حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

سينما للإنسان بعيداً من الرمال المتحركة للإيديولوجيا والسياسة

كارلوفي فاري (تشيخيا) - فيكي حبيب

بعد عشرة أيام من عروض سينمائية حضر فيها الجمهور بكثرة لافتة، وحضرت فيها أفلام من بلدان عدة، بعضها يعرض للمرة الأولى، وبعضها الآخر، ينتقل من «كان» وسواه من المهرجانات الاوروبية والأميركية الى مهرجان كارلوفي فاري مستبقاً بسمعة جيدة تعيد الى محبي السينما آمالاً عريضة... وبعدما كان هناك شبه اعتقاد بأن النتائج لن تحمل مفاجآت حقيقية، بحيث ان الآراء بدت مجتمعة على نصف دزينة من الأفلام التي كانت تستحق الفوز... كان ثمة في نهاية الأمر مفاجأة حيّرت كثراً، وتمحورت حول الفيلم الذي اختارته لجنة التحكيم للفوز بالجائزة الكبرى، خصوصاً انه لم يكن ضمن الترجيحات، وإن كان قد فاز في مهرجان «ساندنس» بجائزة أفضل سيناريو.

الفيلم هو «ترميم» للمخرج الاسرائيلي جوزيف مادموني. وهو شريط لا بدّ من التوقف عنده. ففي بلد كإسرائيل تقوم إيديولوجيته الأساسية على مفهوم الذاكرة من ناحية تكوينه بوصفه «الأرض الموعودة لشعب اسرائيل»، ومن ناحية مساندته الراهنة باستحضار ذاكرة الهولوكوست كلما دعت الحاجة، الأكيد ان أي اشتباك في اي عمل فكري وفني بين جيل قديم يُقدّس هذه الذاكرة وجيل جديد يحاول ان يتجاوزها ليعيش حياة طبيعية، يصبح فعلاً سياسياً مشاكساً... بل مناهضاً لكينونة الدولة نفسها. من هنا، وإن بدا فيلم جوزيف مادموني «ترميم» الفائز بالكرة البلورية (30 ألف دولار) في ختام مهرجان كارلوفي فاري السينمائي، فيلماً بعيداً من السياسة، فإن هذا الابتعاد ليس إلا ظاهرياً، لأن الفيلم في حقيقته، يغوص في اعماق السياسة، إذا نظرنا الى المسألة من هذه الناحية الفكرية. ويبدو - بالتالي - فريداً ومميزاً في سينما تدنو من السياسة - وأحياناً ضد الدولة ومع الشعب الفلسطيني المضطهد والمطرود من وطنه - إنما من دون ان تغوص عميقاً.

صحيح، لا يتطرق فيلم مادموني لا من قريب او بعيد الى القضية الفلسطينية ولا يمرر خطاباً صهيونياً متطرفاً أو حتى معتدلاً، لكنّ قصته البسيطة تنضح بالكثير حول التحولات في المجتمع الاسرائيلي المعاصر، وتشي باقتراب ضياع الذاكرة وركوب موجة الحداثة اتكاء على الصدام بين جيلين: جيل الآباء المتمسك بالماضي وجيل الأبناء المتطلع الى المستقبل. فماذا عن الحكاية؟

تدور القصة حول «فيدلمان» الرجل السبعيني الذي يتهدده الإفلاس بعد وفاة شريكه في محل «الانتيكات» الذي قضى فيه أكثر من أربعين عاماً، ويرفض ابنه «نوح» ان يمدّ إليه يدّ العون، رغبة ببيع المتجر وتشييد مجمع تجاري مكانه. ولكن، فجأة يدخل الشاب «أنتون» الهارب من أسرته (لا ندري طوال الفيلم السبب، كما لا ندري سبب إقحام قصة الحب بينه وبين زوجة «نوح» الحامل) الى حياة «فيدلمان»، ويُعيد إليه الأمل بإنعاش مصلحته بعد ان يقع في المتجر على بيانو أثري، من شأنه ان يُسدد الديون المتراكمة. لكنّ هذا لا يمكن ان يحدث إلا بإيجاد قطعة مهمة ضائعة من هذه الآلة الموسيقية، لتبدأ رحلة «انتون» في البحث عن بيانو شبيه. لكن محاولاته كلها تبوء بالفشل، ليُسدل الفيلم ستاره بمشهد مخيب لـ «فيدلمان» وهو جالس في متجره وحيداً الى جانب البيانو قبل ان ينجذب طفل صغير الى المتجر، ويصرّ على ان يشتري البيانو، لكنّ والدته لا ترضى بالسعر البخس الذي يعرضه «فيدلمان»، إنما تُفاصل، وتحصل على مبتغاها.

