حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

ريـــــاح الــثــــورات الــعــربــيـــة هـبّــت عـلى تــطــــوان

تطوان _ من هوفيك حبشيان

لم يسلم مهرجان تطوان الدولي لسينما بلدان البحر الأبيض المتوسط هذه السنة من بعض الاحتجاجات الخجولة التي طاولت مديره أحمد حسني على أيدي من قيل انهم "أولاد المهنة". ثلاثة أشخاص حملوا اللافتات أمام صالة "أبينيدا" طالبين من حسني الرحيل "بعد 26 سنة من توليه منصب المدير". ثمة من قال ان المحتجين فاقدو الصدقية. وآخرون أكدوا ان غضبهم ناتج من كونهم لم يتلقوا دعوة لحضور المهرجان. أياً تكن الأسباب، فرياح الثورات العربية هبّت على الدورة 17، فاستغل أهالي بعض المعتقلين السياسيين في السجون المغربية حفل الافتتاح للتجمع أمام دار العرض، والمطالبة بالافراج عن اقاربهم في أقرب أجل، والكفّ عن هدر الأموال العامة في سبيل السينما!

هذه ليست المرة الاولى يجري فيها الحديث عن "هدر الأموال العامة". الشعار نفسه احتل مانشيتات صحف محسوبة على الاسلاميين أو التيارات المحافظة سواء في الجزائر أو المغرب. جريدة "المساء" المغربية تقود منذ بعض الوقت حملة مسعورة ضد السينما ورموزها في المغرب وكل من تعتقد أنهم يمثلون "قيم الغرب". تحت حجة المطالب المحقة، تندس هذه التيارات لبلوغ أهدافها في وضع اليد على كل ما يتعلق بالثقافة والفنّ، فـ"يضيع الشنكاش" ويتسيس الاحتجاج لتصبح السينما في مرصاد من يكرهها ويعتبرها صنيعة الشيطان. النتيجة: حتى بعض المغاربة الذين كانوا يدعمون حركة "20 فبراير" الاصلاحية، باتوا أقل حماسة عندما تلقفها الاسلاميون لتوجيهها في الاتجاه الذي يناسب أجندتهم. السينما هي دائماً هدف سهل بالنسبة الى من يستخدم أساليب شعبوية للوصول.

بعيداً من هذا كله، عشرات الأفلام عُرضت في هذه التظاهرة التي تحتفي بسينما تبصر النور ضمن بقعة جغرافية محددة هي بلدان حوض المتوسط، وهذا التعريف ثقافي وسياسي وايديولوجي في المقام الأول، وليس تعريفاً جمالياً أو سينمائياً، اذ ان التجارب المنبثقة من هذه البقعة مختلفة بعضها عن البعض، اختلاف الليل عن النهار أحياناً. أفلام من تونس والجزائر وفرنسا وايطاليا ولبنان وسوريا، وطبعاً من أسبانيا، البلد الأقرب الى شمال المغرب، حيث تجري التظاهرة التي تعدّ الأبعد زمنياً في قائمة المهرجانات المغربية. طبعاً، بالاضافة الى أعمال من البلد المضيف، المغرب، علماً ان عملية انتقاء أفلام محلية ليست سهلة لأن المهرجانات كثيرة والطلب يتجاوز العرض أحياناً في بلد تقفل فيه الصالات واحدة بعد الأخرى بحيث لم تبق الا صالتان في تطوان بهندسة أندلسية بديعة.

11 فيلماً تسابقت على الجائزة الكبرى لمدينة تطوان (قيمتها 70 ألف أورو)، ستة منها عربية، والبقية من بلدان أوروبية عدة. "الناموسية" للاسباني أغوستي فيللا نال جائزة محمد الركاب (لجنة التحكيم الخاصة). حكاية أسرة اسبانية غير مستقرة. احساس راسخ بالذنب يهيمن على اعضائها. ينظر أغوستي فيللا من ثقب الباب فيكتشف عيوب المجتمع الاسباني المترجح بين المحافظة والانفلات. من هذا التناقض، يولد فيلم غني، خفيف الظلّ، وقاس، يتضمن طبقات عدة من القراءة. "المرات الأربع" لميكال أنجلو فرامارتينو (كانّ، 2010) نال جائزة عز الدين مدوّر للعمل الأول. وهو كان يستحق الجائزة الكبرى أكثر مما يستحقه "الجامع" لداوود أولاد السيد (سبق أن تناولناه في مناسبة عرضه في الدوحة) الذي ذهبت اليه الجائزة الاولى. في دردشة صغيرة مع رئيس لجنة التحكيم ايغور ميناييف قلت له لو كان المهرجان في ايطاليا، لكان فيلم فرامارتينو خرج مكللاً، ملمحاً الى ان البلد المضيف يؤثر أحياناً في لاوعي الحكّام.  

