حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

تخلى عن مهنة الطب لأن السينما تداوي أيضا

الممثل الجزائري حسان قشاش: اتمنى تجسيد شخصية محمود درويش

أبو ظبي من فاطمة عطفة

من الجزائر يطل علينا الطبيب والفنان القدير حسان قشاش المتميز بحضوره وأدائه وفنه حاملا معه أصالة وعراقة بلده وتطلعات أبنائه وطموحاتهم لبناء المستقبل. التقيناه في 'ابو ظبي' خلال مهرجان ابو ظبي السينمائي وكان هذا الحوار:

·         لماذا اخترت السينما؟ وما هي الاعمال التي تعمل عليها حاليا؟

* 'الممثل السينمائي هو الذي تكون الخيارات أمامه أوسع. بعد مهرجان أبوظبي انا ذاهب إلى مهرجان قرطاج في تونس وسيكون احد افلامي داخلا في المنافسة، وكانت لدي مشاركة في ما بعد في مسلسل تلفزيوني عن حياة مناضل جزائري، وهو عيسات إيدير مؤسس الاتحاد العام للعمال الجزائريين، إلى جانب مجموعة من المناضلين النقابيين الجزائريين، وكان لديه اتصالات بالحركة النقابية المغربية والتونسية، وكان صديقا لفرحات حشاد التونسي، الذي مثلت شخصيته في المسلسل. هذا المسلسل عرض على التلفاز الجزائري وقد أعيد عرضه. بعد ذلك كان لي فيلم بوليسي، وهنا ننتقل من شخصية تاريخية فاعلة إلى شخصية مفتش في الشرطة. والسيناريو مأخوذ من قصة للكاتب الجزائري الكبير ياسمينة خضرا، وهو حاليا مدير المركز الثقافي في باريس ومن إخراج بشير الريس. هذا وسيتم عمل نسختين منه واحدة للتلفاز والأخرى للسينما، المفروض أنه في التلفاز هناك ست حلقات كل واحدة منها تتكون من خمسين دقيقة إلى ساعة، لكن على الأرجح أن المادة تكفي لصنع عشر حلقات. أيضا كان لي فيلم مع محمد راشدي، فقد انتهيت من التصوير منذ عشرة أيام، وهو فيلم وثائقي بعنوان (نقطة نهاية أول تشرين الثاني/نوفمبر 1954) يتكلم عن تاريخ الحركة الوطنية وصولا لانطلاقة ثورة التحرير المجيدة، هو فيلم وثائقي بشهادات حية، فيه مادة أرشيفية وفيه مادة تمثيلية، عندما لا نجد مادة أرشيفية نعيد تمثيل الأحداث المكتوبة، وقد أخذت دور الشهيد مصطفى بن بولعيد. ربما في كانون الاول/ديسمبر سيكون هناك مشروع جديد مع المخرج محمد شويخ اسمه 'الأندلسي' تنطلق أحداثه من سقوط غرناطة زمن أبو عبدالله الصغير والملكة عائشة والدته والوزراء والمستشارين، يتكون من حوالي عشرين مشهدا أو أقل، في البداية سنتحدث عن سقوط غرناطة ومحاكم التفتيش كيف كانت، عن حنين للأندلس التي كانت جنة للتعايش بين الأديان وكانت جنة للإشعاع العلمي والثقافي، إلى سقوط وتراجع غرناطة، ذلك من خلال الشخصية في الفيلم التي عادت من الأندلس إلى المغرب العربي، بالتحديد سنركز وسنتكلم عن الجزائر وربما سنتكلم عن المغرب وتونس. لكن الفيلم يركز على أربع مدن جزائرية وهي تلمسان، وهران، مستغانم والجزائر، ويمكن مراكش. وربما يكون هناك تصوير في إسبانيا، حيث يبدأ الفيلم بغرناطة وهي تحترق وأبو عبد الله الصغير ومقولة والدته الشهيرة: 'ابكِ مثل النساء ملكا مضاعا/ لم تحافظ عليه مثل الرجال'! ثم نعود للجزائر، فهناك الكثير من الأندلسيين عادوا للجزائر وتونس والمغرب واستقروا. من خلال هذه الشخصيات سنلقي الضوء على ما كان يحدث في الجزائر في أواخر القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر، بدءاً من الجزائريين إلى الأتراك إلى الإسبان الذين لاحقوا الأندلسيين في محاولة احتلال أجزاء من الجزائر وتونس واحتلوها. يدور في الفيلم صراع كبير وحبكة درامية من خلال شخوص العمل، فشخصيات الفيلم ستنقلنا بتواطؤ منا إلى ذلك الوقت. وهناك أيضا مشروع آخر مع أحمد راشدي، لأن هناك سلسلة من الأفلام التاريخية تنتج في الجزائر، وسيقوم أحمد بإخراج وإنتاج أحدها. وهناك كذلك فيلم آخر عن بطل اسمه كريم بلقاسم، وهناك أفلام عن أحمد سابانا وهو لمخرجين آخرين. وأحمد سابانا هو أول من أعدم بالمقصلة. أيضاً هناك فيلم عن العقيد لطفي الذي كان قائد ولاية، وهناك فيلم عن العربي بن مهيدي، ومجموعة من الأفلام التي تضيء كفاح الشعب الجزائري خلال الفترات الاستعمارية. هناك فيلم آخر اسمه (ربما في يوم ما) وهو لمخرج صديق اسمه مراد شورار، تتناول قصته أيضاً التاريخ، لكن من خلال مساجين جزائريين سقطوا بيد النازيين. نحن نتكلم عن الحرب العالمية الثانية هنا، فمعظم جنود فرنسا أثناء حروبها الاستعمارية كانوا جنودا من مستعمراتها. في الفيلم نحن نتكلم عن الجزائريين الذين حاربوا مع فرنسا ضد ألمانيا حرباً لا تعنيهم، وقد اعتقلوا وأرسلوا لأحد مراكز الاعتقال الألمانية وتمكنوا من الهرب. هي قصة حقيقية وبطل الفيلم الذي أؤدي دوره مازال حياً وعمره بالتسعينات وابنته هي التي تروي القصة، تقول: عندما هربوا من السجن على الأقدام وقطعوا ألمانيا كلها وعبروا في ظروف مناخية صعبة وكانوا على حافة الموت وهم يصارعون لأجل البقاء والتحدي، ولكن كان الحافز لديهم هو فكرة العودة للجزائر واستطاعوا أن يتجاوزوا نهر الرون ويدخلوا فرنسا التي كانت محتلة من قبل الألمان وينضموا لصفوف المقاومة الفرنسية إلى آخره'.

