حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

واحة الراهب:

لولا عشقي للسينما لكنت فضلت التلفزيون

دمشق – فجر يعقوب

تواصل المخرجة السينمائية السورية واحة الراهب تصوير فيلمها الروائي الطويل الثاني «هوى» عن رواية لمواطنتها هيفاء بيطار، وبمشاركة في الكتابة من وزير الثقافة السوري السابق رياض نعسان آغا. الفيلم الجديد من انتاج المؤسسة العامة للسينما في دمشق، التي تقدّم هنا ثالث انتاجاتها لهذا العام بعدما دارت من قبل كاميرا فيلمين آخرين لعبداللطيف عبدالحميد وغسان شميط.

وواحة الراهب التي سبق لها أن أخرجت فيلمها الروائي الطويل الأول «رؤى حالمة» قبل سنوات، تكشف هنا عن رغبات مختلفة في ما يخص العملية الإخراجية التي تتصدى لها هذه الأيام. ربما الظروف الخاصة التي تحيط بالفيلم والرواية والسيناريو تقلل من وقع الكشف عن هذه الرغبات. ليس السيناريو في طبيعة الحال من يقودها نحو هذه الرغبات المختلفة، ولا الرواية الضخمة التي (لا تمكن الاحاطة بها في فيلم روائي واحد)، ولا حتى العملية الانتاجية نفسها، التي تقدّم لها امكانات أفضل بكثير مما سبق وقدم لها في فيلمها السابق.

هنا حوار مع واحة الراهب التي لا تخفي سعادتها باختيار فيلمها «رؤى حالمة» ليحل ضيفاً في متحف الفن الياباني (حيث لن تكون هناك حاجة أبداً لترميمه)، - كما تقول في حديثها معنا -، فيما تستعد لتصوير مشهد خاص بالفيلم الجديد في القصر العدلي في دمشق برفقة المصور الروسي فاديم بوزوييف الذي يستمع بدوره بهدوء الى الحديث المترجم بينهما، من وإلى اللغة الروسية.

·         أين تجدين نفسك الآن بعد طول انقطاع، في العمل السينمائي أم التلفزيوني؟

- أجد نفسي في العمل السينمائي سواء كان اخراجاً أو كتابة أو تمثيلاً، وهذا أمر لا يحتاج إلى نقاش. الاخراج وكتابة السيناريو يشكلان عشقي الأكبر، وهما اللذان يسمحان لي بالتحقق من أفكاري وأسلوبي. أما التمثيل، فإنه يحقق لي متعة لا توصف أو تحدّياً بوصفه عشقاً من نوع آخر.

·         سبق لك وتقدمت بمشاريع روائية أخرى للمؤسسة العامة للسينما... وهذه الأخيرة نصحت بإخراج هذه الرواية. هل في هذا تأثير ما في أفكارك وأسلوبك كمؤلفة لأفلامك عموماً؟

- طموحي هو أن أعمل مشروعي أنا، وإن كان لا يتناقض مع عمل فيلم عن سيناريو مكتوب لغيري. لقد سبق لي وتقدمت بمشاريع عن روايات لنجوى بركات وسمر يزبك وخيري الذهبي ولكنّها كلها لم تثر الحماسة في المؤسسة لإنتاجها، لأسباب أجهلها. القائمون على المؤسسة لديهم رؤيتهم لطبيعة الأعمال التي يودون انجازها وتحقيقها. وقد تم اقتناء رواية «هوى» في وقت سابق وجرى تكليفي بها منذ حوالى عامين، بعد أن طلبوا إليّ كتابة سيناريو مقتبس منها. ثم أعادوا المشروع برمته إلى الدكتور رياض نعسان آغا الذي سبق له وتبنى كتابة السيناريو قبلي، ولكن بحكم موقعه كوزير للثقافة حينها، أوقف الكتابة كي لا يقال إنه يقوم باستغلال موقعه، وبعد أن أقيل من منصبه قام نعسان آغا مجدداً بكتابة السيناريو كاملاً.

أهمية ما...

·         أين تكمن أهمية رواية «هوى» في مثل هذه الظروف التي تمّر بها سورية حالياً؟

- أنا أعتبر أن مشاكل المجتمع لا يمكنها أن تتجزأ. فعندما نحكي عن قضايا الفساد أو المرأة وقضايا الانسان وطموحاته ومعاناته وتكسّر أحلامه، فإننا نكون نلامس جوهر القضايا الكبرى التي تحركنا كبشر، ولو أنني لا أدّعي في طبيعة الحال أنني في مثل هذا الظرف الاستثنائي الذي تمر به سورية أطرح ما يوازي حجم الحدث أو التعبير عن كنه الحقيقة والمأساة في مختلف وجوهها.

