حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

أصداء يوليو على شاشة السينما

بقلم: كمال رمزي

عدة وجوه تألقت فى السنوات التالية لثورة يوليو 1952: عمر الشريف، عندما أسند له مكتشفه يوسف شاهين بطولة «صراع فى الوادى» 1954.. وأحمد رمزى، الذى شارك عبدالحليم حافظ وعمر الشريف فى بطولة «أيامنا الحلوة» لحلمى حليم 1955.. وأحمد مظهر الذى ظهر لأول مرة فى «رد قلبى» لعز الدين ذو الفقار 1957.. ثم حسن يوسف، الذى منحه صلاح أبوسيف فرصته الأولى فى «أنا حرة» 1959. لمعت الوجوه الأربعة وسط نجوم الأربعينيات، الذين برزوا فى الخمسينيات وحتى الستينيات: عماد حمدى، شكرى سرحان، كمال الشناوى، يحيى شاهين، محسن سرحان، وأنور وجدى الذى اختطفته يد المنون عام 1955، فلم يكن له الحظ فى طول البقاء، على العكس من زملاء جيله. وجهان آخران، تقدما من الصفوف الخلفية لفرسان الأربعينيات، ليحتلا مكانة مرموقة بين نجوم ما بعد ثورة 1952: فريد شوقى ورشدى أباظة.

جاء فريد شوقى، على الشاشة، من قلب رجال العصابات، الأقرب إلى البلطجية، الذى تفضحهم ملامحهم الغليظة، ذات الطابع الوحشى.. شارك فريد شوقى، بأدوار هامشية وصغيرة.

فى عشرات الأفلام، قبل أن تلهمه قريحته بفكرة «الأسطى حسن» الذى أخرجه صلاح أبوسيف 1952، وفيه على غير ما هو مألوف فى الاتجاهات السينمائية السائدة، يمثل شخصية عامل يسكن حى بولاق الفقير، ويرثو إلى حى الزمالك الأرستقراطى.

فى الأفلام التالية، تخصص فريد شوقى بأدوار من تجاهلتهم السينما المصرية طويلا: الصياد البسيط فى «حميدو» 1953، جندى خفر السواحل فى «رصيف نمرة 5» 1956، والفيلمان من إخراج نيازى مصطفى.. والفلاح الهارب من نجوع أحد الأقاليم فى «الفتوة» لصلاح أبوسيف 1957.. وحامل الحقائب الثقيلة للمسافرين فى «باب الحديد» ليوسف شاهين 1958.

بواسطة فريد شوقى، تجسدت نماذج من أسفل السلم الاجتماعى تم تقديمها بدرجة ما من التوفير، وبطريقة احتفالية تبرز إيجابياتها.. لذلك غدا فريد شوقى النجم الأثير لجمهور الدرجة الثالثة، أو «ملك الترسو» حسب تعبير تلك الأيام. أما رشدى أباظة، الذى تعثر فى بداياته، خصوصا وهو يؤدى دور الفتى العابث فى أفلامه الاولى، فإنه ببطولته لـ«امرأة فى الطريق» الذى أخرجه عز الدين ذو الفقار 1957، أصبح من أهم النجوم الذين يجسدون الرجولة الكاملة.

رشدى أباظة، أصلا، صاحب جسم رياضى قوى، ووجه يختلف فى تقاطيعه الأرستقراطية، بشعر رأسه الناعم، عن وجه فريد شوقى، بسماته الشعبية، وهو ــ رشدى ــ بالغ الأناقة، سواء ارتدى جلباب الصعايدة فى «صراع فى النيل» لعاطف سالم 1959، أو ملابس الفرسان المماليك فى «وا إسلاماه» لأندرو مارتون 1959، أو بذلة الباشاوات الفاخرة فى «شىء فى صدرى» لكمال الشيخ 1971.. أو حتى إذا كان نصفه الأعلى عاريا، حيث يدعم «رجولته» بشعر صدره الكثيف.

وإذا كان رشدى أباظة، بصلابته النفسانية، والجسمانية، ملائما لأدوار الفدائيين، من المدافعين عن حرية أوطانهم، كما فى «لا وقت للحب» لصلاح أبوسيف 1963.. فإنه، فى أدواره الشريرة، كرجل عصابات فى «الرجل الثانى» لعز الدين ذو الفقار 1959، وكزوج فاسد فى «أريد حلا» لسعيد مرزوق 1975، وكمخلب شرس للسلطة فى «وراء الشمس» لمحمد راضى 1978، يثبت أن النزعة الإجرامية، والقسوة والسلوك الوحشى، من الممكن أن تتخفى تحت قناع الوجه الجميل.. وبهذا، تتجاوز السينما المصرية احتلال نظرتها المسطحة للمجرم الذى تعبر ملامحه، أو طريقة أدائه، عن نزعاته الشريرة، التى تبدو غالبا كما لو أنها قد ولدت معه، بلا أسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية.

