حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

أنشودة فرح وحب في الأفلام الغنائية

فريال كامل

على امتداد مسيرتها الفنية، ستون عاماً من الفن والجمال، كم شحنت جمهورها بطاقة من البهجة والحب، وفتحت أمامه منافذ الأمل والحلم، الحلم بالعبور بين الطبقات في الأفلام!

استهلت «صباح» مسيرتها بأدوار البطولة، لم تبدأ من قاع السلم ولم تمر بالأدوار الثانوية. ارتبطت على الدوام أدوارها التمثيلية بالغناء. ظهرت كمطربة سواء كانت مطربة مشهورة أو مجرد هاوية في بداية الطريق، تسعى للمجد والشهرة. شدت بأعذب الألحان وتميزت أغنياتها بالمرح والتفاؤل. بدت على الشاشة كشخصية مبهرة، نموذجاً للأناقة إضافة لكونها - على الدوام - شخصية طموحة تسعى للتقدم والارتقاء، مثلت جوانب من حياتها على الشاشة، ففي فيلم «3 رجال وامرأة» إخراج حلمي حليم عام1960 أقنعت زوجها (في ذلك الوقت) المذيع أحمد فراج أن يؤدي دوره الطبيعي كمذيع لتعجب بأدائه وتسعى للتعرف إليه وتغني له أغنيتها المعروفة «الحلو ليه تقلان قوي» من كلمات الشاعر فتحي قورة.

صوت الجبل

اضطلعت النجمة الكبيرة ببطولة 98 فيلماً بينها عدد من الأفلام اللبنانية في فترة السبعينات، برعت في الميجانا والعتابا، فأطلقت عليها الصحافة «صوت الجبل» كلقب. شدت بـ 3500 أغنية من أول أفلامها «القلب له أحكام» أمام أنور وجدي وإخراج هنري بركات، عام 1945. إلى آخر أفلامها «ليلة بكى فيها القمر» أمام حسين فهمي، وإخراج أحمد يحيى سنة 1980. حيث شدت بعدد من الأغنيات الفياضة بالشجن منها أغنية «ساعات، ساعات» وبعده توقفت عن التمثيل في الأفلام وإن أحيت الكثير من الحفلات الغنائية في البلاد العربية وخارجها.

أصبح لصباح مكانة خاصة ولصوتها جاذبية جامحة لدى الجماهير، باتت أغنياتها فاكهة الموسم، تتلاحق الرسائل تطلب إذاعتها في برنامج «ما يطلبه المستمعون». من يغفل عن أغنيتها «م الموسكي لسوق الحميدية» على أيام الوحدة بين مصر وسورية؟ ومن يغفل عن حضورها في أوبريت «الوطن العربي» الذي لحنه عبد الوهاب وشدت به باقة من ألمع المطربين في مصر والوطن العربي؟ وحين غنت صباح لابنتها هويدا من زوجها غازف الكمان أنور منسي أغنية «حبيبة أمها» وأغنية «أكلك منين يابطة» رددتها - ومازالت - الأمهات في سائر الأقطار.

أعجبت المنتجة السيدة آسيا بصباح وهي بعد صبية تغني في ملاهي بيروت، وتوسمت فيها مشروع نجم فدعتها وأسرتها الى القاهرة واستضافتهم في بيتها وتعاقدت معها على أدوار البطولة في ثلاثة أفلام واستحضرت الفنان رياض السنباطي لتدريبها. يومها صرح السبناطي أنه وجد صعوبة في تطويع صوتها فهو كما الشلال الهادر أو الفرس البري الجامح.