منطقة كالابري هي مسرح تسكعات راعٍ عجوز يمضي أيامه الأخيرة في البراري الواقعة في اقصى جنوب ايطاليا. يرافق المواشي في هذه الجنّة الخالية من الناس، في انتظار الموت. ذات يوم، تدق ساعته، فيتوقف قلبه في حضور ماعزه. ما يصوره فرامارتينو ليس الا الحياة بتفاصيلها الصغيرة جداً والملهمة: ولادة، موت، قطع شجرة وجعلها فحماً. نسمع الطبيعة ونتأمل الكائنات. لا خطاب بل حسية على قدر عال من الجمال.

في خانة الأفلام السيئة ضمن المسابقة الرسمية كان للجمهور التطواني موعد مع "جناح الهوى" لعبد الحي العراقي عن شاب (عمر لطفي) يختار مهنة اللحّام، بدلاً من اقتفاء أثر والده في امتهان مهنة العدل الشرعي. هذا عمل غير متماسك نصاً واخراجاً، يعتبره بعض المغاربة جريئاً. أما لقاؤنا مع أفلام عربية اشكالية فحصل من خلال السوري "دمشق مع حبي" والمصري "بنتين من مصر". صاحب الفيلم الأول، محمد عبد العزيز، الذي سبق أن أهان النقاد ولجان التحكيم بعد خروجه خاسراً من مسابقة مهرجان دبي الأخير، صوّر فتاة يهودية ومعاناتها مع حبّ ضائع. هذه محاولة اخراجية ثانية لعبد العزيز بعد "نصف ملغ نيكوتين"، وهو من الأوائل انجزوا أفلاماً روائية طويلة مستقلة خارج الاطار الحكومي، منذ توقف عجلة الانتاج الخاص في سوريا قبل 30 عاماً. أما الفيلم الثاني، فيحاول محمد أمين من خلاله مناقشة قضايا ساخنة، نسائية فكرية وعاطفية. هي قصة مجموعة نساء عوانس تومئ الى الثورات المقبلة...

في الحديث عن الثورات، ثمة فيلم آخر انجز قبل التمردات العربية المتنقلة من عاصمة الى أخرى: "الساحة" للجزائري دحمان أوزيد. العنوان وحده ملهم ويعني الكثير. بين ترك الساحة للآخرين والتمسك الرمزي بها، يصوّر أوزيد شبّاناً جزائريين ضائعين يتخبطون في وجود هامشي. الساحة ستكون ملتقى لهم ولأحلامهم وخيباتهم الكثيرة. هذا أول فيلم ميوزيكال جزائري بحسب أوزيد. أغاني راب وراي تتغلغل في سياق الحوادث، محاكية هموماً تدور في فلك البقاء والرحيل. يأخذنا اوزيد في رحلة موازية الى عالم الدسائس والفساد المنتشر في بلد مثل الجزائر، لكن بأسلوب خفيف الظلّ، لا يقع البتة في الادانة المبسطة ودرس الأخلاق.