·         أنت شاب وسيم الوجه، هل الشكل بنظرك يساعد الممثل إلى جانب الموهبة؟ وهل الشكل الجميل يسبب أحيانا ضيقا للممثل، سواء من المعجبين أو من خلال غيرة المرأة من ملاحقة المعجبات به؟

* 'نحن نتكلم عن الصورة، الصورة في الحقيقة لها مكوناتها. هناك جزء من الفيلم أو الدراما بشكل عام لديها عدة وظائف، منها الإبداع وشد المشاهد والتثقيف والتعليم وتسليط الضوء على التاريخ، وأحد هذه الوظائف هي الصورة الجميلة. لذلك، أعتقد أن شكل الممثل أو الممثلة يلعب دورا، لكن هذا لا يمنع من أن نتوصل في الإجابة إلى أن هناك نوعين من الشخصيات المطلوبة، الأول الشخصية والثاني النمط، فنحن أحيانا عندما يتعلق الأمر بشخصية تاريخية معروفة: كاتب، مفكر، قائد كغاندي مثلا، فنحن نبحث عن شخص يشبهه كما حدث معي بالنسبة لشخصية مصطفى بن بولعيد. الآن يجري البحث عن شخصيات تاريخية مثل بلقاسم، زلفانة والعقيد لطفي. وهناك جانب آخر، نحن نحتاج لشخصية هكذا يكون شكلها وتكوينها مناسبا. ممكن هنا أن تكون لدينا حرية في الاختيار، من الممكن أن تكون لدينا شريحة عمرية هي التي تحدد الاختيار للمخرج، وهنا نظرة المخرج تختلف: فهناك نرى مخرجين مبدعين لدرجة أنهم عندما يرون شخصا يرون فيه شيئا معينا يتناسب مع شخصية معينة فيختاره، بالنسبة للشق الآخر من السؤال، أعتقد أن هذا شيء صحيح وهذا هو ثمن الشهرة والانتقال من حقل العمل الخاص لحقل العمل العام، وهذا تترتب عليه نتائج. لذلك يجب أن يكون هناك وعي يبنى عليه حوار ما بين الشخص ومحيطه، سواء كان رجلا أو امرأة، يجب أن تكون الأمور واضحة من البداية حتى يكون في ما بعد الاستيعاب أفضل. وهذا الحوار يجب أن يكون بشكل مستمر لأنه في بناء العلاقة بين الطرفين لا يكفي أن نقول مرة واحدة أحبك أو أنت تعنين الكثير بالنسبة لي، هذه عملية يومية ومتكررة فنحن بشر وبحاجة لنوع من الاطمئنان والسكينة في نفوسنا التي تأتي نتيجة هذا التواصل'.

