حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

د.أبو عوض: الوثائقي يشتغل خارج السينما..

حوار حسن مرزوقي

د. عبد الله عاطف أبو عوض من المغرب، أستاذ جامعي للبرامج الوثائقية في جامعة عبد الملك السعدي في مدينة " تطوان "، أستاذ في معهد البحر الأبيض المتوسط للصّحافة و تقنيات الإعلام لمادّة التنشيط التلفزيوني، وله مجموعة من البحوث في مجال الإعلام والاتصالات.

·         و أنت تدرّس الوثائقي،هل يمكن أن نقول إنّ هناك هويّة معرفية وعلمية خاصة بالوثائقي؟

طبعًا لأنه فضاءٌ واسع، هناك قاعدة، فكلّ الظّواهر الإنسانيّة والمشتركة في هذا الكون لها قاعدة معرفية، و كلّ المفاهيم التي تنبني عليها شخصنة الإنسان و مستواه التعايشي، سواء في علاقته بنفسه أو ببيئته أو بالكون الذي يتعايش فيه، أو مع أخيه الإنسان

·         لكنك، تدرّس كيف نجعل من الواقع صورة واقعية ؟

نعم، لماذا ؟ لأنّ الصورة في حقيقة الأمر هي الرهانُ العصري لكي نكتسب إرادة المشاهد، بمعنى آخر أو الذي تنطبع عنده الصورة . الصّورة تأخذ في  المساحة الفكريّة عند كلّ متلقٍّ، أكثر من ثلاث سنوات على مستوى التّذكير أو على مستوى المذاكرة، لكن في المقابل، الفكرة، ليست كذلك، لهذا عندما ينتقل البرنامج الوثائقي من المنهج العلمي على مستوى الكتابة إلى المنهج العلمي على مستوى التّشخيص كبرنامج وثائقي أو توثيقي نجد أنّ هذه الصورة تنطبع وتعطي، و تختزل زمن المعلومات في دقائقَ معدودة .

·         *أنت إذن لا تقحم الوثائقي ضمن مجال السينما ؟

لا، السّينما تطغى عليها مجموعة من الأحداث يحكمها الخيال  والإبداع أكثر ممّا يحكمها التوثيقي، لأنّ البرنامج الوثائقي في حقيقة الأمر وأمام كثافة المعلومات يصبح مرجعًا يعتمد المناهج العلميّة، في حين أنّ السّينما، هي مدرسة  فيها مجموعة من الاختصاصات ومن الأقسام، فمن الأقسام  السينمائيّة، نقول " الفيلم السينمائي الوثائقي .. مثلاً إذا أردنا أن ننجز فلْما وثائقيًّا حول شخصيّة " عمر المختار " الذي تمّ تمثيله بإخراج " مصطفى العقاد " هو "عمر المختار " الذي يمكن أن يكون فلْما تسجيليًّا ؟ لا يمكن، لأنّ "عمر المختار" في بداية المشهد على مستوى الفيلم، ظهر رجلاً كبيرًا بمعنى أنّ الأحداث المتسارعة بشكل درامي، و بشكل له الأبعاد والدلالات السينمائية، لا أستطيع أن أحدّد، لأنه ليس تخصّصي، ولكن " البرنامج الوثائقي " مشروط ومربوط و مرهون بتوثيق شخصيّة " عمر المختار " منذ نعومة أظافره  ونشأته إلى غير ذلك .

·         دكتور، إذا حاولت أن أجاريك في ما تقول كأنّك تفصل بين الوثيقة، وبين الوثائقي و إنتاج الإبداع عبر الوثائقي .

طبعًا هناك وسائط، لماذا ؟ لأنّ الوثيقة منهجٌ معرفي و الذي يجب  أن يتعامل معها ينقل طبيعة مفاهيميّة تحكمه في التعامل مع الوثيقة، ينقل هذا التّعامل إلى الشخص الآخر، إلى المؤسّسة الأخرى، وهو " كاتب السيناريو" ثم  ينتقل من كتابة السيناريو إلى الإخراج  كإبداع، يعني كلّ مؤسّسة يجب أن تحترم تخصّصها، في الدول العربية، الخطأ الذي نقع فيه هو أنْ نجد مثلاً في الجينيريك، الكتابة والسيناريو والحوار و الإخراج والفكرة... كلها لنفس الشّخص، وهذا لا يجوز . لماذا نجحت مؤسّسة وثائقية كبيرة كـ national geographic ، في العالم الآن، لأنها تلتزم بالاختصاص.