·         بأي معنى غير قادرة عن التعبير؟

- مهما قلنا، فإن طموحنا سيكون أقل بكثير مما يدور حولنا. هناك حدث كبير يحيط بالحياة السورية، وهو مهول وجديد لدرجة أنه لا يمكنني الاحاطة بالمسألة، فنحن نعيش زخم الأحداث سلباً وإيجاباً، وهي لم تفرز بعد تغييراً حقيقياً حتى نقول إننا قادرون على التعبير عن هذا في عملنا. الفن كما أراه يلامس الجرح، ولا يدّعي القيام بثورة وتغيير هائلين. وهو يؤسس لأفكار مستقبلية وتغييرات نوعية، وهذا هو الدور الحقيقي الذي نقوم به في حالة العجز الهائلة التي نمر بها.

·         ولكنك قد تكونين مطالبة بأن تقولي شيئاً؟

- لم أعد مؤمنة بالقول، فقد وصلت الأمور إلى درجة باتت تتدهور معها في شكل مرعب. نحن نريد مراكمة أفعال بدرجة عالية المستوى. من قبل كان الكلام مجدياً إلى حد ما، أما الآن فلم يعد كذلك، وما يراد هو تراكم أفعال وإصلاح جذري وإعادة الثقة بين مختلف الأطراف.

·         عندما تتحدثين عن موضوعة لم يسبق للسينما السورية أن عالجتها من قبل، يمكن القول ببساطة متناهية إن الدراما التلفزيونية قطعت شوطاً كبيراً في هذا الشأن، لجهة الكشف عن آليات الفساد المتحكمة في مؤسسات حكومية كثيرة. هل ترين ان السينما أضحت متخلّفة بدورها عن التلفزيون؟

- بصراحة، كان الانتاج السينمائي سبّاقاً في الجرأة وطرح المحرمات عندما لم تكن السينما عندنا مشاهدة محلياً وكان عندها هامش أكبر من الحرية والتجريب، وكانت تخضع أساساً للقطاع العام. وهي كانت تتوجه الى الخارج والمهرجانات، ولم يشكل التلفزيون منافساً لها على أي صعيد. وعندما دخل القطاع الخاص في مرحلة تالية على خط الانتاج التلفزيوني فرض شروطه ببساطة على الرقابة، ما دفع إلى توسيع هامش الحرية الرقابية، لأن القطاع الخاص معنيّ بالربح وتكوين صدقية ما عند المشاهدين أمام منافسة جاءته من كثرة الفضائيات هذه المرة، وليس من السينما نفسها، التي بقيت أسيرة انتاج شحيح غير قادر على تغيير شروط المعادلة الجديدة، وظلت المؤسسة وحدها من دون منافس خاص يجرها نحو التحرر من الرقابات.

·         عندما يتبنى فيلم سينمائي محاكاة حالة تلفزيونية متفوقة متجلية بالكشف عن حالات الفساد المنتشرة في قطاع المشافي العامة، ألا يقوم تلقائياً بـ «خصاء» موارب للسينما نفسها؟

- لولا عشقي للسينما كنت فضّلت العمل التلفزيوني لأنه يقدم شروطاً مريحة لنا كمخرجين وممثلين، ففيه آلية انتاج ديناميكية ومتطورة أكثر. وهي تجنح كآلية نحو صناعة تلفزيونية، وليست مثل القطاع العام الذي يراوح مكانه، ولا يريد مغادرة أسوار البيروقراطية والروتين القاتلين. أعترف بأن ثمة معوقات للطاقة الابداعية في القطاع العام لا يمكن تجاوزها بسهولة. ومع ذلك فأنا أكتشف من خلال عملي أنني ما زلت منحازة الى السينما على رغم كل الشروط التي نعمل بها.