·         أنت من حاملي شهادة الطب، كيف سيطرت مهنة وهواية التمثيل على الطب؟ وهل تستفيد من دراستك عند انتقائك وأدائك للشخصية؟ أم أن الدراسة العلمية تثقل الموهبة وتحصرها في حدودها؟

* 'في الواقع الدراسات الجامعية مهما كان الاختصاص لن تكون إلا إضافة للفنان. في النتيجة الفن هو لغة التكوين، وهو لغة تواصل وميكانيزمات عمل ومبادئ وأسس وتقنيات. صحيح، إن كانت هناك دراسة جامعية، يكون هذا إضافة جيدة بالإضافة إلى اللقاءات والحوارات والتجربة الإنسانية. هذا السؤال سألني إياه أول مرة أحمد راشدي، قال: هل أنت قادر على أداء الدور؟ فقلت له: نعم. فقال: كيف؟ فأنت طبيب. فقلت: أستطيع، فأنا أرى أن الطبيب الناجح فنان، والفنان الناجح هو طبيب، حيث أنه يستطيع أن يداوي النفس والروح فأعجبته الفكرة وأخذ يضحك. إذن، من حيث المبدأ، أي دراسة جامعية تفيد. فالدماغ كالعضلات بحاجة دوماً للتدريب، فالتدريب يؤدي للتشبع بالخبرات والمعلومات الجديدة وتطوير طريقة التحليل والتركيب. أيضا هناك عنصر مهم وهو درجة حساسية الفنان كالموسيقي والشاعر والرسام، درجة الحساسية التي تكون لديهم عالية تجعلهم يشعرون بالآخر، شعورنا بالآخر يجعلنا نتقاسم معهم اللحظات الإنسانية، الطبيب ليست وظيفته فقط أن يفحص المريض، بل منذ لحظة دخول المريض هناك شيء من دقة الملاحظة توحي للطبيب بأن الشخص يؤلمه صدره أو معدته إلى آخره. وهذه الدقة تخدم. هناك أيضا عامل بناء الثقة بين المريض والطبيب، وإلا لن يكون هناك تواصل بينهما، ولن يتناول المريض علاجه. دقة الملاحظة والإحساس بالآخر هذا يعطي أدوات تستخدم في العمل، ففي النتيجة هناك سيناريو وشخصية يجب أن تدرس، وكل منا يفكر كيف يستطيع أن يخرج هذه الشخصية، المخرج لديه تصور لها، المخرج ينقل لك حياة الشخصية التي ستؤدينها حتى تتشبعي بالشخصية وتستطيعي أداءها'.

·         ألا تعتقد أن الانفتاح على أوروبا بالنسبة لدول المغرب العربي والاختلاط بالحضارة الأوروبية قد أعطى مساحة من الحرية اكبر وساهم في تميز الأعمال الفنية وبشكل خاص النصوص؟