·         لكن بهذا التعريف، د. عبد الله، أنت تضيّق " الوثائقي"، ليس " الوثائقي " الذي يتناول دائمًا قصّة بشر، شخص، ومن خلال قصّة ذلك الشخص، نوثّق بين ظفرين لأزمة اجتماعيّة ما، أو تحوّل اجتماعي، " الوثائقي " ليس دائما وثيقة بالمعنى العلمي لكلمة و ثيقة .

نعم، و لكن ليس ارتجاليّة، لأنّ الوثيقة عبارة عن اجتهاد بشري في ضبط المفاهيم، كذلك الحالة الإنسانية، فكلّ تحركاتها عبارة عن  تشخيص نحن نضبط مفاهيمه، مثلاً أنت تتحدّث عن حياة إنسان، إذا طبعت هذه المفاهيم في ورقة تسمّى وثيقة، يعني حتّى لا نعقّد المصطلح و لكن نحن نتحدّث عن طبيعة المفاهيم، إذًا بمعنى آخر، لا نقول إنّ المراجع إذا لم تكن معتمدة تاريخيًّا  والمصادر و غيرها .. هذه عُقد، حتى لا نضيّق الفضاء و لكن يجب احترام المنهج و هو مجموعة من القواعد التي ينبغي أن يستند إليها كلّ إنسان للوصول إلى مبتغاه.

* لكن، سأدافع عن شقٍّ آخر قد يخالفك، عندما أحافظ على المنهج  هناك من يقول، أنا لا أحافظ على المنهج بالمعنى العلمي، أنا لست ملزَمًا بهذا، أنا أحافظ على الفنّ، يعني أنا أتصرّف في الوثيقة بما أرى فيها من إمكانيّات لإنتاج فنّ آليّات استنباط الجمال هي عبارة عن منهج، الفنّ ككلمة، عبارة عن منهج، نحن لا نضيّق المصطلح في بعده الضيّق أو على مستوى اللغة والاصطلاح مثلاً، لا، نحن نتحدّث عن مفهوم سنني، كوني، لا بدّ أن ينطبع في الأمور العامّة، فلهذا،اتّبع الفنّان منهجًا في تلقّيه آليّات الفنّ ليصبح فنّانًا، هذا هو القصد .

·         يعني يصير الفنّ مدرسياًّ حتى نتعلمه ؟ .

حتى لا نقع في مقابلات المصطلحات يعني الفن هو إبداع و ليس فوضى، الإبداع له ضابط، الفوضى،لا ضابطَ لها . نحن نتحدّث عن هذا الفارق بين الإبداع والفوضى، إن لم يكن هناك ضابط، سادتْ الفوضى .

·         لكن الضّابط من الذي يحدّده ؟

المؤسّسات، على المخرجين مثلا في البرامج الوثائقية، قناة البرامج الوثائقية في دول عربية أو غير عربية إذا أرادت أن تكون مضبوطة، محكمة أو محكَّمة حتى في برامجها لا بدّ أن تعتمد على المدرسة الأكاديميّة، لأنها ظاهرة إنسانيّة نحن لا نريد القطيعة بين المنحى الأكاديمي والفن، و إنما نريد أن يكون الأمر متكاملاً .

·         و لكن ألاَ تخشى من التّنميط، سنعلِّم الناس نمطًا ما لإنتاج المعرفة و كذلك لإنتاج الإبداع أو الفنّ أو الجمال بشكل عامّ .

و لماذا لا نقول إنّما هو منهج كما سبق و ذكرنا.

·         و لكن المؤسّسة تصدر عن مدرسة، أي مؤسّسة تتبنّى مدرسة وفي أغلب الأحيان لأسباب أيديولوجية تتبنّى مدرسة..