12 فيلماً عُرضت في فئة الأفلام الوثائقية التي ترأس لجنة تحكيمها الناقد مصطفى المسناوي. بعضها أعمال "خام" تنقل الواقع بلا "روتوش" مثل "في انتظار أبو زيد" للسوري محمد علي الأتاسي الذي يرافق بطريقة محض توثيقية (مع بضع لحظات قليلة من اللجوء الى لغة سينمائية) تنقلات المفكر نصر حامد أبو زيد في محاضراته حول نقد الاسلام والفقه الديني. وبعضها الآخر أعمال على قدر عال من النضج والتفنن، كما الحال مع "جلد حيّ" للمصري فوزي صالح. هذا الفيلم الذي ينقل شهادات أطفال يعملون في إحدى أصعب المهن في العالم، انتاج المواد الجلدية في معامل مليئة بالروائح والسموم التي تتسبب بأمراض خطيرة، كان أحد اكتشافات الدورة الأخيرة من مهرجان أبو ظبي، حيث نال جائزة، وهو الآن في طريقه الى مهرجانات دولية أهمها "هوت دوكس" في تورونتو، علماً انه قوبل في مصر بالكثير من التعنت والرفض نظراً الى كونه يظهر بيئة فقيرة يعتبر بعض المصريين أن تقديمها على هذا النحو يسيء الى سمعة مصر، ما قبل حسني مبارك.

أما الفيلم الذي خطف الانتباه في فئة الوثائقي فكان المغربي "السلاحف لا تموت من الشيخوخة" لهند بنشقرون وسامي مرمر الذي صوّر ثلاثة رجال مسنين باتوا على "حافة" الموت. على رغم السنّ، يصرّ هؤلاء على العمل من دون توقف. تصوير خلاقّ ومونتاج متقن في هذا الفيلم الذي يأخذنا الى رحلة في قلب الطبيعة المغربية حيث يعيش المسنّون الثلاثة بتناغم جميل مع بيئتهم ومحيطهم.

استعاد المهرجان ايضاً في عروضه الموازية افلاماً متوسطية تجوب على التظاهرات السينمائية منذ بعض الوقت، وهذه حال "بوتيش" لفرنسوا أوزون و"فينوس سوداء" لعبد اللطيف كشاش. اما التكريمات فكانت من نصيب كل من الراحل كلود شابرول وعبد القادر لقطع وشوس كوتريس وداوود عبد السيد الذي افتتح المهرجان بآخر اعماله "رسائل البحر".

عموماً، كانت الاختيارات صائبة، لكن ظروف المشاهدة تحتاج الى اعادة نظر وعلاج جدي. فهذا مهرجان عربي آخر، ينطوي على هنات تنظيمية كثيرة. فقبل أيام قليلة من انطلاق الدورة انسحبت الشركة التي كانت تولت الشأن التنظيمي لأسباب مادية، كما كُتب في الرسالة المبعوثة الى الضيوف. بعض المدعوين لم تصلهم بطاقة الطائرة للسفر الى تطوان. ناهيك بمسائل أخرى، كبُعد الفندق عن الصالات (نحو 30 كلم)، وتغيير برنامج العروض في اللحظة الأخيرة وعرض أفلام من دون ترجمة وأخطاء رهيبة في الكاتالوغ. أما الصالات التي لا يرتادها الا حفنة من المهتمين، فيدخلها أي كان سواء لتعكير صفاء المشاهدة أو لازعاج الحضور بدقات الخليوي والتكلم بصوت عال  

عباس كيارستمي في دبي

اختار "مهرجان الخليج السينمائي" خمسة وأربعين سينمائياً من منطقة الشرق الأوسط والعالم ليوفر لهم فرصة الافادة من خبرة المخرج الايراني عباس كيارستمي، من خلال حضور الدورة الاختصاصية التي تقام تحت إشرافه في الطبعة المقبلة (14 ـــ 20 الجاري) من التظاهرة السينمائية المهداة الى الأفلام المصنوعة في منطقة الخليج العربي. السينمائيون المختارون هم من مختلف أنحاء منطقة الخليج والعراق واليمن ومصر وإيران والمشرق العربي وأوروبا والولايات المتحدة الأميركية والهند وبنغلادش، ممن أرسلوا سيرهم الذاتية وبياناتهم الشخصية ونماذج من أعمالهم. تشتمل القائمة المختارة على عشرين سينمائياً من دولة الإمارات العربية المتحدة، وستة من السعودية، وأربعة من العراق، وأربعة من البحرين، وثلاثة من الكويت، واثنين من سلطنة عمان وواحد من إيران، علماً ان في اللائحة عشر سينمائيات. 25 من هؤلاء السينمائيين يشاركون بأفلامهم في مختلف مسابقات "مهرجان الخليج". وسيحرص كيارستمي على توفير التدريب العملي والتوجيه للسينمائيين في ما يخص جميع مراحل صناعة الفيلم ومساعدة المشاركين على تطوير أفكار أفلامهم وحبكاتها، كما سيشرف عليهم في موقع التصوير في منطقة البستكية (دبي)، مراجعاً النسخ المبدئية لأفلامهم ومقدماً نصائحه لهم حول مرحلة ما بعد الإنتاج. وسيتولى مخرج "طعم الكرز" بعد ذلك، المراجعة النهائية للأفلام التي تراوح مدة كل واحد منها بين دقيقة وخمس دقائق، حيث سيعطي ملاحظاته حول عمل كل مشارك. وسيقدم المخرج لقطات منتقاة من أفلامه ويناقشها مع المشاركين، ما سيوفر لهم رؤى معينة حول أسلوبه الفني وعالمه الخاص. 

