حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«لعبة الموت» فيلم جيورجيو سيرافيني

«أكشــن» عــادي

نديم جرجورة

يُمكن، باختصار شديد، وصف فيلم «لعبة الموت» لجيورجيو سيرافيني بأنه «عاديّ». التعبير غير دقيق، لكنه يفي بالغرض. التعبير، بحدّ ذاته، انعكاس لواقع أن الفيلم هذا منتم إلى فئة التشويق والحركة. أي العنف والمطاردة، في مناخ استخباراتيّ ومسحة دينية مرتكزة على الخطيئة والرغبة في الانعتاق منها واستحالة ذلك في الوقت نفسه. فيلم انفعالي. المغفرة سمة أساسية. الحياة، بحسب المفهوم الاجتماعي والفكريّ للفيلم الـ«عاديّ» هذا، جدار يحول دون التحرّر من موبقات الأمس. والموبقات موغلة في الدم والقتل «من أجل البلد». أو «خدمة للبلد وسياسته الخارجية، والداخلية أيضاً». العمل في «وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية»، بحسب «لعبة الموت»، يُعادل القتل. التصفيات الجسدية. الاغتيال. ممارسة العنف تدميراً وسحقاً وقتلاً. والانتباه، في لحظة ما، إلى التورّط النهائي للذات في لعبة الخراب هذه، يُفترض به أن يؤدّي بصاحبه إلى الخلاص. أقول الخلاص، أي ذاك النابع من الإيمان المؤجَّل. من الدين المسيحي القادر، بفضل «سرّ الاعتراف»، على مساعدة «الخاطئ» على التحرّر من شياطينه، لبلوغ برّ الأمان الداخليّ، والسلام الذاتيّ، والسكينة الروحية.

تناقضات

أسئلة كثيرة انطوى عليها فيلم «لعبة الموت». لكنّها أسئلة قابلة لأن تبقى مجرّد تنظير نقدي يطال «فيلم حركة وتشويق»، مشغول بتقنيات متصنّعة أحياناً، ومتخطّية فعل الدهشة والإبهار مراراً. الأسود والأبيض. تداخل المشاهد وتكرار بعضها بشكل ساذج. هناك من يعشق اشتغالاً كهذا. لكن المضمون الدرامي المحمَّل سؤال العلاقات القائمة والمتضاربة بين الخطأ/ الخطيئة (الدين) والواجب (خدمة الوطن) والصنعة (المهنة: عمل استخباراتي)، بدا أثقل من شكل مائل إلى المطاردة والقتل وتبادل النيران والسرقة والتصفيات. وهذا كلّه، من دون تناسي المدخل القائد إلى الحبكة: الاعتراف. أي ذاك البوح الذاتيّ أمام الكاهن. أي ذاك «التنفيس» المعنويّ عمّا يُثقل القلب والروح من ألم، أو شعور بالذنب، أو وعي واضح بارتكاب جُرم. هنا، في سرّ الاعتراف النابع من قسوة الحياة المهنية الاستخباراتية، يتبدّى التناقض الحاصل: بداية الفيلم، المفتوحة على البوح والإرهاق والرغبة في الخلاص، لا تتناسق ومضمون مسطّح لنصّ مفبرك يُمكن لأي مُشاهد أن يتنبّأ بما سيحصل، خصوصاً إذا كان «بطل» الفيلم ممثلاً بارعاً في تقنية التشويق والفنون القتالية والاستعراض البصريّ لعضلات الجسد في مقارعتها أشرار العالم، سواء كانوا أعداء البلد، أم أبنائه المنقلبين عليه بسبب سياسات أو قرارات إدارية اعتبروها مسيئة لهم، أو مسيئة لتاريخهم «النضاليّ» من أجل البلد، وإدارته السياسية، وقيادته العسكرية.

الممثل البارع في هذا كلّه اسمه ويسلي سنايبس (مواليد 31 تموز 1962، في «أورلندو» في فلوريدا). بداياته السينمائية واعدة. اشتغل بإدارة سبايك لي وآبل فيرّارا في مطلع تسعينيات القرن المنصرم. مثّل في «فيديو كليب» بعنوان «شقيّ» (BAD) أخرجه مارتن سكورسيزي في العام 1987 لحساب المغنّي الراحل مايكل جاكسون. ثم حدث الانتقال إلى سلسلة طويلة من أفلام الخيال العلمي والتشويق والحركة، فحقّق شهرة دولية، وإيرادات جيّدة جداً. لا يهدأ ولا يستكين. قادرٌ على الركض والمطاردة بوجهيها: مُطارِد ومُطارَد. شرير، أو مناضل من أجل خير العالم. بل من أجل مصلحته، خصوصاً عندما «يستفيق» فجأة، فيجد نفسه متّهماً بارتكابه جريمة ما هو، عملياً، براء منها.