بكلّ بساطة، المخرج أو الذي يشتغل بالأفلام الوثائقيّة في غالب الظنّ يكون في مدرسة إنتاجية معيّنة أو في مؤسّسة إنتاجية معيّنة، هذا المنتج يتعامل مع مجموعة من التقنيّين باعتبارهم هم الأساس الذين سيقيمون الحركة العمليّة باستخدام الجوارح لتحقيق إبداعات العقل. لكن هذه الإبداعات العقليّة لا بدّ لها كذلك مَن يؤطّرها، يعني هناك حلقة متكاملة مع بعضها البعض. أنا لا أفصل لأنني إذا فصلت وقعت في النّمطية، سيبقى الأكاديميون يعطون الحقّ لأنفسهم في أن يكونوا أهلا " للوثائقي " و هم لا يفقهون في مجال الاتّصال، و حتّى لا يكون أهل الإعلام نمطيّين  كذلك في تعاطيهم مع الوثائقي، لكي لا يصبح هذا الوثائقي فجوة يدخل إليها كلّ من ليس لديه أيّ بعد في فكرة أو اختصاص عندها تسود الفوضى، إذًا لابدّ من المشاركة، لا بدّ من وجود المؤسّسة.

·         لكنك أنت الآن قلبت مفاهيمَ كثيرة، في رأيي أنّ الكثيرين متّفقون على أنّ الفيلم الوثائقي هو بداية السّينما، وأصبحت السّينما الروائيّة هي الأصل  لكنه في كلّ الحالات ظلّ داخل عائلة السّينما

عندما نتحدّث  عمّا يقوله الكثير من المفكّرين أو الكتاب المتخصّصين في مجال  "الوثائقي "، يقولون إنّ " الوثائقي " هو بداية السّينما و لكن لا يربطونه بأنّه عبارة عن انبهار بالآلة ففي المرحلة التي ظهرت فيها الآلة تشخّص طبيعة، لم تكن لديهم إرادة الإنتاج الذي نعرفه في هذه المرحلة، فاستغلّوا تلك الآلة في نقْل أحداث الإنسان. لكن بتطوّر المعارف الاتصاليّة بدأنا نفصل ما بين المفاهيم، ولهذا السينما الآن كمؤسّسة ليست هي الوثائقي كمؤسّسة،و إنْ كان الرّبط على مستوى البناء يمكن أن يكون هناك تشارك ولكن ليس على مستوى الإبداع والأفكار.

·         غالباً، الفكرة الراجحة في عقول الناس، أنّ الوثائقي هو حقيقة و بالتالي، الوثائقي ليس صنعة فنيّة وليس تخييلاً، ألاَ تظنّ أنّ الوهم بالحقيقة هو الذي يضعف إبداعيّة الوثائقي..

العلم يتطوّر وبتطوّره تتطوّر المفاهيم، لهذا تطوّر الفيلْم الوثائقي يخضع لهذه القاعدة، فهو فيلم للحقيقة، لتوثيق الأشياء الحقيقيّة كيفما كانت طبيعتها سواء كانت مظاهر إنسانيّة أو مفاهيم تاريخية أو أحداثاً أو مسائل طبيعية من الحياة البريّة إلى غير ذلك،على كلّ حال المجال مفتوح، لكن لا بدّ أن يخضع بنسبة كبيرة إلى المفاهيم الحقيقيّة لأنه ليس مجالاً للتدخّل الإبداعي الذي ينبني على المفاهيم القائمة على الخيال وأسسه، لأنّ الخيال ينطبع في كثير من الظنّ على مستوى السينما والدراما أكثر ممّا ينطبع على الوثائقي، لهذا، فهذه المعادلة تخضع إلى التطوّر المعرفي. لو كنّا في عصرٍ لا نعرف فيه هذا الانبهار الإعلامي لقلنا مثل هذا الكلام، لكن بما أنّنا نعيش في عصرٍ تتطوّر فيه المعلومة بسرعة، لا يستطيع عدّاد السرعة أن يضع لها ضابطًا، لهذا نحن في عصر المعلومة.

·         في الرؤية الفلسفية الفنّ رؤية للعالم مثلما أنّ العلم رؤية للعالم، فقد لا يكون صحيحًا أنّ الوثائقي يجب أن يلتزم بحقيقة ما و أن  الرّوائي لا يخيّل لنا حقيقةً ما فحتّى صانع الوثائقي هو يكسر الحقيقة ويعيد بناءَها.

