حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

كريستوف كاراباش يبحث عن أسلوب ويتعرض للتحقيق أينما حلّ بكاميراه

أفلامي لا تحضّ على الإنفعال بل على الاستفزاز!

هوفيك حبشيان

كريستوف كاراباش مخرج لبناني شاب يخوض منذ نحو عشر سنين غمار الفيلم التجريبي. يعمل في الظلّ، بلا استعرائية، بحشمة جميلة بعيداً من الأضواء. تعلّم المهنة في فرنسا حيث يعيش ويشتغل في مجال الصورة ويمارس سينيفيليته. عام 2006، ألهمته حرب تموز، فحمل الكاميرا وتصدى للعدوان على طريقته الخاصة جداً، فكان "منطقة حدودية"، واحداً من هذه الأفلام التي يصعب تصنيفها. ثم كان "كل شيء على ما يرام"، الذي اشعل صالة "متروبوليس" في "مهرجان الفيلم اللبناني" بسبب لقطة الافتتاحية حيث نرى فتاة تستمني بالكلاشنيكوف وما ستليه من مشاهد جنسية يميل اليها هذا المخرج الثلاثيني. اعماله مصوّرة بروحية الاختبار وبتوظيف موازنة ضئيلة جداً وأحياناً غير موجودة. من فقر الامكانات تستمد أفلامه شرعيتها وجماليتها. شريطه "وادي خالد"، الذي يشغلنا هنا، يعدّ خطوة للالتفات الى التجارب الراديكالية، انه وثائقي صوّر فيه كاراباش سكان تلك المنطقة الواقعة بين لبنان وسوريا. بعيداً من الانماط التقليدية في التقاط الواقع، صوّر شاعرية المكان مع رغبة دائمة في ازعاج المشاهد لكن من دون استدرار العواطف.

اكتشاف

·         تسعى الى الإستفزاز في أفلامك. قلت لي إنك كنت سعيداً عندما غضب جانب من الجمهور خلال مشاهدته "كل شيء على ما يرام" في بيروت، لتضمّنه بعض الانفلات الجنسي...

- سررت للمجازفة التي أخذتها ادارة مهرجان الفيلم اللبناني في قرارها عرض "كل شيء على ما يرام". حتى مهرجانات غربية تتصل بي أحياناً لتقول انه لا يمكنها إمرار فيلم كهذا، على رغم انه يلفّ حالياً تظاهرات كثيرة. رد الفعل كان جيداً. من أصل 200 مشاهد، لمستُ انزعاجاً في الجوّ: تدافع من هنا، اعتراض من هناك. لكنني سررت، حتى عندما سمعتُ علامات الشجب ترتسم على وجوه بعضهم. مشهد الفتاة التي تمارس الاستمناء بالكلاشنيكوف احدث فضيحة صغيرة. أفلامي لا يمكن اقتطاعها لأنه لا يعود لها معنى. سبق أن نزل عليَّ سيف الرقابة قبل ثلاث سنوات، ولم يكن مشهداً يتضمن الجنس بل التعذيب، ضمن صيغة سوريالية، جسدت فيه ثنائية الجلاد ــ الضحية.

الجمهور اللبناني ليس منفتحاً على تجربة مشاهدة من هذا النوع. عندي نوعان من السلوك حيال رد فعل المشاهدين: إما لا اذهب الى العرض، وإما أجلس في المقاعد الأمامية كي لا ارى ما يحصل في الخلف. لا تهمّني الانفعالات. لكن تحديداً لهذا الفيلم، وكونه يُعرض في بيروت، كنت اريد أن ارصد طبيعة التلقي، لأن هذا عمل غير مقبول بالأعراف اللبنانية. حتى الذين جاؤوا يكلمونني عن الفيلم في نهاية العرض، بدا عليهم انهم لم يعتادوا شراسة جسدية مماثلة في فيلم سينمائي. اعتدنا ان نرى الجانب الايجابي في العلاقة الجنسية، بينما انا كنت اريد أن اري حالة الكبت في علاقة الثنائي.

·         ما هي خلفيتك الاجتماعية؟ ما هو تأهيلك الدراسي؟ كيف تعلمت صنع الأفلام؟ لا نعرف عنك شيئاً...