تعاقدت آسيا للنجمة الصاعدة مع أهم المخرجين مثل هنري بركات، الذي أخرج لها أول أفلامها وأكثرها جاذبية «القلب له أحكام» عن معالجة لقصة سندريلا، وهي شدت فيه بست أغنيات كتبها الكبار: بيرم التونسي ومأمون الشناوي وصالح جودت، ولحنها أكبر الملحنين السنباطي وزكريا أحمد والقصبجي. أعطت آسيا النموذج لكيفية صناعة نجم. رسمت للمطربة الشابة شخصية الفتاة الجميلة المنطلقة لتتباين مع مواطنتها نور الهدى التي سبقتها إلى الشاشة. ولقد شهدت مسيرة الفنانة صباح تطوراً من شخصية الفتاة الطيبة المحبة إلى المرأة الناضجة الفاتنة وأصبحت أكثر نجمات السينما أناقة.

سينما من أجلها

اكتسبت صباح خبرة كبيرة خلال عملها مع أهم المخرجين في السينما المصرية، إذ عملت مع بركات وحسين فوزي وأحمد بدرخان وحلمي رفلة وحلمي حليم إضافة لحسن الإمام ومحمود ذو الفقار ونيازي مصطفى. لمعت في أفلام الميلودراما والكوميديا الغنائية دون أن يحدث أن يرشحها أحد لبطولة أفلام تعالج مشاكل اجتماعية أو أفلام تدور أحداثها في أجواء سياسية وربما لذلك السبب لم يدرج فيلم من أفلامها في قائمة أفضل مئة فيلم في السينما المصرية على رغم أن إمتاع الجمهور وإدخال البهجة إلى قلبه أحد أنبل الأهداف للسينما.

لقد تقاسمت صباح بطولة الأفلام مع أبرز نجوم العصر من أحمد مظهر الى أحمد رمزي وصلاح ذو الفقار، فهد بلان، إضافة إلى أنور وجدي وعماد حمدي وشكري سرحان، إلا أنها حققت أهم أداء حين تقاسمت البطولة مع مطربين. لقد مثلت النجمة الجميلة خفيفة الظل ثلاثة أفلام أمام فريد الأطرش لاقت نجاحاً ملحوظاً هي «بلبل أفندي» من إخراج حسين فوزي عام 48 وتبعته بفيلمين من إخراج أحمد بردخان هما «لحن حبي» عام 53، و«إزاي انساك» عام 56. في الفيلم الأول تضحي لإنقاذ سمعة أمها وتنسب الخيانة لذاتها وهي في الوقت ذاته تحب جارها (فريد) المطرب الشاب الذي يود أن يشق طريقه لعالم الغناء وخلال الأحداث تغني صباح أغنيتين من أحب أغانيها هي «ألاقي زيك فين يا علي» وأغنية «بيحبني وبحبه» إضافة لأوبريت «فارس الأحلام» بمشاركة فريد الأطرش وإسماعيل ياسين. وعلى أثر النجاح الذي لاقاه الثنائي صباح وفريد في الفيلم تعاون معهما المخرج ذاته في الفيلم الثاني حيث، خلال الأحداث تطمع المطربة الشابة للوصول إلى هدفها عن طريق التعرف إلى مطرب مشهور فتطارده حتى تصبح مطربة الفرقة الأولى وتنتزعه من فتاته وتتنافس الفتاتان للفوز بقلب فريد. خلال الفيلم تغني صباح أغنيتين هما «زنوبة» وهي أغنية ذات مذاق شعبي وأغنية «أحبك ياني» الفياضة بالدلال.

كتّاب كبار

وتكوِّن صباح مع محمد فوزي ثنائياً ناجحاً يتميز بخفة الظل فيتقاسمان بطولة خمسة أفلام غنائية مرحة من أشهرها فيلم «الأنسة ماما» وفيلم «الحب في خطر» (عام 51) عن قصة يوسف جوهر وإخراج حلمي رفلة. جاء فيلم «الآنسة ماما» نموذجاً لأفلام الكوميديا الغنائية عن فتاة تهوى الغناء فتلتحق خادمة بمنزل مطرب مشهور وتتقرب له ولكنه يصدها وتتفق مع والده سليمان نجيب لإثارة غيرته. وفي الختام تفوز بالحب والشهرة والمجد.