طبعًا، لهذا انسحبت السّاعة من مؤسّسة الإبداع وعلاقتها بمؤسّسة العلم، إذا ليس فقط الاقتران بالعلم، لأنه لن يكون وثائقيًّا، فكُتب التاريخ موجودة على رفوف المكتبات، لكنّنا نتحدّث عن العلاقة بين علوم الاتّصال وعلم الوثيقة  هذا هو الفنّ في البعد المشترك، أوافقك أنّ الفن لا بدّ أن يكون حاضرًا و لكن الفنّ كذلك كما قلت لك، مصطلح عام يدلّ في دلالته اللغويّة على الشّمول والاستغراق بمعنى أنّه حتّى الكلمات الجميلة فنّ، حتّى النّظرة الجميلة فنّ، بل هناك فنّ المشي، هناك فنّ الكلام و غير ذلك، إذًا اللفظ عندما نربطه بالسّينما فإنّ فنّ السينما له قواعده و فنّ الوثائقي له قواعده وضوابطه. المسألة التي أحبّ أن أوضّحها هي لماذا نحن دائما في الدّول العربيّة خاصةً نعجز عن تحديد المعالم العلميّة التي تضبط المفاهيم ، في هذا العصر لا نعجز عن قوْل إنّ السينما وقواعدها كذا و كذا.. والفيلم الوثائقي قواعده كذا و كذا و كذا. إذا قمنا بجرد هذه المعطيات نجد هناك مشتركاً، ولكن بخصوصيّة معيّنة، إذًا ما العيب في ذلك؟  نحن لا نرفض أن تكون هذه سينما ولا أن يكون هذا وثائقياًّ، و لكن نقول لا بدّ لهذه المعالم أن تحدّد وتضبط السّينما في هذا العصر.

·         الآن بحسب اختصاصك الوثائقي كوسيط اتّصالي، كعلم اتّصال  كيف تقيّمه، وظيفته، دوره؟

سؤال جميل في حقيقة الأمر، رغم أنّني أصرّ على أن يكون للوثائقي منهجه الفكري و العلمي الذي يضبطه، أي بمعنى آخر المنهج الأكاديمي و لكن لا بدّ من المزيد في المنهج الفنّي و الذّوقي لكي يتذوّقه المُشاهد، لماذا ؟ لأنّ الانطباعيّة عند المشاهد أصبحت مستهلكة لا غير، لهذا السّينما عنده ليست هي السّينما التي تتيح له فضولاً معرفيًّا معيّنًّا لحادثةٍ واقعيّة أو غير واقعيّة أو تخلق فيه طبيعة التّساؤلات، السّينما هي عبارة عن مضيعة للوقت بالنّسبة إلى الشّريحة العامّة  هناك طبعًا المتخصّص، و لكن عندما تسأل شاباًّ عن وظيفة السّينما، يقول لك : التّرفيه، لكن في المقابل، وظيفة السينما، أفكار تمرّر لتطبع لنا جملة من المفاهيم.

·         هذه السّينما الآن، أو التركيبة العالمية للسينما، لا تخرج عن رؤية فلسفية وإيديولوجية فالأفلام الأخيرة للولايات المتّحدة الأمريكية، كلّها تتحدّث مثلاً عن مفهوم القيامة، في غالب الظنّ يعني إذا قرأت الأبعاد السينمائيّة لهذه الأفلام الأمريكية الجديدة.

الفيلم الوثائقي في رهانات الاتّصال المعاصر هو الذي سيمثل الفسحة الفكريّة كلما زادت نسبة المعاصرة وزادت نسبة الوعي داخل المجتمعات العربية تجاه السّينما  أي أنّ الفيلم الوثائقي في الرهان الحالي أمام تدفّق المعلومات و بسرعة تدفّقها، سيأتي الوقت الذي يعتمد كمجال للترفيه بصالاته الخاصّة، لمجموعة من الناس أن يحضروا حضوراً عائلياًّ وغير عائلي، لأنّ المعلومات عندما تترسّخ في الذّهن   ويتمّ تخميرها تعطي تصورا معرفيًّا يتوافق مع طبيعة الوثائقي وهو رهان العصر القادم .

·         أنت متفائل، وترى أنه ستصبح عندنا ثقافة وثائقيّة .