نقد

"كارلوس" لأوليفييه أساياس في الصالات المحلية

كأس الويسكي والماركسية تجتمعان تحت سقف واحد، فلتعش الثورة !

مع "كارلوس" يغدو أوليفييه أساياس أمير الواقعية الحديث. يشقلب كثيراً من المعطيات كنا نسلّم بها. لكن ليست الواقعية على نسق بول غرينغراس: هزّ الكاميرا وحصول على ارتجاجات وتوتر عال لا يهمه. هذا المخرج الذي يُعتبر آخر العنقود في سلسلة السينمائيين الذين ولدوا بين صفحات "دفاتر السينما"، يهوى الروك، وسينماه مشبعة بها. هذه الروك تخاطب عنده غي دوبور وتستلهم من الباحث الفرنسي نظريته عن عالم الاستعراض. أساياس ينتشل كارلوس من الصحافة الصفراء التي رافقت مسيرته الى رحابة شاشة بالسينماسكوب. يسأل كيف من الممكن اعادة الانسانية الى ثائر تعامل معه الاعلام باعتباره ايقونة في عملية خطف رهائن منظمة "أوبيك" في فيينا.

فيلم أساياس عن أيليتش راميريز سانشيز الملقّب بـ"كارلوس"، متمرد على آلية الانتاج. من هذا التمرد استقى مخرج "الأقدار العاطفية" سينما كبيرة تواكب عشرين سنة من الجيوسياسة، يعبرها سؤال كبير: كيف يصبح المُشاهد، "الحليف الصامت" للشخصية غير المرغوب فيها؟ في أي لحظة يتعاطف معها ومتى يسحب دعمه عنها؟ انها تأملات تتجاوز حدود الشخصية الجدلية التي يهتم الشريط بسيرتها.

من سيرة كارلوس الارهابي (ادغار راميريز)، يخرج المرء باستنتاجات تتخطى منطق الصحّ والخطأ، الخير والشرّ، الادانة والسماح. لا يعمل أساياس وفق هذا النهج الاتهامي او التبريئي. سينماه أكبر من أن يبتلعها التسييس وأصغر من أن تحمل مؤامرة خسيسة. أساياس يصوّر سيرة كارلوس كتراجيديا اغريقية. كل العناصر التي تتيح له الانتقال من العمل التوثيقي الى الرومنطيقي، حاضرة هنا، في سيرة الثائر الفنزويلي، حدّ انه لا حاجة لاختراع أي جديد، اذ يكفي الغوص في أعماق تجربته الثرية. انه ضحية التحولات والتاريخ الذي يأكله لحماً ويرميه عظاماً، ما ان يسقط الستار الحديد ولا يعود العالم في حاجة الى وسيط بين المعسكرين.

في بؤرة أساياس الضحلة، لا نرى ثائراً أو ارهابياً، بل تمثالاً اغريقياً. كارلوس كما يصوّره أساياس، نوع من جو داسان. محارب أنيق للرأسمالية لا يهمل مظهره الخارجي ويتبع حمية عند الحاجة خشية أن يصبح سحره على المحك. يبدأ حياته مناضلاً في جيش اليسار المتطرف و"ينهيها" وهو يعلّم تي جاي لورنس في مدرسة سودانية، وبين المرحلتين، يجسد بورتريهاً لجيل كامل من المناضلين كانوا في البداية يعيشون "لـ" مبادئهم ثم صاروا يعيشون "من خلال" مبادئهم. من هذين المنطقين في توظيف المبدأ، يولد فيلم أساياس البديع.

