذلك يتفاوت أداء أنجيلينا جولي بين مشاهد صامتة غارقة في التعبير عن مأساة أم وأخرى تشع فيها كأنها نجمة سينمائية تؤدي شخصية بعيدة منها. في ما التركيز على "بطوليتها" ينفي عنها أحياناً صورة المرأة التي لا تريد سوى استرجاع ابنها.

المستقبل اللبنانية في 23 يناير 2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)