طبعًا ، لأنّ الإبداع الوثائقي الآن أصبح يعني شيئا مهما للمتلقي وهناك منافسة شريفة ويعني،حسب رأيي، منافسة شريفة ما بين الشركات الإنتاجيّة التي تخصّصت في مجال الوثائقي على أن تعطي الصورة الجماليّة للإبداع سواء من حيث بناء الفكرة أو من حيث المعالجة وهذا الذي يحيل على أن يكون الفيلم الوثائقي فلْمًا يعطي معلومة و في نفس الوقت يرفِّه عن الأنفس.

·         لكن تأخّرنا !

لا،  ضرورةُ  العصر تفرض  حالها و حال هذا العصر تقول إنّنا لو لم نستفقْ لمعرفة الضّوابط التي تحكم الإعلام أو تكنولوجيا الإعلام المتسارعة لكنت قلت  تأخّرنا، ما يجب الإشارة إليه هو أنه لا عيب أن نُؤرّخ لهذه المفاهيم ولكن العيب أن نستفرغ جُهدنا فيها وهذا هو القصد.

·         في مجال الاتّصال و المواصلات، ألاَ تلاحظ أنّنا نمرّ بمرحلة مرتبكة جدًّا في التعاطي مع الصورة  "الفايس بوك " و غير ذلك، ألاَ تتوقّع أنه قد نشهد أشكالاً تعبيريّة أخرى .

"قُلْ لمن يدّعي في العلم معرفة علمتَ شيئًا و غابت عنك أشياء "، ولو كنت في عصر، و لو قريب جدا، أي في مرحلة الثّلاثينات أو الأربعينات، و قلت هناك صندوقٌ سينقل العالم بأكمله لاتُّهِمت بالجنون، فالآن إذا قلنا فكرة معيّنة يمكن أن يتّهمونا بالجنون، فلهذا هذه الفكرة هي متجدّدة بتجدّد المعرفة، والمعرفة لا حدَّ لها لأنّ العقل البشري مع المعرفة لا يعلم سرّه إلاّ الذي خلقه عزّ و جلّ .

·         هذا يعود كذلك إلى أنّ التكنولوجيا صارت ملك الفرد و ليس ملك المؤسّسة..

نعم، و هذا فيه جمال و فيه خطر .

·         بالتالي، الوثائقي يمكن أن يكون وسيلة ممتازة للحريّة الفرديّة في المستقبل على الأقلّ في هذا السّياق .

نعم، يجب أن نضع قاعدةً في هذا العصر، لا يمكن حصر المعلومة ولا تضييقها أو محاولة حجز أفقها على أيّ مستوى من المستويات، لماذا؟  ما يقع مثلاً من أحداث في العالم العربي، الثّورات العربيّة مَن نقلَها إلى القنوات الكبيرة مثل قناة الجزيرة أو قناة " c.n.n  " أو قناة " B.B.C" إلى غير ذلك  هو " الفايس بوك"، و"الفايس بوك" هو في بعده المبسّط  الورقة الشخصية لكلّ شخصٍ أن يضع فيها أيّ شيء و يطّلع عليها الآخر، فهل بإمكاننا أن نمسك كلّ فرد ونقِيم عليه رقابة، ليس بالرقابة البعديّة، البوليسيّة ولا بالرقابة القبليّة الزجريّة بل بالرقابة الذاتيّة، فهل يمكن أن نكون رقباء على ذوات الآخرين ؟

·         و من هنا كيف تقيّم تجربة القنوات الوثائقية : الجزيرة الوثائقية، قناة أبوظبي...

أوّلاً، أنا أقيّم هذه التجربة خاصّةً قناة الجزيرة الوثائقية، أنّها خطوة كانت تفتقدها الأمّة العربية والإسلاميّة بأكملها وحتّى على انفتاحها على العالم و هذه خطوة جيّدة بالنسبة إلى انفتاح قناة الجزيرة على كلّ المنتجين العالميّين، هذا ما كنّا نحتاج إليه في العالم العربي، كنّا نحتاج إلى أن يتخصّص  كلٌّ على حدة في مجاله الذي يستطيع أن يبدع فيه، فهناك قنواتٌ تسمّى بالقنوات العامّة تجد فيها برنامجاً وثائقياًّ وفكرياًّ و أخباراً، الآن عهد الاختصاصات لأنّ الأذواق تضاعفت وتنوّعت مع المعلومات.