بمشهد واحد يتحول كارلوس قاتلاً. وبآخر يتحول مرتزقاً في خدمة الأنظمة الشمولية والمخابرات. لا تلزم أكثر من لقطة بانورامية، كي نذهب الى بودابست بعد أن نكون في بيروت. بهذه السرعة تمشي الأمور في الفيلم، وبالوتيرة عينها تتوالى الحوادث والتواريخ متجاوزة أحياناً القدرة على استيعاب هذا الكمّ من المعلومات. يتخد نصّ "كارلوس" من مطارات العواصم الأوروبية ومحطات القطار جزءاً من ديكور برّاق، للتهريب والدسّ والمؤامرة. في زمن كانت الطرق سالكة وآمنة أمام الارهاب المتنقل في حقيبة من نقطة ساخنة الى أخرى، وأكثرها سخونة: الشرق الأوسط. نحن في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته. الروك والشعر الطويل وأجواء الفسق وارث تشي غيفارا النضالي ضد الشعوب المظلومة. التدخين لم يكن ممنوعاً بعد في الأماكن العامة، والسياسة تناقش في لهيب الأفكار المتسللة من أواخر الستينات للحرب الباردة. فلسطين واليسار والمارد السوفياتي والجيش الأحمر الياباني: سَلطة سوداء من القضايا المتشابكة والمتداخلة. ما دامت كأس الويسكي والماركسية تجتمعان تحت سقف واحد، فلتعش الثورة! العالم غابة، وسيساهم كارلوس في جعله غابة مفتوحة بلا حدود.

هذا متن ضروري لفهم ما يجري، لكن الفيلم سيحرص على طرده ليقتفي أثر كارلوس في نصّ سينمائي هو أولاً وأخيراً سيرته وسيرة عالم من خلاله. عبر عيني ايليتش نتابع خصوصية حقبة بأكملها. هاتان العينان هما اللتان ستقوداننا. فقبضة كارلوس الحديد لا تقلل من سحر ابتسامته. ذكاء أساياس انه سيصور العين والمخرز بالعطف نفسه. الفيلم هو قصة هذه الابتسامة أيضاً، كما يؤكد المخرج. في حين أن أفلاماً كثيرة تتبني وجهة نظر الساسة أو الشرطة في قصّ سيرة ارهابي أو قاتل بالتسلسل، يعتمد نصّ أساياس على مقتطفات الصحف والشهادات لاعطاء الارهابي حقّ الكلمة، في مبادرة لتوسيع بقعة الخطاب حول الارهاب ودمقرطته. الرواية الرسمية مقابل رواية شخص لا يعتبره أساياس في أي لحظة من اللحظات مسخاً جارحاً، فيحاول قدر المستطاع اقتحام المناطق الغامضة في سيرته والاضاءة على أمكنته الأخرى بحسّ تفاعلي بالغ الدقة.

كارلوس ليس ضحية في فيلم أساياس. واذا كان لا بد من أن يكون ضحية لمنظومة ما، فهو ليس ضحية سينما انما ضحية شعار. مهما يكن، فالنصّ لا يراهن على كاريزماتيته ليكون. ولعل المشهد الذي يخرج فيه على طوره، أمام الشرطيين المجريين، يدخلنا في المنطقة الرمادية من شخصيته، أي في مخّ شخصية ملّت انتظار المجد. والمجد هي الكلمة التي تخرج من فمه في بداية الفيلم، في ما يمكن اعتباره زلة لسان تفضح ما سيبحث عنه طوال حياته.

في درب العنف سيجد كارلوس خلاصه وهلاكه في آن واحد. طوال عشرين سنة، سيكون له ما يلزمه من وقت، لكي ينتقل من رجل فكر الى فكرة رجل، معارضاً حيناً ومتجاوباً أحياناً ومستلقياً في معظم الأحيان على الرياح التي ستهب من الجوانب كافة وعلى الأمواج المتلاطمة في وجه ايديولوجيات اليسار. وطوال الساعات الخمس التي ستستغرق رحلته مع المشاهد (النسخة التي تعرضها الصالات البيروتية مختصرة بنحو نصف المدة) سيكون لنا متسع من الوقت لكي نراقب شكوكه المزمنة وتنازلاته ووقوعه الى القعر. لا يصوّره أساياس كبطل يخرج من جبّ الأرض ليلتهم السماء، بل يريه في عريه الآدمي من دون ورقة تين. يرافقه في حميميته وهو يتباهى برجولته وينظر الى قضيبه غير المنتصب في مرآة.