الأفضل

مع هذا، بات سنايبس أحد أبرز نجوم أفلام الـ«أكشن» حالياً في الولايات المتحدّة الأميركية. بل في هوليوود، تحديداً. شاهده اللبنانيون المهتمّون بهذا النوع السينمائي، للمرّة الأخيرة، في «الأفضل في بروكلين» (2010) لأنطوان فوكا: إيغال في أعماق بروكلين. بل في الحياة السفلى للمدينة. لشياطينها التائهين وسط المخدّرات والفساد والضياع الإنساني والتهوّر الجسدي والموت الأخلاقي. لأناسها السائرين على الجمر، والنائمين في أزقّتها الموحشة والقاتلة. «فيلم أسود» بالمعاني كلّها: سواد الحياة وسواد الليل. تقنيات الـ«فيلم نوار» أيضاً. هذا أحد أفضل أفلامه الأخيرة. هذا انعكاس لقدرته على الارتقاء بالتمثيل إلى مستوى رفيع. هذا دليل على حاجته الماسّة إلى مخرج متمكّن من تحويل الـ«أكشن»، فعلياً، إلى محاكاة لوقائع العيش اليومي على التخوم المفتوحة للألم والتمزّق والضياع والبحث عن الخلاص، بعيداً عن التنظير والثرثرة الكلامية، كما حدث في «لعبة الموت» مثلاً: كَمّ هائل من الثرثرة والكلام المباشر، وإن تمّ تغليف هذا كلّه بشيء من الصُوَر السينمائية. أو بالأحرى: التفنّن السينمائي.

في «لعبة الموت»، أدّى ويسلي سنايبس دور عميل استخباراتيّ يُكلّف بمهمات عدّة، منها (أو بالأحرى الأساسيّ فيها) تنفيذ عمليات اغتيال لحساب «وكالة الاستخبارات المركزية»، بشكل سرّي وغير رسميّ. إنه العميل ماركوس. فرقته مؤلّفة من صديقين عمل معهما طويلاً: زاندر (غاري دانيالز) وفلوريا (زو بل). غير أن هذين الأخيرين ضاقا ذرعاً بنمط الحياة الذي فُرض عليهما. أرادا التخلّص من المهنة. المهمّة الأخيرة مفيدة لهما: تصفية رجل أعمال يُدعى سميث (روبرت دافي)، لتورطّه وآخرين بقضايا إرهابية وبيع أسلحة وإدارة عمليات ضخمة في أفريقيا. ماركوس أراد تنفيذ العملية، ككل مهمّة أمنية يُكلَّف بها. لكن زاندر وفلوريا تمرّدا عليه: هناك مئة مليون دولار أميركي. طبعاً، وبحسب السياق الدرامي للقصّة، لا يُمكن للشرّ أن يتغلّب. خطاب أجوف ومسطّح عن خدمة البلد وتنصّل الإدارة من مسؤوليتها تجاه العملاء هؤلاء. خطاب ساذج عن الخطأ والخطيئة. عن البحث عن خلاص روحي. عن قسوة الحياة. عن الخيانة: خيانة بلد وأصدقاء. عن الطمع. عن الرغبة في التحرّر من آلام مهنة، ومن بشاعة الدنيا والعالم السرّي. وهذا كلّه مغلّف بلقطات طويلة من المطاردة والقتال اليدوي والعنف. لقطات طويلة، ومملّة أحياناً، لشدّة تشابهها بآلاف اللقطات السينمائية العادية.  

كلاكيت

قدر الديكتاتور

نديم جرجورة

لم يشأ المخرج الإيطالي ماركو بلوكيو، في «انتصار»، تحقيق فيلم سياسي. وضع السياسة جانباً. وضع الفاشية الإيطالية ومساوئها جانباً. أراد الحبّ مدخلاً إلى قراءة الذات وانفعالها. مدخلاً إلى فهم الحكاية المخفية في متاهة التاريخ، وأروقة الزمن. مدخلاً إلى تفكيك المغيّب، وإعادة صوغ النصّ العاطفي لجزء من التاريخ الفرديّ. لم يشأ نقداً وتقريعاً لنظام شارك في إبادة ملايين الأبرياء، في إيطاليا وأوروبا والعالم. ذهب إلى النفس البشرية ليرسم شيئاً من ملامحها المتناقضة: حبّ وكراهية. تواضع وكبرياء. تضحية واستغلال. تناقضات النفس البشرية قبل بزوغ فجر الزعامة، وبعده. هذا جزء من التاريخ الجماعي أيضاً. هذا جزء من «قصّة الحبّ» التي لا تنتهي فصولها، ولا تختلف في جوهرها على مرّ العصور، وفي البقاع الجغرافية كلّها.