الجزيرة الوثائقية في

18/08/2011

 

عن فيلم "ذكريات التخلف"(1 من 2):

ما أحوجنا إلى فهم الحاضر في ضوء سينما الماضي

أمير العمري 

يعتبر فيلم "ذكريات التخلف" Memories of Underdevelopment للمخرج/ توماس جوتييريز آليا، عملا ملهما، لا مثيل له من قبل في السينما الكوبية التي ظهرت ملامح مدرستها الخاصة في الستينيات، أي بعد الثورة المسلحة التي قادها "كاسترو" وأطاحت بالديكتاتور "باتيستا" عام 1959.

"ذكريات التخلف" فيلم "حداثي" بمعنى الكلمة، أوروبي في ظاهره، ولكنه "لاتيني" تماما في خصوصية التجربة التي يصورها، وأجوائها، وفيما يطرحه من تساؤلات بل وتحديات أيضا على مستوى الشكل.

صحيح أن الكثير من هذه التساؤلات تأتي على مستوى قد يبدو وجوديا، ربما تأثرا بأفلام الموجة الجديدة الفرنسية، وبأفلام "أنطونيوني" في الستينيات، التي كانت تدور حول عزلة "البورجوازي"، وفشله في إقامة علاقات ناجحة مع المرأة، وتدهوره النفسي بسبب عدم تحققه فيما يفعله، وغير ذلك من الأفكار التي يلعب عليها الفيلم كثيرا في تصوري الشخصي، ولكنه يصوغها ويصبّها، في سياق سياسي، اجتماعي، نقدي، يتعلق بخصوصية التجربة الكوبية: تاريخ كوبا الخاص، وتطور الصراع فيها.

إنه يدخل بنا ويخرج، من وإلى أسلوب التداعيات المميز للسينما الأوروبية في الستينيات، فمخرجه العبقري، يستخدم أسلوبا سينمائيا يعتمد اعتمادا أساسا على المونتاج، يمزج من خلاله، بين التسجيلي والوثائقي والخيالي، بين الوثيقة الصوتية أو المصورة، وبين التعليق الصوتي المباشر من خارج الصورة، بين الطابع التعليمي الذي يتوقف أمام بعض المعلومات ذات الدلالة الخاصة في سياق الفيلم، وبين الصور الثابتة والرسومات.

وهو يستخدم أيضا لقطات من الجريدة السينمائية ومن الأرشيف، ويعتمد كثيرا على الكاميرا الحرّة المحمولة على الكتف التي تجعل المنظور مهتزا تماما لاكتساب الطابع التسجيلي على نحو يذكرنا بالأفلام السوفيتية التي صنعت في عشرينيات القرن الماضي، يستوحي الفيلم من "أيزنشتاين"، كما يستلهم من "جودار"؛ ويمتليء بالكثير من الإشارات إلى الماضي، إلى التاريخ، في بناء جدلي مركب ومثير، ولكن دون أن يفقد الفيلم في أي لحظة، طزاجته وطابعه الحداثي الأخاذ، وقدرته على جذب المتفرج، ودون أن ينحرف أبدا عن هدفه في الكشف عن تناقضات الشخصية الرئيسية التي يدور حولها موضوع الفيلم.

مخرج الفيلم "توماس جوتييريز" آليا، كان ألمع السينمائيين الكوبيين على الإطلاق (توفي عام 1996)، وكان ينتمي إلى الطبقة الوسطى ولكن إلى أسرة اعتبرت في كوبا "تقدمية".

وقد أيّد الثورة الكوبية ووقف معها بقوة من البداية، وإن لم يمنعه إيمانه بالثورة، من توجيه النقد لبعض الممارسات السياسية والاجتماعية في أفلامه، وخاصة في فيلم "ذكريات التخلف".

يلعب عنوان الفيلم على كلمة ستصبح فيما بعد من الكلمات أو الأوصاف الشائعة كثيرا في عالمنا، في وصف البلدان التي تعاني من مشاكل "التخلف"، خصوصا فيما يسمى بـ" العالم الثالث"؛ والمقصود هنا "التخلف" من وجهة نظر بطل الفيلم، وهو رجل في نهاية الثلاثينيات من عمره، ينتمي إلى الطبقة الوسطى، ورث مجموعة من الشقق السكنية يعيش على الدخل الذي يأتيه من تأجيرها؛ وقد أممتها الحكومة الجديدة لكنه يستطيع الاستفادة من دخلها لمدة 12 عاما.

