حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

وفد من المخرجين الإيرانيين طالب بإطلاق سراح جعفر بناهي

حين تتسلّل السينما إلى باطن الأشياء

نديم جرجورة 

مرّة أخرى، أجد نفسي عاجزاً عن كتابة مهنية صرفة. عن تعليق نقدي يطال هذا الفيلم أو تلك المسألة. عن نقاش أردته دائماً منطلقاً لمزيد من التواصل والمعرفة. الحالة اللبنانية الراهنة مثيرة للشفقة. أكاد أقول للقرف أيضاً. للألم الذي يمزّق كل شيء، أمام هذا الجنون المستفحل في تشويه معنى اللجوء إلى الشارع، إذ يُفترض باللجوء إلى الشارع أن يكون من أجل حقّ ضائع، لا من أجل زعامة ضيّقة، أو تسلّط خانق. الكتابة، في هذه اللحظة بالذات، مصابة بعاهة. العاهة واضحة: هناك عجز كبير عن إدراك سرّ ذهاب الغالبية الساحقة من اللبنانيين، أبعد فأبعد، إلى قلب الجحيم. والذهاب، هذا، مرتبطٌ بمصلحة زعيم شارع أو أمير زقاق.

مرّة أخرى، أجد نفسي متورّطاً في الخروج من النصّ السينمائي، على الرغم من امتلاء المشهد المحلي بحراك سينمائي لا يُمكن للمرء أن يُقارنه بأي حراك لبناني آخر. في الأيام الثلاثة السابقة، تزامن عرض ثلاثة أفلام للمخرج السينمائي الإيراني جعفر بناهي في صالة سينما «متروبوليس» في «أمبير صوفيل» (الأشرفية)، والتحرّكات الميدانية لأناس قيل إنهم غاضبون. والتزامن، إذ بدا تأكيداً على التناقض الصارخ في اللحظة اللبنانية الآنيّة، أُريد له أن يحقّق شيئاً من توازن مفقود، داخل الجنون الحاصل في الأزقّة والساحات المرتهنة لسياسة إفقار الناس وتجويعهم والقبض على حقوقهم. والناس الفقراء والجياع مصرّون على حماية زعيم شارع أو أمير زقاق، على حساب مصالحهم الإنسانية.

عن الصالة

لا بأس. الكتابة النقدية أفضل تعبير عن انفضاضي عن هذا الوجع الكبير، من دون تناسيه كلّياً. الدخول إلى صالة سينمائية محاولة إضافية لفهم أحوال العالم. لفهم كيفية مواجهة بلادة الحياة بحيوية الشاشة الكبيرة. صالة سينما «متروبوليس» مستمرّة، وبعض الصالات المحلية القليلة الأخرى، في جعل المشهد اللبناني أرأف وأفضل. مشاهدة أفلام جعفر بناهي مثلاً تحريضٌ على متعة العين والقلب معاً. في اليوم الأول، رافق مشاهدون عديدون (خمسة وتسعون مشاهداً) رحلة ابنة الأعوام السبعة في دهاليز الحياة اليومية، بحثاً عن مال مفقود. «البالون الأبيض» خلاصٌ لها من ورطة التوهان. في اليوم الأول هذا، لم يخترق صدى الشارع اللبناني جدران الصالة. ذلك أن جدران الصالة حالت دون امتداد الحماقة اللبنانية في التعاطي مع أحوال بلد وناسه إلى جمال الشاشة الكبيرة. إلى براعة اللغة السينمائية المتواضعة في إعادة تشكيل الدنيا، وفقاً للواقع وجماله. أو وفقاً لحساسية الفنان في ارتباطه بهذا الواقع ورونقه. أو الواقع وحقيقته. أو الواقع ومآسيه وأوجاعه. في اليوم الثاني، استمرّ مشاهدون عديدون في سبر أغوار العالَم السينمائي لجعفر بناهي. تابعوا حكاية الموت والسرقة في «ذهب قرمزي». الشارع اللبناني مؤثّر (واحد وأربعون مشاهداً فقط). هذه المرّة، ظنّ المهتمّون بالسينما أنهم قادرون، دائماً، على مقارعة الوحش. نجحوا أحياناً. لكن الوحش قويّ. الصالة مفتوحة للاختلاف. مفتوحة لقول رأي، وللتعبير عن غضب. لكن القول والتعبير مغايران، كلّياً، عمّا حدث في الشارع. في اليوم الثالث، اختير للاحتفال ببناهي واحد من أفلامه البديعة: «تسلّل». هذا تعبير مستخدم في رياضة كرة القدم. هنا تسلّل من نوع آخر. حكاية أناس يحتالون على الممنوع لتحقيق رغبة. الرغبة حقّ طبيعي لهم. لكن الممنوع قوي. والحيلة أقوى. الفتاة المتنكّرة بزيّ صبي أرادت مشاهدة مباراة في كرة القدم. الممنوع واضح: لا يحقّ لها الاختلاط بالرجال في أماكن عامة. التنكّر بزيّ يتيح لها دخول الملعب، محاولة للتحايل على الممنوع. ليست المسألة مرتبطة بنجاحها أو فشلها. المسألة أبعد من ذلك. أكاد أقول إن «تسلّل» ترجمة سينمائية بديعة لمعنى الحيلة في الفن السابع نفسه. لمغزى السينما في جعل الصوَر انعكاساً للتحايل على الذات والآخر. على الحياة والموت. على الممنوع والمسموح. على التناقضات اليومية كلّها.