بلغة سينمائية متماسكة في سردها مقتطفات من الحكاية تلك، شكّل ماركو بلوكيو لوحة إنسانية جميلة. بل باهرة الجمال. بل ساحرة. اخترق المحجوب. تسلّل إلى المخفيّ. نزع الأقنعة التي سترت الحقائق. بل شارك في نزع الأقنعة هذه، التي شوّهت مفردة الحبّ، وانتقصت من الكبرياء الذاتيّ المانح عشقاً لا ينضب. ذهب إلى اللحظات المثيرة في سيرة امرأة، منحت ذاتها من أجل حبّ. من أجل قناعة بالحبّ. من أجل قناعة بالرجل الذي خطف بوحها وأناقتها وانفعالها، قبل أن يتخلّى عنها، رامياً إياها في متاهة الانكسار، ووحشة الأقبية.

قدر الديكتاتور أن يكون ديكتاتوراً منذ طفولته. أميل إلى الاعتقاد أن جينات بيولوجية تمنح الديكتاتور، منذ تشكّله جنيناً في رحم الأم، بذور التسلّط والقمع. الشكل الخارجي مخادع. مايكل كورليوني لم يكن سفّاحاً. سمة البراءة رافقته منذ نعومة أظافره. تخلّى عن عائلته من أجل ذاته. وعندما طُلب منه أن يتولّى شؤون العائلة، كشف وجهه الحقيقي، وبات سفّاحاً لا يُهادن. هل ذكرت اسم مايكل كورليوني؟ يُمكن لأي اسم آخر من أسماء الحكّام العرب مثلاً أن يكون بديلاً منه. لمايكل كورليوني «أخلاق» المهنة، أحياناً. لهؤلاء الحكّام بشاعة السلوك وعنفه الدموي، دائماً. ماركو بلوكيو ابتعد عن الديكتاتور الإيطالي، كي يقول شيئاً عن التفاني الفردي. عن معنى التضحية القصوى من أجل حقّ واحد أحد: الحبّ.

الديكتاتورية لا تعني قمعاً في السياسة فقط. في الأمن والاقتصاد والإعلام والاجتماع. الحبّ مُعرَّض بدوره لجرائم الديكتاتورية أيضاً. في «انتصار» ماركو بلوكيو، قصّة حبّ نحرها الديكتاتور بينيتو موسوليني. في بيروت، قصّة حبّ لشعب سوريا نحرها أفراد يريدون الفساد في الأرض. أو يحاول أفرادٌ نحرها، فيفشلون. في دمشق، قصّة حبّ أقوى وأجمل: حبّ بلد. حبّ أناس. وعشق حرية وكرامة. هناك أيضاً أفراد يريدون نحر الحبّ هذا، ويفشلون.

قدر الديكتاتور أن يولد هكذا. قدر ضحاياه أن يذهبوا إلى انتصاراتهم المتوَّجة بالدم والشهادة.

«انتصار» ماركو بلوكيو دعوة إلى إعادة اكتشاف معنى الحبّ، وانتصاراته. 

نهاية ممثل بوليوودي

نديم جرجورة

يطرح رحيل ممثل سينمائي بوليوودي سؤال العلاقة اللبنانية والعربية بالسينما الهندية. السؤال، المنبثق من انقطاع العلاقة التجارية والثقافية، إلى حدّ كبير، بين الطرفين، يعكس شيئاً من أفق محدود لنظرة تُلقى على ما هو مسيّج بغرابة الإنتاج وكثرته. السينما الهندية معروفة لمن يُفترض به أن يُلمّ بالشأن السينمائي، وبالتالي بالشأنين الثقافي والفني. السينما البوليوودية، القريبة جداً من المفهوم التجاري الاستهلاكي البحت لصناعة السينما، معروفة بدورها على المستوى الدولي. السينما الهندية «النخبوية» أيضاً. لكن إغراق السوقين اللبنانية والعربية بالأفلام الهوليوودية والمصرية أولاً وأساساً، وانحسار الاهتمام التلفزيوني العربي بهذا الجانب من الإبداع الفني المقبل من القارة الهندية، جعلا النظرة إلى تلك الصناعة الغزيرة الإنتاج في المشهد السينمائي الدولي مختَصَرة بأسماء قليلة، وبانحياز ثقافي واضح إلى «أقلية» سينمائية عرفت حضوراً في العالم.

