حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

صناع السينما نجوم الزمن الجميل

زكي رستم .. العملاق

القاهرة - أحمد الجندي

إذا كان المسرح هو «أبو الفنون» بحكم انه الفن الأقدم، وإذا كانت هناك فنون أخرى مثل: الموسيقى الخالصة، وفن الأوبرا والباليه والفن التشكيلي، تعرف بأنها فنون الخاصة والنخبة، فإن السينما كانت وستظل فناً شعبياً أي «فن العامة»، وإذا كان الهدف منها عند اختراعها في نهايات القرن الـ 19 هو التسلية والمتعة والترفيه، فإنها مع مراحل تطورها عبر سنوات وحقب زمنية متلاحقة، تعاظم دورها ولم تعد لمجرد المتعة والتسلية، بل أصبحت مرآة المجتمعات، تعكس وتكشف وتعبر عن واقع المجتمع أي مجتمع وتنتقد سلبياته وتعلو بإيجابياته، من هنا أصبحت للسينما رسالة تنويرية وتثقيفية في حياة الشعوب والمجتمعات، ومن هنا أصبحت «فن العامة» وفي مقدمة الفنون التي تحظى بالشعبية.

ومن هنا نجد أن من حق هؤلاء الكبار من فناني السينما المصرية وصانعي تطورها ونهضتها سواء الذين تحملوا عبء الريادة الأولى، أو الأجيال التالية لهم التي تحملت عبء التواصل والتطور، علينا أن نكرمهم ونعرف الأجيال بتاريخهم ومشوارهم ومسيرتهم السينمائية والفنية الحافلة، ليس فقط لأنهم «صناع السينما المصرية» ومبدعوها عبر مراحل تطورها، ولكن لأنهم مع مرور الزمن أصبحوا رموزاً لزمن وعصر من الفن الجميل، كان عصراً مفعماً بالهدوء والجمال والرومانسية والمشاعر الصافية والإبداع الصادق والإخلاص الكامل للفن وللسينما، عصر نفتقده جميعاً ونتمنى عودته.

هو من الفنانين القلائل في تاريخ الفن المصري الذي كان يحظى بالاحترام والتقدير من الجميع لما تميز به من كبرياء وسمو النفس، وهو أيضاً أحد القلائل الذي أجمع نقاد السينما ومؤرخوها على أنه عبقرية صعب تكرارها، وأن مكانه منذ رحيله مازال شاغراً ولن يستطيع أحد أن يملأه، إنه أحد عمالقة السينما المصرية والفن المصري صاحب الأداء المتفرد، الفنان القدير زكي رستم، الذي يراه النقاد يتساوي مع عباقرة السينما في العالم مثل أرسون ويلز وتشارلز لوتون وفريدريك مارش ولورنس أوليفيه، بدأ حياته ممثلاً مسرحياً ثم انتقل إلى السينما وهي لاتزال «صامتة» في بداياتها الأولى، وقدم خلالها على مدى 37 عاماً ما يزيد عن 200 فيلم، الكثير منها يعد من روائع وكلاسيكيات السينما المصرية، كما قدم مختلف الأدوار والشخصيات ببراعة وتفوق لم يطاوله فيه أحد وبأسلوب متفرد غير قابل للتقليد والمحاكاة، لذلك ستظل أفلامه وشخصياته حية باقية تؤكد لكل من يشاهدها أنه كان من المستحيل لأحد غيره أن يجسدها، وما زالت هذه الأفلام وهذه الشخصيات تمتعنا ونسعد بها حتى اليوم وستظل كذلك على مر العصور.

ولد «زكي محرم محمود رستم» وهذا هو اسمه كاملاً يوم 25 مارس 1903 لعائلة أرستقراطية ثرية كان أبيه «محرم بك» من أعيان الريف المصري ومن كبار المزارعين بمحافظة المنوفية بدلتا مصر وكان عضواً بارزاً بالحزب الوطني القديم ونشأ زكي رستم في قصر جده اللواء «محمود باشا رستم» الذي كان من قادة الجيش المصري بحي الحلمية بالقاهرة، ذلك الحي الذي كانت تقطنه الطبقة الراقية في أوائل القرن العشرين، انتظم منذ صغره بالتعليم الأولى وواصل تعليمه بنجاح حتى نال شهادة البكالوريا «الثانوية العامة» عام 1924، وأثناء دراسته الثانوية عشق الفن والتمثيل من خلال مشاهدته لمسرحيات جورج أبيض هذا الفنان المسرحي العظيم الذي كان يحظى باحترام وتقدير وإعجاب الشباب المثقف منذ عودته من فرنسا حيث درس الفن هناك وأسس فرقته المسرحية الشهيرة بعد عودته، وكان جورج أبيض يشجع جمعيات هواة التمثيل وضم إلى فرقته لفيفاً من الشباب المتعلم في بادرة غير مسبوقة في المسرح حين ذلك وكان من بين هؤلاء عبدالرحمن رشدي وزكي طليمات ومحمد عبدالقدوس وغيرهم لذلك كان أبيض مثلاً أعلى لهواة فن التمثيل.

ونعود إلى زكي رستم الذي بلغ من هوايته لهذا الفن أن يجمع أصدقاءه ويقدم معهم مسرحيات شكسبير التي كان يشاهدها في المسرح وكان يقوم بإخراج هذه المسرحيات، وكان جمهوره هم خدم قصر جده الباشا، لكن هواية أخرى كان زكي مفتوناً بها وهي الرياضة ولعبة المصارعة بشكل خاص وكان متفوقاً بها حتى أصبح من أبطال مصر في هذه اللعبة لكن بعد ذلك ومع طغيان هواية التمثيل وانخراطه فيها ترك هواية المصارعة وانتصر الفن.

