حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«بيوتيفول» ...

الفيلم الذي حوّل القبح فناً جميلاً

شريف حتاتة *

في عصر العولمة الرأسمالية الذي نعيش في ظله أكثر من أي عصر سابق، أصبح المجتمع غابة، يتنازع فيها أغلب الناس حتى يتمكنوا من البقاء على قيد الحياة. هذه الحقيقة احتلت مكاناً بارزاً في عدد من العروض التي شاهدناها حديثاً في بانوراما الفيلم الأوروبي الذي نظمته في القاهرة المنتجة والمخرجة ماريان خوري بالتعاون مع عدد من الهيئات للعام الثالث على التوالي، فأتاحت لنا أن نرى مجموعة من الأفلام الجيدة بدلاً من سيل الأفلام التجارية الأجنبية والمحلية التي تزحف علينا طوال الوقت.

ينطبق هذا القول بشكل خاص على فيلم «بيوتيفول» الذي أخرجه المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو. بدا لي أنه اختار اسم «بيوتيفول» لفيلمه الذي كان عرض في دورة «كان» الأخيرة، وفاز ممثله الرئيس بجائزة أفضل ممثل، من باب السخرية. فهذه الكلمة تعني باللغة الإنكليزية «رائع الجمال» بينما كل ما يدور فيه قبيح، يبعث على الكآبة. مع ذلك يستحوذ الفيلم من بدايته حتى النهاية على المشاهد، يُحاصره، يأسره، لأنه على رغم كل القبح الذي صوره لمدة ساعتين، والذي عشناه مع الشخصية الرئيسية فيه، مع الرجل الذي اسمه «أوكسبال» ومع المحيطين به سواء كانوا أفراداً، أم جماعات لا يُمكن وصفه إلا بكلمة «بيوتيفول».

مهن غير شرعية

«أوكسبال» تاجر في السوق السوداء، ومقاول أنفار من المهاجرين غير الشرعيين في مدينة برشلونة الإسبانية، منفصل عن زوجته «مارامبرا»، وهي مومس تُعاني من مرض نفسي هو الهوس الاكتئابي. يرعى أوكسبال طفلين أنجبتهما منه: فتاة في العاشرة من عمرها اسمها «مارمبا»، وصبي عمره سبع سنوات يُدعى «ماتيو». طفلان ظريفان يعيشان معه في المساحة الضيقة لشقته الواقعة في أحد الأحياء الفقيرة للمدينة. يُصارع من أجل سد احتياجاتهما، ورعايتهما، وتوفير قدر من الأمان لهما في ظل الظروف الصعبة والخطرة التي تُحيط به. فالنشاط الذي يقوم به هو توزيع حقائب نسائية، وسلع آخرى تُنتج في ورشة غير مرخص لها قانوناً يملكها رجل صيني، ويعمل فيها ما يقرب من عشرين امرأة صينية مهاجرة. يقوم «أوكسبال» بالتوزيع من طريق تسليم الحقائب لشبكة من التجار الجوالين من الأفارقة السود، مهاجرين غير شرعيين هم أيضاً، الذين يقومون بتجارة المخدرات عندما تُتاح لهم الفرصة لذلك.