- عشت 21 سنة من أصل 31 في لبنان. دخلتُ لأدرس في الألبا (معهد الفنون الجميلة)، لكن لم أكن اريد الانوجاد في جو لبناني فرنكوفوني، ولو اني ذهبت لاحقاً الى فرنسا للدراسة، لكن كنت افضل أن اذهب الى الأصل، خشية وقوعي في أزمة هوية، وانطلاقاً من فكرة انه من المستحسن ان يقصد المرء الله لطلب خدمة من ان يقصد قديسيه (ضحك). هناك، تعلمتُ الجانب النظري في جامعة تابعة للدولة، أما العملي فتوليت هذا الجانب بنفسي. وشاءت المصادفة أن يكون جان روش أحد أساتذتي. واذا انتبهتَ، فهناك لمسة روش في "وادي خالد"، تتجلى من خلال التعليق الصوتي، وهو مقتبس ايضاً من فيلم للويس بونويل انجز عام 1932. لم أقلّده لكني استوحيت منه، لا سيما في ما يخص المونتاج. منذ السنة الاولى لانضمامي الى الجامعة، صرت انجز الأفلام. لم أنتظر التخرج والشهادات. كنت في حاجة الى التعبير.

روش علّمنا أن أفضل الأفلام هي أفلام الهواة، وليس من الضروري البتة الانضمام الى صفوف الـ"فيميس" أو الـ"يو سي أل أي"... يكفي ان تنزل الى الشارع وعلى كتفك كاميرا. أن تبدأ بتصوير خصوصياتك؛ هذا أمر بالغ الأهمية. هذه المدرسة أثّرت فيَّ كثيراً. هناك ايديولوجيات كثيرة، لكن أنا فلسفتي كانت انه يمكنك فعل شيء مهم بكاميرا صغيرة. ثم التحقت بجامعة السوربون، وعلى اثر حصولي على منحة ذهبت الى الولايات المتحدة ودرست في جامعة أيوا الواقعة بالقرب من شيكاغو.

اشتريت كاميرا سوبر 8 في المزاد العلني، وهي معي منذ ذلك الحين، أي منذ نحو عشر سنين. وصرت ابتاع شريطاً خاماً، اصوّر، واحمّضه في حمّام بيتي. كل ثلاث دقائق تصوير تكلف 15 أورو. عندما يكون في حوزتي بعض المال لصناعة الفيلم، ألجأ الى الـسوبر 8، والا اعود الى الفيديو، الذي يكلفني أقلّ. أحياناً استعين بالـ16 ملم. في "وادي خالد" استعنتُ بشريط عفا عليه الزمن ولم يعد صالحاً للتصوير. هذا الشريط القديم غير الصالح كان يتناسب تماماً مع المكان الذي كنت اريد تصويره، وهو مرتبط بزمن عتيق. هذا كله جعل الفيلم يبدو كأنه انجز في الخمسينات، وهو في الحقيقة صوِّر قبل سنتين.

·         وعية الشريط المنتهية مدة صلاحيته تتماشى على اي حال مع فكرة تصوير الواقع البائس الذي يعيشه هؤلاء في وادي خالد. وجوه وحيوات محبطة ووحشة المكان البعيد عن كل أثر للحداثة...

- اذا انتبهت، فأنا أردت أن اضع الانسان في مرتبة الحيوان. ترى في الفيلم كلباً ميتاً يليه طفل. يتعاقب واحد خلف الآخر، رأس بقرة وطفل يأكل بطيخة. هذا النسيج البصري الذي فيه الكثير من النقاط ساعدني في تشكيل عالمي. الألوان تميل الى الزهر لأن الألوان الحقيقية تعرضت للتشويه. بالاضافة الى انني أجريت عملية التحميض في مشغل للسينما التجريبية التابع لجمعية "اتنا" التي انضممت الى عضويتها. انه مشغل من 150 متراً مربعاً فيه كل معدات السينما والفيديو والمونتاج، وهناك حتى معدات المونتاج القديم، من قص ولصق. لدينا مختبر صغير للتحميض، لذلك لم يأخذ الفيلم الصفة الاحترافية، وهذا ما منحه هوية ما، واردت الحفاظ عليها لأنها تعكس حياتهم القاسية والوحشية. فثمة من يعيش في وادي خالد على الطريق.