موت الذاكرة

قد يُفهم من هذه النهاية ان جوزيف مادموني يُعلن موت الذاكرة لمصلحة سيرورة الحياة، وربما يرى آخرون انه اراد منها دق ناقوس الخطر خوفاً على ذاكرة تبدو في طريقها الى النسيان. وفي الحالتين ليس هذا الفيلم افضل ما عرض في مسابقة المهرجان التشيخي، بل يمكن القول انه لم يكن أساساً ضمن ترجيحات النقاد والجمهور معاً. فإذا اعتبرنا ان جمعية النقاد الدوليين (فيبريسكي) من شأنها ان تحدد اتجاهات النقاد، تكفي الإشارة الى انها منحت جائزتها للفيلم الكندي-الأميركي المميز «متعاون» للمخرج مارتن دونافان. أما الجمهور فاختار فيلماً محلياً (من إنتاج تشيخيا وسلوفوكيا) ليمنحه جائزته، هو «عائلة نيكي».

وبعيداً من نظرية «المؤامرة» والحسابات السياسية ومسايرة اسرائيل، يحدث غالباً ان تأتي اختيارات لجان التحكيم بعيداً من التوقعات. وفي هذا الإطار يمكن القول ان حسابات المخرج المجري ايستفان تسابو (ترأس لجنة تحكيم أفلام المسابقة الروائية في كارلوفي فاري) ورفاقه في منح الفيلم الاسرائيلي جائزة الكرة البلورية لم تتقاطع وحسابات كثيرين في المهرجان. اما جائزة لجنة التحكيم الخاصة (20 ألف دولار) وجائزة «دون كيشوت» فذهبتا الى فيلم «غجري» (من إنتاج تشيخيا وسلوفاكيا)، فيما حصل الفرنسي باسكال راباتيه على جائزة أفضل إخراج عن فيلمه «إجازة على البحر». في المقابل، يمكن اعتبار اكثر الجوائز إنصافاً جائزتي أفضل تمثيل ذكوري وأنثوي، ففي حين ذهبت الأولى الى الممثل الاميركي دايفيد مورس عن دوره في «متعاون»، نالت الممثلة الألمانية الشابة ستين فيشر كيرستين جائزة أفضل ممثلة عن دورها في فيلم «شروخ في الصدفة». والفيلمان - في اعتقادنا - كانا الأكثر جدارة بالفوز بالجائزة الكبرى. ففي «متعاون» تطل لعبة المحاكاة بين الفن والواقع في شكل ممتع من خلال قصة «روبرت لونغفيلو» المخرج المسرحي الذي يقصد منزل الطفولة بحثاً عن ملجأ ما بعد جملة إخفاقات ذاتية على رغم النجاحات المهنية، ليجد نفسه رهينة «غاس»، جاره المطلوب من العدالة. ولكن، خلافاً لما قد تحفل به ساعات الاحتجاز من توتر وخوف، يحاول «غاس» ان يحيط «ضيفه» بأجواء مريحة، فيوفّر له المشروب وسجائر الحشيش، قبل ان يدخلا في حوار ممتع تتقاطع فيه السخرية بالواقع المرير، بحيث لا يعود المشاهد يدري إن كان ما يحدث امامه حقيقياً ام مشهداً من مسرحية... ليتأكد هذا الأمر أكثر فأكثر حين تردي الشرطة «غاس» فيقع أرضاً والأضواء تحيطه على شكل دائرة كما لو كنا امام خبطة مسرحية.

فرصة العمر

ولا يبتعد الفيلم الألماني بدوره عن الأجواء المسرحية، إذ يصوّر ممثلة مغمورة، يمنحها مخرج كبير فرصة العمر بإسناد الدور الرئيس اليها في مسرحيته الجديدة، بعدما كانت دوماً على الهامش ولا يُحسب لها حساب. وهنا أيضاً، يختلط الفن والحقيقة في رأس البطلة، فتحاول ان تتقمص دور «كاميل» في المسرحية وتعيش حياتها في الحقيقة، ما قد يترتب عنه عواقب وخيمة... ليس أخطرها محاولة انتحارها بعدما ضاقت بها الحياة، واقتنعت بأن اختيارها للدور لم يكن لموهبتها إنما لكونها شخصية منكسرة قادرة على تجسيد هذا التمزق الداخلي على الخشبة.