بعد حصول زكي على الثانوية العامة كان طبيعياً أن يلتحق بكلية الحقوق ليصبح محامياً أو قاضياً أو يلتحق بالجيش مثل جده أو بكلية التجارة ويمتهن الأعمال الحرة، حيث كانت هذه كليات القمة لأولاد الطبقة الراقية وكانت عائلته تعده لذلك، لكن زكي وبعد معاناة في الاختيار تنتصر إرادة وهواية الفن، حيث كان عشق المسرح أقوى من أي شيء آخر ويضرب عرض الحائط بتقاليد أسرته العريقة ورغباتهم في أن يكون ابنهم في مكانة مرموقة ومثل سائر الأسر الراقية لا تسمح لأبنائها باحتراف مهنة التمثيل التي كانت تعد وقتها بمثابة عار يحل بهذه العائلات لكن زكي أصر على موقفه والتحق بفرقة جورج أبيض عام 1924 بعد شهور قليلة قضاها في إحدى فرق الهواة ويبدأ المشوار الفني الحقيقي لهذا النجم الكبير.

ورغم أنه أصبح من الممثلين الأساسيين في فرقة جورج أبيض وسنه لم تتجاوز الـ 21 عاماً إلا أنه وبعد عدد من العروض التي شارك بها ترك الفرقة وانضم لفرقة «رمسيس» التي أنشأها يوسف وهبي ودوت شهرتها وحققت نجاحاً هائلاً بفضل مسرحياتها وعروضها المليودرامية والتاريخية التي كانت تقدمها وشارك زكي في العديد من العروض المسرحية لفرقة رمسيس وظل بها حتى عام 1930 وتركها لينضم لفرقة فاطمة رشدي وكانت أيضاً من الفرق المسرحية الرائدة في هذه الفترة وخلال عمله مع هذه الفرقة بزغ نجمه أكثر ووصل إلى أدوار البطولة أمام بطلة الفرقة الفنانة الكبيرة فاطمة رشدي والتي كانت فرقتها هي المنافس الأول لفرقة رمسيس.

وبعد 5 سنوات قضاها زكي مع هذه الفرقة انتقل في عام 1935 إلى الفرقة القومية التي أنشأتها الدولة والتي سميت «المسرح القومي» فيما بعد وظل زكي رستم يعمل منذ هذا التاريخ في عروض ومسرحيات مسرح الدولة حتى عام 1946 حينما وجد نفسه لا يستطيع أن يوفق بين عمله في السينما التي بدأ فيها مبكراً وعمله في المسرح ولما كانت ميوله أكثر إلى السينما قصر عمله عليها بعد مشوار مسرحي حافل قدم وشارك خلاله فيما يزيد عن «50» عرضاً مسرحياً مع أشهر الفرق المسرحية في ذاك الوقت.

ونأتي إلى الجانب الآخر وربما الأهم في المسيرة الفنية لهذا الفنان العملاق وهي مسيرته السينمائية لنرى أن زكي رستم كان من أوائل الفنانين الذين عملوا في السينما المصرية منذ بواكيرها وإرهاصتها الأولى، ففي عام 1930 اختاره المخرج محمد كريم ليشارك في بطولة فيلم «زينب» ورغم أن الفيلم كان صامتاً إلا أن زكي نجح تماماً في تجسيد شخصية «حسن» بطل الفيلم وهي نفس الشخصية التي جسدها فريد شوقي عندما أعيد إنتاج الفيلم ناطقاً في بدايات الخمسينيات، وهذا ما جعل كريم يستدعيه مرة أخرى ليشارك مع محمد عبد الوهاب في بطولة أول أفلامه «الوردة البيضاء» 1933، وحقق أيضاً النجاح وهذا ما جعله يضع حجر الأساس في مستقبله السينمائي فسار يشق طريقه على شاشة السينما بثقة وثبات حتى تجاوز عدد أفلامه ما يزيد عن 200 فيلم، وليس هناك رقم مؤكد لعدد أفلامه.

وإذا أردنا أن نتحدث عن المشوار السينمائي لهذا الفنان الكبير منذ بداية الثلاثينيات وحتى منتصف الستينيات أي على مدى 35 عاماً سنجد أنه مشواره حافل امتلأ بالأفلام الرائعة التي حققت نجاحاً فنياً وجماهيرياً هائلاً واعتبر بعضها من أهم وأفضل الأفلام في تاريخ السينما المصرية وأيضاً شمل هذا المشوار على شخصيات وأدوار جسدت عبقريته المتفردة في الأداء والموهبة.

ففي حقبة الثلاثينيات التي بدأها بفيلم «زينب» كما ذكرنا سنجد أن فيلمه الثاني كان «الضحايا» وهو أيضاً صامت عام 1932 مع المخرج إبراهيم لاما، ثم فيلم «كفرى عن خطيئتك» بطولته مع عزيزة أمير وكانت هي المخرجة أيضاً، بعدها قدم فيلم «الوردة البيضاء» الذي أشرنا إليه، ولعل أفضل أفلامه خلال هذه الحقبة فيلمين آخرين هما «ليلى بنت الصحراء» عام 1934 من بطولة وإخراج بهيجة حافظ التي تعد مع عزيزة أمير من رائدات السينما الأوائل، أما الفيلم الثاني فكان «العزيمة» من تأليف وإخراج المخرج الكبير كمال سليم الذي يعد رائد الواقعية في السينما المصرية واعتبر هذا الفيلم واحداً من أهم أفلام الواقعية والبداية الحقيقية في السينما الواقعية وشارك زكي رستم في بطولته مع فاطمة رشدي وحسين صدقي وأنور وجدي وكان ذلك عام 1939.