ثلاثة أفلام عُرضت في صالة سينما «متروبوليس» لمخرج إيراني يُنفِّذ حكماً بالسجن ستة أعوام، حالياً. التهمة: اشتغاله على فيلم سينمائي. هذا اتّهام مُعلَن. الجميع يُدرك أن التهمة الحقيقية كامنةٌ في التزام جعفر بناهي سياسة المعارضة الإيرانية ضد الرئيس محمود أحمدي نجاد. ثلاثة أفلام مستلّة من سيرة مخرج سينمائي حُكِم عليه بالصمت المطبق لعشرين عاماً أيضاً. الممنوع، هنا، أقوى من الحيلة. فالمخرج الإيراني ممنوع من كتابة الأفلام وإخراجها. ممنوع من التحدّث مع وسائل إعلامية محلية وأجنبية. عشرون عاماً عمرٌ بحدّ ذاته. هذا أشبه بالإعدام. الحيلة صعبة. كيف يُمكن للسينما، في حالة كهذه، أن تحتال على الممنوع؟ أن تحتال على نصّ قاتل كهذا؟ أن تتحرّر من حكم قاس، من أجل قول وتعبير مختلفين؟ لكن، هل يرضخ جعفر بناهي لهذا الحكم؟ غالب الظنّ أن لديه قدرة إبداعية على اختراع حيلة جديدة.

تحرّكات

التحرّك السينمائي الإيراني منصبٌّ في مصلحته. الزميلة ندى الأزهري كتبت (الصحيفة اليومية العربية «الحياة»، 21 كانون الثاني الجاري) أن وفداً من المخرجين السينمائيين الإيرانيين، أمثال رخشان بني اعتماد وكمال تبريزي ورضا مير كريمي وآخرين، طالب بالإفراج عنه، وعن زميله محمد رسولوف. طالب بالوصول إلى حلّ للقضية «بالوسائل الودّية». أضافت الزميلة ان «جمعية المخرجين الإيرانيين» وجّهت رسالة إلى رئيس السلطة القضائية طالبت فيها بالإفراج عنهما: «لهما ماض لامع، ومساهمة في الأمجاد التي لحقت بالثقافة والفن والسينما في إيران». مكتب الرئيس الإيراني أعلن أن نجاد «غير مقتنع» بالحكم القضائي. مدير المكتب أسفنديار رحيم مشائي قال إن حكومة بلده تعارض عقوبة السجن وحظر العمل الذي أصدره القضاء بحقّ صاحب «البالون الأبيض». قال أيضاً: «لا نوافق على عدم تمكّن جعفر بناهي من العمل لفترة طويلة». تُرى، هل ينقض الرئيس الإيراني حكماً صدر عن «المحكمة الثورية»؟