·         هل تعتقد أن للحالة الشخصية المأسوية التي عشتها في الطفولة علاقة ما بتمردك على كل شي؟

- جئت من بيئة لا تخلو من المعاناة، لا سيما اني تربيت في سنوات الحرب الأهلية. أنا من عائلة متفككة ومتشنجة. وهذا طبعاً نصيبي من الحياة. كنت في عداء دائم مع البيت العائلي والمحيط الذي من حولي. كنت ولداً منعزلاً ومفترساً. من هنا تأتي عندي ربما رغبتي في أن أثور على المجتمع. لم أعرف والديّ، كونهما قُتلا خلال الحرب في حادث مفجع. كنت برفقتهما عندما انفجرت سيارة مفخخة رمتني في الجوّ ولم اكن ابلغ الا سنة واحدة من العمر.

احمل على جسدي الجروج جراء اصابتي بالشظايا. لم ينجُ والداي من الحادثة. أما أنا فبقيت على قيد الحياة. هذه الحرب أثّرت فيّ جسدياً وعقلياً. فكان أن ربّتني جدتي، مع كل ما يرافق تلك التربية من تفاوت في كيفية النظر الى الحياة وصراع الأجيال. عمتي كانت امرأة هستيرية واستوحيت منها العديد من شخصيات أفلامي. تربّيت في جوّ "عييط وصريخ وتكسير" بين جدتي وعمتي. كانت روحي ثورية، ولم يكن لي اصدقاء كثر من عمري. كنت ألعب وحدي. لا اعرف لماذا أدخل فيَّ هذا كله حب الصورة المتحركة. لكنني وجدتُ نفسي في السينما...

·         اذاً، نستطيع أن نقول انك جئت من عالم المشاهدة.

- في تلك المرحلة لم أكن سينيفيلاً بعد. كانت مشاهداتي تقتصر على أفلام أرنولد شوارزينيغر وجاكي شان وبروس لي. ولا تتفاجأ اذا قلت لك إنني كنت اميل الى السينما الايروتيكية مذ بلغت التاسعة. أفلام من نوع "ايمانويل". لا اتكلم عن البورنو بل الايروسية. كان هدفنا أن نرى بعض الجنس. حصلت على نسخة فيديو من هذا النوع من الافلام بالخطأ. ثم، في عمر العاشرة، صرت اذهب الى محل بيع الفيديو، فأغرمت بالفتاة التي كانت تعمل هناك، والتي كانت تكبرني بنحو 15 عاماً. فربطتني بها علاقة غريبة، فصارت تعطيني ما أريد.

كنت أحب الأفلام، لكن لم اكن مقدراً للأفلام الكلاسيكية الخالدة. الحرب ساهمت في ثقافتي السينمائية، وكنت اهرع الى الجلوس أمام الشاشة، ما ان تأتي الكهرباء. اعتدت على هذا الشيء. ثم بدأت في الكتابة. عندما ذهبت الى فرنسا لم أكن اعرف حتى تاريخ السينما. كان هدفي السينما، لكن تنقصني الثقافة. اخترتُ التجريب مدخلاً الى الاخراج، لأنه لا يحتاج الى امكانات كبيرة. يكفي أن يكون هناك كاميرا في تصرفك من نوع الـ"بوليكس" (16 ملم) التي كان يستعملها جوناس ميكاس في الستينات، أيام سينما الأندرغراوند. كاميرا مثل هذه يمكنك أن تشتريها بثلاثمئة دولار، علماً ان شريط الـ16 الخام تبلغ تكلفة الدقائق الثلاث نحواً من اربعين أورو.

في البداية، كانت افلامي لا تتخطى الدقائق العشر، والآن وصلت الى الأربعين دقيقة. لكن، انتبه: لا اريد أن اصنّف سينمائياً تجريبياً. بدأت في التجريبي وانتقلت الى الوثائقي، والآن الروائي. ادائي تجريبي، لكن العمل بذاته يمكنه أن يفلت من هذا التصنيف. طبعاً، لا يمكنك اعتباري تقليدياً. ارفض التقليدية رفضاً قاطعاً. لا أحب الأفلام الفولكلورية التي تتضمن بطاقات بريدية. السينما الشكلية والاستيتيكية كذلك. هذا التيار الذي يبحث عن الجماليات من أجل الجماليات موجود في كل مكان، ليس فقط في لبنان. اريد أن يشعر المشاهد بانزعاج. لا تهمّني الصورة الحلوة. صار هناك "فورماتاج" في كيفية انجاز الفيلم في لبنان، وهذا ما دفعني ربما الى الدراسة في الخارج، اذا يُفرض عليك هنا أن تحكي قصة متسلسلة ومترابطة لها بداية ونهاية.