ونأتي إلى الأربعينيات لنجد أن أهم أفلامه في تلك الحقبة «إلى الأبد» عام 1941 مع المخرج كمال سليم، «المتهمة» مع بركات عام 1942، «هذا جناه أبي» مع بركات أيضاً عام 1945، ويعود ليقدم مع المخرج كمال سليم فيلم «قصة غرام» في نفس العام 1945، ومع يوسف وهبي ممثلاً ومخرجاً يشارك في فيلم «ضحايا المدينة» عام 1946، وفي نفس العام يقدم فيلماً مهما أيضاً هو «هدمت بيتي» مع بركات، ثم «عدو المرأة» عام 1947 مع المخرج عبد الفتاح حسن ويقدم في نفس العام «خاتم سليمان» مع المخرج حسن رمزي، وقد تنوعت أدواره في هذه الأفلام واختلفت شخصياته وكان في معظمها يلعب دور البطولة رغم أن أي دور يقدمه في أي فيلم كان بطولة في حد ذاته.

ونأتي إلى الخمسينيات، أهم فترات ازدهاره السينمائي وأخصب فترات السينما المصرية في هذه الحقبة يقدم هذا الفنان الكبير عدداً وافراً من أهم أفلامه التي شكلت جزءاً كبيراً من تاريخه وتراثه الفني منها «معلش يا زهر» عام 1950 من إخراج بركات، «ياسمين» من تمثيل وإخراج أنور وجدي عام 1950 أيضاً، «أنا الماضي» 1951 مع عز الدين ذو الفقار، «النمر» مع المخرج حسين فوزي 1952، «بنت الأكابر» بطولة وإخراج أنور وجدي عام 1953، «عائشة» مع المخرج جمال مدكور 1953، «بائعة الخبز» عام 1953 أيضاً مع المخرج حسن الإمام، «صراع في الوادي» مع يوسف شاهين 1954، «حب ودموع» من إخراج كمال الشيخ 1955، «أين عمري» 1956 مع المخرج أحمد ضياء الدين، وتحفته الرائعة «رصيف نمرة 5» مع المخرج نيازي مصطفى عام 1956، «لن أبكي أبداً» من إخراج حسن الإمام عام 1957.

ومازلنا في حقبة الخمسينيات نواصل فيها سرد أفلامه المهمة، لنراه يقدم تحفة سينمائية أخرى عام 1957 هي فيلم «الفتوة» مع صلاح أبو سيف ويقدم في نفس العام الفيلم الاجتماعي الرائع «إغراء» مع حسن الإمام، «الهاربة» من إخراج حسن رمزي عام 1958، ويختتم حقبة الخمسينيات بتحفة سينمائية رائعة أبدع فيها مخرجها عز الدين ذو الفقار وهو فيلم «امرأة على الطريق» الذي جسد فيها زكي رستم بعبقرية متفردة دور الأب الكفيف لاثنين من الأبناء غير شقيقين يخدع في أبناءه يعامل من لا يستحق بقسوة بالغة ويعامل الآخر المدلل بحنو ولين لا يستحقه وقد تألق حتى تنتهي الأحداث نهاية مأساوية، وقد تألق معه في هذا الفيلم هدى سلطان، رشدي أباظة، شكري سرحان.

ونأتي إلى حقبة الستينيات لتتواصل الأفلام المهمة والعلامات المؤثرة والمضيئة في مشواره الفني والتي بدأها عام 1960 بالتحفة السينمائية الرائعة «نهر الحب» مع المبدع عز الدين ذو الفقار ويرى بعض النقاد أن شخصية «طاهر باشا» التي جسدها في هذا الفيلم قد بلغ فيها المستوى العالمي في الأداء وأنها من أفضل الشخصيات السينمائية في السينما المصرية، ومن أفلامه المهمة أيضاً خلال هذه الحقبة «لحن السعادة» 1960 مع المخرج حلمي رفلة وكذلك فيلمه الرائع «ملاك وشيطان» مع المخرج الكبير كمال الشيخ، كذلك فيلمه الشهير «الخرساء» 1961 مع حسن الإمام، «أعز الحبايب» مع المخرج بركات عام 1961 أيضاً ويقدم مع بركات أيضاً عام 1962 «يوم بلا غد» ثم مع المخرج حسام الدين مصطفى «بقايا عذراء» عام 1963، ثم تحفته السينمائية الواقعية «الحرام» مع سيدة الشاشة فاتن حمامة والمخرج بركات عام 1965 والمأخوذ عن رواية يوسف إدريس الشهيرة التي حملت نفس الاسم، وكان آخر أفلامه السينمائية على الإطلاق «إجازة صيف» مع المخرج سعد عرفة والنجوم فريد شوقي، نيللي، حسن يوسف وكان ذلك عام 1967.

وإذا أردنا أن نلقي لمحة نقدية سريعة على هذا المشوار السينمائي الحافل لهذا الفنان الكبير فلابد أن نشير أولاً إلى البدايات، فقد استمر الأداء التمثيلي في الأفلام السينمائية في بدايات السينما المصرية الأولى متسماً إلى حد كبير بروح المسرح ولم يستطع عدد كبير من الممثلين الذين دخلوا إلى السينما أن يتخلصوا من طبيعة الأداء المسرحي التي تلازمهم خصوصاً أن أغلبهم أو جميعهم جاءوا للسينما من المسرح مثل يوسف وهبي، فاطمة رشدي، نجمة إبراهيم، عباس فارس، حسن فايق، استيفان روستي وغيرهم، رغم أن التمثيل في المسرح شيء وفي السينما شيء آخر تماماً، وقد كان زكي رستم هو الحالة الاستثناء من هذه القاعدة فرغم أنه مثلهم بدأ حياته الفنية بالمسرح وجاء للسينما من خلاله إلا أنه استطاع وهو يقف أمام كاميرات السينما أن يعطي لكاميرا السينما طبيعة الأداء التي تناسبها ولم يطاوله في ذلك سوى أسماء قليلة جداً مثل نجيب الريحاني وحسين رياض وعبد الوارث عسر وربما الذي ساعد زكي رستم على هذا الأداء هو وقوفه أمام كاميرات السينما لأول مرة مع المخرج المتمكن محمد كريم الذي كان دارساً للإخراج السينمائي في أوروبا واستطاع أن يوجهه بشكل صحيح، وقد وصف النقاد هذه المهارة عندما قال أحدهم «يتفرد زكي رستم بأنه أحد القلائل الذين جاءوا من المسرح إلى السينما وحقق النجاح ذاته في أفلامه الأولى وهو أشبه برجل انتقل من بيت كان يجد فيه راحته إلى بيت آخر وجد فيه راحة أكثر ووجد فيه ترحبيباً أكبر».