السينما والأدب السوري

·         لماذا الاصرار على مقاربة الأدب في السينما السورية، ومعظم الأفلام المقتبسة عن أعمال أدبية في الآونة الأخيرة لم تكن مشجعة؟

- حتى وقت قريب كان الجميع يشكو من قيام المخرج بكتابة أعماله تحت مسمى سينما المؤلف. والصحافة نفسها لم تتوقف عن الشكوى، وكأن سينما المؤلف ظاهرة سورية طارئة، مع أنها ظاهرة عالمية لا نعرف لماذا بدت عندنا في هذا السوء. دراسة التأليف السينمائي توازي دراسة الاخراج، وهذا متعارف عليه في معاهد كثيرة. وحتى عندما يقوم المخرج باقتباس عمله عن رواية، فهو يضع لمساته الخاصة عليها، ويعيد صوغها في أكثر من مكان وفق رؤيته البصرية. هذا من جانب، أما في ما يخص الأعمال الأدبية التي جرى تحقيق أفلام منها في الآونة الأخيرة، فلا أعرف إلى أي درجة تكون فيها الروايات التي يتم اختيارها قادرة على أن تملك صدقية سينمائية قادرة بدورها على منحها جواز المرور لدى المشاهد نفسه.

·         إلى أي مدى اشتغلت على رواية «هوى»؟

- أعتقد أنها رواية ضخمة لا يمكن عكسها في عمل سينمائي واحد، وهي كانت بحاجة إلى جهد جبار لاحتوائها في فيلم مدته ساعتان. ثمة لحظات فيها مفاتيح مهمة لهذه الاختزالات قمت بها حتى من بعد قراءة السيناريو المكتوب، حاولت اغناء بعضها، وبعضها الآخر عملت على اختصاره أو اضافة أشياء جديدة إليه لأتجنب المنحى التلفزيوني القائم على التطويل في الحوارات، وأحياناً كنت أجد في كلمة واحدة واردة في الرواية مفتاحاً لعالم كامل من الصور الحلمية أجيء على توظيفها في السياق البصري المركب في عموم الفيلم.

·         هل يشكل فيلم «هوى» بالمقارنة مع فيلمك الأول «رؤى حالمة» سباقاً مع الوقت بشقه السينمائي؟

- لا أخفيك أن فيلم «رؤى حالمة» كموضوع ما زلت أحس أنه كان يمكن ان تكون فيه أبعاد غنية أكثر لو امتلكت حينها الامكانات السينمائية التي أقف عليها الآن. كان يمكنني أن أقدمه كما توجّب واشتهيت أن أقدمه فيه لجهة السرد البصري الذي أتاحته لي التيمة نفسها، وأبعدته في الوقت نفسه لضعف ما في العملية الانتاجية.

الحياة اللندنية في

15/07/2011

 

اطلبوا العلم ولو في تجربة المغرب!

إبراهيم العريس 

بالتوازي مع الثورة الشعبية المصرية التي لا تزال متواصلة منذ شهر يناير (كانون اول) الفائت وتعرف كثيراً من الصعود والهبوط بحسب «المواسم» والتحركات وعلى حجم التحديات المتواصلة، ثمة الآن امور كثيرة تختمر وتتطور في الحياة الاجتماعية المصرية، قد لا تكون ظاهرة تفقأ الأعين مثل تلك التي تعاش وتتمفصل في ميدان التحرير وغيره من اماكن التحرّك العام، لكنها لا تقل عنها اهمية على المدى القصير، وقد تفوقها على المدى الطويل أهميةً بكثير. ولعل اهم هذه المساعي التغييرية – ولنسمّها كذلك في انتظار تسميات أفضل! - هي تلك التي تحدث في اوساط الفن والثقافة وداخل المجتمع المدني في مصر. ولا ريب ان ما يهمنا منها في سياقنا هنا هو ما يتعلق بالنواحي السينمائية.

ففي هذا المجال تتوالى الأنباء الآتية من القاهرة، ومنذ شهور، حول أنواع حراك متنوعة ومتناقضة احياناً، هدفها الأساس اعادة الاعتبار الى مجالين يتعلقان بالفن السابع المصري: من ناحية مجال الإنتاج، ومن ناحية ثانية عالم المهرجانات. والكلّ يعرف في هذا الحيّز ان مصر كانت طوال القرن العشرين رائدة في العالم العربي على الأقلّ، في كل من المجالين، فالواقع ان في إمكاننا - وبصرف النظر عن المماحكات «الأكاديمية» حول الأقدمية او الريادة او ما شابه ذلك -، ان نقول ان النجاحات العربية الكبرى، محليّاً وعربيّاً وعالميّاً، كان للإنتاج المصري فيها وبشكل دائم متواصل، حصة الأسد. أما في المجال المهرجاني، فإن الأولية كانت لمصر، حتى وان تغلبّ عليها بشكل واضح مهرجانان عربيان من الناحية الفنية هما قرطاج التونسي ودمشق السوري. ثم لاحقاً، من ناحية الضخامة والفخامة «الهوليوودية» مهرجانات خليجية متعددة.