هكذا في أحد المشاهد البارزة والمرعبة للفيلم نرى أفواجهم عندما ينقض عليهم رجال البوليس، ويُبعثر بضاعتهم بعنف، ثم يُطاردهم خلال الشوارع مطاردة الوحوش لفريسة. مشهد يُكثف الحركة المتوترة للفيلم التي صنعها كتاب السيناريو الثلاث، المخرج إيناريتو ومعه أرماندو بو ونيكولاس جاكوبوني، وقام بتكثيفها المسؤول عن التحرير ستيفان ميريوني. هذه الحركة المستمرة، المتوترة جسدها أيضاً المصور رودريجو بييترو الذي أبدع في اللقطات المتتالية السريعة بألة تصويره الشيطانية، حملها أغلب الوقت على كتفه أو بين ذراعيه، حركة عكست طبيعة الحياة التي يعيشها الناس، والتي لا تعطيهم الفرصة كي ينعموا بالهدوء، أو الاستقرار ولو للحظة. حركة مستمرة متوترة هي حياة الرجل «أوكسبال» فيما عدا الفترات القصيرة التي يُمارس فيها دوره كأب لطفلين يُحبهما، فيُعد لهما الطعام ويتناوله معهما على المائدة الصغيرة، أو يتبادل معهما الحديث، ويُجيب على أسئلتهما القلقة، أو يتأملهما في لحظة من الصمت يقتنصها من ضجيج المدينة فنرى على وجهه الخشن المتعب ابتسامة تنطق بالرقة والسعادة المضيئة. طفلان يشعران بالخطر المحلق فوقهما على رغم المال الذي يحصل عليه الأب من نشاطه في السوق السوداء، أو من توريد أنفار مهاجرين ليعملوا في إقامة مبان تحت نظام قريب من السخرة.

حياة أسرية مرهقة، محاصرة بالمشاكل، فالأم «مارامبرا» المعتلة نفسياً (قامت بدورها الممثلة «مارسيل ألفاريز») لا تتوقف عن تناول المخدرات والخمور وتُضاجع «تيتو» مقاول الأنفار الفاسد شقيق «أوكسبال»، ثم لا تكف عن النزاع مع طليقها المهدد على الدوام بسبب نشاطه غير الشرعي، الذي يضطره للتعامل مع أحد ضباط البوليس يدفع له رشاوى في علاقة قوامها المساومة، والتهديد حتى تغض السلطات الطرف عما يدور في ورشة الرجل الصيني، وعن تعامله معه ومع شبكة الأفارقة المهاجرين.

على حافة الجحيم

حياة على حافة جهنم بل في قلبها يعيشها «أوكسبال» الذي يُخاطب الأسلاف في خياله كأنه يستمد منهم استمراره، ويبحث عن السلوى والنصح عند امرأة فيها حكمة الناس البسطاء القدامى ربما تُعوضه عن أمه الراحلة. إنه رجل يُخفي أشياءً في أعماقه فخلف وجهه الصلب المتجهم، خلف نظرات عينيه الواسعتين المطلتين على العالم وعلى الناس في قسوة، خلف توتره وغضبه وعنفه مع الذين يُحاولون سلبه من مستحقاته هناك عواطف ورقة دفينة. في أعماقه حب لزوجته البائسة يجد لها الأعذار بسبب ما تُعاني منه، حب لطفلته تتأمله في صمت عندما يغضب، للصبي الذي يسأله ببراءة سنينه السبع.

في أعماقه تعاطف مع الأم الصينية «لي» التي تُرضع طفلها، ومع النساء اللائي يعملن في الورشة لساعات طويلة تبدأ قبل أن يبزغ النهار، وتمتد إلى ساعة متأخرة من الليل، ليغفلن ساعات قليلة في بدروم يسعهن بالكاد فيستلقين فيه جنباً إلى جنب كأنهن في عنبر من عنابر السجن. يبتاع لهن أجهزة تدفئة تعمل بالغاز لحمايتهن من البرد. يتعارك مع رجال البوليس عندما ينقضون على البائعين الجائلين السود. يُقدم العون لامرأة سوداء لها طفل عندما تُطرد من مسكنها، ويؤويها في شقته.

مع ذلك تقف الأقدار بالمرصاد للبؤساء. أثناء الليل يتسرب الغاز من أجهزة التدفئة الرخيصة التي ابتاعها، فتختنق جميع النساء النائمات. تُحتجز زوجته في مستشفى للأمراض العقلية. هو رجل محكوم عليه بالموت، مصاب بالسرطان في البروستاتا تسللت خلاياه المدمرة إلى أعضاء أخرى في جسمه، يُخفي السائل المدمم الذي يصبه في المرحاض عندما يتبول، ونوبات الألم الحاد التي تنقض عليه فتجعله ينثني بقامته حتى يكاد يلامس بلاط الحمام الذي يقف عليه. لذلك يقرر أن يُوكل رعاية طفليه للمرأة السوداء التي أواها في بيته. يتفق معها على رعايتهما ويُعطيها ما تبقى له من المال لتقوم بهذه المهمة. لكن بعد أن اتفقت معه تصطحب ابنه للمدرسة في الصباح، ثم تتجه إلى المطار لتبتاع تذكرة العودة إلى بلادها. ففي ظل نظام لا تُوجد فيه أدنى ضمانات للحياة يُصبح الهدف الأوحد للناس هو الصراع من أجل البقاء. إنهم لا يُقاومون أية فرصة تُتاح لهم للنجاة مهما كانت فاسدة، مهما فاحت منها روائح الغدر والخيانة.