وخلال مشواره السينمائي ابتعد هذا الفنان الكبير عن أداء الأدوار النمطية فهو ممثل متنوع ويعطي لكل شخصية مذاقها وأسلوبها وروحها، فمثلاً جسد شخصية «الباشا في أكثر من فيلم لكن في كل مرة كان الباشا مختلفاً تماماً عما سبقه سواء كان شريراً أو طيباً حنوناً وسواء كان ظالماً أو مظلوماً.

أيضاً قدم شخصية المجرم الشرير ورجل العصابة القاسي في أكثر من فيلم وفي كل مرة نراه متجدداً مختلفاً ويرسم الدور بمواصفات خاصة تميزه عن أدواره الأخرى في إطار نفس الشخصية فنرى دوره في فيلم «عائشة» مختلفاً عن دوره في فيلم «النمر» وكذلك أفلام أخرى مثل «رصيف نمرة 5» و«ملاك وشيطان» وهو في كل هذه الأفلام مجرم وشرير، ويرجع هذا إلى الطاقة الإبداعية الهائلة التي يملكها وقدرته على تطوير شخصياته بسهولة ويسر.

وعندما قدم أدواراً تتسم بالروح الكوميدية فإننا نجده مختلف ونلاحظ هذا في أدواره في أفلام مثل «معلش يا زهر» و«ياسمين» فقد أضحكنا أكثر مما أضحكنا نجوم الكوميديا الذين يشاركونه في هذه الأفلام، كما كان هذا الفنان الكبير يولي اهتماماً كبيراً بملابس الشخصية التي يقوم بها ويدقق في اختيار هذه الملابس بحيث تتوافق تماماً مع المستوى الاجتماعي والثقافي للشخصية وكان يفعل هذا مع كل شخصياته من الباشا إلى المجرم إلى الموظف إلى الأب إلى الانتهازي فكان يرى أن الملابس الملائمة للشخصية تساعده كثيراً على أدائها.

وفي النهاية فإن الصورة العامة لـ «زكي رستم» هي صورة لرجل أعطي الكثير في مجال التمثيل السينمائي، صورة تتوهج بأسمى آيات الإبداع يجب أن يحتذ بها كل من يخطو خطواته الأولى في مجال التمثيل السينمائي، ولهذا ستظل عبقرية هذا الفنان متفردة ويظل مكانه شاغراً في عالم السينما لا يجد من يستطيع أن يشغله، وأعتقد أن لا أحد يستطيع وهذه سمات الفنانين العظماء.

ونأتي أخيراً إلى النهاية لهذا المشوار الفني الحافل لنجد أن هذا الفنان العبقري وعلى المستوى الإنساني عاش وحياً طوال حياته فهو كان أعزباً لم يتزوج ولم يفكر في الزواج وكأنه أراد أن تكون السينما والفن هي زوجته، وعاني في سنواته الأخيرة من ضعف السمع وربما هذا من الأسباب التي أبعدت عنه مخرجي السينما في سنوات عمره الأخيرة بعد آخر أفلامه عام 1967، وقد عزل نفسه تماماً عن الناس وعزف عن مخالطة الوسط الفني وهو لم يكن يخالطه من الأصل إلا أثناء عمله وكان معروفاً عنه الانطواء والكبرياء وسمو النفس والروح، وفي عزلته الاختيارية هذه لم يكن يؤنس وحدته إلا «كلبه» الوفي وخادم عجوز يقوم على طلباته وخدمته وفي العامين الأخيرين قبل وفاته كان نادراً ما يغادر شقته في شارع «طلت حرب» بوسط القاهرة، وفي أوائل 1972 أصيب بنوبة قلبية حادة ونقل إلى المستشفى لكنه لم يمكث بها طويلاً فقد لفظ أنفاسه الأخيرة في 5 فبراير من نفس العام وبوفاته فقدت السينما المصرية واحداً من أهم صناعها وعباقرتها وترك فراغاً كبيراً لا أظن أن يملأه أحد حتى اليوم أو غداً.

النهار الكويتية في

17/08/2011

 

صناع السينما نجوم الزمن الجميل

نعيمة عاكف.. الـ«لهلوبة»

القاهرة - أحمد الجندي  

إذا كان المسرح هو «أبو الفنون» بحكم انه الفن الأقدم، وإذا كانت هناك فنون أخرى مثل: الموسيقى الخالصة، وفن الأوبرا والباليه والفن التشكيلي، تعرف بأنها فنون الخاصة والنخبة، فإن السينما كانت وستظل فناً شعبياً أي «فن العامة»، وإذا كان الهدف منها عند اختراعها في نهايات القرن الـ 19 هو التسلية والمتعة والترفيه، فإنها مع مراحل تطورها عبر سنوات وحقب زمنية متلاحقة، تعاظم دورها ولم تعد لمجرد المتعة والتسلية، بل أصبحت مرآة المجتمعات، تعكس وتكشف وتعبر عن واقع المجتمع أي مجتمع وتنتقد سلبياته وتعلو بإيجابياته، من هنا أصبحت للسينما رسالة تنويرية وتثقيفية في حياة الشعوب والمجتمعات، ومن هنا أصبحت «فن العامة» وفي مقدمة الفنون التي تحظى بالشعبية.