* 'في الواقع هناك جانب آخر وهو أن السينما الجزائرية ميزتها أن المخرجين الجزائريين أتوا من مشارب ومدارس مختلفة في فرنسا وروسيا. هذا زاد من غنى وثراء التجربة الجزائرية، من حيث تعدد المصادر والتصور والوسائل وطرق الإخراج. هذا بحد ذاته مكسب، بالإضافة الى أن الجزائر بلد متوسطي، وهناك جالية جزائرية كبيرة في أوروبا ولديها علاقات عديدة، وأعتقد أن كل دول حوض المتوسط تكتسب هذه الميزات، فهو حوض الثقافات بدءا من الإغريق والفينيقيين والرومان... وهو حوض غني بالتبادلات، ونحن يهمنا التبادل الإيجابي والإنساني الذي فيه غنى للتجربة الإنسانية. من جانب آخر، السينما الجزائرية اتسمت بسمة السينما الموضوعية والواقعية والفكرة الجادة، وفيها توازن بين شخصيات الفيلم، وهي تعتمد على الواقع وعلى عمق الإحساس وجمالية الصورة والقصة بقوالب فيها الكثير من الفن والحساسية الإبداعية. وقد وصلت السينما الجزائرية وأخذت السعفة الذهبية مع الأخضر حامينا في 'وقائع سنوات الجمر'، أخذت الأوسكار عن إنتاج فيلم 'زد' وأخذت جوائز كثيرة، فهي لديها تاريخ مشرف. أنا متفائل جدا بمستقبل السينما الجزائرية، فلديها رصيد كبير وتوجد إمكانيات بشرية كبيرة، وهناك إمكانيات مادية، ونحن نراها منذ عشر سنوات تقريبا، منذ انتهاء الأزمة بدأت عمليات البناء. وهناك ورشات بناء كبرى في الجزائر على مختلف الأصعدة ومنها الجانب الثقافي. الجزائر كانت عاصمة للثقافة العربية السنة الماضية، وكان فيها إنتاجات كبيرة وستكون عاصمة للثقافة الإسلامية السنة القادمة في 2011 ومقرها تلمسان. هذه مساحات وفضاءات تشكل مجالا مهما للقاء بين الفنانين والأدباء والمؤرخين والمفكرين. وفي الجزائر اليوم أكثر من 120 مهرجانا مُرسما. وهناك إعادة ترميم لقاعات السينما. الجزائر كانت تمتلك أكثر من خمسمئة قاعة سينما، بعد الاستقلال تراجع الأمر لدرجة في الحقيقة توقفت عندها الوصاية، وكان يجب إعادة النظر بالموضوع واستعادة قاعات السينما من الوصايات الجديدة التي هي السلفيات. الآن هناك إعادة ترميم وبناء قاعات جديدة، وهناك ميزانيات كبيرة للاهتمام بالثقافة بكل جوانبها، سواء بالكتاب وإعادة طباعة ونشر الكتب، كذلك بالموسيقى وإعادة بناء معاهد الخاصة بها والمسارح. وهناك عدة مهرجانات مسرحية الآن في هذه الفترة، هناك مهرجان الجزائر الدولي للمسرح المحترف. تشعرين أن هناك نشاطا وأن الحياة عادت لها وأنا أتصور أن المستقبل مشرق إن شاء الله لأن هناك إمكانيات بشرية سواء الكادر الفني من مخرجين وممثلين وفنيين وتقنيين. والجزائر تزخر بقصص لا حصر لها من الممكن تحويلها لسيناريوهات، فهي تنام على كنز من التاريخ الذي يجب أن ننفض عنه الغبار ونحوله لسيناريوهات وقصص وقصائد ولوحات. إذن، المادة موجودة والإمكانيات موجودة والإرادة موجودة، ونتأمل أن يكون المستقبل مضيئا'.

·         بالمشرق، وخاصة في سورية أخذت الدراما التلفزيونية المركز الأول، هل من الممكن أن يحدث تعاون بين الجزائر والمشرق كما يحدث بين سورية ومصر؟ هل ترى أنه من الممكن أن يكون هناك تعاون في المستقبل وتبادل للممثلين والخبرات؟

* 'أعتقد أن التعاون اليوم أصبح سمة السينما والدراما، حتى في مهرجان أبوظبي هناك الكثير من إنتاجات الأفلام التي نراها هي إنتاجات مشتركة، إنتاج صيني إيطالي فرنسي بلجيكي. الآن أصبحت هذه سمة ولكن ليس كل الإنتاج، ولكن جزءا منه يكون على هذا الأساس. أيضاً يمكن إيجاد الكثير من القضايا المشتركة التي من الممكن التكلم حولها وعمل إنتاجات منها. لقد تحقق التعاون في الجزائر، هناك عدد من الإنتاجات السورية الجزائرية، وهناك عدة مسلسلات آخرها ذاكرة الجسد. وهناك مسلسل تاريخي فكاهي اسمه جحا، وأيضا مسلسل 'عندما تتمرد الأخلاق'. وآخر فيلم لي هو من إنتاج تونسي جزائري مشترك، وهناك أفلام تعرض تم إنتاجها بشكل مشترك جزائرية أوروبية بلجيكية إسبانية. الآن، إلى أي درجة تبقى مسألة التمويل؟ المشاريع المشتركة يجب أن ترضي الطرفين'.