«لا تخافي» فيلم آخر لا يمكن ان يمرّ مرور الكرام في مسابقة الأفلام الروائية، وإن خرج من المولد بلا حمص عند توزيع الجوائز. فهذا الشريط السوداوي يدخل أعماق النفس البشرية ويطرح أسئلة حول الطبيعة البشرية وما يمكن ان ترتكبه من فظاعات بحق أقرب الناس. فحين يعتدي الوالد على طفلته وتتغاضى الوالدة عن الجريمة، لا يمكن ان ينتج من ذلك الا كائنة مريضة تعيش في افق مسدود وسط اللاأمان، ولا يعود امامها من حل إلا الانتقام من نفسها بمسايرة والدها بممارساته ضدها قبل ان تجد الدرب الصحيح وتُشفى من خوفها وتتجرأ على خجلها بالبوح بما تعرضت له في طفولتها ومراهقتها.

باختصار، تبدو سينما الإنسان البطل الاول في غالبية أفلام المسابقة في مهرجان كارلوفي فاري، لا السياسة ولا الإيديولوجيا... وكأن في هذه الشرائط محاولة ترميم لنفوس تائهة وسط مشهد ضبابي يكشف عن لعبة شدّ حبال بين الخيال والحقيقة... خصوصاً حين تصبح الحقيقة أقسى بكثير من الخيال.

الحياة اللندنية في

15/07/2011

 

نوري بو زيد وأفلامه «المستحيلة»

باريس - ندى الأزهري 

ها هو نوري بو زيد يكرّم من جديد في فرنسا. غير الأوسمة الرسمية، ثمة استعادة لأفلامه جرت على مدى أسبوعين في السينماتك الفرنسية في باريس، حضر بو زيد افتتاحيتها التي كانت مخصصة لعرض فيلمه الثاني» صفائح من ذهب».

شريطه هذا، كان عرض في مهرجان» كان» عام 1989، إنه «الفيلم المستحيل» كما قال صاحبه في الندوة التي تلت العرض. فبعد النجاح الكبير لعمله الأول «ريح السد» (86) الذي قدم في «كان» كذلك، أراد التفرغ لتحقيق «صفائح من ذهب»، الذي يشابه في رأيه فيلم «بزنس» ، فهما عملان «لا يمكن إنجازهما في أي بلد عربي»، كما صرّح للجمهور، مستدركا بعدها «ربما الآن نعم، بعد الثورة».

في «صفائح من ذهب»، ثمة مواجهة للذات، مع نفسها، مع الآخرين ومع الايديولوجية التي قضى بو زيد جزءاً من عمره ملتزماً بها. هذا العمل «القاسي، الذاتي وغير الذاتي» كما وصفه، كان محاولة للخروج من الايديولوجية التي دخل السجن وخضع للتعذيب بسببها، وسعياً لطرح هاجس يشغله وهو الحريات الثلاث «السياسية والشخصية والرأي». في الشريط، يواجهنا بطله المثقف التائه الذي لم يعد يجد مكانه خارج السجن، يتنقل بلا وجهة، يبحث في قرارة نفسه عن ذاته الضائعة ويفتش عن الأصدقاء والأحباب. لقد فشل على جميع الجبهات، كان قد تخلى باسم الايديولوجية عن كل من حوله وحين احتاج إليهم بعد خروجه من المعتقل، كان كل منهم قد شرع يبني حياته بعيداً. إنها قصته هو، قال بو زيد للحضور، أحلام المثقفين التي كانت «كابوساً، مضيعة للوقت»، معترفاً «لقد أخطأنا العنوان». لكن هؤلاء المثقفين الملتزمين بقضايا مجتمعهم تحملوا في رأيه وعلى رغم الفشل «مسؤولياتهم ونتائج أخطائهم». في الفيلم، لم يتوقف المخرج أمام الاحساس بآلام بطله بل صوّر المهزلة التي وضع نفسه فيها. لقد كان هذا المثقف اليساري التائه «كالمهرج» بالحال الذي وصل إليه، بيد أنه ظل يقاوم افكار أخيه المتشدد دينياً على وجه التحديد. لقد أراد نوري بو زيد أن يبيّن هنا أن تحطيم هذا المثقف اليساري هو ما سيتيح صعود المتشددين. «وهذا ما جرى حقاً»، كما شرح للجمهور: «قضوا على حركة اليسار بفضل المتشددين، فاختفى الحلم وبدأنا بعبور الصحراء». فيلم عنيف كما اعترف صاحبه ولكنها «الحقيقة بعنفها»، صعب القراءة وبعضهم شاهده مرتين «فالجمهور العربي غير معتاد على هذه النوعية».