·         أغرب من الفيلم ذاته، رغبتك في تصوير فيلم عن وادي خالد...

- كانت رغبتي الانطلاق من المفهوم التالي: اقتراح ما لا نرغب في رؤيته. وهذا ما اردت فعله ايضاً في "بيروت كاميكاز". عندما ترى هذا الفيلم لا بد أن تسألني: من أين جئت بهؤلاء؟ خذ مثلاً، المشهد في نهر بيروت. حصل ذلك بمحض المصادفة: كنت احاول أن انجز حركة ترافيلينغ طويلة من دون قطع، وفجأة اجد أمامي خروفاً مذبوحاً ومرمياً وسط النهر الناشف! فاستعملت ذلك الخروف لأنهي به اللقطة. ما ان امسك الكاميرا حتى تجتاحني الرغبة في عدم تصوير الأشياء النظيفة. الكاميرا هي التي تأخذني الى هذا المعسكر...

في حرب تموز 2006، صوّرت بيروت كثيراً. نتج من هذا "منطقة حدودية"، واعتقد ان هذا من أهم ما أنجزته الى الآن. منطقة وادي خالد كانت تجذبني لأنه كان يقال الكثير عنها، من مثل انها مكان منعزل لا يعرف سكانه ما اذا كانوا من السوريين أم اللبنانيين. لم أكن اريد إنجاز شيء تقليدي، من خلال جعلهم يجلسون قبالة الكاميرا ومحادثتهم. فكنت اركب باص الدولة واذهب الى طرابلس ومن هناك استقل سيارة أجرة تأخذني الى وادي خالد. كنت وحدي مع الكاميرا! يمكن اعتبار الفيلم بلا موازنة. الجمعية ساعدتني لشراء الشريط المنتهية مدته. لكن، ليست أفلامي كلها هكذا. في "كل شيء على ما يرام"، كان لديَّ فريق عمل.

·         كيف تعامل معك اهالي وادي خالد؟ التقاط مشاهد لفيلم وثائقي في لبنان يزداد صعوبة يوماً بعد يوم تحت ذرائع أمنية مختلفة...

- كان هناك رفض في البداية من جانب أهالي وادي خالد. كانوا يبتعدون عندما يرون الكاميرا تقتحم منطقتهم. اما في بيروت فغالباً ما يُطرح عليَّ السؤال التقليدي: من أي محطة تلفزيونية أنت؟ هذا ناهيك بالتوقيفات التي اتعرض لها، كوني ادخل احياناً الى اماكن محظورة. تعرضت للكثير عندما كنت اصوّر "منطقة حدودية"، لأن الوضع كان لا يزال متشنجاً بعد حرب تموز 2006. كان وجود الكاميرا غير محبذ، إن في الضاحية الجنوبية أو في المناطق التي طالها القصف الاسرائيلي. فكانوا يأتون ليحققوا معي. في إحدى المرات، أوقفت لمدة ثلاث ساعات على ذمة التحقيق على أيدي عناصر "حزب الله". أفهم هذا الشيء، كون الوضع كان متشنجاً، لكن ما لا افهمه، هو ما تعرضت له هذا الصيف حين كنت اصوّر "بيروت كاميكاز": خلال تصويري في مرأب للجرافات، وصل الدرك وأجرى معي تحقيقاً مطولاً. الناس في لبنان يخافون من وجود كاميرا، ربما بسبب الفوبيا من تسلل جواسيس أو ما شابه ذلك. وانا من جانبي، أحب المجازفة، وإن لم أفعل فسيكون الفيلم فاشلاً. المجازفة عندي لا تقتصر على الدخول الى الأماكن الصعبة. حتى في الروائي، هناك مجال للمجازفة. الفيلم الذي بلا مجازفة هو فيلم ركيك.