وفي فيلم «الحب في خطر» يسند البطل وهو مخرج مسرحي دور البطولة لإحدى العاملات في المسرح فتتقمص الشخصية الدرامية ولا تنفصل عنها. تنساق لسرقة عقد ثمين من أحد المحال وحين تخشى القبض عليها تضعه في جيب المطرب المشهور – ثم تتسلل إلى بيت المطرب لتسترد العقد فيحبط محاولتها ويكتشف حلاوة صوتها فيوظفها في الفرقة وبالطبع تتنافس فتاتان للفوز بالمطرب وفي الختام يتم زواج البطلة والبطل.

وفي عام 57 تلتقي النجمة الجميلة بالمخرج حسن الإمام، في فيلمين من إخراجه وتكون قد قطعت شوطاً في النضج الفني؛ ففي فيلم «إغراء» تغني أربع أغنيات من ألحان عبد الوهاب باتت مقررة على الراديوات هي «من سحر عيونك ياه» وأغنية «حبيتك يا اسمك ايه» و«جوه القلب» إضافة لأغنية «الوداع».

وقد اضطلعت صباح ببطولة أفلام لكبار الكتاب ففي عام 69 قدمت فيلم «شمس» عن قصة شديدة النبل والإنسانية للكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس. وشاركها البطولة أحمد رمزي وأخرجه بركات، تقوم صباح هنا بدور بائعة هوى تدعى «شمس» تعمل في أحد الملاهي الليلية، بينما تحب شاباً بسيطاً يرغب في التعرف إلى عملها في الملهى وهناك يدرك الحقيقة فيبيع «الفسبا»، وهي كل ما يملك من أجل أن يكون أحد زبائنها. وفي الملهى يطلبها لتجالسه فتحكي له حكاياتها الملفقة كما تحكيها للزبائن ثم تستأذن وتنصرف لتغيب عنه إلى الأبد.

ويعد فيلم «الأيدي الناعمة» عن قصة لتوفيق الحكيم والذي كتب له السيناريو يوسف جوهر ليخرجه محمود ذو الفقار، من أهم أفلام النجمة اللامعة والذي تقاسمت بطولته مع نخبة من النجوم أحمد مظهر (الأمير الفقير)، وصلاح ذو الفقار إضافة للنجمتين مريم فخر الدين وليلى طاهر. في الفيلم يعيش الأمير علاء في فقر مدقع ولا يملك غير القصر الذي يسكنه ومجموعة من النياشين التي فقدت قيمتها غير لوحات للأسرة المالكة تزين الجدران. الأمير لا يعايش العصر، بل انه يقطع صلته بإبنته التي تزوجت من مهندس ميكانيكي ذي أصول شعبية. تعجب (صباح) شقيقة المهندس بالأمير وتستطيع أن تقنعه بأهمية العمل ليكون لحياته معنى وأخيراً يتخلى عن عنجهيته ويعمل مرشداً سياحياً في الأتوبيس النهري ويتزوج حبيبته ذات الأصول الشعبية. خلال الفيلم غنت صباح أغنيتين من أجمل أغانيها «ب فتحة بحبك» وأغنية «الدوامة».

وفي عام 58 تقدم صباح فيلماً من أجمل أفلامها «شارع الحب» والذي تقاسمت بطولته مع عبدالحليم حافظ، وكتب له السيناريو الأديب يوسف السباعي ليخرجه عز الدين ذو الفقار. خلال أحداث الفيلم تتطور شخصية الفتاة الارستقراطية المشاغبة لتصبح بفضل الحب سيدة ناضجة تتحمل المسؤولية.

تألقت النجمة الكبيرة صباح في الأفلام الغنائية ورددت الجماهير أغانيها. شدت بأغانيها على أكبر المسارح في العالم إذ وقفت على مسرح «الأولمبيا» في باريس وغنت للمغتربين في «أوبرا سيدني» و«قصر الفنون» في بلجيكا. وأحيت حفلات غنائية في قاعة البرت هول في لندن، كما غنت على مسارح لاس فيغاس. وتقديراً لمسيرتها الفنية يكرمها مهرجان دبي السينمائي في دورته الحالية ويقيم احتفالاً خاصاً بعيد ميلاد النجمة الساطعة إذ انها ولدت في العاشر من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1925. سنة حلوة يا جميل.