من دون أي لجوء الى الزيف (لا صورة منقحة، ولا مؤثرات بصرية، ولا مبالغات في اخراج مشاهد الأكشن)، ومتعاطياً مع الشخصيات، يقف دائماً على حدود الكاريكاتور. تتعقبه كاميرا المخرج من مدينة الى أخرى، في شيء أشبه بالتيليسكوباج، بلقطات تقتصد في الاستعراضية، حاصرة الحدث في حده الادنى، شأن التمثيل الممحو خلف عفوية يصنعها الممثلون بأنفسهم، ملتقطة اللحظة بين اختزالين مونتاجيين بديعين. مقابل المشاهد المتوترة والحيوية، هناك لقطات طويلة غير مقطعة تمنح الزمن حقه في الانوجاد. يعرف أساياس جيداً كيف يلعب لعبته بين مدّ وجزر، ويقدم عملاً تأليفياً خالصاً. ما يهمّ أساياس هو الانتقال المباشر بين ما هو متناهٍ في الصغر وما هو متناهٍ في الكبر، والعكس، مستوحياً بنية فيلمه من تجربة كارلوس نفسه: "مسبّع كارات" لن يجد في ختام جولته الأممية سقفاً يؤويه!

يزداد الفيلم عذوبة قلما اقترب من نهايته. الألوان تنضج وتصبح أكثر شهامة، والاضاءة التي اعتدناها متغيرة ومتجانسة طوال مدة الفيلم وفق روحية كل حقبة، تأخذ هنا شكلها النهائي، الأقرب الى ما نعرفه ونلمسه في راهننا. في غضون ذلك، يكون كارلوس قد تحوّل حطام سفينة. انحطاطه هو أيضاً انحطاط عصر (وخيبة مخرج كان مراهقاً في أيار 68) يسلّمه الى جنود الرأسمالية مقابل حفنة من الدولارات. تسليم وتسلّم، هذا هو منطق العصر الخائن الذي عرف كيف يُخرج الثورة على طورها.

(•) يُعرض بنسخته السينمائية (146 دقيقة) في "غراند ــ أ ب ث، كونكورد، لاس ساليناس".

هـ. ح.  

Cut

•  بدأ منذ اسبوع في بيروت عرض "رجال وآلهة" للفرنسي كزافييه بوفوا، وهو أحد أهم افلام 2010، تناولناه مراراً في هذه الصفحة منذ عرضه في مهرجان كانّ حتى وصوله الى مهرجان السينما الأوروبية. أفلمة بديعة لقصة الرهبان الفرنسيين السبعة الذين قتلتهم الجماعة الاسلامية في الجزائر عام 1996، علماً ان بعض المصادر تقول ان الجيش الجزائري تورّط في قتلهم. يصوّر بوفوا ("الملازم الصغير"، 2004) الأيام القليلة التي تسبق انزلاقهم في فوهة الموت.  فيلم يعبق برائحة الصمت والصلاة والموت والكادرات الفوردية الساحرة.  في مشهد "بحيرة البجع"، الذي يكرره الفيلم مرتين، تخرج الى العلن الشخصيات الحقيقية للرهبان، فنرى تشبث بعضهم وخشية بعضم الآخر، لكن ما يجمعهم هو انعدام الخيارات والشكوك المزمنة التي ينتزعها الفيلم منهم. عمل أساسي حول الايمان ينبغي مشاهدته.

•  ينطلق اليوم في سلسلة "أمبير" الشريط الملحمي الجديد لبيتر وير: "طريق العودة". ينجز المخرج الاوسترالي هنا سينما لم تعد "على الموضة" كثيراً: سينما المغامرات الكبرى والاراضي الشاسعة وابطال التاريخ الظالم. انها قصة مجموعة معتقلين يهربون من سيبيريا حيث معسكرات ستالين ويعبرون نحو سبعة الآف كيلومتر بحثاً عن الحرية. بعضهم يتمكن من العبور وبعضهم الآخر سيكون ضحية ظروف المناخ القاسية والجوع والعطش. يضعنا بيتر وير أمام فيلم انساني قليل الاحكام وبلا كليشيهات تسود النوع، مقتبس من رواية معروفة لسلافومير رافيتش.