هو إذن، حسب التصنيف المتعارف عليه، "عاطل بالوراثة"، أي يعتبر "عالة اجتماعية" في مجتمع الثورة والعمل والبناء، في كوبا الجديدة، لكنه، وهو الذي كان يمتلك أيضا محلا للأثاث ورثه عن والده وأممته الحكومة، كان يرغب دائما في أن يصبح كاتبا

يبدأ الفيلم في عام 1961، أي بعد الغزو الأمريكي الفاشل بمساعدة اللاجئين الكوبيين في الولايات المتحدة الذين يطلق عليهم الأمريكيون "المنفيين الكوبيين"، وهي العملية العسكرية الشهيرة التي عرفت باسم عملية "خليج الخنازير" وانتهت بالفشل وبغرق الكثير من السفن المشاركة فيها بفضل المقاومة الكوبية المسلحة.

وينتهي الفيلم في أكتوبر عام 1962، أي وقت بلوغ أزمة الصواريخ الروسية التي نشرها السوفيت على الأراضي الكوبية، ذروتها، فقد كادت أن تتسبب في مواجهة نووية بين القوتين العظميين وقتها لولا أن قرر السوفيت سحبها في اللحظة الأخيرة.

الإطار الزماني إذن، يتحدد في فترة ساخنة سياسيا، شهدت أيضا نزوح الآلاف من البورجوازيين الكوبيين الذين رفضوا الاندماج في المجتمع الجديد، فهاجروا إلى الولايات المتحدة؛ وبين هؤلاء أصدقاء وأقارب بطلنا "سيرجيو"، بل وزوجته "لاورا" أيضا.

وفي المشاهد الأولى من الفيلم نرى طوابير المهاجرين الكوبيين في مطار "هافانا"، وبينهم "لاورا"، بينما يقوم "سيرجيو" بتوديعها، ولكن دون أن يبدو على ملامح وجهه أي شعور بالفقدان، أو بالحزن، بل إننا نلمح شعورا بالارتياح.

لقد ذهبت "لاورا" ولكن بقيت أشياؤها في بيته، تذكره بنموذجها الذي يرفضه لكنه لا يعرف غيره، ويشعر بنوع من الحنين لاستعادته على نحو ما.

"سيرجيو" يرفض مغادرة كوبا، لكنه يرفض أيضا الانتماء إلى الوضع الثوري الجديد في البلاد، أن يكون جزءا من المجموع من حوله، فهو يعتبر الكوبيين "متخلفين"، ويصف نفسه بأنه "أوروبي" أكثر منهم جميعا، وهو ككاتب ومثقف، يسجل يومياته وذكرياته باستخدام الآلة الكاتبة، ويطرح الكثير من التشكك والقلق الوجودي الذي يرتبط بشعوره بانعدام الوزن، فهو يرفض طبقته، لكنه يرفض البديل الآخر، يسخر من الشعارات الجديدة، ويتشكك بوضوح في قدرة هؤلاء الشباب الذين يضيعون الكثير من الوقت في المناقشات والجدال، يتطلع إلى الماضي بحسرة، إلى علاقته التي لم تكتمل مع الفتاة الوحيدة التي أحبها وكانت "أجمل شيء في حياته"، يتجول في الشوارع، لكنه بعيد عن الناس من حوله، ويبدو معزولا في برج عاجي، يتطلع إلى الناس من شرفة مسكنه المرتفع عبر المنظار، إلى الشاطيء، وإلى الشارع، وإلى تمثال برونزي وسط ميدان قريب، وتتداعى الأفكار المتشككة من خلال ذلك "المونولوج" الطويل الممتد الذي يأتينا عبر شريط الصوت من خارج الصورة، وكأن "سيرجيو" يعبر عن أفكاره التي يدونها ولو بصوت مرتفع.

ما الذي حدث؟ "سيرجيو" يجيب بتشكك: "لقد تحررت كوبا.. من كان يصدق".