ونعرف طبعاً، ان تفوّق الآخرين على مصر انتاجاً ومهرجانات، تفاقم مع اطلالة القرن الجديد وتضاؤل اهمية المهرجان القاهري من ناحية ثم – من ناحية أخرى - بدء ظهور سينمات عربية راح معظم انتاجها يبرز على الساحة العالمية مقللاً في طريقه من اسبقية السينما المصرية على رغم حضور سينما مستقلة متميّزة في مصر سار شبابها على خطى مبدعين، مثل الراحلين عاطف الطيّب ورضوان الكاشف، والحاضرين دوماً، مثل يسري نصرالله ومحمد خان وداود عبد السيد ثم مجدي احمد علي، وصولاً الى ابراهيم البطوط واحمد عبد الله وكاملة ابو ذكرى و... اللائحة تطول. بيد ان هؤلاء لم يبرزوا في الحقيقة الا كجزء أكثر ما يمكن ان يقال عنه انه يتكامل مع سينمات جديدة راحت تشتد بروزاً في فلسطين وفي لبنان وبشكل خاص في المغرب. وهذا المغرب نفسه كان هو الذي عرف في الحقيقة خلال السنوات الأخيرة وثبة في الإنتاج (من 3 و4 افلام في السنة أوّل العقد، الى مايقارب العشرين فيلما الآن)... كما خاصة في المهرجانات («مراكش» اصبح واحداً من المهرجانات العالمية، ناهيك بامتلاء المدن المغربية بمهرجانات عديدة سنوياً تستقطب افلاماً ومبدعين متميزين). ولعل في وسعنا هنا ان نقول ان الحال السينمائية المغربية وصلت الآن الى أن تشكّل الندّ الأبرز للسينما المصرية على الصعيد العربي. ونعرف في هذا السياق ان مهتمين بالسينما المصرية كباراً، كالنقاد سمير فريد وكمال رمزي وعلي ابو شادي الذي كان الى فترة قريبة يشغل أرفع المسؤوليات في الحياة السينمائية المصرية، ومبدعين من طينة توفيق صالح ويسري نصر الله اقروا للمغرب بهذا التميّز بروح رياضية. ولا سيما في دورات مهرجانية مغربية في مراكش وغيرها عرفت كيف تقدم، بمبادرة من الناقد السينمائي المغربي المعروف ورئيس المركز السينمائي في بلده، نور الدين صايل، تكريمات استثنائية للسينما المصرية وتاريخها بشكل عام، ولسينمائيين مصريين كبار مثل يوسف شاهين وتوفيق صالح بشكل خاص.

في لقاءات مهرجانية عديدة في مراكش او في «كان» او حتى في القاهرة، كان كاتب هذه السطور شاهداً عليها مشاركاً، راحت حوارات اساسية تدور بين اهل السينما المصريين وزملائهم المغاربة من حول تلك النهضة المغربية السينمائية المدهشة بالمقارنة مع ما يحدث في مصر. ولطالما عبّر رفاقنا المصريون عن اعجابهم بتلك النهضة التي كانوا يعرفون تماماً ان من اعمدتها الأساسية قيام الدولة بدعم غير محدود للمهرجانات والحركة الإنتاجية، ولكن بشرط ان يكون القابضون على المسألة السينمائية، اهل السينما المتميزين انفسهم (كما حال نورالدين صايل ومحمد باكريم وغيرهما من النقاد الجادّين في المغرب). صحيح ان اهل السينما المصريين الحقيقيين من الذين ذكرنا اسماءهم، اضافة الى آخرين لا يقلّون عنهم اهتماماً بالسينما البديعة، من امثال يوسف شريف رزق الله وخالد عبد الجليل، رئيس المركز الوطني للسينما في مصر، وعدد كبير من النقاد والمبدعين من اهل الكنانة، كانوا يسلّمون مهام مهرجانية او حتى انتاجية في بلدهم، ولكن دائماً بميزانيات شديدة التقشف تمنع اي تقدّم او نمو حقيقي او حتى الحفاظ على مستوى لائق بمصر وتاريخها السينمائي- من دون ان نتحدث هنا عن عرقلات بيرقراطية تقف حاجزاً حتى في وجه فيلم مصري لإبراهيم البطوط، مثلاً، موّل جزئياً من المغرب