سريعا، بعد ثورة الضباط، ارتدى معظم نجوم الأربعينيات، على الشاشة، الملابس العسكرية التى أصبحت عنوانا للجدية والشرف وحب الوطن والتضحية بالذات.. طابور النجوم الضباط توالى على النحو التالى: يحيى شاهين فى «الحياة الحب» لسيف الدين شوكت 1954، عماد حمدى فى «الله معنا» لأحمد بدرخان 1955، كمال الشناوى فى «وداع فى الفجر» لحسن الإمام 1956، وشكرى سرحان فى «رد قلبى» لعز الدين ذو الفقار 1957. وسط روح «الالتزام» التى أخذت ــ على استحياء ــ تتسلل إلى النماذج التى تقدمها السينما المصرية، على الشاشة، التى تجسدت، بصرامة، فى شخصيات الضباط، يظهر أحمد رمزى، كعاصفة، تندفع ضد هذا الاتجاه المطرد النمو.. بل ويأتى على النقيض تماما، من الشعار الذى رفعته الثورة، الذى ينص على ضرورة الالتزام بـ«الاتحاد والنظام والعمل».

المخرج حلمى حليم، رأى أحمد رمزى لأول مرة جالسا على كرسى أسند ظهره إلى الحائط فى بوفيه الجامعة، ويضع قدميه فوق المنضدة التى أمامه وقد ارتدى قميصا بلا أزرار، مظهرا شعر صدره الخفيف.. وجهه المستدير ينطق بالحيوية، ونظراته تجمع ما بين الشقاوة والميل للتمرد. أدرك حلمى حليم أنه يصلح للتمثيل.. فهو أولا، تنويعة على النجم الأمريكى الغاضب، الثائر من دون سبب، الرافض للامتثال، جيمس دين.. وهو ثانيا، سيملأ بحيويته شيئا من الفراغ الذى تركه أنور وجدى بوفاته.. وهو ثالثا صاحب شخصية واضحة التميز.

فى «أيامنا الحلوة»، وأفلامه التالية، مثل «صراع فى الميناء» ليوسف شاهين 1956، و«أين عمرى» لأحمد ضياء الدين 1956، و«القلب له أحكام» لحلمى حليم 1956، «الوسادة الخالية» لصلاح أبوسيف 1957، و«الأخ الكبير» لفطين عبدالوهاب 1958، و«آخر من يعلم» لكمال عطية 1959، يبدو عدوا للالتزام، لا يقيم وزنا للتقاليد، مستهترا، بلا هدف أو طموح، مولعا بالبنات والنساء، يشرب حتى يترنح، يسخر من الوقار والشخصيات المحترمة، ينطلق بعربته أو دراجته البخارية، بأقصى سرعة، كما لو أنه يريد الهرب من شىء ما، أو يرغب فى تدمير نفسه.

ربما بسبب تأميم الثورة للسياسة، عقب إلغاء الأحزاب، لم يعد للشباب إلا الانخراط فى متابعة قرارات الثورة، وتأييدها، من دون المشاركة الفعلية فيها.. وبالتالى، كان أحمد رمزى، اللامنتمى، يعبر عن شباب ليس له دور واضح، وليس أمامه سوى الالتزام.. وبالضرورة، تفجرت طاقته فى إزعاج المجتمع، والوقوف منه موقف الضد فى «لا تطفئ الشمس» لصلاح أبوسيف 1961، تتجلى الصياغة الأكثر عمقا واكتمالا لشخصية أحمدرمزى: إنه الأخ الصغير فى أسرة تولى مسئوليتها الأخ الكبير بعد رحيل الأب.. يبحث أحمد رمزى عن هدف يعيش من أجله.. إنه يريد أن يحقق ذاته.. لكن النواهى والمحظورات تكبله وتقف فى سبيله.. وفى نوبة غضب، تجاه أسرته الصغيرة ـ المتضمنة معنى العائلة الكبيرة ـ يندفع بعجلته البخارية فيلقى مصرعه.. أحمد رمزى، بنزعته المشاغبة، وأدائه التمثيلى العفوى، المعتمد على ليونة جسمه، جوهريا، يعتبر الاحتجاج المستتر على نظام صارم.

قبل أن يسند حلمى حليم دورا أساسيا لأحمد رمزى بعام واحد، اكتشف يوسف شاهين ممثله الأثير، عمر الشريف، ومنحه بطولة «صراع فى الوادى» ثم «صراع فى الميناء» ١٩٥٦، وإذا كان أحمد رمزى هو الأكثر حيوية فإن عمر الشريف هو الأعمق انفعالا.. فوجهه الحساس، المستطيل، بعينيه الواسعتين، تكشفان بوضوح عما يشعر به.. أداؤه اتسم بقدر غير قليل من الرصانة التى اكتسبها من خلال تمثيله لبعض تراجيديات شكسبير فى أثناء فترة دراسته فى مدرسته الانجليزية.. لم يتقيد بأنماط معينة، فمع المخرج كمال الشيخ قام بدور فدائى مصرى فى «أرض السلام» 1957، والأرستقراطى الطيب، المحاط بمجموعة أوغاد فى «سيدة القصر» 1958.. ومع المخرج صلاح أبوسيف، أدى شخصية العم الطيب فى «لا أنام» 1957، وابن الأسرة الفقيرة، الوصولى، فى «بداية ونهاية» 1965. بعدما يزيد على عشرين فيلما عربيا، وبعد محاولات مترددة فى السينما الفرنسية، جاءته الفرصة الكبيرة للعالمية عندما أسند له دافيد لين أداء شخصية الشريف على فى «لورانس العرب» 1962.. لاحقا، شارك عمر الشريف فى ثلاثة أفلام مصرية، ووصل إلى مستوى رفيع فى تجسيده لشخصية عمدة بلا ضمير فى «المواطن مصرى» لصلاح أبوسيف 1991، حيث بدا رصينا، يقول الكثير باللفتة والحركة الصغيرة ونظرة العين.