ولكن ماذا عن بقية أفلامه الروائية الستة؟

أعمال نوري بو زيد تخض المجتمع بجرأة الفكرة وأسلوب الطرح، أبطاله رجال معتقلون جسدياً ونفسياً ونساء مضطهدات يتقن للانعتاق، إنها شخصيات معقدة تعاني لكنها تقاوم بعناد، تبحث باستمرار عن منفذ. هذا الفنان الذي يشغله الثالوث المحرم في المجتمعات العربية، سباق دوما إلى تناول ما لم يُقدم أحد قبله على طرحه سواء في أفلامه أم في السيناريوات التي كتبها لغيره. بدأ خضته الأولى في «ريح السد» فيلمه الأول الذي حصد جائزة مهرجان «قرطاج»، فيه محاسبة للماضي وتعنيف للذاكرة من خلال قصة شابين تعرضا للاعتداء الجنسي في طفولتهما. موضوع الجسد، يعود إليه في «بزنس» (92)، شاب وسيم (عبد اللطيف قشيش)، يبيع جسده للغرب، لهؤلاء السائحين القادمين منه للتمتع بشمس الشرق. بو زيد الذي قال لنا مرة في حوار «إن فيلم بزنس هو عن العلاقة مع الغرب من خلال الجسد»، كان يقصد أن الجسد هو الكيان، ولا سياسة بلا كيان. في «عرايس الطين» ( 2002) وصل نوري بو زيد إلى مرحلة ثانية في إنتاجه اقل ذاتية «اهتمام الشخصيات غير اهتماماته ولكنها تشبهه وتحمل أحاسيسه»، وهو هنا يطرح استخدام الجسد كلعبة، يبرز العنف الجسدي المطبق ليس على المرأة فقط بل على الرجل أيضاً، في طفولته بخاصة. الخادمة ريح (هند صبري) تترك منزل الخدمة بحثاً عن الحرية، فيما يبدأ عمران الذي يستقدم الخادمات من قرية تصنع نساؤها من الطين أشكالاً فخارية وعرائس هشة، بالبحث عنها، لتجنيبها ربما مصيراً تعرض له طفلاً. في «بنت فاميليا» (1997)، يركز المخرج على المرأة وعلى صراع ثلاث نساء في تونس يقررن الامساك بمصائرهن.

سياسياً جاءت النظرة على حرب الخليج في «وماذا بعد؟» (1991) الذي حققه بو زيد مع خمسة مخرجين عرب، هم: (برهان علوية وإيليا سليمان وآخرون - لم نحظ برؤيته للأسف). أما آخر أفلامه وعنوانه «آخر فيلم» (2006)، فقد فاز بالتأنيث الذهبي في «قرطاج». نحن في هذا الفيلم خلال فترة الغزو الأمريكي للعراق، والبطل بهتة شاب عاطل مهووس برقص الهيب هوب ويبحث عن المال بطرق ملتوية، ويهرب من ملاحقة الشرطة له «بكفاءة» وشجاعة لفتت أنظار متطرفين وجدوا فيه أرضاً ملائمة «للتفجير»، فيشرعون في تجنيده لتأهليه للقيام بعمليات انتحارية. يسعون لإغرائه مادياً وتطهيره معنوياً. التحولات التي تطرأ على الشخصية لم تعجب الممثل، فجأة ... يرفض هذا الانصياع لأقوال المخرج، ويعلن أنه ضد هذا الدور الذي يريد وضعه فيه، في تصوره أنه ضد الدين. هنا يتدخل بو زيد ويظهر في الفيلم وهو يحاور بطله لاقناعه بالعدول عن موقفه والعودة للتمثيل كي لا يتوقف العمل. فيلم آخر مثير للجدال والنقاش والمنع كمعظم أعمال نوري بو زيد، وعلى رغم نيله جائزة في قرطاج فقد منع عرضه في تونس وكانت الحجة حينذاك «لا متشددين في تونس».