هذا كلّه حسن. سينمائيون إيرانيون آخرون، مقيمون في المنافي الأوروبية، وجّهوا رسائل إلى المسؤولين الإيرانيين. تحرّكوا من أجل زميل لهم. أو بالأحرى من أجل منطق متكامل، مفاده أن الإبداع حقّ طبيعي للجميع. ان الإبداع متحرّر من أي سلطة. أو يُفترض به أن يكون هكذا. ان الإبداع أقوى وأجمل وأفعل. المطالبة الجماعية بالإفراج عن جعفر بناهي مرتكزة، أيضاً، على ضرورة حماية الإبداع والمبدعين من تسلّط سياسي أو أمني أو قضائي. في ظلّ هذا الحراك الإيراني، شاهد لبنانيون عديدون ثلاثة أفلام جميلة لبناهي. تفاعلوا معها. انفض بعضهم عنها ربما. لكنهم جميعهم شاهدوها. أي أولئك الذين جاءوا الصالة من أجلها. أصرّوا، على الرغم من التحرّكات الميدانية في الشارع، على المشاهدة. أرادوا التعبير عن حقّهم في فعل ما يرونه الأنسب لهم. السينما حاضرة فيهم. موجودة في انفعالهم وثقافتهم. إنها دعوتهم الخفرة إلى الخروج من نفق السياسة اللبنانية ومتاهاتها.  

كلاكيت

انظر وراءك بغضب

نديم جرجورة

بات للغضب يومٌ في مدن عربية عدّة، يستدعي الاحتفاء به. والاحتفاء به ضرورة ملحّة. واجبٌ أخلاقي وإنساني. إنه الخلاص. الغضب، وليس اليوم أو الاحتفاء به. لكنه خلاص متناقض التأثير والحراك بين هذه البقعة الجغرافية العربية وتلك. العالم العربي شاسعٌ. التشابه فيه واضحٌ: فقر وبطالة وأنظمة استبداد وتجهيل ومؤسّسات ظلامية ضاغطة. الغضب انفعال مبرَّر. ترجمته الميدانية تشي بخطّه. في تونس، أفضى الغضب إلى إطاحة نظام متكامل، أو جزء أساسي من هذا النظام. في مصر، لا تزال الترجمة الميدانية للغضب في بداياتها. لكنها تشي بأن تنامياً ما للغضب قابلٌ للتحوّل إلى مشروع وطني منبثق من مناهضة النظام القائم. النتيجة الخاصّة بالغضب المصري مجهولة. الإطاحة بالنظام الحاكم هناك دونها عقبات جمّة. في تونس، العقبات حاضرة قبل «ثورة الياسمين». العقبات مستمرّة بعد «ثورة الياسمين». لكن اختبار الشارع انعكاس للغليان الحاصل. انعكاس للغضب المعتمل في نفوس ملايين الناس ضد أنظمة قامعة، تعمل على إفقار الناس وتجويعهم وتهميش حضورهم الفردي والجماعي.

أما لبنان، فهو أجمل صورة للحالات المغايرة لمنطق التاريخ والثقافة. للحالات المعاكسة لمجرى التاريخ وحيوية الثقافة، أو المقاوِمة فعل التغيير. في لبنان، ردود الفعل طاغية. لا يُدرك اللبنانيون فعلاً، إلاّ بأمر زعيم شارع أو أمير زقاق. والفعل، هنا، سعيٌ إلى تحقيق منفعة هذا الزعيم أو ذاك الأمير. الغضب اللبناني مثير للشفقة. مثير للألم والقلق. النزول إلى الشارع مطلب أخلاقي، إذا أُريد له أن يكون انتصاراً لحقّ جماعي في عيش حرّ وكريم، انتصاراً لحقّ جماعي في مأكل ومشرب ومنزل وعمل يليق بالكرامات الفردية للناس. النزول إلى الشارع في لبنان دفاعٌ عن زعامات. هذا فسادٌ آخر، لأنه أصاب عقلاً ووعياً ومعرفة. لأنه أصاب الحساسية الإنسانية إزاء الحقوق المشروعة، محوّلاً إياها إلى غضب من أجل زعامة ملتبسة. لأنه غيّب الانتماء إلى الجغرافيا الواحدة، من أجل جغرافيات لبنانية مفتوحة للخارج، وليس عليه.