·         هل تستطيع أن تشرح كيف تعمل؟ تقول ان طريقتك تقوم على الاقتصاد وعدم التبذير...

- نعم، من أجل انجاز "وادي خالد" الذي بلغت مدته خمس عشرة دقيقة، لم اصور الا عشرين دقيقة. اجد نفسي في هذه المدرسة. كوني تعلمت على الشريط السينمائي الخام، هذا علّمني عدم التبذير. اليوم، ونحن في العصر الرقمي، غالباً ما نسمع طلاب الجامعات يتباهون بأنهم صوروا 300 ساعة من أجل فيلم قصير مدته عشر دقائق. أنا آتي من مدرسة أخرى، مدرسة الشريط العالي التكلفة، الذي يفرض عليك أن تنتبه لكيفية استخدام كل ثانية. هذا يدفعني ايضاً الى عدم تكرار المشاهد التمثيلية. اعيد مرة أو اثنتين حداً اقصى، هذا اذا كانت هناك غلطة تقنية بارزة. دائماً أفضل عفوية اللقطة الاولى ولا أمرّن الممثلين.

·         كيف تقدم "بيروت كاميكاز"؟

- الفيلم يعكس الحالة اللبنانية من خلال دخولي الى العالم السفلي. لهذا كان يتم توقيفي دائماً. انا اصلاً، اقصد الاستفزاز. حتى المخيمات الفلسطينية دخلت اليها. الفيلم عن ضاحيتي بيروت الشمالية والجنوبية. يلاحق تسكع صبي في الضواحي. انه وثائقي لكن فيه القليل من الروائي ويتضمن ايضاً صورا ارشيفية من 2005 الى 2010، على خلفية ما حدث عقب اغتيال الحريري. انه فيلم متفكك على خطى كريس ماركر.

·         أين ترى نفسك في المستقبل القريب؟

- اذا اخذنا في الاعتبار افلامي الاولى المتواضعة، فهذه سنتي العاشرة في العمل السينمائي. أبحث عن اسلوب، وربما اذا وجدته اتوقف عن العمل. من فيلم الى آخر، أجد نفسي تغيرت، كما كان يحصل مع فاسبيندر أو غودار الذي لا أحب كل ما أنجزه. صار لي طريق ما، وإن لم ابحث عنها بكامل وعيي. بين "كل شيء على ما يرام" و"وادي خالد"، هناك أشياء متباعدة ونقاط جامعة. هناك القسوة التي تجمع الاثنين. أجد نفسي مثلاً اليوم راغباً في تقريب الجنس من السياسة وهو ما يتبدى جلياً في "منطقة حدودية". هناك الكثير من الكبت الجنسي في الحياة السياسية اللبنانية. افلامي لا تحضّ على الانفعال بل على الاستفزاز.

(hauvick.habechian@annahar.com.lb

مهرجان

عن الدورة الـ 12 لمهرجان الفيلم الوطني في المغرب

عيوش يُقحم إسرائيل وأولاد السيد يصوّر استعارة عن النفاق الديني

طنجة ...
تغيّر الملصق وتجدد. في طبعته الثانية عشرة (21 – 29 الجاري)، تخلى المركز السينمائي المغربي عن الملصقات التي كان مرّ عليها الدهر، الموزعة على جدران كل دورة جديدة من دورات المهرجان الوطني للفيلم، لمصلحة ملصق يأتي الى المهرجان بروح شبابية حرة وألوان مفعمة بالحياة. أشكال وكتل تتشابك وتلتقي ويدور بعضها على البعض لتكون مجسماً عصرياً. انه ملصق "يقول الاحتفاء والديناميكية والبناء"، على ما يكتب الناقد محمد باكريم بحماسة كبيرة ضمن زاويته اليومية في نشرة المهرجان. اللافت أن الأبجدية الأمازيغية المضافة الى الأبجديتين العربية واللاتينية اللتين كُتبت بهما عبارة "المهرجان الوطني للفيلم" على هذا الـ"باتشورك" اللذيذ، أحدثت نقلة نوعية كبيرة من شأنها اعادة الاعتبار الى من يشعرون بأن هذه اللغة قد هُمِّشت. مقابل هذا، ثمة في المهرجان شريط فيديو عن ملصقات الدورات الماضية يمر قبل عرض الأفلام على المشاهدين في صالة "روكسي"، يظهر كيفية تحوّل الملصق عبر التاريخ الفتي لهذا المهرجان الذي بدأ بعروض قليلة، متنقلاً من مدينة الى أخرى، قبل أن يستقر في عاصمة الشمال المغربي.