ومن هنا نجد أن من حق هؤلاء الكبار من فناني السينما المصرية وصانعي تطورها ونهضتها سواء الذين تحملوا عبء الريادة الأولى، أو الأجيال التالية لهم التي تحملت عبء التواصل والتطور، علينا أن نكرمهم ونعرف الأجيال بتاريخهم ومشوارهم ومسيرتهم السينمائية والفنية الحافلة، ليس فقط لأنهم «صناع السينما المصرية» ومبدعوها عبر مراحل تطورها، ولكن لأنهم مع مرور الزمن أصبحوا رموزاً لزمن وعصر من الفن الجميل، كان عصراً مفعماً بالهدوء والجمال والرومانسية والمشاعر الصافية والإبداع الصادق والإخلاص الكامل للفن وللسينما، عصر نفتقده جميعاً ونتمنى عودته.

ربما لا يوجد في تاريخ الفن المصري كله فنانة أو نجمة حياتها أشبه بأسطورة درامية مليئة بالمواقف والمنعطفات الدرامية الحادة مثل نعيمة عاكف فحياتها كانت أشبه بفيلم ملحمي متخم بالمواقف الإنسانية الحادة صعوداً وهبوطاً والعكس، حياة قد لا يتصور أحد- من فرض دراميتها- أنها ممكن أن تحدث على أرض الواقع، لكنها الحقيقة التي تتجسد بكل معانيها في حياة هذه النجمة والفنانة التي ملأت شاشة السينما بالفن والحياة رغم سنوات عمرها القصير.

لم تولد نعيمة عاكف وفي فمها ملعقة من ذهب، بل ولدت في بيت كل ما فيه تحت خط الفقر!!، ومن هذه البيئة تنشأ نعيمة وتأخذها الحياة بمنعطفاتها وتقلباتها حتى تصبح هذه الفتاة الفقيرة أسطورة الاستعراض في السينما المصرية «تمثل وترقص وتغني» وتملأ الدنيا فناً وتحقق أفلامها نجاحاً مدوياً غير مسبوق على مدى 15 عاماً هي كل عمرها ومشوارها الفني، وقدمت نعيمة خلال هذا المشوار القصير ما يقرب من 25 فيلماً اعتبرت النموذج في الفيلم الاستعراضي، بل إن هذه الأفلام كانت البداية والتأسيس الحقيقي لفن الاستعراض على شاشة السينما المصرية، ولأن حياتها ما هي إلا سلسلة من الدراما القدرية تصاب هذه النجمة الأسطورية بالمرض بشكل مفاجئ لترحل وهي في عز شبابها وفي أوج تألقها ومجدها، فقد جاءت إلى شاشة السينما ورحلت بسرعة غريبة أشبه بـ «ومضة البرق»- كما قالوا عنها وعن رحيلها المفاجئ- لكنها خلال هذه الومضة الخاطفة قدمت فناً رائعاً راقياً سيبقى خالداً على مر الزمن.

ولدت «نعيمة عاكف» في 7 أكتوبر عام 1930، أي أن ميلادها تزامن مع ذروة الأزمة الاقتصادية العالمية التي أمسكت بخناق العالم كله وأفلست خلالها أغلب الفرق المسرحية والفنية واضطرت لإغلاق أبوابها لما كانت تحققه من خسائر فادحة بسبب تلك الأزمة التي طالت كل شيء، وكما ذكرنا في المقدمة ولدت نعيمة لأسرة فقيرة للغاية فوالدها صاحب السيرك المتجول البسيط طالته الأزمة وزاد الاكتئاب لديه أكثر عندما أبلغوه أن زوجته التي كانت تشاركه في ألعاب السيرك قد أنجبت له ابنة ولم تنجب له الولد الذي كان ينتظره، وكانت نعيمة هي البنت الرابعة لهذه الأسرة الفقيرة التي أصبحت أمورها صعبة مع رعاية هؤلاء البنات الأربعة، وبالطبع لم يكن الأب يدري أن هذه الابنة الرابعة التي تمنى أن تكون ولداً ستصبح أسطورة الاستعراض في السينما المصرية والعربية وتصبح صاحبة ألقاباً عديدة أطلقها عليها نقاد السينما مثل الـ«لهلوبة» و«لهاليبو» و«ومضة البرق».

وداخل عالم السيرك تفتحت عيني نعيمة فعندما كان عمرها 4 أعوام منحها والدها «صاحب السيرك الجوال» دوراً تلعبه داخل جملة ألعاب السيرك وقفز بها الأب من الطفولة البريئة إلى نضج مبكر جداً رغم سنها الصغيرة وتحولت مع مرور الوقت إلى لاعبة ماهرة في السيرك تنتزع تصفيق من يشاهدها وهي تقفز هنا وهناك وتؤدي الحركات الصعبة المبهرة، والأهم من ذلك أن تنتزع عطفهم فتحذر أياديهم إلى جيوبهم لمنحها القروش القليلة والتي تمثل الدخل اليومي للأسرة لكي تواجه به متطلبات الحياة والرحيل من بلد إلى بلد، وفي هذه السن الصغيرة تعلمت نعيمة أن من يعمل في السيرك لا بيت له ولا بلد فالسيرك هو بيته وكل البلاد بلاده وحيثما تنصب خيمة السيرك فهنا تكون الحياة.