كنا شاهدناه أخيراً في فيلم جوليان شنايبل "ميرال" ولا أحد كان يعلم ان هذا سيكون لقاءنا الأخير به. سقط الاثنين الماضي الممثل والمخرج جوليانو مير خميس (1958) غدراً، بعدما أطلق عليه النار شخص ملثم بالقرب من المسرح الذي أسسه في مخيم جنين. المخرج الذي كان يقول عن نفسه إنه "يهودي مئة في المئة وفلسطيني مئة في المئة"، التقى الموت في أبشع وجه له، مقيت وخسيس وناكر للجميل. كان خميس ابن المناضل الفلسطيني صليبا خميس ومناضلة يهودية معروفة، لعب في عدد من أفلام عموس غيتاي قبل أن ينجز عام 2004 وثائقي "أولاد أرنا" الذي نال استحساناً دولياً، وتناول فيه حكاية والدته المناصرة للقضية الفلسطينية. اضطلع أيضاً بدور في "ملح هذا البحر" لآن ماري جاسر. المعلومات الأولية الصادرة عن السلطة الفلسطينية تشير الى تورط "حماس". أياً تكن الأيادي الحاقدة خلف هذه الجريمة، يبقى خميس نموذجاً للفنان الملتزم الذي وقع بين السندان الفلسطيني والمطرقة الاسرائيلية.

النهار اللبنانية في

07/04/2011

 

"البلدان الاصلية" كوابيس اللاجئين في "غير شرعي"

محمد موسى

مع فيلم "غير شرعي" للمخرج البلجيكي اوليفر ماسيت- دبيسيه، والذي يعرض حاليا في صالات أوربية منتخبة، يمكن القول ان مجموعة الأفلام الأوربية التي تتعرض لموضوعة اللاجئين في أوربا، وعرضت في السنوات العشر الأخيرة، قد غطت الكثير من الرحلات الفعلية والنفسية لأبطالها من المهاجرين لأسباب سياسية واقتصادية، قاصدين بطرق غير شرعية دول أوربية مختلفة. حتى أن قصص الأفلام والتي أنتجت في دول وأزمان مختلفة تبدو كأنها قطعت مسارا يشبه ذلك يقطعه معظم الهاربين من حروب او أنظمة متسلطة للوصول الى أوربا، وبنهايات مفجعة، كالتي تنتظر بعض اللاجئين.ففيلم مثل "في هذا العالم" (2002) للانكليزي مايكل وينتربوتوم، يذهب إلى الأوطان الأصلية، ويصور بدايات رحلة الهروب، ويرافق طفلين أفغانيين من مخيم اللاجئين في باكستان في رحلة برية شاسعة إلى بريطانيا. في حين يبقى فيلمي "مرحبا" (2009) للفرنسي فيليب ليوريه و "مورغين" (2010) للروماني ماريان كريسان مع رحلة الهرب ذاتها، في قسمها الأوربي هذه المرة، ومحاولات لاجئين من العراق وتركيا للوصول الى الدول التي خططها لها، لأسباب عائلية للكردي التركي في فيلم "مورغين" (الالتحاق بولده في ألمانيا) وأخرى عاطفية للعراقي الكردي الشاب في فيلم "مرحبا" (البحث عن فتاته الكردية التي تعيش في لندن).أما فيلم "غير شرعي" فيمكن وصفه بانه عن خاتمة تلك الرحلة لمجموعة من اللاجئين ، والذين ترفض البلدان الأوربية استقبالهم، ليجبروا على العودة الى بلدانهم التي قدموا منها.

وعلى خلاف الأفلام المذكورة السابقة بأبطالها الرجال، تذهب بطولة فيلم "غير شرعي" إلى شخصية نسائية قادمة بعيدا عن الشرق الأوسط. لكن الشرقيون والمسلمون لن يغيبوا أبدا عن الفيلم البلجيكي، هم كومبارس اغلب المشاهد العامة، في سجن الترحيل مثلا، ينتظرون بألبستهم التقليدية ولهجاتهم الشرقية في صفوف لاستعمال الهاتف العام هناك. يصلون الجماعة في غرفة صغيرة في السجن. وهم الفقراء، زملاء بطلة الفيلم، في أعمال التنظيف في العاصمة البلجيكية بروكسل، المدينة التي كانت تعيش فيها بشكل غير قانوني، وقبل إلقاء القبض عليها.