أما أحمد مظهر، الضابط أصلا فى سلاح الفرسان، الملاكم، بطل الرماية، فإنه، على الشاشة، يعبر عن نوع فريد من الرجولة.. ليست المستندة على قوة البدن وشعر الصدر مثلما الحال عند رشدى أباظة، ولكن «رجولة الروح» إن صح التعبير.. من الناحية الجسمانية، يبدو أحمد مظهر شديد النحافة، ابتعدت عنه الدهون.. وفى وجهه الجاد، المقطب غالبا، المتسم بالإعزاز، تتجلى فيه روح العزيمة والثقة فى الذات، والكبرياء الخالى من الغرور.. وهذه المعالم هى التى دفعت يوسف شاهين لأن يسد له بطولة فيلم الكبير «الناصر صلاح الدين» 1963. قبل «الناصر صلاح الدين»، قام ببطولة «جميلة» ليوسف شاهين 1958، حيث أدى دور أحد كبار المجاهدين الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسى، كما مثل دور الضابط الوطنى، قوى الإرادة فى «نور الليل» لريمون نصور 1959، وجسد شخصية «قطز» المحارب العظيم ضد التتار، فى «وا إسلاماه» لأندرو مارتون 1961.

فى معظم الأفلام التى شارك فيها، تتبدى شخصية أحمد مظهر، بقوتها الروحية، خلف جميع الأقنعة، حتى لو كانت من أقنعة الشر ـ وهى قليلة ـ مثل زير النساء فى «دعاء الكروان» لبركات 1959، أو الباشا المتاجر فى لحم أبناء وطنه فى «شفيقة ومتولى» لعلى بدرخان 1978.. إن أحمد مظهر، هو النموذج المناقض لأحمد رمزى.. اجتمعا سويا فى «لن أعترف» لكمال الشيخ، حيث يجسد مظهر الجدية والشرف، بينما رمزى ينغمس فى مستنقع العبث والاستهتار.. وعندما اجتمع أحمد مظهر مع عمر الشريف فى «غرام الأسياد» لرمسيس نجيب 1961، كان مظهر هو الأكثر التزاما بالقيم الأخلاقية، والأعمق إيمانا بالمثل العليا.

جاء حسن يوسف كتنويعة على أحمد رمزى.. إنه منذ أول أفلامه «أنا حرة» لصلاح أبوسيف 1959، يطالعنا كشاب يتفجر بالحيوية، يريد أن يتجاوز الأسوار.. لكنه ـ على الشاشة ـ لا يملك القدرة على التمرد، على نحو ما يفعل أحمد رمزى.. فحسن يوسف، المقموع بشدة، المتردد، ينتابه الخوف، ولا يستطيع أن يواجه والده فى «أنا حرة»، وينغمس فى العمل السياسى الوطنى، على استحياء، وبقلق فى «فى بيتنا رجل» لبركات 1961، لا علاقة بين شخصية حسن يوسف الفنية وممثلى الرجولة: رشدى أباظة وأحمد مظهر.. مع حسن يوسف انطفأت جذوة الاحتجاج.. أصبح مجرد فتى ما إن يثور حتى يمتثل، وما إن يتمرد حتى يذعن للأوامر والنواهى.. وفى بعض أفلامه مثل «نساء وذئاب» لحسام الدين مصطفى 1965، يطالعنا كألعوبة فى يد سيدة.. وفى «خان الخليلى»، الحزين المؤثر، الذى أخرجه عاطف سالم 1966، يندفع حسن يوسف فى مجونه، وتمرداته.. ولكن صحته العليلة لا تسعفه، فيفقدها، شيئا فشيئا، إلى أن يرحل عن الدنيا.. إن حسن يوسف يعبر، على نحو ما، عن مجتمع يتبع نظاما لا مجال فيه للتمرد، أو الاحتجاج. وعلى الرغم من استمرار تواجد هؤلاء النجوم على الشاشة، خلال السبعينيات، فإن تطورات الواقع، بسبب حرب 1967، وما تبعها من تغيرات، انعكست بالضرورة على عالم النجوم: اختفت بعض الملامح لتحل مكانها ملامح أخرى، وظهر نجوم جدد، كتلبية لاحتياجات الجمهور النفسانية، وإرضاء لذوق اختلف مع المزاج الذى ساد فى الخمسينيات والستينيات.

الشروق المصرية في

23/07/2011

 

البرنامج الغائب

بقلم: كمال رمزي 

«هنومة»، نجمتنا القديرة، هند رستم، حسب اسمها فى رائعة يوسف شاهين «باب الحديد»، تبيع زجاجات الكازوزة فى قطارات محطة مصر. فاتنة، نشيطة، ذكية، خفيفة الظل، تريد أن تأكل عيشها بعمل حلال، لكن الشرطة تطاردها، تجرى وراءها، من رصيف لرصيف، وبين القضبان، وهى، تدافع عن رأسمالها المتمثل فى دلو وحيد، بكل قواها. وحين تخفى ضابط الشرطة، أنور وجدى، فى «ريا وسكينة» لصلاح أبوسيف، كى يعرف سر العصابة الموغلة فى الشر والجريمة، ارتدى الجلباب والجاكتة، وأخذ يبيع السجائر التى وضعها على طاولة يحملها فوق كفه. فاتن حمامة، الرقيقة، باعت أوراق اليانصيب فى «عائشة» لجمال مدكور.