تعلمت نعيمة كل ذلك واختزنته وهذا ما خلق بداخلها روح المغامرة وتحمل المسؤولية، ولم تمضي بها الأيام طويلاً على هذا النحو، حيث كانت الأيام تخبئ لها ظروفاً أكثر قسوة فمع مرور الأيام تكبر هي وأخواتها البنات ويقل دخل الأسرة المادي في ظل الأزمة المالية التي يعاني منها الجميع وتكثر الديون على الأسرة ويبيع الأب مقتنيات وأدوات السيرك ويغلق أبوابه وتفلس الأسرة تماماً وتصبح بلا مأوي أو مورد رزق وعانت نعيمة التشرد والجوع هي وأسرتها واضطرها هذا إلى أن تخرج إلى الشارع ومعها أخواتها الثلاث ليرقصن ويغنين ويتشقلبن ويأتين بحركات السيرك البهلوانية ومن خلال هذه الاستعراضات البسيطة في الشارع يحصلن على النقود من العابرين الذين يقفوا ليشاهدوا ألعابهن ورقصهن ويسمعوا غنائهن وفي آخر النهار تكون الحصيلة قروشاً بسيطة تعد هي كل دخل الأسرة التي أصبحت تتنقل من مكان إلى آخر بحثاً عن الرزق من خلال ما يقدمنه البنات في الشارع من أجل الرزق.

كان من الممكن أن تستمر حياة نعيمة عاكف على هذا المنوال ويبقى يومها مثل الأمس والغد مثل اليوم لولا أن الأقدار تلعب لعبتها وتغير من شكل الأيام والأحداث وتنقل الإنسان من حال إلى حال، فلقد سمع الفنان علي الكسار عن هذه الفرقة البهلوانية التي تقدم ألعابها الأكروباتية في الشوارع وعلم أنهن بنات عاكف وكانت «فرقة وسيرك عاكف» معروفة في هذا الزمن رغم ضيق حالهم وقبل أن ينحدر بهم الحال، فأرسل الكسار يطلب هؤلاء البنات ليعملن في مسرحه وتعمل نعيمة عاكف في مسرح علي الكسار كراقصة استعراضية مقابل أجر قدره 12 جنيهاً شهرياً كانت بالنسبة لها طوق نجاة لها ولأسرتها من الفقر والحاجة وعلى المستوي الفني اعتبرت نعيمة أن عملها على المسرح الكسار هي الفرصة الذهبية التي ستطلق من خلاله مواهبها الاستعراضية غير المحدودة. وتمضي الأحوال من أحسن إلى أحسن ولتكون على موعد آخر مع انفراجة أكبر وحدث ذلك عندما ذهبت مكتشفة المواهب «بديعة مصابني» إلى مسرح الكسار لتشاهد إحدى مسرحياته وهناك قابلت نعيمة ورأت مواهبها في الرقص والغناء والاستعراض إضافة إلى حضورها وخفة ظلها فقررت أن تصقل مواهبها وقالت عنها إنها الـ«لهلوبة» وكان هذا بداية لهذا اللقب الذي لازمها طوال حياتها ومشوارها الفني، أخذتها بديعة مصابني إلى مسرحها وفرقتها تلك الفرقة التي تخرج منها عمالقة الفن أمثال فريد الأطرش وسامية جمال ومحمد فوزي وتحية كاريوكا ومحمد عبدالمطلب وغيرهم وغيرهن من كبار الفنانين.

وكانت هذه النقلة من فرقة علي الكسار إلى مسرح وفرقة بديعة نقلة مهمة في حياة نعيمة عاكف المادية والفنية فالمرتب الشهري هنا أكبر وأيضاً بداية الاحتراف الحقيقي سيكون متاحاً أكثر، وبالفعل وفرت لها بديعة مصابني المدربين الذين علموها فن الرقص والاستعراض بشكل صحيح ومدروس وأيضاً علمتها أصول الغناء والإلقاء من خلال أساتذة متخصصين فصقل هذا موهبة نعيمة وأصبحت من العناصر المهمة في فرقة ومسرح بديعة، وبدا أن هذه الفتاة الموهوبة تسير في الطريق الصحيح فبدأت تقدم الأغنيات والمنولوجات الخفيفة إلى جانب الرقص والاستعراض، وأصبحت تحقق النجاح ولها جمهور يحرص على متابعة فنها الذي تقدمه بموهبة وخفة وحضور، وهذا ما مهد لها الطريق لتظهر في السينما لأول مرة في فيلم «شادية الوادي» عام 1947 من تأليف وإخراج وبطولة يوسف وهبي، ثم ظهرت بعد ذلك بعامين في فيلم آخر هو «ست البيت» عام 1949 مع المخرج أحمد كامل مرسي، لكنها قدمت في الفيلم أدوار صغيرة لم تعبر خلالها عن كامل موهبتها، واستمرت تعمل بنجاح في مسرح بديعة مصابني.

لكن الانطلاقة السينمائية الأكبر كانت عند لقائها بالمخرج حسين فوزي الذي سيحدث النقلة الفنية الهائلة في مشوارها الفني كله، وكان لقاؤها به عن طريق الصدفة البحتة، حيث كانت مع صديقتها الفنانة هاجر حمدي تتنزهان بسيارة هاجر الجديدة وذهبت هاجر إلى استديو الأهرام وتركت نعيمة تنتظرها في السيارة أمام مدخل الاستديو، وعندما تأخرت هاجر دخلت نعيمة تبحث عنها داخل الاستديو لتتقابل مع حسين فوزي ولم تكن تعرفه وهو أيضاً لم يكن يعرفها لكنه أعجبه جمالها ورشاقتها فتحدث إليها وأخبرته قليلاً عن نفسها وأنها عملت في فيلمين لم يحققا طموحها «وهما الفيلمان اللذان أشرنا إليهما»، على الفور أجرى لها حسين فوزي اختبار كاميرا فأظهرت براعة فائقة وحضوراً طاغياً أمام الكاميرا وأشاد بها حسين فوزي فدعته لكي يشاهدها على المسرح وبالفعل لبى الدعوة وشاهدها على مسرح بديعة فأنبهر أكثر بموهبتها وشعر أنه أمام كنز فني مطلوب منه فقط أن يبرزه، فهو المخرج الكبير المتخصص في السينما الاستعراضية، وكانت نعيمة هي النجمة التي يبحث عنها، وبالفعل كانت نعيمة على موعد مع المجد فقد كان لقاؤها مع هذا المخرج الكبير أهم نقطة تحول في حياتها مع هذا الرجل الذي سيكون صانع شهرتها ومجدها السينمائي والفني وربما لو لم يحدث هذا اللقاء لكان ظهور نعيمة عاكف في السينما قد تأخر كثيراً لربما ما كانت ستظهر على الشاشة بمثل هذه الصورة الرائعة التي جعلتها نجمة الاستعراض الأولى في السينما المصرية.