ومختلفة أيضا عن الأفلام السابقة، تتجه الدراما في فيلم "غير شرعي" لتكون صراعا طويلا بين البطلة، وبشكل اقل اللاجئين الآخرين في الفيلم، ضد النظام القضائي للدول الأوربية والاتحاد الأوربي. فلا مواجهات أو تقاطعات حقيقية بين أبطال فيلم "غير شرعي" وأوربيين عاديين، كتلك التي حفل بها فيلمي "الغد" الروماني و"مرحبا" الفرنسي. فالكابوس المهيمن على شخصيات الفيلم الأخير، هي مجموعة القوانين الأوربية المتشددة والذكية لتحديد حركة اللاجئين ، ومنعهم من طلب اللجوء في بلد أوربي إذا ما رفض طلبهم في بلد أوربي آخر، فالبطلة وقبل أن تصل إلى سجن مدينة بروكسل، كانت قد مرت بدول أوربية متعددة، رفضت قبول طلب لجوئها، وهو الذي يفسر المشهد الافتتاحي القاسي في الفيلم، عندما تقوم البطلة بحرق أصابعها بمكواة حارة، من أجل تشويه "بصمات" الأصابع، لتصعب أمر اكتشاف سجلها القضائي في دول سابقة.

لكن البطلة القادمة من روسيا البيضاء، والتي تشبه ملامحها الأوربيين تقع في قبضة الشرطة أخيرا، وتقضي معظم وقت الفيلم في السجن المخصص للمهاجرين الغير شرعيين والذين ينتظرون قرار إرجاعهم إلى دولهم الأصلية. في السجن نتعرف أيضا على قصص أخرى يمر بها الفيلم بعجالة، منها قصة السيدة الأرجنتينية التي تطاردها كوابيس الدكتاتور الأخير لبلادها. والصومالية والتي لم يحتاج الفيلم لتفسير وجودها هناك..!

تشبث الفيلم بالمعالجة الإنسانية لموضوعة اللاجئين ، وعدم البحث في جدية وشرعية القوانين التي أصدرتها دول أوربية ديمقراطية لتحديد أعداد القادمين لأسباب سياسية أو اقتصادية إليها. الأمر الذي أحال السياق الدرامي المتين إلى ما يشبه الوثيقة الدعائية أحيانا، تشبه تلك التي تصدرها أحزاب الخضر واليسار الأوربية. فالفيلم يهاجم بشدة البوليس البلجيكي، والشرطية الوحيدة التي تملك بعض التعاطف مع السجينات، تترك عملها بمشهد مبالغ في عاطفيته، بعد حادث انتحار إحدى اللاجئات. كذلك يقدم الفيلم مشاهد تعذيب، تقترفها الشرطة هناك ضد اللاجئين ، والتي تقترب من أساليب الدول التي هرب منها معظم شخصيات الفيلم.

يرتكز الفيلم كثيرا على الأداء القوي للممثلة آنيا كوسينس والتي لعبت دور "زينا"، معلمة اللغة الفرنسية في روسيا البيضاء، والهاربة مع ابنها، لأسباب غير واضحة من بلدها. فرغم أن عالم المرأة والأم ينهار بقسوة معذبة مبكرا كثيرا في الفيلم، إلا أن الأداء المقتصد والعميق للممثلة يمنح العديد من مشاهد الفيلم، قوة غير متوقعة، رغم القنوط التي يغلفها، خاصة في مشاهد الاتصالات الهاتفية التي كانت تجريها الأم مع الابن خارج السجن، وانكشاف عجزها عن حماية الابن مما ينتظره في مدينة يعيش هو الآخر بصورة غير شرعية فيها. أو تلك التي تراقب فيه البطلة ما يجري حولها في السجن، وما تتضمنه من مشاعر تتأرجح بين اليأس وعدم التصديق والحزن الكبير.

الجزيرة الوثائقية في

07/04/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)