يلمح قاعدة خالية لنصب تذكاري من أعلى، ويعلق "أين ذهبت حمامة بيكاسو.. من السهل أن تكون شيوعيا في باريس.. لقد دبّت الحياة ولن يتوقفوا حتى يصلوا إلى "ميامي".. ولكن كل شيء يبدو مختلفا اليوم.. ما الذي تغير؟ أنا أم المدينة"؟

لا يروي الفيلم قصة، ولا يعتمد على بناء درامي تتصاعد فيه الأحداث في سياق رأسي، بل على بناء أفقي، يعرض، يقدم، ويحلل من خلال تجسيد التناقض والتعارض بين الصور واللقطات، وهو بناء ثري، لا يهدف للوصول إلى "ذروة" درامية، بل يرمي إلى تفكيك الشخصية، وتعريتها، والتوقف أمام أزمتها.

إنه لا يدين، ولا يبرر، بل يعري، يكشف، ويفضح ذلك العجز، ويجسده. وهذا هو المدهش في هذا العمل الكبير في وقته.

كيف كان ممكنا أن يأتي هذا الفيلم من كوبا، لأهم مخرج سينمائي كوبي، على غير ما اعتدناه من أفلام "الواقعية الاشتراكية" التي تجسد عادة، "البطل الإيجابي"، توجه انتقادات مباشرة إلى الماضي، لكي تبرر كل ما جاء بعدها، وتتغاضى عن أي نواقص أو سلبيات في الحاضر.

أما هنا، فعلى العكس من ذلك تماما، يصبح مدخلنا إلى "الحالة الكوبية" مدخل فلسفي وذهني مرهق، ولكن من وجهة نظر مثقف من الطبقة الوسطى، عاجز عن حسم موقفه، بل وعاجز عن حسم أي شيء في حياته. إنه البطل السلبي، أو اللا بطل.

زوجته رحلت، وهو يعود إلى مسكنه، يتطلع إلى أشيائها التي ظلت تذكره بها: يدير شريط تسجيل لكي يستمع إلى معابثته لها التي تصل حد الشجار.

وفي مشهد يجسد البناء المركب للفيلم، نراه أمام المرآة، يأتينا صوته عبر شريط التسجيل، وصورته من الماضي الذي يتذكره، وهو يعبث مع زوجته ويثير ضيقها، يرسم على المرآة بقلم التجميل الأحمر، في حين يأتي صوته إلينا عبر الشريط المسجل: إنني أفضل النساء اللاتي على شاكلتك.. المصطنعات، أكثر من النساء الطبيعيات.. أفضل الملابس الأنيقة والطعام الجيد، والماكياج والتدليك.. إنك أصبحت أكثر جاذبية الآن.. لم تعودي تلك الفتاة الكوبية المتخلفة..". هنا يكون هو قد ارتدى جوربها النسائي في رأسه، وأخذ يتأمل صورته المشوهة أمام المرآة، ثم ينزع الجورب من رأسه ويجلس في استرخاء وإرهاق على أحد المقاعد. يحدث هذا في الزمن الحاضر.. الآن بعد أن ودعها في المطار وعاد لكي يكتشف موت أحد العصافير التي يحتفظ بها في قفص في الشرفة، فيلتقطه ببساطة ويلقي به من الشرفة المرتفعة إلى أسفل، إلى الشارع، وهو يردد: إنها لحظة الفراق!

لا يعتمد البناء فقط على التداخل بين الماضي والحاضر، سواء من خلال شريط الصوت أو شريط الصورة، بل وعلى المزج مع مشاهد ولقطات تسجيلية تتداعى في الذاكرة الفردية للبطل- اللابطل حينا، أو تستخدم من زاوية موضوعية وفي سياق نقدي أو "تعليمي" من وجهة نظر الفيلم، كما سنرى.

عمليا لا يفعل "سيرجيو" شيئا في حياته سوى التأمل والتجوال في الشوارع، يتطلع إلى النساء بوجه خاص، يعلق عن طريق الصوت الذي يأتي من خارج الصورة، ويطرح تساؤلاته المتشككة وهو ينظر إلى عشرات الوجوه للرجال والنساء، وإلى صور ورسومات لكاسترو على الجدران، لقطات قريبة "كلوز أب" للكوبيات في العصر الجديد: قلق في العينين، نظرات توتر وعدم ارتياح. ما هذا القلق؟ هو بالقطع ليس من النوع الذي يعاني منه "سيرجيو".. إنه يتساءل: ماذا تعني الحياة بالنسبة لهم؟ بل ماذا تعني الحياة بالنسبة لي؟ ويستدرك: "ولكني لست مثلهم...".

الجزيرة الوثائقية في

18/08/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)