فريد شوقى، البطل الشعبى، ملك الترسو، الهارب من فقر قريته، يصل للقاهرة، يبيع البطيخ جائلا فى الشوارع، لحساب الطاغية الصغير توفيق الدقن، فى «الفتوة» لصلاح أبوسيف. وأخيرا، يكاد محمد سعد فى «اللمبى» لوائل إحسان أن يوفق فى مهنته كبائع للكبدة، لكن البلدية، مدججة بالشرطة، تصادر عربته.

الباعة الجائلون، ولو على استحياء، وعلى نحو هامشى، اعترفت بهم السينما المصرية، الأمر الذى يحسب لها. لكن قنواتنا التليفزيونية تجاهلتهم، وصحافتنا استنكرتهم، فبينما لم نسمع لهم صوتا فى طوفان البرامج، لا نقرأ فى الجرائد إلا عن نجاح أجهزة الأمن فى طردهم من هذا المكان أو ذاك.. وتتوالى أخبار المواجهات، العنيفة غالبا، بينهم والثوار فى ميدان التحرير.. هكذا، كأن الباعة ــ وأستغفر الله ــ مجرد موبقات يجب التخلص منها، أو ميكروبات وجراثيم، يستحسن إبادتها. لكن، فى المقابل، بعزيمة من حديد، أثبت الباعة حضورهم الممتد، عبر التاريخ والجغرافيا، ما أن يطاردوا، ويقبض عليهم فى فترة معينة، ويتم تحرير مناطق، خاصة ذات الطابع الارستقراطى، منهم، حتى يظهروا من جديد.. وفى كل مرة، يشتد ساعدهم عما كانوا عليه، وأصبحوا الآن، على استعداد للنزال بالأسلحة البيضاء إذا دعت الضرورة.

جدنا العظيم، بيرم التونسى، بضميره الشعبى اليقظ، رسم بقلمه المرهف، فى العشرينيات، لوحة احتجاجية شجاعة، مطلعها: أربع عساكر جبابرة يفتحوا برلين/ ساحبين بتاعة حلاوة جاية من شربين/ شايلة على كتفها عيل عينيه وارمين/ والصاج على مخها يرقص شمال ويمين.. ومنذ ذلك الحين، يتوالى ذلك المشهد جوهريا، وإن اختلف فى بعض التفاصيل.. فى الستينيات، بدأت القاهرة تشهد بعض الزحام، وقيل أيامها إن الهجرة من الريف هى السبب، وإن القادمين يعملون باعة جائلين، وتفتق ذهن المحافظ، ووزير الداخلية، إلى حل تعيس.

ترحيل الغرباء، وغدا من المألوف أن ترى، فى الفجر، مجموعة من الرجال، ذيول جلابيبهم معقودة إلى بعضها بعضا، يساقون إلى خارج حدود القاهرة، وأصبح من المألوف أن ترى «ست غلبانة» تحاول، عبثا، أن تنقذ قفص البيض أو مشنة البلطى الصغير من براثن وحوش البلدية. وفى مشهد يخلو من كوميديا، تمر أمامك عربة شرطة كبيرة، تحمل عربة يد مصادرة، فوقها قدرة فول أو كوم ترمس.

مع تفشى البطالة، وندرة فرص العمل، دخل المهنة فئات جديدة، بعضها من المتعلمين، يبيعون الجوارب وملابس الأطفال، يفترشون بضاعتهم على الأرصفة، يدفعون إتاوات لأصحاب محال كى يخبئوا عندهم «رأسمالهم» حين تداهمهم الحملة.. الباعة الجائلون عرض لمرض أعمق غورا وأوسع انتشارا.. تجاهلته قنواتنا، سواء قبل أو بعد الثورة.

الشروق المصرية في

30/07/2011

 

المشهد الشارد

بقلم: كمال رمزي 

فى سابقة غير معهودة، يتمرد مشهد واحد من فيلم روائى، يخرج من الشريط ليظهر، لاحقا، فى الكثير من الأعمال السينمائية والبرامج التليفزيونية، ويوضع فى العديد من كليبات اليوتيوب، وينسى الناس أصله وفصله ويجرى التعامل معه كوثيقة تم تصويرها أثناء حدوثها..

المشهد هو اللحظات الأخيرة للملك فاروق فى مصر، أثناء مغادرته قصر رأس التين بالإسكندرية، مساء يوم السبت 26 يوليو 1952، والمشهد مكون من عدة لقطات: الملك من ظهره، مرتديا الملابس العسكرية البيضاء للقائد الأعلى للقوات البحرية. لقطة ثانية لليخت الواقف داخل مياه البحر. لقطة ثالثة لواجهة القصر الذى بناه محمد على 1834، وأصبح من المقرات الصيفية المفضلة للأسرة العلوية حتى غروبها برحيل الملك.

لقطة لطابورين من حرس الشرف، يؤدون، ببنادقهم، التحية العسكرية. الملك، يسير فى اتجاه الكاميرا، بتؤده وثقة، مقتربا من حافة المرسى حيث ينتظر اللنش الذى سيحمله إلى «المحروسة».