·         هناك في الدراما بدأوا يأخذون حياة الشعراء كالمتنبي وسيرة الشاعر الكبير نزار قباني وحاليا هناك مشروع لتمثيل سيرة الشاعر الكبير محمود درويش، من خلال حديثي معك أشعر بأنك قادر على تجسيد شخصية الشاعر الراحل محمود درويش، هل برأيك يحق للدراما أن تقدم حياة محمود درويش الآن؟ أم أن محمود درويش مازال موجودا ولم يغب عن الساحة فهو حي بأعماله وبإبداعاته؟ وإن طلب منك تأدية هذا الدور، فهل من الممكن أن تقوم أنت بأداء دور هذا الشاعر الكبير؟

* 'بالنسبة لشق السؤال الأول هل يحق لنا، هناك شيء متعارف عليه بالنسبة للأعمال التاريخية وللأرشيف، الناس تنتظر فترة كي تخرج الأرشيف وتنتظر فترة كي تصنع الأفلام عن التاريخ. هذا سائد ولكنه ليس قاعدة، فهو يتعلق بطبيعة الموضوع الذي يتم تناوله. أعتقد أن القيمة الفنية الموجودة في عالمنا العربي تستحق أكثر من فيلم يوثقها، الآن ليس هناك ضرر من أن يعمل فيلم عن حياة شاعرنا الكبير، فهو تعبير عن الحب ونحن نقول لشاعرنا الكبير لقد تركت فراغا كبيرا في الساحة الشعرية والعربية، وما زلت بيننا بكل ذلك الحضور وذلك الصدق. محمود درويش لم تكوني تشعرين أنه يقرأ قصيدة بل تشعرين أنه يرتجل في تلك اللحظات. وأعتقد أن الدراما مفيدة إذا كانت مصنوعة بشكل جيد بحيث تسمح بمساحة أكبر للإضاءة على الشخصية من دون أن تبخس منها. الفيلم له نكهته وله تقنيته وسحره، لكن أحيانا الساعتان المخصصتان للفيلم يمكن أن تتركك بشوق للمزيد فهي لم توصلك لحد الشبع من الشخصية والموضوع. وأنا سيكون لي الشرف العظيم في أن أجسد دور شاعرنا الكبير محمود درويش، أنا متأكد من أنه سيكون عملا عربيا كبيرا، وسيضم مجموعة كبيرة من الفنانين، وهذه فرصة يحلم بها أي فنان لأنه سيحتك بمخرج كبير وبفنانين كبار وبتجسيد دور شخصية كبيرة كشاعرنا الكبير محمود'.

·         كيف تنظر إلى ما يجري بالوطن العربي من اهتمام بالسينما وتطويرها، سواء في الأردن وفي سورية وفي أبوظبي والجزائر، ما هو رأيك بهذا النشاط؟

* 'أنا أعتقد أنه على صعيد الوطن العربي، الإنتاج الدرامي التلفزيوني سابق للإنتاج السينمائي بحكم انتشار القنوات الفضائية التي يوجد منها عدد كبير اليوم، وهي قادرة على شراء الأعمال، فهذا بحد ذاته يشكل داعما لعملية الإنتاج الدارمي، وهناك سوق كبيرة للاستهلاك. هذا سينقلني إلى شق آخر، وهو التمويل بالنسبة للسينما حيث تكمن مشكلاتها في التمويل. فجمهور السينما هو جمهور فاعل فهو يذهب إليها، أما الدراما فهي التي تأتي إلينا. لذلك، نحن مطلوب منا أن تكون أفلامنا بسوية عالية. يوجد في الوطن العربي الكثير من التجارب الناجحة، وهذا يقودنا إلى نوعين من الأفلام: هناك أفلام استهلاكية موسمية نراها في دور السينما، تخرج بموسم وتستهلك بسرعة وتنتهي، وهذه هي وظيفتها. النوع الآخر من الأفلام هو الذي يحمل في جعبته مواضيع وقضايا مهمة وتطرح أسئلة كبيرة على المستوى الاجتماعي والثقافي، وعلى كل المستويات في الوطن العربي. هذه الأفلام طالما أنها ليس لها مردودية تجارية فهي بحاجة للتمويل. الهدف من هذه الأفلام هو أن نتكلم بلغة السينما عن قضايا تهمنا لعلمنا بأهمية السينما التي نوصل من خلالها وجهة نظرنا ورؤيتنا للأمور حتى تقنيا، ماذا نستطيع أن نفعل في السينما. لذلك يلزمنا دعم مادي، وعلى الدول العربية الرسمية أن تساعد هذه الأفلام وتخصص لها ميزانية لتمويلها. في أوروبا يهتمون ويعملون على دعم السينما والثقافة لأنهم يهتمون بإيصال صورة جيدة عنهم للعالم. واليوم نحن في حقل إعلامي مفتوح، وهناك الآلاف من القنوات والإنتاجات الموجودة، وهناك صناعات سينمائية ضخمة وماكنات كبيرة. ونحن لسنا في مجال مقارنة بالمركز الأول هوليوود التي تنتج عدة مئات من الأفلام السينمائية بنوعية عالية وبقوة وبإمكانيات ضخمة، فيها قوة الإبهار والتأثير. هذا كله بالإضافة إلى أن هناك الكثير من القنوات أصبحت ناطقة باللغة العربية تتحدث عنا وعن نفسها. المطلوب أن تكون لدينا قنوات تتحدث بلغاتهم، بحيث نتكلم عن أنفسنا بلغتهم، ونتكلم عن أنفسنا بلغة الصورة. هذا النوع من الأفلام يجب أن يدعم ويجب الانتباه له لأنه أولا: يكون قيمة مضافة للعمل الفني بشكل عام والإعلامي على مستوى الوطن العربي'.