يوم الغضب التونسي أدّى إلى انبثاق فجر جديد، يُفترض به أن يُحصَّن ضد أنماط القرصنة المختلفة. يوم الغضب المصري دعوة إلى صنع فجر جديد. يُفترض به أن يُحصَّن ضد أشكال التلف المتنوّعة. إيراد يوم الغضب اللبناني في لائحة عربية كهذه مسيء للغضَبَين التونسي والمصري. الاختلاف صادم. التناقض صارخ. هناك أناس يشتعلون غضباً من أجل تغيير نظام ورجال. وهنا أناس يُشعلون الأرض والأمكنة بغضب مفتعل من أجل الإبقاء على نظام ورجال. هناك أناس ذاهبون إلى فم التنين لمقارعة حضوره وجنونه، ولتحطيم تماثيله. وهنا أناس يذهبون إلى التنين لتأبيد حضوره وجنونه وتماثيله. الوحش هناك مسحوق. أو شبه مسحوق. الوحش هنا يقتات من أجساد أناس يظنّون أنهم أنصاره، ولا ينتبهون إلى أنهم غذاؤه اليومي.

عذراً منكم أيها الغاضبون في تونس ومصر. فالغضب اللبناني شوّه بعض حراككم وحيويتكم الجميلَين.  

«مهرجان أفلام حقوق الإنسان»:

أفلام وموسيقى وصُور ومحاضرات

لا تهدأ صالة سينما «متروبوليس» في «أمبير صوفيل» (الأشرفية). النشاط السينمائي فيها مستمرّ في تأكيد الاختلاف البصري. أمس الأربعاء، انتهت التظاهرة الخاصّة بأفلام المخرجَين الإيرانيين عباس كياروستامي وجعفر بناهي. مساء اليوم، يبدأ «مهرجان أفلام حقوق الإنسان» في تقديم مجموعة من الأفلام القصيرة والطويلة، المتعلّقة كلّها بحقوق الإنسان. في تقديم «سلسلة عروض سينمائية يتمّ التركيز فيها على انتهاكات حقوق الإنسان، التي لها علاقة مع حقوق المرأة، حقوق اللاجئين والعمّال الأجانب والتعصّب، وحقوق المعتقلين والاختفاء القسري»، كما جاء في مقدّمة البرنامج الممتد لغاية الأحد المقبل، في الثلاثين من كانون الثاني الجاري (يومياً، بدءاً من الساعة السادسة مساء. الدخول مجاني). أضافت المقدِّمة الموقَّعة باسم «الفسحة المتعدّدة الوسائط لحقوق الإنسان» أن فكرة المهرجان جاءت «كفرصة لإعطاء منبر لمختلف المنظّمات غير الحكومية التي تعمل في مجال حقوق الإنسان، وصنّاع السينما المستقلّة الذين يعملون في المجال نفسه، لإظهار انتهاكات حقوق الإنسان في لبنان، من خلال الكاميرا». وركّزت المقدّمة على أن المهرجان المذكور يلعب «دوراً قوياً في تحويل القضايا الحسّاسة، مثل انتهاكات حقوق الإنسان، إلى أداة ثقافية لعامة الناس». ذلك أن الهدف كامنٌ في «الوصول إلى جمهور كبير، وفتح مجال للنقاش حول حقوق الإنسان في لبنان».

يمتدّ المهرجان على أربعة أيام متتالية، ويتضمّن، بالإضافة إلى العروض اليومية، معرضين اثنين للصوَر الفوتوغرافية، الأول بعنوان «خلف الأبواب» لداليا خميسي، والثاني بعنوان «ما بعد اللحظة»، وهو نتاج ورش عمل جماعية أُقيمت في بيروت وبعلبك وطرابلس وصيدا وصور. هناك أيضاً محاضرات ولقاءات مفتوحة: «حقوق المرأة (الثامنة والثلث مساء اليوم)، بمشاركة زويا روحانا ومنى عفيش. حقوق اللاجئين (الثامنة مساء غد الجمعة)، بمشاركة وديع الأسمر ونزار صاغية ونينيت كيلّي. الخادمات الأجنبيات في لبنان (الثامنة والربع مساء السبت)، بمشاركة راي جرديني ونديم حوري وبطرس حرب. حقوق المحتجزين في لبنان (الثامنة و35 دقيقة مساء الأحد)، بمشاركة وديع الأسمر وعمر نشابة. إلى أمسيتين موسيقيتين، أولى لأشرف الشولي وطارق بشاشة (السابعة و35 دقيقة مساء غد الجمعة) وثانية لحسين نوري من الفيلم الوثائقي «12 لبناني غاضب» لزينة دكّاش (السابعة والنصف مساء الأحد).