تغيّر الملصق اذاً، أما الأفلام ونوعياتها، فهذا نقاش صعب يفضي الى أنه ليس من تمرد حاصل داخل السينما المغربية، سواء على نفسها أو على غيرها، من خلال ما نتلمسه في هذه الدورة. ذلك لأن المأزق الجمالي والتقني والسردي لا يزال من دون علاج. الكمّ يصنع الكيف، تدريجاً ووفق منطق التراكم والتجريب. هذه هي السياسة غير المعلنة للمركز السينمائي الذي يضع في خدمة الفنّ السابع نحواً من ستة ملايين أورو، لكن هذه السياسة لم تثمر في هذه الدورة أعمالاً يمكن أن تمثل المغرب في مهرجانات دولية مهمة، وترفع من درجة الاهتمام بها. في هذا السياق يقال ان الأفلام الواعدة لم تكن جاهزة بعد. أمام كلام من هذا النوع، لا يملك الآتي من بعيد الا أن يصبر وينتظر ماذا يخفي فعلاً المستقبل القريب للسينما المغربية.

تسعة عشر فيلماً، هي ما استطاع المركز السينمائي المغربي تجميعه لهذه الدورة. لهذا السبب تمت اضافة يوم آخر الى الأيام الأصلية للمهرجان. بالنسبة الى المغاربة، هذا حدث على قدر من الأهمية يضع صنّاع السينما المغربية أمام إنتاجهم على مرّ الأشهر الاثني عشر الماضية. انها فيترينة لما أُنتج من افلام طويلة وقصيرة في المغرب على مدار عام من الزمن، أكثر من كونه مهرجاناً يقوم على مبدأ الخيارات وطرح الاتجاهات. مهرجان الفيلم الوطني ليس له أي موقف معلن من أي فيلم مغربي يُعرض في المهرجان، بل ينظر اليها بالتساوي، كالأب الذي يرعى أولاده. لذا، من المنطقي والحال هذه أن تكون للمشاهد محطات يومية مع اعمال هابطة وغير مكتملة تنم عن نظرة غير ناضجة الى السينما. بعض الأفلام تفتقر الى ابسط قواعد التصوير والاضاءة والمونتاج وهندسة الصوت. وبعضها الآخر مشكلته في صميم الفكرة أو الرؤية. 19 فيلماً، فيها الجيد والسيئ والأقل سوءاً، على الاقل ما عرض في الأيام القليلة الاولى، في انتظار ما يقال عنه انه قد يشكل "أمل" المهرجان: "النهاية" لهشام لعسري، مقتبساً في باكورته الروائية الطويلة، قصة حبّ تدور حوادثه في الدار البيضاء أواخر تسعينات القرن الماضي.

ولأن الحاضر يستمد شرعيته من الماضي وحضوره الحيوي في الأذهان، فقد ارتأت الادارة أن تلتفت الى ثلاثة ممن صنعوا السينما المغربية: العربي بناني، المخرج الذي بدأ حياته المهنية قبل خمسين عاماً مع "من أجل لقمة عيش"، وقدّم بين عامي 1960 و1968 أكثر من تسعة أفلام قصيرة، الى جانب بضعة أفلام طويلة. التكريم الآخر خصه المهرجان للممثل (مسرح، سينما) ومصمم الأزياء الطنجاوي العربي اليعقوبي، الذي نتذكر مشاركته في فيلمين كبيرين غير مغربيين هما "لورنس العرب" لديفيد لين و"التجربة الأخيرة للمسيح" لمارتن سكورسيزي، بالاضافة الى اضطلاعه بأدوار مهمة في ادارة سينمائيين مثل عبد الرحمن التازي والجيلالي فرحاتي. الرجل، الذي يعاني العجز بسبب طعنه في السنّ، من أعلام مدينة طنجة المتوسطية. أما اللفتة الثالثة فوجِّهت في ليلة الافتتاح (يوم الجمعة الفائت) الى الممثلة فاطمة هراندي (الملقبة بـ"راوية") التي في سجلها عشرات الأفلام، منها "السفر الى مكة" لإسماعيل فروخي و"كازانيغرا" لنور الدين لخماري، واطلالتها الصغيرة أخيراً في "رجال وآلهة" لكزافييه بوفوا.