الفيلم لا يكف عن عرض هذه المآسي المؤلمة. لهذا السبب كان يُمكن أن يفشل. مع ذلك استطاع المخرج أن يخلق حالة من الانتباه لدى المشاهد، وأن يُسيطر على وسائله الفنية ليُحقق عملاً سينمائياً مؤثراً للغاية، عملاً فيه انسجام ومنطق كلي تتداخل وتتفاعل أجزاؤه. الفيلم لا يعرض علينا شوارع ومباني وميادين، وشواطئ برشلونة الجميلة، وإنما أحياء تحتضر، وتنهار، وتتحول إلى قمامة عمرانية لا يقطنها سوى بشر همشتهم، وغربتهم وحكمت عليهم بالبؤس والشقاء. استخدم في تصوير العديد من المشاهد اللون الأزرق المكثف الموحي بالكآبة والحزن، بالخشونة الجارحة. وتعمّد استخدام الصوتيات التي تصنع الحدة المُرة، والنغمات الشاذة، كأنها تضرب على أوتار مريضة تُزيد من إحساننا بالعذاب والقهر الذي تُعانيهما شخصيات الفيلم.

لم يُعط للكاميرا فرصة حتى تستريح، حتى تُبدد التوتر الذي ظل عنصراً أساسياً في حياة الناس التي عرضها علينا. وقبل ذلك كله اختار للقيام بدور «أوكسبال» ممثلاً رائعاً هو «خافير بارديم» الذي حمل الفيلم على كتفيه مثلماً حمل المسيح صليبه. اختاره ثم قام المصور رودريجو بييترو بتسليط الكاميرا عليه في مختلف المواقف، ومن مختلف الزوايا، وعلى الأخص في اللقطات التي اقتربت من وجهه، من ملامحه الخشنة الصخرية، الرافضة للمساومة، الناطقة بعذاب صامت، سلطها على شعيرات اللحية الشعثاء تحكي النهاية، على العرق البارد ينز من مسام الوجه المظلم الشاحب يُنبئ بالموت القادم.

إنه فيلم عن الصراع من أجل البقاء، لكنه أيضاً فيلم عن الموت، عن إنسان رفض النهاية لكنه أعد لها لأنه كان يُفكر في طفلين سيتركهما وراءه. فيلم يقول لنا أن هذا العالم لا يُعاش وما لا يُعاش يجب تغييره.

* روائي مصري

الحياة اللندنية في

26/11/2010

 

وجهة نظر

دَين السينما العربية على أفريقيا

الدار البيضاء - مبارك حسني 

في كل مرة تتأكد الملاحظة التالية: أن السينما الأفريقية الآن هي رهينة مشروطة من دون هوادة بوجود تمويل غربي، فرنسي بالأساس في الجزء الأكبر من القارة السمراء بحيث يستحيل معه تماماً أن يظل مفهوم «السينما الأفريقية» الذي نُحت قبل عقود أربعة من طرف السينمائيين الأفارقة العصاميين شيئاً متداولاً، وبالتالي أن تستمر بعض قاعات العالم الملحقة بالمهرجانات العالمية في عرض الصورة الأفريقية الغائبة أصلاً من التداول العام والشعبي، المقصود هنا، السينما السمراء، ذاك المفهوم الذي يسمى نزوعاً نبيلاً للتحرر والانعتاق من أسار الصورة المرسومة في الذهن للزنجي والزنوجة بسبب التسلط الاستعماري الطويل وما استتبع ذلك من تمزق وتشتت وتناحر ما بين شعوب القارة وقبائلها إثر انهيار القيم المتعددة المختلفة لهذه الشعوب إزاء التغلغل «الحضاري» الغربي. هذا الاستعمار الذي تلا عهوداً طويلة من العبودية والرق التي محت كل خصوصية أدمية وكل اختلاف هوياتي عن الزنجي المضطر إلى إتباع وتقمص ثقافة الأسياد.