هذا المشهد انتقل إلى عدة أفلام روائية، وأصبح له تواجد دائم فى الأفلام التسجيلية التى تؤرخ للمرحلة، أو تتعرض لشخصيات من ذلك الزمان. ويأتى إما مصحوبا بمارشات أو تعليقات، من خارجه طبعا، وحسب طبيعة الفيلم واتجاهه. وفى معظم الحالات، يؤدى المشهد إلى درجة ما من قوة الإقناع ويعمق الإحساس بالصدق، خاصة أن صوره على الشاشة، تبدو باهتة، بها نقط بيضاء، وسوداء، توحى أنها وثيقة حقيقية لم يتدخل فيها أحد.

ساد الظن أن «خروج الملك» تم تسجيله فى «جريدة مصر» التى كانت تصدر من استوديو مصر، منذ العام 1935، وتضمنت فى أعدادها المتوالية، مئات الأحداث والوقائع المهمة، مع وضع أولوية الاهتمام بأخبار القصر الملكى ورجاله وحكومته، حتى العام 1952.. ثم تنتقل المتابعات لإنجازات رئيس الجمهورية، والوزراء.

إنها جريدة مهمة، وجريدة السلطة فى آن.

فى الدراسة الشائقة، المعمقة، التى كتبها خبيرنا السينمائى إبراهيم الموجى عن «جريدة مصر السينمائية» يصف المشهد المذكور بأنه «لقطة بارعة من حيث التكوين والإضاءة»، ويؤكد، بنزاهته المعهودة، أن «نسبتها إلى الجريدة فيه تزييف للتاريخ وإهدار لحقوق عبدالحليم نصر مصورها».

عبدالحليم نصر «1913 ــ 1989»، من كبار فنانينا، صور «129» فيلما، من بينها «الله معنا» لأحمد بدرخان 1955، الذى كتب قصته إحسان عبدالقدوس، وتدور حول الأسلحة الفاسدة التى كانت من أسباب هزيمة 1948، ومن أسباب ثورة يوليو: عماد حمدى، ينخرط فى الجيش المصرى. هو الفرع الفقير فى أسرة متعددة المستويات. عمه الثرى، محمود المليجى، له ابنة، فاتن حمامة، تبادل عماد حمدى حبا بحب. يصاب فى حرب فلسطين الأولى، تبتر ذراعه. الصحفى الوطنى، شكرى سرحان، يثير قضية الأسلحة الفاسدة.

الضباط الأحرار يجتمعون، فاتن حمامة تقدم الوثائق التى تؤكد تورط والدها فى استيراد الأسلحة الفاسدة. القصر الملكى يتهيأ للقضاء على تنظيم الضباط الأحرار والذين يسارعون بالثورة، وطرد الملك، حيث يتجسد فى ذلك المشهد الذى تمرد، واستقل عن الفيلم، وأصبح أكثر مشاهدة من «الله معنا».

الشروق المصرية في

27/07/2011

 

صدق أو لا تصدق

بقلم: كمال رمزي 

كلمات مضللة ووقائع مختلقة وشعارات مزيفة، قد يصدقها البعض ــ وأنا منهم ــ ولكن، إن عاجلا أو آجلا، يدرك المرء أنه وقع فى مصيدة الخداع، وعليه أن يعيد النظر، ولا يصدق.

● جرت العادة على وصف ثورة يناير بأنها «سلمية»، بينما هى، مثل جميع الثورات، لم تكن سلمية أبدا. صحيح، شباب الثورة لم يرفعوا السلاح، ولم يلجأ أحدهم للعنف.. لكن الطرف الآخر، النظام، والسلطة، بمخالبها المتمثلة فى أدوات القمع الشرسة، واجهت الموقف بالعصى والرصاص والعربات المصفحة والقنابل وزجاجات المولوتوف، مما أدى إلى مصرع أكثر من ألف شاب وفقء عيون وبتر أعضاء عدة آلاف.. كانت الثورة دامية.. فكيف يقال إنها «سلمية»؟!=

● وضعت يدى على قلبى حين تناقلت الأخبار واقعة القبض على أربعة أمريكيين يقومون بالتصوير عند قناة السويس، بالإضافة لرجل تركى فوق أحد كبارى القاهرة، يصور أماكن عسكرية حساسة.

إذن، مصر مستهدفة من الجواسيس، خاصة عقب حديث بعض الغاضبين، اليائسين من العدالة المؤجلة، عن استعدادهم لغلق الممر المائى المهم.. وما أن تلاشت تهديدات أهالى الشهداء والمصابين، حتى تلاشى معها الكلام عن الجواسيس. نبهنى شاب إلى أن الواقعة من إنتاج مصنع الفزاعات، الذى لا يتوقف عن نشاطه، مثل احتمال وقوع البلاد فى حجر المتطرفين، والفوضى الشاملة، وإفلاس مصر، وتربص الأعداء بالوطن. ولأن هذا الشاب من المتبحرين فى مسائل الكمبيوتر.

لم يفته القول إن عصر «ممنوع التصوير» قد انتهى، فالأقمار الصناعية تقوم باللازم، وبطريقة أدق من الكاميرات اليدوية.