النبأ الوارد من الهند صباح الأحد الفائت أفاد أن ممثلاً هندياً يُدعى شامشار (شامي) راج كابور قد وافته المنية فجر اليوم نفسه. أحد أغزر الممثلين عملاً وأفلاماً، رحل عن ثمانين عاماً. الخبر الذي وزّعته «وكالة الأنباء الألمانية (د. ب. أ.)» ذكر أن شامي كابور «ممثل مخضرم». أنه «نجم عدد من أنجح الأفلام في السينما الهندية»، في خمسينيات القرن المنصرم وستينياته. ذكر أن سبب الوفاة متمثّل بـ«إصابة الممثل بفشل كلوي». شامي كابور «ممثل لامع»، بحسب الوكالة نفسها. اشتهر بأدوار رومانسية في أفلام عدّة، منها «جونغلي» و«أمسية في باريس» و«كشمير كي كالي». ابن ممثل سينمائي ومسرحي يُدعى بريثفيراج كابور ورامسارني (راما)، تزوّج الممثلة غيتا بالي في العام 1955، قبل أن يتزوّج ثانية نيلا دافي في العام 1969. شقيق راج وشاشي كابور. بدأ العمل السينمائي في العام 1931. ولغاية العام 1971، مثّل في عدد كبير جداً من الأفلام، أبرزها دور الغازي أكبر في «موغال وآزام» (1960). لكنه قبل ذلك، التحق صغيراً بوالده وبفرقته المسرحية. تدرّب على يديه، وانتقل إلى العمل السينمائي مؤدّياً أدوار كومبارس. استمرّ في الانتقال من مشروع سينمائي إلى آخر، حتى طُلب منه تأدية أول دور سينمائي حقيقيّ، وكان في الثانية والعشرين من عمره، في «جيفان جيوتي» (1953) لماهيش كول، إلى جانب شاشيكالا وشاند أوسماني: «كان للشاب شامي هيئة مغوٍ رومانسي آسر، بشاربيه الرفيعين، وشعره الملتف إلى خلف الرأس». مع هذا، عرفت أفلامه الأولى فشلاً تلو آخر، «إلى أن التقته من باتت زوجته الأولى، أي غيتا بالي، التي مثّلت إلى جانب شقيقه راج كابور في «باور نان» (1950)»، والتي «أقنعت المخرج رانجين راتين بمنحه دوراً رجالياً» في العام 1956.

غيتا نفسها دعمته مراراً وتكراراً. فبعد الفشل الذي طارده، تساءل شامي كابور عن مستقبله الفني. تساءل عن الشخصية القادرة على إعادته إلى الطريق الصحيحة، فنياً وتجارياً. وعندما نصحته غيتا بالتخلّص من شاربيه، رضخ لها، مقلّداً «نجوم» تلك الفترة الهوليوودية في الخمسينيات المنصرمة، أمثال جيمس دين وإلفيس بريسلي: «بات شامي، إثر تغيير هيئته الخارجية، شخصية «متغرّبة» (نسبة إلى الغرب)، رومانسية دائماً، لكن متمرّدة أيضاً». وإذا به يُصيب نجاحاً حلم به سابقاً، بتأديته أدواراً متفرّقة في أفلام، أبرزها بإدارة المخرج ناسير هوسان، كـ«تومسا ناهين ديكا» (1957) و«دل ديك ديكو» (1959)، و«جونغلي» (1961) لسوبدوح موخيرجي. أما على مستوى الرقص، فإن شامي كابور لم يكن فناناً في هذا المجال، على الرغم من حضور جسدي لائق، منحه القدرة على مواكبة الرقصات المطلوبة. تتالت الأعمال والتناقضات في سلّم النجاح والفشل، واستمرّ فترة طويلة يرفد السينما في بوليوود بأعمال وتنويعات. اعتزل منذ سنين عديدة، وابتعد عن الحياة الفنية الصاخبة، قبل أن يغيب عن هذه الدنيا، مطلع الأسبوع الجاري.  