ولقد كانت دعوة الشاعر السنغالي الكبير ليوبولد سنغور الى التشبث بـ«الزنوجة» Négritude والتأكيد عليها كعلامة مميزة وخاصية للزنجي، من أكثر الدعوات التي دعت إلى قيام تمرد ثقافي عام يركب متن التشبث بثوابت الأفريقية ثقافة والاعتزاز باللون. وقد وجدت الدعوة لدى العديد من السينمائيين الأفارقة ضالتهم كعميد السينمائيين السنغالي صمبين أوسمان، بحيث سارعوا إلى إنتاج أفلام تمشي في هذا المنحى، فكان ذلك بداية ما سمي بالسينما الأفريقية.

لكن نبل الفكرة وميل الأفارقة لم يشفع لها كي تستمر وتتطور وتصير دلالة على تكون حقيقي وفعلي للسينما الأفريقية: أي وجود إنتاج كمي مهم ومحترم وتوزيع متداول وعرض منتشر وجمهور متعطش قابل لمعانقة ذاته بهمومها وأفراحها وهواجسها على المستوى السينمائي. لقد قضى الفقر، فقر القارة الناجم عن مشاكلها البنيوية العويصة على استمرار الحلم. فانحدرت السينما الأفريقية تدريجاً حد الانقراض. حتى بات مشهد أفريقي يشتري «تذكرة» سينما مثل أي بضاعة أمراً مستغرباً. فقارة تطفر فيها صورة موزعة ما بين مشاهد التناحر ومساعدات العالم «المتحضر» لا تستطيع الحلم بالسينما...!!!

علامات السينما الأفريقية

ماتت إذن فورة النزوع الاستقلالي الأفريقي على مستوى إبداع صورة سينمائية جماهيرية مستمرة ودالة. لكن حدث ما يحدث في البلدان التي لم تستطع تكوين صورة خاصة سينمائية بها، وهكذا يظهر من حين الى آخر مخرجون متميزون يبدعون أفلاماً ذات قيمة فنية عالية، بفضل العيش في الغرب وبواسطة مال هذا الغرب. كالبوركينابيين غاستون كابوري وإدريسا وادراوغو والمالي سليمان سيسي والموريتاني العربي عبدالرحمان سيساكو... وآخرين. سينمائيون يؤلفون ويمارسون حلمهم الفني بالمساعدة الغربية تماماً مثل زملائهم «العرب الأفارقة» الذي يتميزون مهرجانياً (في المغرب وتونس والجزائر ومصر أحياناً).

وهكذا تصير السينما الأفريقية مفهوماً لواقع سينمائي صغير وهامشي هش قد يندثر في أي لحظة إذا ما انقطع التمويل فجأة، ولم يتوافق وأطروحاته المحددة. هذا بالإضافة إلى أن هذا الواقع الصغير يبدو في جزئه الكبير في مصلحة المسيرة الفنية لأصحابه المخرجين أكثر منه لمصلحة أفريقيا، على مستوى الإشعاع الثقافي العام وعلى مستوى الجماهيرية المطلوبة، على رغم ما يمنحونه لها من حضور على كل حال في ظل التنافس الشديد في إطار المهرجانات العالمية كإنقاذ خجول لماء الوجه! فهم الذين يوصلون هذه الصورة الأفريقية المنبعثة من ذات مخرجين أفارقة إلى العالم، بنفَس السينما ونفَس الإبداع ونفَس المقاربة الفنية العالمية. فالمساواة على كل تكون سينمائية وإن لن تكن اقتصادية واجتماعية وسياسية بما أن الفن إنساني الطابع لحسن الحظ.