الحياة اللندنية في

26/11/2010

 

بحثاً عن السينما في بهائها الأول

بيروت - ابراهيم العريس 

ليس فيه من الضخامة شيء، ولا فيه سجاد أحمر أو نجوم... ولا حتى يمكنه أن يوزّع المطبوعات، أو يقيم الحفلات الصاخبة. كل ما يمكنه أن يفعله هو أن يقدم أفلاماً... ومع هذا يمكن النظر اليه على أنه واحد من النشاطات السينمائية الأكثر أهمية وجمالاً في هذا الموسم، على الأقل في انتظار مهرجان مراكش، الذي، إن كان يتفوق عليه في الصخب والنجوم والسجاد الأحمر والبذخ، فإنه يماثله في نوعية ومستوى الأفلام التي يقدمها. ما نتحدث عنه هنا هو بالتحديد مهرجان السينما الأوروبية، الذي يقام هذه الأيام في بيروت، بعدما كانت القاهرة وعمان الأردنية شهدتا في الآونة الأخيرة ما يماثله. بكل تواضع إذاً، إنما بفعالية سينمائية لا نظير لها في أي مهرجان عربي آخر، افتتح مهرجان السينما الأوروبية في العاصمة اللبنانية مساء أمس الخميس، دورته السابعة عشرة. ولكن، لماذا نقول هنا، بفعالية، ولماذا تُرانا نحاول أن نميّز مهرجاناً متقشفاً، متواضعاً مثل هذا، عن بقية ما يحدث، سينمائياً في المدن العربية؟

الجواب بسيط: لأن ما هو أساسي في السينما، موجود في هذا المهرجان. وما هو اساسي هو، بالطبع، الأفلام... الأفلام كعروض وكاكتشاف في الوقت نفسه. والأفلام كمحور للاهتمام يجتذب ما يمكن اعتباره جمهوراً سينمائياً صافياً. يأتي هنا لحضور العروض ولاكتشاف أفلام يصعب - وحتى يستحيل - عليه مشاهدتها في أية مناسبات أخرى، ولا حتى عبر الاسطوانات المقرصنة. ذلك ان القسم الأعظم من العروض هنا، أفلام لا تغري المقرصنين ولا البائعين... ولا - طبعاً - المهرجانات الصاخبة. فهنا، في هذا المهرجان، إذ يقال «سينما أوروبية» فإن هذا يعني، تحديداً سينما آتية من بلدان أوروبية، شرقية وغربية يضطر التأزم الاقتصادي وغياب الأسواق والمنافسة الأميركية التجارية، سينمائييها الى الاستنكاف عن رفد أسواق الفيلم بأعمالهم، مكتفين بدلاً من هذا، برفد الفن السينمائي نفسه، بالقليل منها. وبهذا تعود السينما على أيديهم الى جوهرها الحقيقي: الى كونها فناً خالصاً. ويصبح كل فيلم يعرض، حدثاً فنياً إبداعياً، لا سينمائياً فقط.