تذكرنا بعد رؤية هذا الفيلم ما كان نوري بو زيد قاله في الندوة الافتتاحية حين سئل عن الضربة التي تلقاها على رأسه منذ فترة قريبة (بعد الثورة) من جانب أحد هؤلاء المتشددين الذي لا يغفرون «الاختلاف»، رد بو زيد أنه متفائل ولكنه خائف على بلده ويريد من الآخرين التعبير عن قناعاتهم التي تغاير قناعات المتشددين ليس فقط على الصعيد الفردي، فهذا يتم، ولكن الحزبي أيضاً، مضيفاً أنه شخصياً لا يريد ممارسة السياسة أو قيادة أحد، فتكفيه قيادة... «فريق للتصوير».

الحياة اللندنية في

15/07/2011

 

فرص اللقاء النادر بين العرب وأفريقيا

خريبكة (المغرب) - مبارك حسني 

على رغم أن المغرب انسحب من الاتحاد الأفريقي قبل سنوات طويلة، بسبب ظرف سياسي مؤسف، إلا أنه لا يزال يؤكد في كل مرة تسنح فرصة ذلك، انخراطه القاري مع عمقه الأفريقي، وهو أمر أتى ليؤكده اليوم، الدستور الجديد المتحدّث عن الرافد الأفريقي كرافد هوياتي راسخ, وهذا الأخير ليس إلا محصلة تواجد اقتصادي وثقافي قوي سابق وتاريخي.

ومهرجان السينما الأفريقية الذي يعد أقدم مهرجان مغربي لا يزال نشيطاً وفاعلاً، هو أحد تمثلات هذا التواجد والحضور. وهو مما تستفيد منه السينما الأفريقية بما أن خريبكة تشكل بؤرة ضوء عالية النبرة بعد انحسار المد السينمائي القاري الذي نشأ مع تحرر الدول الأفريقية من الاستعمار الأوروبي المتعدد قبل أكثر من خمسين سنة. فهنا ولمدة ثمانية أيام تتأمل أفريقيا صورتها الحية المنتجة، ومخيالها الرمزي المعبر عن ذاتها وهمومها وانشغالاتها من 16 تموز (يوليو) إلى 23 منه. فهذا المهرجان ليس فقط واجهة عرض أفلام بل مكان تداول أفكار ونقاش وجدال وفرصة تبادل الرأي والبحث عن حلول لمشاكل القارة ومشاكل التعريف بها وبمخاضاتها وتوتراتها وأحلامها.

وعلى سبيل المثال، قد عرفت إحدى الدورات جلسة نقاش مهمة جداً حول هيئات المصالحة والإنصاف حول سنوات القمع العنصري في جنوب أفريقيا وسنوات الرصاص في المغرب، شارك فيها مخرجون من الدولتين ومسؤولون، وكان لها أثر قوي على المدعوين الأفارقة آنذاك. وليس أفضل لمثل هذه الأمور إذاً، من مهرجان فني بعيد عن تشنجات السياسة والصراع المصلحتي. وفي دورات سابقة أخرى، تم تناول التعاون ما بين شقي القارتين، العربي شمالاً والزنجي جنوباً بحضور أبرز مخرجي مصر وتونس والجزائر والمغرب وبوركينا فاسو وكوت ديفوار وساحل العاج وبعض دول الجنوب الشرقي. ومن هنا فإن، أرواح قامات سينمائية عظيمة من طينة يوسف شاهين وعصمان صمبين لا تزال تنفث حضورها الشامخ في ردهاتها.

مدينة خريبكة تمنح هذا، هي الواقعة في امتداد جغرافي حار يذكر بامتدادات أفريقيا الجغرافية الموحية بالسفر والاستبطان في الوقت التي لا ترضى سوى بالتحرر وحرية الإبداع. بخاصة في زمن الخضات الثورية والانتفاضات الحالية. ما وقع في مصر وتونس والمغرب والجزائر وكوت ديفوار، من حراك عميق هنا وتغير ثوري هناك، والذي نقلته جميع وسائل الإعلام في دول العالم، يجعل من هذه الدورة مجال توقف للتأمل والتفكير للمضي أماماً في حفر السؤال الكبير، سؤال التحقق بعد سؤال التحرر القديم. والسينما أبرز معبر وأدقه بما أنه مباشر ويملك قوة الأثر والتأثير.

ثبات ما...