● تغيرت سياسة قنوات التليفزيون المصرى. هذا ما قيل بعد انكشاف فضائحه أيام الثورة، سواء بالمكالمات المخاتلة، المتفق عليها، التى تروج للادعاء بوجود أجانب فى ميدان التحرير، أو بتعليقات مذيعين يتباكون على نظام آفل، يصر على البقاء.. لكن واقع القنوات، الآن، يؤكد أن التغيير لم يتم. الولاءات فقط هى التى اختلفت، فما أن بدأ التباعد بين قوى الثورة من ناحية، والحكومة والمجلس العسكرى من ناحية أخرى، حتى أخذت جوقة المتملقين فى اختلاق المعاذير لرئيس الوزراء والتغنى بمآثر المجلس العسكرى حيث قام الجيش «بحماية الثورة».. هكذا كما لو أن حماية الثورة تمنح حق الاختلاف مع المجلس العسكرى.

لم يصدق شباب الثورة توبة التليفزيون المزيفة، وفى موقف مدهش، لا يخلو من كوميديا، عرضت القناة الثقافية مشهدا لعدد من مصورى التليفزيون، يطلبون الدخول إلى ميدان التحرير، لكن أعضاء اللجنة الشعبية، رفضوا بحسم، رفضا باتا.

● نغمة «إعطاء فرصة» أو «مساحة زمنية» للحكومة، أو التحقيقات، أو «المجلس العسكرى»، أو القضاء، فى ظاهرها المنطق وفى باطنها تكمن أوخم العواقب، فالمساحة الزمنية أعطت فرصة لهرب حسين سالم، وبطرس غالى، وهما من عتاة اللصوص، وقبلهما، القاتل ممدوح إسماعيل، مالك عبارة الموت، الذى لم يصدر قرار منعه من السفر إلا بعد أربعين يوما من الغرق.. أما عن طابور الفاسدين، الخطرين، أمثال زكريا عزمى، حبيب العادلى، صفوت الشريف، فتحى سرور، أحمد عز، والأخوين مبارك، فقد ترك لهم الحبل على الغارب لأسابيع طويلة، فما الذى أخفوه طوال هذه الفترة.. لقد استوعب الشرفاء الدرس: «المساحة الزمنية» لا «تعطى فرصة» إلا للمجرمين.

الشروق المصرية في

22/07/2011

 

من أيام صلاح الدين

بقلم: كمال رمزي 

من بعيد، تظهر العمدان الشاهقة لآثار بعلبك التى بناها الرومان تيمنا وتقربا للآلهة، ومن قريب تبدو الزخارف الأخاذة واضحة حول تيجان العمدان. المعبد ضخم، صالته بالغة الاتساع، حولها المدارج الحجرية المخصصة للمشاهدين. الزحام شديد، المناسبة: بداية مهرجان بعلبك الدولى الذى افتتح عام 1956، ليقف على مسرحه أساطين الفنانين العرب والأجانب، فإلى جانب فرق الأوبرا العالمية، غنت أم كلثوم وفيروز ووديع الصافى وصباح فخرى. توقف المهرجان طول 22 عاما إبان الحرب الأهلية، لينطلق من جديد عام 1997، ولتغدو مسرحية «من أيام صلاح الدين» الغنائية الاستعراضية هى العرض الأهم فى المهرجان.

مكتوب على تذكرة الدخول أن العرض يبدأ فى الثامنة مساء. وقف الجمهور أمام البوابة منذ السابعة والنصف، وطوال ساعة كاملة أخذ الملل والضيق يتسلل للواقفين المتذمرين، خاصة أنهم وقعوا فى قبضتى الحر والرطوبة. أخيرا، دخل الجمهور وانتظر ساعة كاملة قبل أن تنطلق موسيقى نحاسية، ذات طابع ملحمى، منذرة ببداية العرض التى لم تأت، ففيما يبدو أنها كانت بروفة للصوت، أو أن الممثلين لم يجهزوا بعد.. عموما، اتسم العرض بدرجة ما من الاضطراب، بسبب عدم تطابق الموسيقى «اللايف» مع الحركة البشرية على خشبة المسرح التى تكونت من مستويين.

السفلى، الذى لا يراه الجمهور الجالس على المدرجات العالية، ويدور فوقه حوار بين كاتب مسرحى معاصر، تنتابه حالة من اليأس تجاه النص الذى يكتبه عن «أيام صلاح الدين» منذ عشرين عاما، ذلك أن أحدا لا يهتم بالإنتاج المسرحى. ينجح صديقه فى إقناعه باستكمال عمله.. مستوى خشبة المسرح العلوية، وهى الأوسع، فإنها بمثابة مكتب، فى منتصفه كراسة مفتوحة، تدور أمامها الأحداث التى يتخيلها المؤلف، والتى تتعرض لخمس سنوات عقب استرداد صلاح الدين للقدس، المدينة التى يتغنى بها كورس يردد كلمات ركيكة من نوع «يا قدس العتيقة، يا وردة بصحرا، يا قبة الصخرة، يا مهد الأديان، يا أرض الأديان».