قد لا يكون هذا الواقع مريحاً لعشرات المبدعين الذين ينتظرون وينتظرون وقد يهلكون دون تحقيق حلم واحد من أحلامهم - تماماً كما هي حال المبدعين الشبان وغير الشبان من السينمائيين العرب الحقيقيين في هذه الأزمنة - لكنه الواقع، إن لم نستطع تغييره فلندعم ما هو موجود منه. وما هو موجود أفلام يمكن المراهنة، سلفاً، على معظمها، لا سيما على تلك الآتية من أوروبا الشرقية. إذ ان بلدان هذه المنطقة الأوروبية الفقيرة، اعتادت أن ترسل عاماً بعد عام أفلاماً قليلة لكنها تنتمي الى ما يمكن اعتباره سينما كبيرة. هي أفلام لا تنجح تجارياً، ولا تحقق أرباحاً، وربما لا يلتفت اليها حتى جمهور الخاصة، لكنها تعرف كيف تعيش وكيف تترك أثراً، وكيف - خصوصاً- تعيد فن السينما الى براءته الأولى. من هنا واستناداً الى تجارب باتت راسخة منذ سنوات يمكن منذ الآن إسداء النصح لمحبي السينما، فحين يقصدون حفلات هذا المهرجان المستمر حتى الخامس من كانون الأول المقبل، في صالات متروبوليس (صوفيل الأشرفية) - بيروت، ومن ثم في مدن لبنانية رئيسة مثل زحلة وطرابلس وصيدا، يمكنهم ان يقصدوا الأفلام - ولمرة نادرة في تاريخ العروض عندنا - استناداً الى اسم بلد المنشأ... طالما ان قلة من محبي السينما تعرف شيئاً أو أشياء عن أصحاب الأفلام أنفسهم... ويقيناً ان الخيبات لن تكون كثيرة مع أفلام آتية من النمسا أو تشيكيا أو بولندا أو فنلندا... أو حتى قبرص (أفلام مثل «فتاة صغيرة حزينة» لآليس نيلز، و«الحدود» للاوري تورهونن و«آكاماس» لبا نيكوس كريسانتو...) أو من بلغاريا... أو هنغاريا وغيرها. غير أن هذا لا يعني ان ليس ثمة في هذا المهرجان سوى أفلام «صغيرة كبيرة». فيه كذلك تحف سينمائية، هي، هذه المرة، من النوع المعروف والذي سبق أن ثبّت أقدامه في مسار الفن السينمائي. نقول هذا ونفكر طبعاً بأعمال كبيرة مثل «الرباط الأبيض» للنمسَوي ميكائيل هانيكي عن ولادة النازية ذهنياً في قرية ريفية ألمانيا («السعفة الذهبية» في دورة كان للعام الماضي)، ومثل «عن البشر والآلهة» للفرنسي كزافييه بوفوا، أحد أقوى وأجمل أفلام هذا العام («جائزة لجنة التحكيم الكبرى» في «كان» الماضي) عن حكاية رهبان سبعة قتلوا في الجزائر. قبل زمن. وإلى هذا، من الأفلام الراسخة أيضاً هناك «حياتنا» للإيطالي دانيال كوكيتي، الذي فاز بطله بجائزة أفضل ممثل في «كان» الى جانب خافيير بارديم. ثم لمن يحبون السياسة وتطربهم أفلام الإنكليزي كين لوتش، يمكن مشاهدة «آيريش» رود (على اسم الطريق المفضية من مطار بغداد الى قلب العاصمة العراقية)، وهو أحدث فيلم عن حرب العراق والتورط الغربي فيها... حتى وإن كانت أحداثه الكبرى تدور في انكلترا.

أما الذين يحبون السينما الفرنسية الكلاسيكية ويحبون أن يحيّوا ذكرى المخرج الفرنسي الراحل حديثاً آلان كورنو، فإن في وسعهم ان يشاهدوا أخيره «جريمة حب» فيذكّرهم به، وربما أيضاً بزميله ومواطنه كلود شابرول الراحل قبل شهور بدوره تاركاً، كما كورنو، ارثاً طيباً للسينما البوليسية الفرنسية.