كل هذا مكن السينما الأفريقية من الحفاظ على تواجد فني ذي خصوصيات معينة. وهذه الخصوصيات تشاهد من حين الى آخر في المهرجانات كمهرجان خريبكة السينمائي الذي يقام المغرب منذ علم 1977 ومهرجان قرطاج بتونس ثم مهرجان واغادوغو في بوركينا فاسو وبعض مهرجانات أفريقيا الجنوبية ذات الوضعية الخاصة جداً داخل القارة. وهذه الخصوصيات لا تزال مستمرة كما سطرها العمداء السينمائيون الأوائل مع بعض التنويع.

ويلاحظ أن هذا الحضور المهرجاني هو في جزء كبير منه تتولاه أفريقيا العربية بالأساس. والحق أن ذلك ليس اعتباطاً لأن للزنوجة حضوراً وهي مكون هام من مكونات دول شمال أفريقيا. هذا بالإضافة إلى العلاقات التاريخية الكبرى ما بينها وبين دول أفريقيا جنوب الصحراء. وسينمائياً ساهم مخرجو ومنظرو السينما في شمال القارة في نسج وترسيخ مفهوم السينما الأفريقية في فتراتها الأولى، وعلى رأسهم الناقد والسينمائي الكبير التونسي الطاهر شريعة الذي رحل عنا أخيراً، والناقد السينمائي المغربي نور الدين الصايل وسينمائيو الجزائر في فترة سينما التحرير، مع عديد من منظري وسينمائيي مصر في فترة الانخراط العالم ثالثي.

مفهوم السينما الأفريقية من المفاهيم المثالية الجميلة التي حاولت أن تخلق هوية مستقلة وعلامة ثقافية مميزة لقارة كبرى، لكنه لم يصمد كثيراً أمام قوة المادة، وقوة الغرب، وقوة الاختلاف السلبي في داخل الدول الأفريقية نفسها. لكن يبقى لها بعض ألق ومساحة حضور بمساعدة وانخراط السينما الأفريقية العربية. وفي هذا الإطار يقوم المركز السينمائي المغربي سنوياً بالمساهمة في إنتاج أفلام من مالي والسنغال وساحل العاج ودول أخرى، كما يفتح للكثيرين مختبراته وآلياته التقنية لاستكمال مراحل ما بعد الإنتاج. وفي ذلك بعض التعويض.

الحياة اللندنية في

26/11/2010

 

مساوئ المجتمع في عمل يكتشف حقائق الحياة

أمل الجمل 

«يُرجى عدم الإزعاج» للمخرج الإيراني محسن عبدالوهاب والحاصل على الجائزة الفضية في مهرجان دمشق السينمائي الدولي الثامن عشر كان واحداً من أهم أفلام مسابقته الرسمية للأفلام الطويلة. لا يمكن وصفه بالعمل العظيم أو الكبير، لأنه شريط سينمائي سهل ويسير، من دون أية تعقيدات أو حوارات فلسفية، ومع ذلك لا يخلو من عمق المشاعر وجمال الرؤية. يُمكن وصفه بالسهل الممتنع. تتحرك فيه الكاميرا المحمولة بسلاسة وخفة لتبث فينا توتراً يغلف الشخصيات والأحداث. يستمد الفيلم قوته وخصوصيته من بساطة المعالجة السينمائية وطبيعتها، من قدرة مخرجه على تقديم حكايات شبه عادية نعايشها يومياً بأسلوب سرد سينمائي مغاير مشدود الإيقاع، مستعيناً بالخط الكوميدي وخفة الظل والسخرية المتكئة على المفارقات، معتمداً على الحوار بدرجة كبيرة من دون إغفال أهمية الصورة.

حوار الفيلم تلقائي رشيق يكشف خلفيات سلوك أبطاله ومنبع بعض مشاكل المجتمع الإيراني التي يمكن تعميمها على كثير من المجتمعات لما فيها من صبغة إنسانية. هو من دون شك فيلم يحمل رسالة إنسانية وأبعاداً درامية، ويبحث في جماليات لا تعتمد على الإبهار.