تتألف لجنة تحكيم هذه الدورة من أحمد الغزالي (رئيس الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري في المغرب) ودنيز أوديل (منتجة بريطانية) وماما كيتا (مخرج غيني) وديما الجندي (موزعة ومخرجة لبنانية) وماري بيار مارسيا (منتجة فرنسية) والمختار آيت عمر (ناقد سينمائي مغربي) وباربل موخ (منتجة ألمانية). لن تكون مهمة هؤلاء سهلة، لأنه ليس هناك، حتى لحظة كتابة هذه السطور، أفلام يمكن المراهنة عليها فعلاً. أفضل ما عُرض هو "الجامع" لداوود أولاد السيد. يعود المخرج الى موقع تصوير فيلمه الأخير "في انتظار بازوليني"، ليكتشف أن الجامع الذي كان بناه كديكور لتصوير هذا الفيلم، لم يُهدَم بعد نزولاً عند رغبة سكان القرية في عدم المس بقدسية المكان! لكن الجامع لم يُبنَ الا خدمة لأغراض الفيلم على ارض يملكها موحا، رجل بسيط يعتاش من الزراعة على تلك الارض التي سُلبتها منه زمرة منافقين يخلطون خلطاً عجيباً بين الحقيقة وتجسيدها. استعارة ذكية تأخذ بُعداً سياسياً كاملاً متكاملاً على شرط أن نسقط ما يعاني منه موحا بمغزاه ورمزيته على ما يعاني منه العالم العربي والاسلامي من تشويه للواقع والزج به في الخرافات والتخلف والشعوذة وتحويل الايمان ارتزاقاً.

بعد عرضه في مهرجان الرباط لفيلم المؤلف، ها ان أمير الكيتش المغربي عبدالله المصباحي يشارك في المهرجان مع "اعجوبة" جديدة: "القدس باب المغاربة". كارثة بصرية جديدة يقول عنها أحد النقاد ممازحاً: "على رغم كل شيء، يبقى هذا أفضل أفلامه". يدّعي الفيلم انه يبرز الدور الذي لعبه المغاربة للدفاع عن القدس، منذ عهد صلاح الدين الأيوبي الذي وهبهم "حي المغاربة" في القدس في جوار المسجد الاقصى لأن هؤلاء كانوا من جنوده الذين ساعدوه في تحرير المدينة.

من الأفلام التي في حاجة الى اعادة توليفة صريحة وجذرية: "العربي" لأدريس المريني المستوحى من سيرة لاعب كرة القدم (الاسطوري، بحسب الفيلم) الحاج العربي بنمبارك. بأسلوب تلفزيوني بليد يصور المريني وبعشوائية بنيوية قل نظيرها، الحوادث التي افضت الى وقوع هذا الرياضي في النسيان، معتبراً اياه إلهاً حيّاً، منحنياً امامه إجلالاً واحتراماً، ولم يكن ينقص الا ان يضع حول رأسه أكليلاً من الورد. لا خطيئة ولا عيب عند بنمبارك، بحسب الفيلم. تمجيد وتبجيل للاعب ستبقى مزاياه التقنية والانسانية غامضة حتى اللحظة الأخيرة في فيض من نيات انشائية بائسة تبهدل العربي بنمبارك أكثر مما تعيد الاعتبار اليه والى فنه.