حسن النية وشدة الطموح يتوافران، نصا وإخراجا، عند الأخوين فريد وماهر صباغ، فهما يقدمان صورة ناصعة لصلاح الدين، العادل الرحيم، الذى يساوى بين الجميع فى الحقوق والواجبات، ولا يفرق بين مسلم ومسيحى، ويواجه، بحكمة وشجاعة، مؤامرات الغرب التى لم تتوقف، حتى زماننا الحاضر، وتتوالى المواقف لتتراكم على بعضها بعضا، من دون تصاعد، فيبدو العرض وكأنه «محلك سر»، يفتقر القدرة على الجذب، برغم رقصات الدبكة التى تندلع بين الحين والحين، والغناء اللبنانى، التطريبى، الجميل فى حد ذاته، ولكن مع استطرادته الطويلة، و«أوف أوف»، ينوء كاهل العرض بزخارف أقرب لفقرات المنوعات، البعيدة تماما عن البناء المسرحى المتماسك. إن حسن النية وحدها، لا تكفى لإنجاح أى عمل، والأدهى أن الأخوين صباغ، فى محاولة للإبهار، تركا كشافات الإضاءة ساطعة على العمدان الشاهقة، طوال العرض، مما أدى إلى أن تصبح جحافل صلاح الدين، أقرب إلى فلول الأقزام، ووجوه الممثلين من دون ملامح، وبدت الرقصات على إيقاعات وأنغام الموشحات الأندلسية، كما لو أنها تعرض خلال شاشة تليفزيون ثمانى بوصات.. أما صلاح الدين نفسه، بأداء عاصى الحلانى، الذى يطالعنا ممتطيا صهوة جواده، فإنه، أسفل عمدان بعلبك العملاقة، يبدو كمن يركب فوق معزة.. إنه ليس «من أيام صلاح الدين».

الشروق المصرية في

16/07/2011

 

أكاذيب بيروت.. الجميلة

بقلم: كمال رمزي 

 الإعلانات جزء من الدعاية, والدعاية لا تخلو من المبالغة، فالهدف منها الترويج للسلعة أو المشروع أو الفكرة، وبالتالى عليها بالاعتماد على التجميل والتقريب والتحبيب، وهذا ما تجده متوافرا فى بيروت، مدينة الإعلانات بامتياز، تتفوق فى هذا المجال على القاهرة ودمشق وعمان وأى عاصمة عربية أخرى، والتفوق هنا كما وكيفا، فالإعلانات لا تختفى على جانبى الشارع، حتى إن المرء يحس أنه فى معرض لفن الإعلان، يتسم بالتنوع والإبهار، ربما تأثرا بالذوق الفرنسى الرفيع، تلمسه فى توافق الألوان وجرأة الخطوط، فضلا عن ذلك التجسيد البديع للأشياء، فإذا كان الإعلان عن مقويات فإن عضلات المرسوم تكاد تكون ملموسة، وإذا كان عن مستحضر تجميل فإن نعومة الوجه وشفافيته ورقته تدفعك لشراء السلعة كى تهديها لمن يهمك أمره، أو أمرها إن شئت الدقة، وإذا كان الإعلان عن مدرسة، فإن منظر الطفل الصبوح، المشرق، بابتسامته العذبة، تجعلك تتمنى إلحاق طفلك بتلك المدرسة.

بيروت مدينة مولعة بالجمال، لذلك فليست مصادفة أن تضم أكبر عدد من أطباء التجميل، وأصبح لجراحيها تخصصات متباينة: شفط الدهون، نفخ الشفاه، تكبير الأثداء، تنعيم البشرة، شد الجلد، تصغير الأنف.

طبعا، هذه العمليات خطرة، وصلت الآن، إلى بر الأمان، ولكن ــ كما قال أحد الأطباء ــ بعد مشوار من الفشل «التراجيكوميدى»، فأحيانا، كما كان يحدث منذ عدة عقود، يفاجأ الجراح مع «المجملة» أن أنفها أصبح معوجا أو مترهلا. وتارة تنتفخ الشفاه أكثر مما يجب فتبدو مثل البالونة الصغيرة، وفى مرات عدة تشفط دهون فخذ أكثر من الآخر، وبالضرورة، تبدو المؤخرة أقرب للكاريكاتير، كل هذا انتهى الآن، حسب قول الطبيب العاشق لمهنته، الذى أكد لى أن جراحة التجميل مرحلة أعلى وأندر من الجراحة العادية، وإذا كان الإنسان يهتم بتجميل بيته، وبيئته، فكيف لا يكترث بتجميل نفسه، سواء هو رجل أو أنثى.. ولم يفته ــ الجراح ــ أن ينظر بعينيه اللبنانيتين الذكيتين، نحو كرشى، نظرة ذات مغزى.. حينها، وليت الأدبار.

بيروت، مدينة مشغولة بالتأنق والحكايات. التأنق يتوفر حتى فى المحال الصغيرة، فسواء كانت بقالة ضيقة، أو مطعما كبيرا، لابد أن يكون نظيفا، مهندما، مريحا للعين، وغالبا.. ستسمع حكاية من صاحب المكان أو المسئول عنه، حقيقية أو مزيفة لا يهم، فالمهم أنها مرضية، مريحة، تختلق ألفة مع المكان، ولعل من أطرف هذه الحكايات، تلك التى رواها شاب فى مقتبل العمر، لا يتجاوز العشرين، نادل فى مطعم أنيق اسمه «السكرية» ــ وهذا ليس دعاية للمطعم فهو لا يقدم أفضل مما يقدمه الآخرون، وفاتورته أشد وطأة ــ قال الفتى حين التقط لهجتنا المصرية: إن لكم فى هذا المكان أكثر مما لنا فيه.. وبابتسامة العارف ببواطن الأمور، طلب منا أن ننظر إلى السقف. مرسوم عليه امرأة جميلة، راقصة أو جارية.. واصل حديثه: هنا عاش نجيب محفوظ سنتين من عمره. أحب هذه المرأة، واسمها «سكرية»، وأهداها المكان قبل عودته للقاهرة، وبدورها، حولته لمطعم يحمل اسمها، ثم آل إلى آخرين. لكن الجميع ظلوا مخلصين للاسم، تيمنا واحتراما لسكرية نجيب محفوظ.. وبرغم أننا، جميعا، نعلم علم اليقين، أن نجيب محفوظ، لم يسافر خارج مصر، إلا مرة أو مرتين، وبالتأكيد، لم يذهب للبنان، إلا أن القصة المختلقة، تركت فى نفوسنا شيئا من الإحساس بالبهجة والطرافة، شأنها شأن الإعلانات والوجوه المجملة.