كياروستامي: «سينما البراءة»

كعادته في نقل نصوص وحوارات وتحاليل متعلّقة بسينما مخرجين كبار، قدّم أمين صالح كتابه الجديد هذا (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر ووزارة الثقافة البحرينية)، إعداداً وترجمة. وكما في كتابه السابق عن اليوناني ثيو أنغليوبوليس، اعتمد صالح على حوارات أُجريت مع الإيراني كياروستامي «مستمدّة ومجمّعة» من «مصادر مختلفة ومتعدّدة، وهي مواد خضعت للإعداد والترتيب والتنظيم».

السفير اللبنانية في

18/08/2011

 

العنف السينمائي بوصفه دفاعاً عن النفس

كـل الحروب عادلة علــى الشاشة

زياد عبدالله 

لعالم مملوء بالعنف، متخم به، يكاد يفيض عنه إلى عوالم أخرى إن وجدت، ومع ذلك نبحث عنه على الشاشة الكبيرة، وليكون على شيء من العوامل المغرية لمشاهدة أفلام يمكن لتوصيف العنف أن يكون أداة للتصنيف أو توصيف الفيلم، كما درج أحياناً على ترجمة كلمة «أكشن» التي لها أن تكون أكثر دقة من ترجمة أخرى مثل «أفلام الحركة والإثارة»، والتي يكفي في حراكها التجاري أن تضعنا حيال كومة من الأفلام التي تنتج شهريا تتمركز حول معاناة أحدهم وتعرضه لظلم ما أو اي شيء آخر يشكل دافعا لمضيه خلف حفنة من الأشرار تسببت بالأذى له أو عائلته ومن ثم تحوله بين ليلة وضحاها إلى ثائر منتقم، هذا عدا من يكونون معدين مسبقا لهذه المهمة على اعتبارهم من أولئك الأبطال أصحاب العضلات المفتولة، وصولاً إلى الحروب بما ينقلنا من الفردي والشخصي إلى الدول والأمم، حيث يمكن لفيلم أن يقلب كل المفاهيم ويقدم لنا معارك وحروباً بوصفها ذات دوافع عادلة، وليس لنا إلا أن ننتظر النصر.

مقاربة الأفلام في هذا السياق ستجعلنا على مقربة من علم النفس هذه المرة، وتحديدا ايريش فروم وبحوثه في تاريخ العنف البشري بحيث نلاحق الأفلام على هدي نظرياته السيكولوجية، بعيدا عن سذاجة الأفكار التي تتمحور حول ثنائية الخير والشر كما لو أن هاتين الصفتين تولدان مع الإنسان دون أية اسباب، أو إحالتها إلى أفكار غيبية، وليطل علينا في الحال منطق الأفلام الأميركية التجارية حيث حفنة من الأشرار تهبط علينا من حيث لا ندري وليس على البطل صاحب العضلات المفتولة إلا القيام بقتلهم جميعا، كما هي الحال من سلفستر ستالوني وأرونولد شوارزينغر وآخرين، وصولاً إلى تحويل شعوب بأكملها من بشر إلى ذباب، يمكن لرشاش أن يدعنا نراهم يسقطون بالعشرات.

منطق الشاشة عجيب، بحيث من البديهي أن نتفاعل مع كل ذلك، دون أن نحمله الكثير الأفكار، إنها فسحة للمتعة والسلام، لكن ما الذي سنفعل بكل هذا العنف حين يكون معادلاً واقعياً، وعلى مبدأ التبادل الأبدي بين الفن والواقع، كما أن أفلاماً مثل Natural Born Killer (قاتل بالفطرة) 1994 لأوليفر ستون أو Funny Games (ألعاب مسلية) لمايكل هنكه وبنسختيه الالمانية والإنجليزية تضعنا أمام ما له أن يكون بحثا في العنف، الأول يأتينا من جهة القاتل ميكي حين يصير نجماً والثاني من جهة الضحية وهو يسعى ليجعلنا نشعر بآلامها بعيداً عن أن تكون الطلقة مجرد صوت يصدر عن سلاح ناري تصيب أحدهم فإذا به على الأرض ويمكن للصباغ الأحمر أن يجعلنا نرى دما لا معنى له في النهاية، الأمر الذي يمتد إلى نشرات الأخبار التي تجعل المشاهد متصالحاً مع القاتل والقتيل لكثرة ما يرى تلك الصورة متكررة والفاصل بينه وبينها تلك الشاشة.