اليوم وبالنظر الى السجالات الجارية في القاهرة السينمائية، (والتي يبشّر بعضها بإمكانية عودة الحالة السينمائية المصرية الى نوع من العصر الذهبي، ولا سيما مع ما تشير اليه بعض الأصوات من قرب الوصول الى حلول مدهشة في اقامة التوازن بين دعم المهرجانات ودعم الإنتاج، على الطريقة المغربية التي اثبتت حتى الآن نجاحها في الحصول على الدعم الرسمي انما بشكل يخلق محفزات على الإبداع وابتكار الحلول الفنية والإنتاجية والتسويقية في وقت واحد – ما يجعل السينما من جديد جزءاً من اقتصاديات البلد كما من تراثه الإبداعي، كما يحدث في المغرب عبر تجربة يعرفها رفاقنا المصريون جيداً وتبدو علاماتها واضحة في ما قرأنا من مشاريع واقتراحات ظهرت في القاهرة حتى الآن -)، نتوقع متابعة هذه المحاولات والنقاشات ووصولها الى برامج عمل قيد التنفيذ. ولعل اهم ما يدفعنا الى هذا التوقع هو معرفتنا بالدور الكبير الذي يمكن ان يلعبه النقاش البناء في رفد الإبداع المصري من ناحية اساسية، وكذلك معرفتنا بأن اتباع النهضة السينمائية المقبلة – لو اتيحت لها الظروف – سوف يكون فيه درس لبقية السينمات العربية هو درس مغربي/ مصري مشترك، فمن الواضح ان بُعده المصريّ سيكون من ناحية فاعلاً (واكثر تأثيراً من أصله المغربي في سينمات المشرق العربي على الأقل)، ومن ناحية ثانية مكمّلاً للتجربة المغربية التي بات من الجائز لها ان تعمّم.

الحياة اللندنية في

15/07/2011

 

«آخر الرجال» لمورناو:

ضد فاشية الرداء الموحّد

إبراهيم العريس  

«إن جزءاً من أهمية هذا الفيلم يقوم في كونه، - باكراً ومنذ عام 1924 -، أكّد إن كانت هناك حاجة الى التأكيد، أن في وسع السينما ان تقدم المواضيع المعقدة والمركبة بلغة بسيطة». هذا ما يقال عادة عن فيلم «آخر الرجال» للسينمائي الألماني مورناو، الذي لم يكن صدفة أن يحقق فيلمه المميّز هذا، في زمن وسط بين فيلمه الهزلي «خطيبات الارشيدوق»، وفيلمه المأخوذ عن موليير «طرطوف». ذلك ان «آخر الرجال» يمثل، موضوعياً، منطقة وسطى بين سينما اللهو وسينما النقد الاجتماعي المرّ. بل، كما سنرى، النقد الذي يتجاوز مظاهر المجتمع ليطاول جوهره. فهذا الفيلم المستوحى أصلاً من «المعطف» لغوغول، من دون ان يصرّح بذلك، أتى ليوجّه نقداً لعقلية «الرداء الموحّد» (يونيفورم) في وقت كانت فيه ألمانيا، وبعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، تعيش هوس هذا الرداء الذي سيقودها، بين أمور أخرى، الى النازية وانتظاميتها التي يعتبر توحيد اللباس احدى سماتها الجوهرية.