ينتقل السرد السينمائي من حكاية إلى أخرى عبر الصدفة التي تجمع الشخصيات في أماكن واحدة. يحكي في شكل أساسي ثلاث قصص عن خمس شخصيات رئيسة تتخللها حكايات فرعية وشخصيات أخرى ثانوية. يتناول مواضيع شتى، للمرأة حظ وافر منها، إذ يطرح قضية ضرب الزوجات وانتهاك حقوقهن حتى في الأوساط الثقافية، وإشكالية ارتباط النساء المتقدمات في السن بشباب أصغر منهن، فيثير تساؤلاً استنكارياً عن علاقة الحب بالسن؟ يطرق مشكلة ترك الأبناء لذويهم العجائز واختفاء أواصر المودة والرحمة، ومن ثم حالة الرعب والخوف الشديد عند كبار السن جراء عزلتهم. لا يغفل العمل مشكلة البطالة التي أصبح يُعاني منها كُثر من مختلف الأعمار. يُحذر هامساً بأسلوب كوميدي من مخاطرها وما يُمكن أن ينجم عنها من تدمير للأسر وللروابط الإنسانية.

على رغم عنوانه الذي يُحيل إلى تلك الجملة المدونة على لافتة تُعلق على أبواب الغرف في الفنادق «يُرجى عدم الإزعاج»، فإن لا علاقة للفيلم بالفنادق من قريب أو بعيد. إنه يحكي عن المشاكل التي تزعجنا وتزعج الآخرين. من خلف باب موصد في وجوهنا نسترق السمع إلى الحكاية الأولى. يأتينا صوت عراك وبكاء. ما أن يُفتح الباب حتى تتدفق التفاصيل بسيولة وخفة ظل. مذيع تلفزيوني شهير، لبرنامج «توك شو» قائم على المسابقات، يقوم بضرب زوجته الشابة لأنها تُصر على أن يصطحبها إلى حفل زفاف صديقتها الحميمة. يسمح لها بالحضور من دونه شريطة ألاَّ تُلتقط لها صور بصحبة الرجال. تخرج الزوجة غاضبة باكية. يطاردها الزوج محذراً إياها بأنها ستدمر زواجهما الذي لم يمر عليه ستة أشهر. أمام عناد الزوجة يتحول التهديد إلى رجاء وتوسل بألاَّ تذهب إلى بيت والديها حتى لا تُفسد صورته أمامهما. يحاول الزوج تقديم التبريرات لفعلته المشينة، مؤكداً أنه ليس استثناء بين الرجال، فمنذ العصر الحجري تُضرب المرأة، حتى في القرن العشرين كان الرجل لا يزال يضرب المرأة، حتى وسط المثقفين لا يخلو من مثل تلك التصرفات. مع ذلك ينتهي إلى الإقرار بأنه في حاجة إلى إصلاح ثقافي. تُصر الزوجة على تسجيل محضر ضده في مركز الشرطة. يحاول منعها من دون جدوى. أمام قسم الشرطة يُؤكد له العسكري أن هذا المكان يزوره المشاهير من الفنانين ولاعبي كرة القدم، ثم ينصحه بشراء الهدايا لزوجته، لكنها حتى بعد شراء فستان سهرة لها تُصرّ على الذهاب إلى النائب العام مشددة على أهمية ما تفعله لأنها تقوم بإصلاحه ثقافياً.

طوال الحكاية الأولى يكشف السيناريو، عبر تفاصيل دقيقة سريعة، عن مشاكل أخرى مزعجة منها الضريبة الفادحة للشهرة، حيث تُنتهك الخصوصية ويفقد أصحابها حريتهم الشخصية. يكشف أيضاً تفاهة برامج «التوك شو» وسطحيتها وقيامها بدور خطير في تسطيح الناس. ينزع الغلالة عن رغبة الزوج الشرهة في تكوين ثروة وشراء منزل وفيلا وتحقيق رخاء مادي، فذلك أهم من مصاحبة رفيقته، في حين ترغب الزوجة في علاقة إنسانية قائمة على الود والحب والتواصل حتى في ظل ظروف مادية معقولة. تطلب منه أن يعود إلى عمله كصحافي، أن يعود للتعبير عن رأيه ومشاعره إزاء ما يحدث في مجتمعه، فقد كان يلعب دوراً اجتماعياً لكنه تحول الآن إلى ببغاء.