في دورة غابت عنها الى حدّ كبير المواضيع السجالية، جاء فيلم نبيل عيوش "أرضي" كطلقة رصاص في سماء صافية. فلسطين، المخيمات، شعب مسلوب أرضه وعدوّ ينعم بكل ثرواتها، الاحتلال والنزوح، الوطن بين جيلين وثلاثة، هذا كله يقاربه عيوش في فيلم وثائقي يفضح ركاكة مهمة في كيفية النظر الى نزاع مستمر منذ أكثر من 60 عاماً. انه نظرة سياحية الى قضية خطيرة يقحم عيوش نفسه فيها من دون أن يدرك تماماً ما يقوله. يبدأ بفيلم يتفبرك أمامنا، لكن سرعان ما يتحول إنتاجاً مدوزناً يعرف الى اين يريد الوصول فيه بأفكاره: مرافعة هادئة عن فلسطين بلا إيديولوجيا وبكائيات. فواحد من الأشياء العجيبة مثلاً هو اختيار مجموعة اسرائيليين لا يملكون (على ما يبدو) تلفازاً في البيت، وتالياً أدنى فكرة عما أحدثه الاحتلال من مآسٍ عند الطرف الآخر. أمام هذا الواقع الملطف والممكيج، يأخذ عيوش ما صوّره في المخيمات اللبنانية ويذهب بها الى مراهقين من أولاد المحتلين، ليريهم الـ"راشز" (مادة مصورة خام)، فهذا تسقط دمعة من عينه وذاك يتأثر لكن يصر على أنه لا يريد للاجئين أن يعودوا الى قريته. بين ذئب اسرائيلي وخروف فلسطيني ينسج عيوش فيلماً يكرر خطاباً انسانياً انتقائياً، يصل أحياناً الى حدود السذاجة، والأسوأ تستره خلف حجاب الموضوعية التي تُعتبر مقبرة الفيلم الوثائقي. من الواضح أن أزقة الدار البيضاء كانت أكثر إلهاماً لعيوش من البساتين والكروم في حيفا!

هـ. ح.   

ردّ

ردّ على ردّ من جود سعيد حول مقالة مهرجان وهران

جاءنا من المخرج جود سعيد الردّ الآتي على ردّ ثلاثة من اعضاء لجنة تحكيم مسابقة الأفلام في مهرجان وهران، الذي نُشر الخميس الماضي في هذه الصفحة.

"أودّ من خلال جريدتكم الموقرة أن أنشر تعليقي البسيط على ما جاء فيها من كلام "عصبيّ" ساقه ثلاثة من اعضاء لجنة تحكيم مسابقة الافلام الطويلة في مهرجان وهران للفيلم العربي في نسخته الأخيرة في معرض ردّهم - غضبهم على مقال السيد حبشيان حول المهرجان المذكور. ببساطة، ذكر السادة الثلاثة أنّهم ناقشوا فيلمي "مرّة أخرى" وقاموا بتنحيته منذ البداية، وهذا حقّهم على كل حال، ولكن قولهم ينطوي على نصف الحقيقة. فالسادة الثلاثة، نسوا أو تناسوا أني وبتاريخ 21 كانون الأول وبعد عرض فيلمي وجهت رسالة (موثّقة) الى رئيس المهرجان تعلمه بانسحابي بتهذيب شديد وذلك احتجاجاً على تصرف رئيس لجنة التحكيم [رشيد بو جدرة] بالخروج من الفيلم بعد أقلّ من دقائق ثمان على بدئه، وهو الشيء الذي ذكره السيد حبشيان. تبعاً لذلك، لا يحق للجنة التحكيم أصلاً أن تناقش فيلماً انسحب من المسابقة وخاصة إذا كان المهرجان لا يشترط على المشاركين قبلاً عدم الانسحاب (عند ملء استمارة المشاركة). إن كان الأعضاء الثلاثة على علم بهذا وقالوا ما قالوه في ردّهم فتلك مصيبة، أمّا إن لم يكونوا على علم، وهم يعلمون، فتلك مصيبة أكبر. بالنسبة الى مهاترات من قال ماذا ومن اتصل بمن، فلن أدخل في هذا وأترفع عنه لأن "مرّة أخرى" حقّق لنفسه ما يستحق. وأودّ أن أختم بالتوّجه اليهم بالقول: سادتي، لا تقاس الأفلام في مهرجانات السينما بالفوز والخسارة، لا رابح أو خاسر لأنّه لا قواعد للتباري موضوعة هنا سلفاً، هذا موجود في مباريات كرة القدم التي تثير الحروب بين الشعوب "المتحضّرة"، فإن كنتم تنتمون الى ثقافة كهذه، فبئس السينما التي تتكلمون عنها".

النهار اللبنانية في

27/01/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)