ولئن كان لبنان، البلد المضيف للمهرجان يشارك، كالعادة، من خلال عروض طلاب معاهده السينمائية، متنافسين على بعض الجوائز، فإن السينمائيين اللبنانيين حاضرون كذلك، ممثلين بالمخرج يوسف فارس، الذي يعيش ويعمل في السويد، ويقدم باسمها فيلمه الجديد «مرجلة» الذي مكّنه من الفوز في مهرجان الدوحة الأخير بجائزة «أفضل مخرج عربي» (نالها وهو الذي بالكاد يتكلم العربية أو يعرف، أصلاً، أنه عربي!)... السويد وبلجيكا وهولندا وإيطاليا أسوة بفرنسا، تشارك جميعها في هذا المهرجان «ما يؤمّن نوعاً من نظرة بانورامية، الى سينما باتت مجهولة أكثر وأكثر، في العالم وعندنا، «بفضل» منظومة عروض لا تعرف سوى الأفلام التجارية... وهذا ما يعطي مهرجاناً من هذه الطينة قيمته الكبرى... وقيمته غير التجارية - وهذه بالنسبة الينا هنا، صفة جيدة! ومع هذا، نعرف ان فيلم الافتتاح «الشقة» الذي عرض مساء أمس في افتتاح المهرجان، كان منذ عرض عام 2009، من أنجح الأفلام البلجيكية من ناحية الإقبال الجماهيري، بحكايته الغامضة، التي استقطبت بقلبتها المسرحية في النهاية مئات ألوف المتفرجين. وفقط كي تقول ان صفة «جيدة» و«فنية» للسينما لا تستدعي بالضرورة صفة «الفشل» أو«الخيبة».

الحياة اللندنية في

26/11/2010

 

«أيام الكوندور الثلاثة» لسدني بولاك: الحياة حين تقلِّد الفن

ابراهيم العريس

تكثر منذ سنوات في السينما الأميركية بشكل خاص تلك الأفلام التي باتت تشكل في مجموعها نوعاً سينمائياً خاصاً يكاد بدوره ان يكون نوعاً اميركياً. ونعني بهذا الأفلامَ التي تجعل من رجل الاستخبارات (العميل) شخصية مركزية مركّبة، بل درامية. طبعا ليس هنا مكان الإسهاب في الحديث التاريخي حول بداية الظاهرة سينمائياً، ولكن يمكن القول ان النوع تسلل بالتدريج، ولا سيما خلال سبعينات القرن العشرين، حين وصلت السينما – كما العديد من الفنون الأخرى - الى ذرى الاحتجاج على ممارسات سلطوية معينة في ركاب حركات التمرد الطلابية والأقلياتية، كما في ركاب الانكسار الأميركي في فيتنام، ثم بفعل فضيحة ووترغيت واستقالة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون. ومن بين الأفلام الأميركية الأساسية التي حملت هذه الأبعاد او بعضها، كان فيلم «أيام الكوندور الثلاثة»، الذي يبدو منسيّاً بعض الشيء في ايامنا هذه.

> ثلاثة امور اساسية أعطت فيلم «ايام الكوندور الثلاثة» أهميته المطلقة حين أُنجز وعرض عام 1975: اولها ان الفيلم كان واحداً من الأفلام الأميركية الجماهيرية المبكرة التي توجِّه سهامها ناحية وكالة الاستخبارات المركزية (السي آي إي) بعدما كان اي كلام سلبي عن هذه المؤسسة شبه ممنوع داخل الولايات المتحدة، ثانيها ان الفيلم كان واحداً من اول الافلام في تاريخ صناعة السينما الهوليوودية يجعل من بطله، رجل المخابرات، شخصاً يتساءل عما يفعل: عن مهنته، وعن اخلاقية هذه المهنة. اما الامر الثالث والأهم بالنسبة الى المتفرج الأميركي، والغربي عموماً، فهو قضية النفط، فقبل ذلك بعامين كانت حرب اكتوبر 1973 قد احدثت ازمة في عالم النفط، منهية راحة البال رخيصة الكلفة التي كان المواطن الغربي يحسّها ازاء تدفق نفط الشرق الأوسط اليه، ولكن مواقف الملك السعودي فيصل في استخدام النفط سلاحاً في المعركة مع اسرائيل، والانتصار – الجزئي - الذي حققته مصر وسوريا في تلك الحرب على اسرائيل، جعلت قلقاً كبيراً يستبدّ بذلك المواطن ازاء قضية النفط. من هنا كان على السينما الهوليوودية ان تصل اخيراً الى «فضْح» وتناول هذا كله من خلال فيلم يتحدث عن مؤامرة للسي آي إي والمخطط «الخيالي» الذي يهدف الى دفع الحكومة الاميركية الى الاستيلاء على منابع النفط في الشرق الاوسط، لمنع حظره او تعريض إمداداته لأي خطر في حال نشوب حرب او ثورة مقبلين. ويأتي هذا في الفيلم من خلال ما يحدث لعميل في الوكالة يجد نفسه فجأة، ومن دون أسباب تبريرية مقنعة، مطارَداً من قبل الوكالة نفسها. وهنا علينا ألاّ ننسى ما أشرنا اليه اعلاه، من ان الفيلم حُقّق في زمن كانت فيه أمور أميركية عديدة وأساسية قد صارت موضع السجال العام للمرة الاولى في التاريخ الأميركي، انطلاقاً من ثنائية الهزيمة في حرب فيتنام وفضيحة ووترغيت التي كانت على وشك ان تجرِّم وتدفع الى الاستقالة الرئيس ريتشارد نيكسون المسؤول عن فضيحة التنصت تلك.