إن نظرة ملقاة على الأفلام المشاركة في الدورة الرابعة عشرة الحالية، تؤكد إلى حد ما هذا النزوع الضروري. فالملاحظ أن أفلام المسابقة الرسمية الأحد عشر تأتي من ذات الدول التي تعودت على الحضور باستمرار، وحصة الأسد فيها مخصصة لأفريقيا الشمالية. وهكذا تشارك مصر بفيلمين هما «6،7،8» لمحمد دياب و«ميكروفون» لأحمد عبد الله، وتونس بفيلم «النخيل الجريح» لعبد اللطيف بن عمار، والجزائر بفيلم «سفر إلى الجزائر» لعبد الكريم بهلول، والمغرب بفيلم «الوتر الخامس» لسلمى بركاش و«ماجد» لنسيم عباسي. أما أفريقيا جنوب الصحراء فتشارك منها بوركينا فاسو- البلد الأفريقي السينمائي بامتياز منذ عقود - بفيلمين هما «في انتظار التصويت» لميسا هيبي و«ثقل العهد» لكوللو صانو، وتشارك كوت ديفوار بشريط «الصديق المثالي» لأويل براون، ودولة مالي بفيلم «غزوة صامايانا» للمخرج سيدي دياباتي، كما تشارك الموزامبيق من أقصى الجنوب إفريقي بشريط «آخر رفة لطائر النحام» لريبيرو جاوو. وهكذا يلاحظ توزيع سينمائي يحترم السينماتوغرافيات الأفريقية المعروفة إجمالاً، على رغم غياب سينما أفريقيا غير الفرنكوفونية والذي يتكرر إلا فيما ندر، لكن ذلك خاضع لظروف علاقات وبرمجة وخصوصاً لصعوبة إيجاد العدد الكافي من الأفلام الأفريقية وبالأحرى الناطقة بكل اللغات المتداولة ومنها الإنكليزية التي تجد صعوبة في التواجد في مهرجان خريبكة.

إلا أن الأساسي هو الاحتفاء بالسينما الأفريقية، وهكذا سيتم تخصيص الدورة لندوة رئيسية مخصصة لدولة السينغال ومجهودات الدولة هناك لإنعاش السينما والقطاع السمعي البصري. السنغال التي قدمت مخرجاً كبيراً من طينة صمبين عصمان الذي تحمل الجائزة الكبرى للمهرجان اسمه تخليداً لما قدمه ككاتب متميز وكرائد للسينما الأفريقية.

الدورة أيضاً وفي المنحى نفسه قررت فتح جلسات نقاش ما بين شباب المدينة والنساء الأفريقيات تم اختيار عنوان «لقاء منتصف الليل» لها، وذلك بهدف تجسير العلاقات وتقريب الرؤى والطموحات ما بين شباب القارة الأفريقية ومبدعيها، وهو الأمر الذي لا يحصل قط، بما أن اللقاءات الثقافية غير مبرمجة إطلاقا ولا مدرجة في أجندة حكام القارة ونخبها، هذا في الوقت الذي تعرف دول أفريقيا الشمالية توافد أفارقة جنوب الصحراء إما للدراسة والعمل أو للهجرة. خريبكة ستمكن لا محالة من طرح أوجه هذه العلاقات المتعددة والملتبسة، من خلال نقاش الأفلام والسينما والإبداع.

وقد اختير للجنة تحكيم الدورة أسماء يتزعمها القاص المغربي والناقد السينمائي المعروف مصطفى المسناوي، وهي بادرة طيبة ومحمودة، فقد كان من اللازم إيلاء أقلام الإبداع والسينما القدر نفسه من الحضور الذي للمخرجين. ويجاوره في طاولة الاختيار النهائي للجوائز المخرجة والمنتجة المصرية مريان خوري قريبة يوسف شاهين، والمخرج السنغالي منصور صورا واد والممثلة نجاة الوافي من المغرب والمخرج المغربي محمد مفتكر والمخرج بالوفو نيندا من الكونغو والمنتج ديدي بوجار من فرنسا.

وكسعي الدورة الثقافي المعهود تم تخصيص صبحيات لتقديم الكتب المغربية الصادرة حول السينما والتي تعرف تزايداً ملحوظاً. وهكذا سيتم تقديم توقيع كتب النقاد بوبكر الحيحي ومحمد شويكة وعزالدين الوافي وبوشتى فرقزايد ومنشورات نوادي القبس وإيموزار وجمعية النقاد السينمائيين، من طرف نقاد معروفين.