شيخ وقور غير مُحصن

تبدأ الحكاية الثانية من اللحظة التي تستقل فيها الزوجة سيارة للأجرة كان أوقفها شيخ وقور لنفسه ثم تنازل عنها لها. يستقل الشيخ، نعرف لاحقاً أنه مأذون من أصول شريفة، تاكسي آخر يقوم سائقه بمطاردة المذيع لأنه كاد يدهسه وتطاول عليه. يظل السائق ثائراً لاعناً الشهرة متوعداً الزوج مطارداً إياه في شوارع المدينة حتى يكاد يتسبب في وقوع حادث، بينما يُواصل الشيخ الوقور تهدئته ونُصحه. نكتشف في مشهد لا يخلو من دلالة رمزية بليغة، أن هذا الشيخ بكل إيمانه العميق وتقواه وأصوله الشريفة هو نفسه غير محصن، فبسبب حقيبته المثقوبة سُرق هاتفه وحافظته بما فيها من أموال وأوراق ثبوتية تخص زبائنه.

في مكتبه، يجد المأذون رجلاً وزوجته وأولادهما الثلاثة في حالة عراك متقد أثناء انتظاره للانتهاء من إجراءات الطلاق. يطلب منهما الانصراف والتروي وإعادة التفكير. كما يرفض تزويج شاب عشريني بامرأة أربعينية ثرية بحجة أنه زواج مغرض غير متكافئ، متغاضياً عن توسلات المرأة، رافضاً بحزم عرضها المالي المُغوي بينما هو في أزمة مالية عاتية، إذ إن أمواله المسروقة كانت مخصصة لدفع إيجار المكتب، كما أن السارق يبتزه بمبلغ ستة ملايين حتى يُعيد اليه أوراقه الثبوتية.

الحق على العزلة

تبدأ المساومات بين المأذون واللص عبر حوار هاتفي متوتر سريع. أثناء ذلك تبدأ الحكاية الثالثة عندما تدخل سيدة مُسنّة تسأل عن صاحب المحل المقابل ثم تطلب من الشيخ أن يُبلغه رسالة بخصوص المستأجر الجديد لشقتها.

ما إن تخرج المرأة العجوز حتى تُلاحقها الكاميرا إلى بيتها حيث تعيش وحيدة معزولة مع زوجها المسن الغائب عن كل ما يدور حوله. نعرف بعض مشاكلهما معاً قبل أن يدق جرس الباب الخارجي عامل إصلاح التلفاز جاء حاملاً طفلته الرضيعة. ترفض المرأة المسنّة أن تسمح له بدخول الشقة خوفاً من أن يكون لصاً. بعد توسلات العامل وشرحه حكاية انفصاله عن زوجته يرق قلب المرأة للطفلة الباكية فتقوم بتغيير حفّاضها وتُعد لها وجبة طعام. يقوم العامل بإصلاح جهاز التلفاز من خلف الباب الحديد في مشهد كوميدي يكشف كيف تغرس العزلة الإحساس بفقدان الثقة في الناس، وتتحول إلى سجن لا يُطاق.

يختتم المخرج فيلمه بلقطتين محمّلتين بالدلالات في الأولى. نرى المأذون على رصيف محطة المترو في انتظار القطار ينصح والدة اللص ويُعلمها التجويد. في اللقطة الأخيرة تذهب الزوجة بصحبة زوجها إلى حفل الزفاف بينما تحوم سيارة الشرطة حول المكان فتُثير الاضطراب في قلوب الضيوف والحراس.

الحياة اللندنية في

26/11/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)