> غير ان ما لا بد من قوله منذ الآن، هو ان نقد مورناو (وكاتب السيناريو كارل ماير) لم يكن مباشراً، أي صريحاً، بل كان يتحقق عبر رسم الذهنيات، وهو النقد الاقسى والآمن في الوقت نفسه. ولئن كان مورناو، الذي يعتبر من كبار أقطاب المدرسة التعبيرية في السينما الألمانية أولاً ثم في السينما الأميركية لاحقاً، لم يتوقف منذ خاض غمار العمل السينمائي اثر انتهاء الحرب العالمية الاولى، عن توجيه سهام نقده الى ما آل اليه حال المانيا، فإنه قبل «آخر الرجال» كان يطاول المجتمع الألماني، في هواجسه ومخاوفه، من خلال أعمال سينمائية غلب عليها الطابع الاسطوري، مستخدماً على سبيل الكناية، شخصيات معروفة ومتعددة الدلالات، مثل «نوسفراتو» و «فاوست»، متحدثاً في أفلامه عن الأشباح والغيلان على سبيل الترميز، فإنه في «آخر الرجال» سلك، للمرة الأولى بمثل هذا الوضوح وعلى مثل هذه الدلالة، سلوك الواقعية، ليقدم عبر فيلم، يبدو للوهلة الأولى متأرجحاً بين الهزل والحنان، تلك النظرة التي يلقيها على المجتمع وذهنيته (العسكرية في نهاية الأمر).

> في هذا الإطار لم يكن سيغفريد كراكور، مؤرخ علاقة السينما الألمانية بالنازية سلباً وإيجاباً من خلال كتابه الفذ «من كاليغاري الى هتلر»، بعيداً من الصواب حين كتب في معرض تحليله لـ «آخر الرجال» يقول: «لأن هذا الفيلم يؤكد أن السلطة، والسلطة وحدها، هي التي تمزج كل القطاعات الاجتماعية المشتتة في بوتقة واحدة، يصبح فقدان «اليونيفورم»، الذي يمثل السلطة خير تمثيل، باعثاً على وصول الفوضى». ومن هنا، يضيف كراكور، «منذ اللحظة التي يعلم فيها المرتدون ان البدلة قد ابدلت بالمريلة، التي هي دونها قيمة، يشعرون أنهم طردوا من العالم الأنيق الذي كان لهم، والذي كانوا فيه قادرين على التواصل... ومن هنا تقوم ثورتهم ضد فقدان هذه البدلة».

> في الأمثال القديمة كان يقال ان الثوب ليس هو من يصنع القسيس. ولكن في هذا الفيلم المبكر والاستثنائي والفذ، يأتي مورناو ليبرهن ان الثوب هو الذي يصنع صاحبه، أو سلطة صاحبه (والسلطة تتطابق هنا مع صاحبها مطابقة عضوية) في هذا الزمن الذي نعيش فيه، زمن يقدم التشابه كنقيض للاختلاف. وهل ثمة ما يصنع التشابه أكثر مما يصنعه الرداء الموحد؟

> يتمحور فيلم «آخر الرجال» حول بواب فندق «اطلانطا بالاس» الفاخر. وهذا البواب (يلعب الدور بروعة استثنائية اميل جاننغر) يعيش سعيداً. عمله عيد دائم. وفي الحي الذي يعيش فيه ها هم السكان جميعاً يجلّونه ويحترمونه ولا يكفّون عن إبداء الاعجاب به. ومن الواضح ان مصدر هذا كله انما هو البدلة (يونيفورم) التي يرتديها وتنم، ببريقها وأناقتها، عن المكانة المميزة (السلطوية) التي يشغلها. ولكن، يحدث هنا ما لا بد من حدوثه: يدخل البواب سن الشيخوخة، وتحوّله ادارة الفندق الى العمل في المراحيض، ما يحتم عليه ان يبدل البدلة الأنيقة، بالمريلة. غير ان الظروف تشاء ان يتزامن ذلك مع عرس ابنته. وفي مثل هذا العرس، أمام ضيوف يقدّرون قيمته من خلال بدلته، لا يجدر بصاحبنا ان يبدو وقد هبطت مكانته. فلا يكون منه إلا ان يسرق بدلته القديمة ويرتديها، ليحافظ على تلك المكانة. وبعد العرس، يودع البواب السابق البدلة في خزائن محطة القطار، وقد آلى على نفسه ان يعود الى ارتدائها في كل ليلة حفظاً للمظاهر. غير ان أمره ينكشف. وهكذا يدير له الجميع ظهر المجن: أهله وجيرانه واصدقاؤه. اما هو فإنه، اذ يشعر بخطورة ما فعل، يعهد الى صديق له، يعمل حارساً ليلياً، بإعادة الثوب الى مكانه. فإذا انكشف أمره، ولم تعد بدلته تمثل أية سلطة، لأنها صارت شكلاً من دون مضمون، لم يعد هو في حاجة الى البدلة. لقد انتهى كرجل.