في ما تقدم معبر أولي لما أنوي القيام به، والذي يقود إلى بحث طويل في هذا السياق، لكن يمكن تفسير ما قدمه المفكر ايريش فروم وهو يفسر النوازع البشرية للعنف وحركة التاريخ في تتبع الأفلام أيضاً التي تبدو أولاً كما لو أنها تتمركز حول الجدل بين أن البشر خراف أم ذئاب، الثنائية التي بنى عليها فروم جدله في كتابه المعنون «جوهر الإنسان»، والذي سيقودنا هنا إلى استخدام الكثير من أفكاره على أفلام تتشكل حولها.

سأستخدم مصطلحا من مصطلحات فروم له أن تتأسس عليه أفلام العنف بشكل اساسي والتي تبني على انحياز للحياة وإن كان القتل هو ما يحدث بها، وهنا يحضر مصطلح أو مسمى من مسميات الانتقام التي عمل عليها فروم ألا وهو «العنف الارتكاسي» بعد أن قسم مواجهات البشر إلى «متلازمة انحلال» يعبر عنها بـ«حب الموت» والتي يقابلها «متلازمة نمو» تمتاز بـ«حب الحياة»، وللعلم يعاني البطل في الأفلام الأميركية على الدوام من «العنف الارتكاسي» والذي يعني «العنف المستخدم في الدفاع عن الحرية والكرامة والملكية، سواء الخاصة بالمرء نفسه أم بالآخرين، وهو متجذر في الخوف، ولهذا السبب تماماً قد يكون أكثر أنواع العنف وجوداً. وقد يكون الخوف حقيقياً أو متخيلاً، واعياً أو غير واع، إن شكل العنف هذا يخدم الحياة، وليس الموت، وهدفه البقاء وليس التدمير»، وفي إحالة ذلك إلى الأفلام فإن العنف الذي تنخرط فيه شخصية من الشخصيات يكون دائماً متأسساً كحالة دفاعية، وقيمة حياتية بمعنى أننا نرى البطل يقتل ليواصل الحياة هو ومن يحب، وحين يفشل في انقاذ حبيبته على سبيل المثال يمسي الانتقام فعل كرامة، وبالتالي يكون المشاهد في حالة تعاطف لأن الفيلم ودوافع الأفعال تكون مبنية وفق ما يشكل حالات انسانية موجودة في أعماق المشاهدين لكنه لم يخض يومياً تجربة مماثلة لتلك التي يراها، وبالتالي فإنه يرى نفسه سيقدم على ما قام به البطل نفسه لو تعرض لمثل ما تعرض، خصوصا إن اتيح له امتياز القدرات الخارقة التي يحتكم إليها ذلك البطل.

وفي المضي مع ما يحلله فروم تمسي الشعوب والأمم خاضعة لمفهوم «العنف الارتكاسي» وأوضح بالاقتباس التالي «لا يرتكز الإحساس بالتهديد والعنف الارتكاسي الناتج غالبا على الواقع، بل على التلاعب بالعقل البشري، حيث يقنع القادة الدينيون والسياسيون أنصارهم بأنهم مهددون من قبل عدو ما، ليطلقوا بذلك استجابة ذاتية لعدوانية ارتكاسية، ومن هنا فإن التمييز بين حروب عادلة وغير عادلة، هو ما فعلته الحكومات الرأسمالية والشيوعية كما دعمته الكنيسة الكاثوليكية»، هذا واقعي جداً وسينمائي أيضاً، ويكفي أن نضع الحروب الأميركية والكيفية التي قدمتها بوصفها حروباً عادلة لنعرف ما المقصود بما تقدم، فعلى سبيل المثال قدمت الحرب فيتنام في مئات الأفلام كما لو أن الأميركي معتدى عليه من قبل الفيتناميين وليس العكس صحيحاً، لا بل إن أفلاماً لا حصر لها بدا فيها أن الفيتنامي هو من يجب قتله بلا رحمة كما لو أنه هو من يحتل أرضه وليس الجنود الأميركان وعلى رأسهم رامبو إلا في مهمة تتمثل في تخليص البشرية من هؤلاء الأشرار، إلى أن جاءت أفلام تعد على أصابع اليد الواحدة خرجت عن السياق كما هي الحال مع «القيامة الآن» لكوبولا أو «بلاتون» لأوليفر ستون، وما عدا ذلك يمسي الأمر ليس إلا حرباً عادلة وفق معايير ترويجية تقلب الحقائق وتقدم سردا خيالياً يخدم العنف الارتكاسي.