في المحصلة من المتوقع أن تكون مدينة خريبكة التي تضم أكبر مناجم الفوسفات عالمياً موعداً للحديث الأفريقي، إبداعاً وفكراً، بعيداً من قلاقل السياسة والمثبطات من كل نوع، وإن لن تكون بعيدة، بما أن الإبداع صورة الممكن والكائن، والقارة الأفريقية في حاجة إلى تأمل ذاتها عبر ما هو ثقافي أساساً، تماماً كما سطر ذلك منظر الزنوجة العبقري الشاعر السنغالي سيدار سنغور رفقة رفيقه شاعر المارتينيك الكبير إيمي سيزير...

الحياة اللندنية في

15/07/2011

 

فيلم «جناح الهوى» أو غراميات متعلم جزار

الدار البيضاء – نور الدين محقق 

يبدو أن السينما المغربية، وهي تعود إلى رحاب الرواية المحلية حتى وإن كانت هذه الرواية قد كتبت باللغة الفرنسية، تسعى الى توسيع المتخيل الشعبي الذي تريد تقديمه إلى المشاهد، خصوصاً أن الرواية المغربية بهذه اللغة، غالباً ما ترتكز على هذا المتخيل الشعبي في بناء معالمها، ونحيل هنا إلى روايات الطاهر بن جلون وعبد الحق سرحان وأيضاً روايات محمد نيدعلي، صاحب رواية «مقاطع مختارة: غراميات متعلم جزار» التي عمل المخرج المغربي عبد الحي العراقي على تحويلها إلى فيلم سينمائي متكامل، سواء من حيث البناء الإخراجي له أو القضايا المعبّر عنها فيه، كما منح له عنواناً مختلفاً هو «جناح الهوى».

يفتح فيلم «جناح الهوى» على منزل الحاج العدل (الذي جسد دوره الممثل عبدو المسناوي)، حيث يتم التعرف إليه وعلى أسرته، ومن بينها شخصية ابنه التهامي، ذلك الولد الشقي الذي أبى أن يتابع دراسته وأن يصبح مثل أبيه عدلاً، وهي حرفة توارثتها أسرته أباً عن جد، وجعلت منها بالتالي أسرة علم وأخلاق تحظى بالاحترام والتقدير. فوظيفة العدل تجمع بين البعدين الديني والقانوني معاً. ويتسم صاحبها بالتقوى والصلاح والابتعاد عن الشبهات. لكن التهامي ثار على كل ذلك ورماه وراء ظهره، وأراد أن يعيش حياته كما تجلت له في ذهنه. حياة مليئة بالحرية والاعتداد بالذات. وهو ما جعل الخصام يحتدم بينه وبين أبيه. حتى هنا، حافظ الفيلم على الحكاية نفسها التي قدمتها رواية «مقاطع مختارة: غراميات متعلم جزار»، لكن مع الحرص على ضبط مساراتها وجعل التركيز ينصبّ على الأحداث والوقائع بدل التعابير الوصفية التي تكفلت الصورة بنقلها إلى المشاهد كما يجب. لقد تم اختيار تصوير الفيلم في دار تتميز بالكبر والعتاقة، مثلها في ذلك مثل الدار الموصوفة في الرواية. كما أن شخصية التهامي، التي وفق المخرج عبد الحي العراقي في عملية اختيار الممثل عمر لطفي لتجسيدها، فإنها قد اتسمت من خلال تشخيص هذا الممثل بكل الصفات التي جعلت منها رمزاً للشباب المنفتح الطموح والمولع بالحياة ومتعها. وهي الأمور ذاتها التي تم التركيز عليها في الرواية. هكذا امتدت حكاية الفيلم، حيث قدمت لنا الكاميرا تحديداً فعلياً يرتكز على الأحداث، ولكل الصفات التي أشرنا إليها، والتي تميزت بها شخصية التهامي، وقد تم ذلك طبعاً انطلاقاً من صورة عمر لطفي المشخص لها، بحيث تعرّف المشاهد اليها واقترب من عالمها الخاص. وهو عالم منفتح على الآخر، عالم اللقاءات اليومية مع مختلف الشرائح الاجتماعية، إذ سنجد أن التهامي سيختار من المهن، مهنة الجزارة، وهو ما دفع بأبيه لإدخاله متعلماً عند أحد الجزارين المعروفين في المدينة، ناصحاً إياه بتعلم أسرار هذه الحرفة والتفوق فيها، حتى يكون جديراً بالحياة وأهلاً لأن يعيشها معتمداً على نفسه وليس على غيره.