يُذكر أن المهرجان يُنظّم برعاية وزارة الداخلية والبلديات، ويُشكّل جزءاً من مشروع «الفسحة المتعدّدة الوسائط لحقوق الإنسان»، المُمَوّل من «الاتحاد الأوروبي». وتدير المشروع «لجنة تنسيق منظّمات الخدمة الطوعية» الإيطالية، بالتعاون مع ثلاث منظّمات غير حكومية لبنانية، هي: «كفى عنف واستغلال» و«حركة السلام الدائم» و«المركز اللبناني لحقوق الإنسان».  

كتــاب

علي سيد: «كشف هيئة»

نديم جرجورة

في روايته الأولى، الصادرة حديثاً عن «دار ملامح للنشر» في القاهرة، يغوص علي سيد في متاهة الذات الفردية، وسط انقلاباتها الخارجية. فهو، في سرده فصولاً من سيرة الراوي، ينقّب في ثنايا الجرح اليومي المقيم فيه هو وأشباهه من المقبلين إلى الحياة بوجع وخيبة وانكسار. وهو، في تشريحه بعض الحالات والأمكنة والتهويمات الطالعة من هنا وهناك، يعيد تركيب المشهد وفقاً لحساسيته الذاتية، من خلال عيني الراوي وانفعاله.

والراوي شابٌ في مقتبل العمر. يقول أشياءه الكثيرة بلغة مبسّطة وهادئة، تتناقض والغليان الصامت المعتمل في روحه وإحساسه. يعمل في مؤسّسة ثقافية حكومية، وفي مطعم ليلي. يعشق ويتحرّش بنساء، مستنداً إلى تبريرات تنقذه من الخطيئة. يعاين آلام المحيطين به، وهي كثيرة. لكنه يميل إلى عزلته، بعد أن فشل في اختبار العمل في المؤسّسة العسكرية، فإذا به يغرق في ليل المدينة، ويفشل في العثور على امرأة تُخفّف من لهاث الجنس والحبّ فيه.

رواية أولى لصحافي مصري (مواليد القاهرة، 1978)، بعد مجموعة شعرية أولى أصدرها في العام 2005 بعنوان «أقول الشعر». رواية أولى مفتوحة على مدينة ومجتمع مقيمين في المتاهة والتناقضات والخيبات، ومرتكزة على أسلوب ممتع في سرد الحكايات الجانبية، التي تصنع كلّها نصّاً إنسانياً شفّافاً.

السفير اللبنانية في

27/01/2011

 

 

فيلما «فالنتاين أزرق» و«منتسبو الشركة»

الغول الاقتصادي يدمّر الحصون العائلية

زياد الخزاعي 

إغواء العائلة لا مثيل له في السينما. هذه الأخيرة نصيرتها وبصيرتها، ما دامت للأول حكايات تتعقّد أقدارها، وأناس تتلوّن خياراتهم، ووقائع تُعمِّر بيوتاً وتهدّ أخرى، مرّة بشطط البشر، ومرّات كثيرة بسبب قهر قوة وسلطة ما. كينونة المشاهد رهينة ذلك الإغواء. فعبره يحصل على دروس الفواجع الشخصية. وضمنه يوسِّع إدراك الزلاّت. وبخياراته يصل إلى الوعي وقناعاته بأننا جميعنا نشترك بمرض ارتكاب الحماقات العائلية، لننتهي في وحل الخلافات العصيّة، في وقت ننتظر فيه بعجز ضربة خذلان الوظيفة والعمل والمال، لنواجه رعب العطالة وجوعها. في ما يخصّ الحب، عماد الأسرة الذي يبدأ عادة بالوداد، لن يُفهَم لماذا ينتهي بالمَخانَة، سوى ما يُدرَك لاحقاً من تراكم ضجر اليومي وعوجه فيه، وسوء الفهم والتقدير، وموت العاطفة في كيانه. في موازاة ذلك، يكون اقتصاد أي عائلة بمثابة سلاح يُمكّنها من الحفاظ على وحدتها، وضمان النمو الطبيعي لأفرادها، وتمتّعهم بالرفاهية، وإبعاد شبح الحاجة. وكلّما عولج ملف المال بالتروّي زاد خيره، وإن أصرّ أربابها على الوقوع في الحَمق، فإن انحطاطها الاقتصادي لا ريب فيه مع ما يجرّ من ويلات الخصومات والتشفي. إن أحوال العائلة في المقام العام رهينة هذين العنصرين: جبهة المحبة، حيث قوة الثقة والعَهْد. وجبهة الصرف، حيث التقلّب والحِيلة.