استطاع المخرج حسين فوزي أن يعيد تشكيل موهبة نعيمة ويصقلها ويوظفها ويبلورها في إطار فني صحيح وذلك عندما قدمها في أول أفلامها «العيش والملح» عام 1949 أمام المطرب سعد عبدالوهاب الذي كان أيضاً وجهاً سينمائياً جديداً وقتها وكان معها في بطولة الفيلم عباس فارس ولولا صدقي، وقد أحسن حسين فوزي صنعاً عندما كتب قصة وسيناريو الفيلم «وقد كان يكتب كل أفلامه» مشابهاً لأحداث كثيرة عاشتها نعيمة عاكف في الواقع، حيث دارت أحداث الفيلم حول شخصية فتاة فقيرة من حي شعبي تحلم بتحقيق مكانة في عالم الفن والغناء بعد تعرض أسرتها لظروف مالية صعبة ويتضامن معها أهل حارتها لتحقيق حلمها بعد إيمانهم بموهبتها وحتى تنقذ أسرتها، ومن خلال هذه القصة والأحداث المؤثرة ومن خلال حضور نعيمة وموهبتها المتفردة حقق الفيلم نجاحاً مدوياً وكان بداية قوية للغاية لنعيمة عاكف على شاشة السينما المصرية.

وقد أدى هذا النجاح المدوي إلى فيلم جديد لنعيمة في نفس العام من تأليف وإخراج حسين فوزي أيضاً الذي أصبح متحمساً للغاية لهذا الكنز الفني والسينمائي الذي اكتشفه والمتمثل في هذه الفتاة الشديدة الموهبة الـ«لهلوبة» في التمثيل والرقص والغناء ومن هذا اللقب اشتق اسم فيلمها الثاني «لهاليبو» 1949 واختار عدداً من النجوم الكبار في السينما المصرية ليشاركوها بطولة الفيلم على رأسهم سليمان نجيب وحسن فايق وعبدالمنعم إسماعيل وعفاف شاكر وكان معهم النجم الشاب وقتها شكري سرحان، وحقق الفيلم نجاحاً مذهلاً يتساوي ويزيد عن نجاح الفيلم الأول وأصبحت نعيمة عاكف نجمة السينما وغنائتها الاستعراضية الأول وأصبح اسمها على كل لسان، وهذا ما جعل حسين فوزي يسعى لاحتكار جهودها الفنية والسينمائية وهو مكتشفها والأحق بها وحتى لا يخطفها أحداً غيره خصوصاً أنها أصبحت مطلوبة بشدة من كل مخرجي ومنتجي السينما المصرية وهو أيضاً منتجاً ومؤلفاً ومخرجاً سينمائياً كبيراً ومن أجل أن يضمن احتكارها بشكل دائم يطلبها للزواج وتفاجئ نعيمة بهذا الطلب الذي لم تتوقعه فتوافق على الفوز رغم فارق السن بينهما لكنها اعتبرت حسين فوزي أستاذها ومكتشفها وصاحب الفضل فيما وصلت إليه وما حققته من نجاح وكان حسين فوزي وقت زواجها منها عام 1953 أرملاً بعد وفاة زوجته اليوغسلافية «بالميراتوبش» التي تزوجها عام 1931 وعاشت معه ظروف البدايات الصعبة وأنجبت له ولديه «أمير ومراد» وظلت تعيش معه في سعادة على مدى «21» عاماً ورحلت عن الدنيا عام 1952 وقد أثر رحيلها في حسين فوزي كثيراً ولم يخرجه من حزنه إلا خفقان قلبه لنعيمة عاكف وزواجه منها الذي تم في حفل بسيط لم يحضره سوى أسرة العروسين وعدد محدود من الأصدقاء.

بعد هذا الزواج السعيد انطلق هذا الثنائي السينمائي، كان الزوج يؤلف ويخرج ونعيمة تمثل وترقص وتغني وتملأ شاشة السينما المصرية فناً وجمالاً وحضوراً وأفلاماً تحقق نجاحاً هائلاً ومدوياً وغير مسبوق، وقدم هذا الثنائي 15 فيلماً واعتبر النقاد هذه الأفلام بمثابة البداية الحقيقية وحجر الأساس للفيلم الاستعراضي على شاشة السينما المصرية والأفلام هي: «العيش والملح» و«لهاليبو» 1949 وقد أشرنا إليهما سابقاو «بلدي وخفة» عام 1950 «بابا عريس» 1950 أيضاً ولابد من الإشارة هنا إلى أن هذا الفيلم كان ملوناً ويعتبر أول فيلم ملون حقيقي في تاريخ السينما المصرية بعد عدد من التجارب التي لم تكتمل في هذا الاتجاه قام بها عدد من السينمائيين المصريين لذلك يظل في سجل نعيمة عاكف والمخرج حسين فوزي أنهما أصحاب أول فيلم ملون ظهر على شاشة السينما المصرية.