> قلنا ان السينما الهوليوودية شعرت ان الوقت قد حان لتحقيق هذا النوع من الافلام. وكان منطقياً ان يكون المبادِر إلى هذا الفيلم الاول من نوعه المخرج الراديكالي سيدني بولاك (رحل عام 2008)، الذي كان يمثِّل جيلاً غاضباً ماهراً وحِرَفياً في السينما الاميركية الجديدة في ذلك الحين. وهو اذ رغب في قول ما يمكن قوله عن ذلك الزمن وتضاريسه، وجد ضالّته في رواية للكاتب جيمس غرادي عنوانها الاصلي «ايام الكوندور الستة»، وهو اختصر الأيام الى ثلاثة، كما نفهم.

> يتحلق الفيلم – كما الرواية - من حول عميل شاب في الوكالة يدعى تورنر (روبرت ردفورد) تبدو مهمته غير خطيرة، فهو مسؤول عن مكتب في الوكالة فيه عدة موظفين، مهمته قراءة الكتب والمقالات في شتى الملفات ومحاولة البحث في ثناياها عن معان خفية قد تفيد بحوث الوكالة. وفي يوم، يوصِل تورنر الى احد مكاتب الوكالة تقريراً يتعلق بكتاب عادي من النوع التشويقي استوقفه فيه امران: اولهما، ان في ثناياه حبكاته حديثاً عن مشاريع تبدو غريبة ومشبوهة. وثانيهما، ان الكتاب ترجم الى لغات غير معتادة، الى العربية بدلاً من الفرنسية، والى الإسبانية بدلاً من الروسية.

عند عودة تورنر الى مكتبه يكتشف ان مجهولين تسللوا الى المكتب وقتلوا كل موظفيه. هو يجهل القتلة لكن المتفرجين يعرفون، انهم مجموعة يقودها شخص من الألزاس الفرنسية يعرف لاحقاً باسم جوبير. امام هذه المذبحة يدرك تورنر انه في خطر شديد، وحين يتوجه الى زميل له نجا من المذبحة لانه كان مريضاً في بيته، يجده مقتولاً بدوره. وهكذا يتيقن تورنر انه في خطر شديد، وأن المجزرة تتعلق بالمهمة التي يقوم بها وزملاءه في المكتب.

تبدأ بعد ذلك سلسلة احداث ومطاردات تستهدفه، لا يلبث ان يتبين له ان مصدرها ومحركها الوكالة نفسها. لكنّ ما يظل منغلقاً عليه اول الامر، يتعلق بما إذا كانت المؤامرة من تدبير الوكالة نفسها، ام ان ثمة من اخترق الوكالة ليعمل من خلالها على تنفيذ خطط ما.