من الدار الى السوق

هكذا ستنتقل الكاميرا من تصوير عالم الدار إلى تصوير عالم السوق، حيث أصبح التهامي جزاراً متعلماً، وحيث تفتقت عبقريته في تقطيع اللحوم وعملية تفصيلها للزبائن كما يجب. في هذا العالم المفتوح على الآخرين، وخصوصاً على النساء، سيبدأ التهامي حياته الجديدة وهو يعيش لحظات الشباب المتوهج برفقة صديقه الشاب الآخر عمر، (وقد جسد شخصية هذا الشاب المرح الممثل المهدي فولان بكثير من التلقائية) الذي كان السبب في تعرّفه الى إحدى الغانيات (قامت بدورها الممثلة أمال عيوش) التي علمته أسرار الحب وكيفية ممارسته. في عالم السوق سيسعى التهامي إلى ملاطفة زبوناته الحسناوات، خصوصاً بعد أن انتقل إلى الدكان الذي اشتراه له أبوه وأصبح سيداً فيه... أصبح الجزار المعلم، بدل الجزار المتعلم. وهذه تعتبر نقلة نوعية في هذا النوع من الحرف. في دكان الجزارة هاته، ستتعدد شخصيات الفيلم، من بينها شخصية «مقدم الحي» التي جسدها الممثل إدريس الروخ. وفي السوق أيضاً سيتعرف الشاب الجزار على إحدى السيدات المتزوجات التي سلبته قلبه وعقله معاً. ومن هنا ينتقل الفيلم الى معالجة قصة حب خارج الأعراف، قصة حب تجمع بين شاب مليء بالحيوية وامرأة متزوجة تعاني وهي في ريعان شبابها، من عجز زوجها، وتبحث تبعاً لذلك عن الإشباع العاطفي في الحياة خارج بيت الزوجية. الفيلم حرص على نقل ما ورد في الرواية، لكن شتان بين الكلمة التي تحكي عن هذه العلاقة المحرمة وبين الصورة التي تنقلها الكاميرا إلى عين المشاهد. وهو ما جعل من المخرج يركز على نقل تداعيات هذه العلاقة كما هي، وعلى تقديمها في صورها المختلفة، تارة في البيت وتارة في رحاب حمام شعبي. ومشهد الحمام الشعبي أعاد إلى الذهن مشاهد من فيلم «عصفور السطح» للمخرج التونسي فريد بوغدير وهو ممتلئ بالنساء، كما أعاد إلى الذهن أيضاً صورة الحمام في فيلم «الليلة المقدسة» للمخرج الفرنسي نيكولاس كلوتز، وهو فيلم مأخوذ عن رواية الطاهر بن جلون الحاملة للعنوان نفسه، والتي نقلها إلى اللغة العربية الكاتب المغربي محمد الشركي تحت عنوان آخر.

في فيلم «جناح الهوى» التقى البطل بعشيقته في فضاء الحمام، لكن بطريقة إخراجية متميزة ركزت على البعد الايروتيكي في ايحائيته الرمزية، وفي كل الدلالات الإنسانية المرتبطة بذلك، لكل من شخصية التهامي وشخصية عشيقته التي جسدتها الممثلة وداد إلما بكثير من الروح الإنسانية.

زواج بالقوة

هكذا تمتد قصة الحب وهكذا يحلق التهامي على جناح الهوى، حتى بعد أن تم تزويجه رغماً عنه من فتاة اختارها له أبوه من دون أن يستشيره في الأمر، وقد جسدت دور هذه الفتاة التي تحمل اسم كلثوم، الممثلة نسرين الراضي. وكما في قصص الحب العالمية يفر العاشقان ولا يرجعان إلا بعد وفاة ألأب. ولقد قدّمت لحظة الموت هذه في مشهد جنائزي رهيب، صالح التهامي مع أهله من جديد، وفي مقدمهم أمه التي جسدت دورها الفنانة فاطمة تيحيحيت، وإن جعله يستحضر صورة الصراع القوي بينه وبين هذا الأب المتوفى حين علم هذا الأخير بقصة حبه لامرأة متزوجة والعلاقة التي أقامها معها في الحرام.

يقدم لنا المخرج عبد الحي العراقي في هذا الفيلم لحظة أخرى من محطات السينما المغربية التي سبقت عملية تدشينها بأفلام تسير في الاتجاه الفني نفسه، ذلك الاتجاه الذي يحاول الجمع بين سحر الحكاية وقوة الإخراج المقدم له، أي الاتجاه الذي سعى للتوفيق بين سينما المؤلف وبين سينما الجمهور.

الحياة اللندنية في

15/07/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)