أخلاق واقتصاد

من هنا، فإن رباعية الشخصيات في الفيليمن الأميركيين «فالنتاين أزرق» و«منتسبو الشركة»، تمثّل خلاصة اجتماعية لخراب البيوت والسرائر. فالشابان دين وساندي في الأول، وزميلا العمل بوبي ولكر وجين ماكلاري في الثاني، هم وصفة الدحر الذي يمارسه كل من اليومي على عائلة من بابها الأخلاقي، وانهيار الجبهة الاقتصادية الذي سبّبته سلطة مالية اخترقتها الخيانة واللصوصية، فضربت القوّة المالية لملايين العائلات في قارة الديموقراطية الغربية. الفرادة هنا. ذلك أن حكايتي الفيلمين تمسّان انهيارين متزامنين ومتشابكين وأزليين، لكنهما يُطرحان هنا بقوّة درامية وبُعد نظر سينمائيين لا مجال فيهما للمحاباة أو التزلّف. في «فالنتاين (عيد الحب) أزرق»، باكورة المخرج ديريك سيانفرانس، الذي عزّز خبرته في مجال الوثائقي سابقاً، نراقب الانهيار المقبل لعائلة الطبقة الوسطى إثر فشل الوالد والوالدة في التحصّن ضد الاعتياد. كل شيء مرسوم ومنمّق. الطبيعة الخلاّقة التي تدفع بهما نحو النوم والعراك والنقّ، كأنهما مُصرِّان على إغفال بهجتها العظيمة. البطل دين (أداء قوي لراين غوسلينغ) شاب حيوي، له هموم في الموسيقى والكثير من الفكاهة، لكنه سريع العطب. فيما ساندي (المميّزة ميشيل ويليامز) نموذج لابنة الضواحي الساعية إلى نجاح طبقي يضمنه العمل الطبي. كائن حسّاس وسهل المنال، نتعرّف إليها كأم شابة قبل أن نُدرك لاحقاً أن الطفلة جاءت عبر مواقعة مع شاب آخر لم يراع حدود الحمل ليدّعي الغفلة بما جرى. وحده دين يذود عنها، بعد تعارف سريع وديناميكي بينهما، ويقول حاضناً إياه بكلتي ذراعيه (وهو فعل يتكرّر قبل نهاية الفيلم، لكن بارتجافة رفض من البطلة إيذاناً بالانفصال): «لنشكِّل عائلة».

في «منتسبو الشركة»، وهو أيضا باكورة الكاتب والمنتج التلفزيوني جون ويلس، نقابل غيلان الاقتصاد العولمي بوبي (بن آفلك) وجين (تومي لي جونز) ورفيقهما فيل وودورد (كريس كوبر) في المكامن الباذخة لعائلاتهم، وهي عناوين انتصارات دهائهم ومناوراتهم وقوّة النظام المالي، الذي يسندهم كعقول مسيّرة وكحكّام خلفيين للجنة الاقتصادية الأميركية. وعندما نصحبهم إلى شركتهم العملاقة للشحن البحري، يكون المخرج ويلس، الذي أُنتخب في العام 1999 رئيساً لنقابة كتّاب السيناريو الأميركيين، مَهَّد لمشاهده عبر لقطات وثائقية عن الخراب المقبل لسوق المال، بسبب لصوصية القطب المالي اليهودي برنارد مادوف وعصابته. يخسر بوبي عمله، فتنتقل الضربة إلى زواجه وابنه وملحقات الرفاهية والزهو على شاكلة النوادي الرياضية والسهرات وأناقتها وتلفيقاتها. يجد الشاب نفسه أعزل، لأن الرهان العائلي ووحدته مرتبطان بحسابه البنكي. يظهر الشرخ الأول مع قول زوجته: «أخبرني جين أنك في مأمن»، فيجيبها بأنه يعرف دائماً. جين هو القطب الثاني في الشركة. يقف رافضاً سياسة الطرد والاستغناءات، مع معرفته أنه غير محصّن، حتى لحظة القصاص منه. هذا الكهل يعرض عن زوجته الأرستقراطية، ويتحصّن بين ذراعي الشابة النافذة سالي ويلكوكس (ماريا بيلو) كملاذ جنسي وحيوية حياة. وحده فيل ينتحر، خشية الشقاء وعار العطالة.