> في العادة يكون هذا النوع من المؤامرات من تدبير افراد يستخدمون الوكالة (سي آي إي) غطاء لهم، لكن الجديد هنا في فيلم سيدني بولاك، هو ان تورنر سيكتشف بعد ثلاثة ايام، يتعرض فيها للقتل والمطاردة، فيهرب ويورط معه آخرين، ويقترب خلالها احياناً مما يخيَّل إليه انه الحقيقة، ثم يبتعد غائصاً في متاهات ما بعدها متاهات، يكتشف ان اللعبة هي لعبة السي آي إي، أي لعبة رسمية بامتياز.

أما الموضوع، فهو العمل على توريط الحكومة الأميركية نفسها من قبل وكالة استخباراتها في عملية كبيرة لاحتلال منابع النفط العربية، تحسباً ليوم تقع فيه حقول النفط، ولاسيما في الخليج، في يد حكومات راديكالية. من هنا تحاول إدارات معينة في السي آي إي إزاحة مكتب الدراسات الذي يتولاه تورنر (المعطى في الوكالة اسم رمزي هو كوندور، ومن هنا عنوان الفيلم)، لتقديم دراسات اخرى تتحدث عن مصلحة واشنطن في شن حرب للوصول الى الآبار، مع إحصاءات تفيد بأن الشعب الأميركي يتوقع من حكومته ان تبذل كل جهودها لتحقيق ذلك.

> كل هذا ينكشف في نهاية الامر، ولاسيما بعد ان تحدث قلبة مسرحية قرب نهاية الفيلم، حين يكون جوبير قد تمكن من الوصول الى تورنر للقضاء عليه، لكنه بدلاً من ان يفعل، في مشهد بالغ الأهمية، يوجه سلاحه الى آتوود، صاحب المشروع الأصلي، ويقتله، ذلك ان منظوراً ما لدى الوكالة كان قد بدّل الخطة في اللحظات الاخيرة. وهكذا نجدنا عند نهاية الفيلم امام هذا الوضع غير المنطقي الذي تتحكم فيه وكالة الاستخبارات بمصائر الناس، حتى ولو كانوا من أعمدتها وبناة سياساتها.

هذا الاكتشاف، الذي وانْ كان قد وفّر لتورنر حياته في نهاية الأمر وسمح له بأن يعيش بعد ايام وصل فيها الى حافة الموت، أتاح لتورنر في الوقت نفسه فرصة نادرة كي يتساءل حول حياته ومهنته، وقيمة حياة الناس وموتهم امام «منطق» السياسات الكبرى. ومن هنا اتخذ فيلم «ايام الكوندور الثلاثة» قيمة سياسية وانسانية، جعلته رائداً في هذا المجال، حتى وان كنا نعرف ان الأدب الروائي الجاسوسي قد سبق السينما الى طرح مثل هذه الأسئلة (روايات جون لوكاريه وغراهام غرين)، ولكنّ الذي يبدو هنا هو اهم من ذلك كله، وجعل لهذا الفيلم قيمته الأساسية - وركّزه في بال الناس في كل مرة تثور فيها ازمة حول النفط وعالمه ومناطقه -، وهو ما حدث بعد عرض الفيلم بأقل من خمس سنوات: حين تحققت واحدة من نبوءاته الأسياسية، وذلك حين اندلعت الثورة الخمينية في إيران ومكّنت راديكاليين من الاستيلاء على منابع النفط في هذا البلد، ما جعل واشنطن على أهبة الاستعداد - ودائماً بناء على نصائح السي آي إي - لتجهيز جيوشها للنزول في المناطق النفطية حين يحتاج الأمر ذلك، أو حين تلوح الفرصة. وهذه الفرصة لاحت بالطبع لاحقاً، حين احتل صدام حسين الكويت، ما سمح لمئات الألوف من الجنود الاميركيين بالتوجّه الى الخليج وخوض حروب متتالية فيه.

تُرى هل قال احد مرة إن الواقع يقلِّد الفن احياناً، ويقلده بقوة وإقناع، بعدما يكون الفن أشبه بلعبة خيالية؟

alariss@alhayat.com

الحياة اللندنية في

26/11/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)