طبعاً هذه الأداة تستعمل على الدوام في حشد البشر ضد بعضهم بعضا، بحيث تكون الحروب التي تخوضها البشر حروباً دفاعية على الدوام، إذ لا يمكن أن تكسب التأييد وأانت تقول أن أخوض حربا عدوانية، فأنت تحشد حين توهم البشر بأنك تدعوهم للدفاع عن أنفسهم، وعلى هذا الأساس تأسست تاريخياً التبعية العاطفية للقادة والأنظمة السياسية في ارتكاب الفظائع.

الإمارات اليوم في

18/08/2011

 

الحب والحب... وأيضاً الحب [16]

كازبلانكا... التضحية من أجل الحبيب

عبدالستار ناجي  

رحلة في عالم الحب في السينما العالمية، ترصد أبرز نتاجات الفن السابع التي توقفت في محطة الحب والرومانسيات العذبة... وهي دعوة للمشاهدة والقراءة... والاستمتاع.

واحدة من التحف السينمائية، التي تجعلنا نذهب الى عوالمها ونطوف في فضاء تلك الشخصيات الباحثة عن الحب والامان في زمن الهروب من عذابات النازية، مع الايام الاولى للحرب العالمية الثانية، فيلم «كازبلانكا» سينما حقيقية تجعلنا نندهش للحرفية العالية المستوى في كل شيء الكتابة والاخراج والمباراة الحقيقية في التمثيل التي قادها نجوم افذاذ ستظل السينما العالمية تحتفي بتاريخهم وانجازاتهم.

فيلم يذهب الى - التضحية - بكل مضامينها ومعانيها، ودلالاتها الانسانية من اجل ان يعيش الحبيب بسلام، على خلفية الحرب العالمية التي طحنت الاحاسيس، ودمرت المشاعر وهجرت الجميع الى حيث شيء من الامان.

تم انتاج الفيلم عام 1942 ليحصد في العام ذاته، النسبة الاكبر من جوائز الاوسكار.

كتب السيناريو أو بمعنى ادق تعاون على كتابة عدد بارز من كتاب السيناريو وفي مقدمتهم يوليوس جي ابستين الذي كتب كما كبيرا من السيناريوهات ابان العصر الذهبي للسينما العالمية، لعل من ابرزها معالجته لرواية - الاخوة كارامازوف-.

معه في الكتابة كان ايضا شقيقة فيليب جي الستين حيث تعاون هذا الثنائي في كتابة النسبة الاكبر من اعمالهم السينمائية المشتركة وان توفى هذا الاخير في مرحلة مبكرة فهذا التوأم ولد عام 1909، ولكن فيليب توفى عام 1952 بينما عاش يوليوس حتى العام 2000 وظل يمارس الكتابة حتى العام الاخير من رحيله.

أما الاخراج فكان من توقيع مايكل كرتس الذي بدأ مشواره كممثل، ثم اتجه لاحقا الى الاخراج بعد ان اضطر للرحيل من بلاده الاصلي هنغاريا ابان الحرب العالمية الاولى، حيث جال في دول اوروبية عدة ليستقر عام 1926 في هوليوود، وهناك حقق مسيرته، وانجازاته ومن اهم نتاجاته كازبلانكا - 1942، وروبن هود - 1938، وعيد الميلاد الابيض 1954.

ونذهب الى الفيلم.. تدور احداث الفيلم حول فرار الكثيرين من فرنسا بشكل خاص واوروبا بشكل عام اثر سقوط العديد من العواصم ومن بينها باريس الى مدينة الدار البيضاء «كازبلانكا» اثناء الحرب العالمية الثانية، فقد اجتاح الجيش الالماني النازي اوروبا وكان عندها لابد من الفرار.

لقد كان الجميع، يحط رحاله في كازبلانكا في طريقه الى الولايات المتحدة.

يجسد النجم الاميركي همفري بوغارت شخصية ريك بلين وهو رجل اميركي يعيش في مدينة - كازبلانكا - ويمتلك «حانة» فخمة تعرف باسم «مقهى ريك الاميركي».

في تلك الاثناء، يعتقد رئيس الشرطة لويس رينالت «جسد الشخصية كلود راينز» ان سبب بقاء ريك بلين في كازبلانكا وعدم عودته الى اميركا، انه كان قد قتل احدهم هناك، وهو يفضل البقاء في المغرب على العودة الى وطنه.

ذات ليلة تدخل - السا لاند «تجسدها النجمة انجريد برعمان» الى ذلك البار، «الحانة» وتطلب من عازف البيانو ان يعزف لها اغنية - مر الزمان - وهو الامر الذي يدفع ريك الى الحضور مسرعا من داخل الحانة كي يؤبن العازف.