نقيضان وضحيتان

الحمّال والدهّان دين يقابل القائد الإداري بوبي، كنقيضين وضحيتين اقتصاديين لرئيسين، أولهما بوش الابن، وهو يظهر على شاشة التلفزيون ليعلن الكارثة، فيما يكون أوباما في خلفية بحث بطل «فالنتاين أزرق» عن عمل وضيع في شركة نقل أثاث. بطل «منتسبو الشركة» يفشل في إقناع الآخرين بكفاءاته لكثرة العاطلين، فيقبل راضخاً العمل مع نسيبه جاك دولان (كيفن كوستنر) كسخرة في سوق البناء. إن انهيار العالم العاطفي لبطل فيلم المخرج سيانفرانس يحدث في مكان عمل الزوجة ساندي، إثر فشل الليلة الجنسية التي خطّطا لها في «غرفة المستقبل»، التي يضمّها الفندق السوريالي الديكور والاكسسوارات. الخارج هنا عدو لثنائية دين وسالي. فخراب علاقتهما يتأكّد ويتعمّق كلّما اجتمعا في مكان محصور. والنهاية تتشكّل في مكتب استقبال المشفى، حيث يعود دين إلى السلوك الشعبي في أقصى درجات رعونته، فيضرب الطبيب ويخرّب المحيط. وفي اللقطة الختامية، نرى دين يبتعد وحيداً في الشارع الذي يحتفل بعيد الحب، بينما تتعلّق به صغيرته من دون أمل بعودته. إن الحماقة الشخصية هزمت عالماً بدأ برونق ووعد عاطفي فريد. في حالة الشاب بوبي، تبقى الآصرة شكلية، لكن سهمها المسموم يصل إلى كيان الابن اليافع، الذي يعي بفطنة أن والده العاطل لن يتمكّن من دفع مستحقات دراسته. تأتي الهزّة الكبرى، وهي معنوية في الاعتبار الإداري، مع خسارة بوبي فرصة عمل حقيقية بسبب سوء ظنّه بتوقيت موعد اللقاء الضائع. أي إن كفاءته رهن بالصدفة.

بوبي وزملاؤه (خصوصاً المنتحر فيل) هم في المقابل ضحايا الحماقة السياسية لإدارة بوش الابن. فالحروب الاستباقية ودعوات التمكين العسكري خلقت طابوراً من المرابين اللذين اخترقوا البناء المالي الفاسد، وهدّوه بأنانية لا مثيل لها، مُعرّضين بفعلتهم ملايين العائلات للطرد إلى العراء. إهانة بوبي مزدوجة: فهو من باب العوز يلجأ إلى منزل والد بحثاً عن ملاذ لعائلته الشريدة، إثر فشله في دفع أقساط الدين. وعمله المضني مع شخص يكتشف لاحقاً أنه يعطف عليه بدولارات إضافية، فقط لأنه صهره.

إن انحطاط بطل «فالنتاين أزرق» نتاج اجتماعي لحالة عائلية غير سويّة، عليه يعتمد المخرج سانفرانس أسلوباً سردياً شديد المراوغة. يعتمد على توليفات «فلاش باك» ليعزّز صورة الخراب، ما يوقع مشاهده في الفصل الأول في التباس درامي، حتى تتضح الحيلة الذكية الكامنة في تجميع الحكاية اللئيمة، التي تنتصر إلى روحية التغريب، وكسر ترتيبها الذي أرجعه ناقد الصحيفة اللندنية «ذي أوبزرفر» فيليب فرانش إلى قانون المعلم الفرنسي جان ـ لوك غودار، والقائل: على الفيلم «أن يحتوي على بداية ووسط ونهاية. لكن ليس بالضرورة بهذا الترتيب». في المقابل، يخسر دين قلعته، وينتظر بوبي القدر كي يضمن له أنفة العمل الذي يحقّقه العصامي جين بتأسيس شركة جديدة للنقل البحري. يستعيد ابن الإدارة موقعه البيروقراطي الازلي، إيذاناً بفكرة أخلاقية متهافتة من المخرج ويلس، عمادها: ان قوّة الاميركي متوفّرة بمبادراته، على الرغم من أن الخراب اليوم عمّ السرائر وبيوتاتها.

)لندن(

السفير اللبنانية في

27/01/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)