> غير ان الفيلم لا ينتهي هنا، فقط ينتهي قسمه الاول. أما النسخة الأكثر اكتمالاً من هذا الفيلم، فإنها تحمل عند هذه النقطة منه لوحة كتب عليها: «في الحياة الحقيقية، من العسير لهذا العجوز البائس ان ينتظر شيئاً آخر عدا الموت، غير ان كاتب سيناريو هذا الفيلم شعر بالشفقة على الرجل، لذلك وضع للفيلم نهاية أخرى غير ممكنة الحدوث في الواقع، على اية حال». وهكذا بعد هذه اللوحة يبدأ القسم الثاني من الفيلم: فالبواب يصبح هنا ثرياً بفضل رجل غني غريب الاطوار يقابله ويغدق عليه ثروته. ويبدأ صاحبنا بارتياد المطاعم الفاخرة. ثم يرتدي ثياباً باهظة الثمن ويتوجه الى قاعة فندق «اطلانطا» وفي رفقته الحارس الليلي، ليتعشيا. وهناك يخاطب مدير المطعم مخاطبة الندّ للندّ، ويوزع البقشيش على العمال. ثم يحل للحظة محل حارس المراحيض حيث ينتقم من الزبائن الذين يأخذ عليهم ان ذاكرتهم من القصر حيث نسوا مكانته المحترمة السابقة وراحوا يعاملونه كعامل مرحاض حقيقي من دون تاريخ. وفي النهاية يركب صاحبنا وصديقه الحارس الليلي عربة تذهب بهما في أعماق الليل، وفي رفقتهما شحاذ كان البواب الجديد يريد طرده.

> انطلاقاً من هذه الحكاية بنى مورناو، إذاً، فيلماً شاءه ان يكون درساً يلقيه على المجتمع «ذلك البروليتاري الرث الذي لو أعطي الامكانات لعرف كيف يعيش» كما كان يمكن برتولد بريخت (الذي أبدع في رسم مثل هذه الشخصيات: شخصيات البروليتاري عشية الثورة، وحين يكتسب وعيه ويعرف كيف يستخدمه) ان يتصوّر. والحال ان معظم النقاد والمؤرخين الذين تناولوا الفيلم ركّزوا على مسألة «البدلة» معتبرينها رمزاً للنزعة العسكرية المتسلطة على ألمانيا. أما مورناو نفسه فقال انه انما أراد، أولاً وأخيراً، ان يصوّر الأحاسيس البشرية عبر حكاية من الصعب إعطاؤها أبعاداً ايديولوجية. لكن هذا لم يكن صحيحاً بالطبع.

> فردريك فلهلم بلوجي، الذي سيعرف باسم مورناو منذ اتخاذه السينما، تمثيلاً ثم إخراجاً، مهنة له، ولد في وستفاليا عام 1888 لعائلة تنتمي الى البورجوازية التجارية الكبيرة. لكنه منذ صباه أبدى ميلاً الى المسرح والتمثيل، على رغم دراسته الفلسفة وتاريخ الفن والادب في برلين وهايدلبرغ. وفي عام 1910 دخل مدرسة ماكس رينهاردت المسرحية، وبدأ يمثل تحت اسم هلموث ثم مورناو. في عام 1914 جنّد في سلاح المشاة، وفي عام 1917 خاض الحرب طياراً في الجيش الألماني. غير انه سرعان ما ترك الجندية ليعيش فترة في سويسراً عليلاً. وفي عام 1918 بعد مشاهدته فيلم «عيادة الدكتور كاليغاري» أغرم بالسينما وأسس شركة انتاج تولت تمويل معظم أفلامه التي راح يحققها تباعاً في ألمانيا، حتى كان عام 1926 حين حقق «آخر الرجال» نجاحاً عالمياً تزامن مع إطباق النازيين على خناق ألمانيا، فتوجه الى هوليوود محمّلاً بسمعة جيدة صنعتها له أفلام مثل «نوسفراتو» و «طرطوف» و «آخر الرجال». وهناك حقّق فيلم «الفجر» (1927) الذي يعتبر من أجمل أعماله الهوليوودية. ثم حقق «أربعة شياطين» (1928) و «خبز يومنا» (1929). وهو، بعدما شارك فلاهرتي في انجاز «تابو» في تاهيتي، توفي عام 1931 في حادث سيارة بالقرب من سانتا باربارا في كاليفورنيا.

alariss@alhayat.com

الحياة اللندنية في

15/07/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)