انها الاغنية التي تفجر بداخله الذكريات وتستدعي كل الماضي، وحينما يلتفت يرى «اليسا» التي كان يعرفها جيدا، بل ان بينهما قصة غرامية، شهدتها العاصمة التونسية، وعرفت نصوصها، ولحظاتها.

علاقة غرامية وباريس هي دائما ساحة الغرام والعشق والمحبة.

علاقة غرامية، تتفجر مع الغزو الالماني، حيث يتم الاتفاق بين ريك واليسا على الرحيل معا، الا ان اليسا تركت ريك في محطة القطار فرحل وحيدا وتركها وراءه، حيث نكتشف ان زوج اليسا رجل من زعماء حركة مقاومة النازيين، وكان لابد ان يرحل عن الدار البيضاء قبل ان يتعرض للسوء، بين لحظة واخرى من قبل العناصر النازية او المتعاطفة معها في انحاء العالم.

وتحاول اليسا مع زوجها الفرار، ولكنهما فشلا في ذلك بسبب تدخل النازيين، وعلما بعدها ان ريك كان قادرا على مساعدتهم في الخروج من الدار البيضاء، ولكنه يرفض ان يمد لهم يد المساعدة، بعد ان يستعيد ذكرياته المؤلمة مع اليسا وكيف انها تركته يغادر باريس وحيدا.

عندها تتفجر احاسيس الحب من جديد، في مدينة (كازا) حيث الحب في النهاية يدفع ريك الى التضحية بمشاعره في سبيل ان يرى محبوبته تعيش بأمان.. ويتمكن من الفرار الى حيث الحرية.

هكذا تكون التضحية، بل هكذا يكون الحب الحقيقي والتضحية في ابعد حدودها، من اجل سلام الذات والنفس، حتى لو كان ذلك على خلفية حرب طاحنة لم تبق ولم تذر.

لقد حصد ذلك الفيلم عددا مهما من جوائز الاوسكار، من بينها افضل فيلم وافضل اخراج وافضل سيناريو.

وعند محطة النجم الكبير همفري بوغارد، نتوقف لاننا امام نجم استطاع ان يزرع اسمه في ذاكرة الفن، كواحد من اساتذة التمثيل، وعظماء الحرفة وفي رصيده كم من الاعمال الخالدة، ومنها «النسر المالطي» 1941 و«كنوز سيررا ماديرا» 1948 و«الملكة الافريقية» 1951، وفي كل من تلك الاعمال نحن امام مبدع كبير، وقامة سينمائية شامخة.

وفي كل مرة هو ذلك النجم الذي يعيش الشخصية ويعيد تقديمها بشكل لافت، حتى ان البعض يظل يتذكر الشخصية، وينسى همفري ولكن همفري بوغارد يظل دون سواه مبدعا محترفا حريصا على الشخصية التي يقدمها حتى حدود المعايشة والتقمص التام.

الى جواره في الفيلم النجمة السويدية الاصل انجرير بيرغمان تلك الصبية الجميلة التي اسرت قلوب الجماهير وعاشت العصر الذهبي للسينما في هوليوود عبر كم من النتاجات والتحف والافلام الخالدة.

ومن ابرز ما قدمت «كازبلانكا» و«لمن تقرع الاجراس» 1943 و«جان دارك» 1948 و«جريمة في قطار الشرق السريع» 1974 و«سوناتا الخريف» 1978 وكم آخر من الأعمال.

وخلال مشوارها تنقلت بين ادوار الصبية المراهقة والمرأة المشبعة بالعاطفة، وايضا السيدة التي تعيش متغيرات الزمن والظروف.

اما في فيلم «كازبلانكا» فهي ورغم الحب الكبير الذي يشغلها، الا انها تظل قريبة من زوجها ورفيق دربها تضحي بالحبيب والحب من اجل معان اكبر هي التضحية للرفيق، الذي بدوره يضحي من اجل الوطن والحرية.

لهذا حينما نشاهد فيلم «كازبلانكا» فاننا نذهب الى تلك العوالم والتفاصيل الدقيقة، حيث نتجاوز الحب والعاطفة الانسانية، بين ريك واليسا الى ما هو ابعد من كل ذلك، الى حيث المقاومة والمواجهة والوطن.

فيلم «كازبلانكا» التضحية بلا حدود.

anaji_kuwait@hotmail.com

النهار الكويتية في

18/08/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)