الشروق المصرية في

13/07/2011

 

توك شوز

بقلم: كمال رمزي 

 ليتنى ما شاهدت هذا البرنامج، لأنه أصابنى بالنكد ليلة كاملة.. ولكن، الآن، أضحك فى كمى، حين يرد لذهنى تفصيلة ما، من البرنامج المقصود. صاحبته، الصحفية أصلا، دعاء سلطان، وهى بنت مصرية تماما، من إخمص قدمها إلى أعلى شعرها، منذ كان منكوشا، أيام بهدلة الجرائد، إلى أن أصبح ناعما، لزوم الجلوس أمام الكاميرا. إنها مشاغبة، شجاعة، قوية، لا تتوانى عن الدخول فى المعارك، أيا كان الطرف الآخر، وأتخيلها تشد شعر خصمها إذا كان بنتا، وتجذب رابطة عنق تعيس الحظ إذا كان ولدا، ولا يفوتها أن توجه لكمة فى العين هنا، أو ضربة رأس هناك. لا تقيم وزنا لعواقب الأمور، فحسبها، أنها أخذت حقها وصفت حسابها.

ملائم تماما أن تقدم دعاء سلطان برنامج «توك شوز»، فى قناة الحياة، سواء بعنوانه الملتبس عن عمد فيما أظن، أو مادته التى تعتمد على رصد المقاطع المهمة، ذات الدلالة، من برامج «توك شو»، مع تعليقاتها، أو تقييمها إن شئت الدقة.. الحلقة التى أتحدث عنها هى تلك التى أمسكت فيها دعاء سلطان بتلابيب مذيعينا، وانفعالاتهم الرعناء، الخائبة، عقب خطاب حسنى مبارك مساء يوم «1» فبراير، الذى أعلن فيه، بعاطفية انطلت على البعض، أنه باق على الكرسى عدة شهور، إلى أن تنتهى ولايته، وأنه لن يرشح نفسه مجددا، مذكرا المصريين بخدمته للوطن، حربا وسلما، ويتمنى أن يموت على أرض مصر.. ولعلها من المرات القليلة التى يثبت فيها الشباب حكمة وبعد نظر وحسن تصرف، على نحو أعمق خبرة وبصيرة من الكهول، فبينما رفض الثوار تصديق كلمة مما جاء فى الخطاب الذى زادهم غضبا وعزيمة، نهنه مذيعونا بالبكاء، صحيح تفاوتت انفعالاتهم، ولكن معظمها تسكع متبتلا فى محراب الرئيس المخادع، المتهاوى.. حتى بعض الذين تضرروا من النظام السابق، انساقوا فى التهليل لـ«نزاهة الخطاب». عمرو أديب، صاحب الحلقة القوية، التى انتقد فيها بجرأة ذلك التحقيق الصحفى المتدنى فى مجلة روزاليوسف، الذى غطت به زيارة جمال مبارك لقرية دماص، وأخذه الحماس فوضع الابن التافه، المغرور، فى حجمه، وكانت النتيجة العصف به وببرنامجه «القاهرة اليوم». وها هو عمرو أديب، فى «التوك شوز»، لا يدافع عن المخلوع وحسب، بل يطالب المعتصمين بترك الميدان.

إنه نموذج لسيطرة العواطف على العقل. وهو فى هذا يختلف عن أخيه عماد أديب، عن رولا خرسا، بالضوضاء الشديدة التى تثيرها، وسيل الكلمات الفارغة المنسكبة من فمها، خاصة حيت ارتدت الملابس السوداء، وحولت برنامجها إلى سرادق عزاء، وكادت تولول بزعم أن «البلد بتتباع فى ميدان التحرير»، واستحضرت، فى مكالمات تليفونية، من يقوم معها بدور الندابات، مؤكدين أن ميدان التحرير، به باكستانيون، إيرانيون، يهود، وجنسيات أخرى.

ما آلمنى فى البرنامج، أن عددا من الذين أكن لهم محبة واحتراما، لم يدركوا الموقف، مثل معتز الدمرداش الذى استبدل قناع الدهشة بمعالم الأسى. ومنهم من انساق فى رواية حكايات مبتذلة، بهدف الترويج لأكذوبة توزيع المال على المعتصمين، وأن «مايسترو» الثورة ليس مصريا، ودخل فى هذه الجوقة خيرى رمضان وخالد الجندى وعمرو سعد.. وطبعا، مرتضى منصور.. ربما يحتاج البرنامج لمزيد من التحليل، لكن يحسب له تلك المفارقات التى رصدتها المشاغبة دعاء سلطان، والتى بعد النكد، تثير الضحك.

الشروق المصرية في

09/07/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)