ونواصل استعراض سلسلة الأفلام الرائعة لهذا الثنائي حسين فوزي ونعيمة عاكف ونذكر أفلاماً أخرى هي: «فرجت» 1951، «فتاة السيرك» 1951، «النمر»، «يا حلاوة الحب» والفيلمان عام 1952، وفي نفس العام أيضاً هناك فيلم ثالث هو «جنة ونار» ثم «مليون جنيه» 1953 وفيلمان في عام 1954 هما «نور عيوني» و«عزيزة» و«بحر الغرام» 1955، «تمر حنة» 1957، «أحبك يا حسن» عام 1958، والجدير بالذكر هنا أن نعيمة عاكف قدمت خلال هذه الفترة فيلماً واحداً بعيداً عن زوجها وهو فيلم «أربع بنات وضابط» من بطولة وإخراج أنور وجدي وكان هذا عام 1954.

وما يجدر الإشارة إليه أيضاً أن هذه الأفلام جميعها باستثناء فيلم «بابا عريس» الذي كان ملوناً كما أشرنا قد جاءت جميعها بالأبيض والأسود مثل سائر الأفلام المصرية في ذاك الوقت ورغم نجاح تجربة الفيلم الملون «بابا عريس» إلا أن تجربة الألوان بالنسبة لنعيمة عاكف قد اقتصرت على هذا الفيلم وحده.

هنا لابد من الإشارة أيضاً إلى نقطة مهمة ومؤثرة في حياة نعيمة عاكف الفنية والحياتية وهي طلاقها من حسين فوزي، فبعد قصة الحب العنيفة التي جمعت بين الاثنين ورغم نجاحهما السينمائي والفني الهائل إلا أن الخلافات كانت تنشب بينهما بين الحين والآخر بسبب الغيرة المفرطة من جانب حسين على نجمته وبطلة أفلامه وزوجته في الوقت ذاته وقد تحملت نعيمة هذه الغيرة المفرطة لفترات طويلة حتى وصل الأمر لدرجة لم تعد تحتملها وزادت الخلافات بشدة مما جعل علاقتهما الزوجية تصل إلى طريق مسدود ووقع الطلاق بينهما يوم «19 أغسطس 1958» بعد عرض فيلمهما «أحبك يا حسن» ليكون هذا الفيلم هو الأخير في السينما المصرية ولم يتكرر مطلقاً في تاريخ الفيلم الاستعراضي.

بعد الطلاق الذي تم بهدوء أصبح كل منهما يكن احتراماً كبيراً للآخر خصوصاً من جانب نعيمة التي اعتبرت حسين فوزي بمثابة أستاذها ومعلمها ومكتشفها وصاحب الفضل عليها قبل أن يكون زوجها، وبعد الانفصال استمر كل منهما في طريقه الفني لكن أفلام حسين فوزي التي قدمها بدون نعيمة عاكف لم تكن على نفس مستوى أفلامه معها رغم نجاحها، أما نعيمة فقدمت بعد الانفصال ما يقرب من «8» أفلام مع مخرجين آخرين نذكر منها: «خلخال حبيبي» 1960 مع المخرج حسن رضا، «بائعة الجرايد» عام 1963 «من أجل حنفي» عام 1964 من إخراج حسن الصيفي وحققت هذه الأفلام نجاحاً كبيراً لكن لم يكن على مستوى نجاحها السابق مع حسين فوزي، وهنا لابد من الإشارة أيضاً إلى فيلم آخر قدمته نعيمة مع المخرج كامل التلمساني وحمل اسم «مدرسة البنات» وكان هذا عام 1955، أيضاً لابد من الإشارة إلى كبار نجوم السينما الذين شاركوا نعيمة عاكف في بطولاته أفلامها ويأتي على رأسهم كمال الشناوي، رشدي أباظة، سليمان نجيب، زكي رستم، أحمد رمزي، أنور وجدي، عماد حمدي، محمد فوزي، سعد عبدالوهاب، كارم محمود، فريد شوقي، محمود المليجي، وإن كان لشكري سرحان ورشدي أباظة النصيب الأكبر من هذا المشاركات. وفي عام 1964 شعرت نعيمة عاكف بآلام حادة في المعدة استدعت دخولها المستشفى لكن ظلت هذه الآلام تطاردها وجعلتها تبتعد عن الفن والسينما بعدما تحولت إلى آلام مزمنة جعلتها تخرج من مستشفى لتدخل آخر وكان معها زوجها المحاسب صلاح عبدالحميد الذي كان يتولى إدارة أعمالها وتزوجته بعد سنوات قليلة على طلاقها من حسين فوزي، المهم أن المرض قد زاد عليها بشدة وكان لابد أن تسافر لتتعالج بالخارج وبالفعل تمت الإجراءات لسفرها وعلاجها على نفقة الدولة لكن القدر لم يمهلها، حيث لفظت أنفاسها الأخيرة في مساء «23 إبريل عام 1966» وكان عمرها لم يتجاوز الـ 36 عاماً.

رحلت وهي في عز شبابها وفي أوج مجدها وهي في قمة عطائها وأحدث رحيلها فاجعة كبرى وحالة عميقة من الحزن داخل الوسط الفني المصري بعد أن طوي الموت هذه الوردة اليانعة التي عاشت حياة الفقر والحاجة كما عاشت حياة المجد والعز والأضواء، رحلت بعد ما يقرب من 15 عاماً فقط هي كل عمرها الفني قدمت خلالها أفلاماً قليلة العدد لكنها عالية القيمة، ويرى النقاد أن أفلامها ستظل التراث الحقيقي للسينما الاستعراضية في مصر، وأنها كفنانة وكنجمة ستظل ملكة وسيدة الاستعراض الأولى والأخيرة على شاشة السينما المصرية والتي لن تتكرر ولم يملأ فراغها ولم يحل محلها أحداً حتى الآن.

النهار الكويتية في

18/08/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)