* اقتربنا من الإعلام، ولا بد أن نلقي نظرة ونستفيد من حديثك المهم وثقافتك العالية. الإعلام العربي كيف يوصل شيئا من تراثنا وصورتنا للغرب؟ وما هي توجهاته نحو الغرب؟ هل هو في مرحلة التجريب أم أن تجربته أصبحت ناضجة؟ وكيف ترى الإعلام العربي بفضائياته ومستوى مخاطبته للعالم الخارجي وليس فقط للداخل؟

* 'أعتقد أنه من الصعب الحكم على الإعلام العربي ككل، لأن الساحة الإعلامية واسعة وفيها الكثير من الأقلام الجيدة والممتازة والمذيعين والإعلاميين الممتازين. لكن نستطيع أن نميز بالوطن العربي قنوات خاصة، وهناك قنوات حكومية. القنوات الرسمية تكون اهتماماتها عامة وشاملة، أي فيها عن المجتمع والسياسة والفن والأدب وغيرها. في ظل هذه السلة الإعلامية الموجودة نحن كمشاهدين لنا حرية الاختيار، ونستطيع أن نتابع البرامج الجيدة، وهناك إمكانية كبيرة للتثقيف والتعلم. هناك أيضا قنوات خاصة لها سياساتها، بعضها مختص بالسينما وبعضها مختص بالدراما، وهذا أصبح ظاهرة عالمية. الآن الساحة مفتوحة والخيارات موجودة، يبقى المتلقي.. أين يضع نفسه؟ وما هي اهتماماته؟'.

المصرية في

14/11/2010

 

ثقافات / سينما

"أخبروا أصدقائي إني مُّتْ" للمخرجة الجورجية نينو كيرتازي

"الموت هو، أولاً وقبل كل شيء، صورة، وسيظل صورة أبداً" (ج. باشلار) 

ترجمة وتقديم علي كامل

لايزال الناس في جورجيا، وفقاً لأعرافهم القديمة، يحيون مع موتاهم جنباً إلى جنب. فمراسيمهم في حضرة الميت هي طقوس مرتجلة، ومقابرهم هي أشبه بأماكن

لقاءات العشاق، وفي مقدمهم يشعر الموتى بالحرية والطمأنينة ولايعوزهم شيء. إنهم الأحياء وهم يقحمون أعزاءهم الموتى في حياتهم العائلية. يؤمّنون لهم الحماية من المجهول ويأملون منهم الشيء ذاته في نفس الوقت. يتحدثون إليهم ويلتمسون العزاء منهم!.

سكنة القرى الجيورجية يرعون أرواح عوائل أولئك الموتى ويشدون من أزرهم وذلك عبر مشاركتهم تلك الشعائر كي لايشعرون بالوحدة.

الهاتف المحمول وجهاز الكمبيوتر مثلاً أصبحت أشياء مألوفة وجزء من المشهد، كما الجنازة ذاتها التي تعتبر أكثر الأشياء ألفة في الحياة!.

الصلات بين الميت والحي هنا مصانة في القول والفعل، وهي متواصلة، مبجّلة، وراسخة. وحين يبلغ الحدث ذروته، تتماهى الشعائر بالعروض الأستعراضية القديمة، حيث المرح المفعم بالحيوية والحماسة وحيث كل شيء مغرق في مغالاته.

إنه مشهد نادر وإستثنائي. صور فوتوغرافية كبيرة الحجم تتوسط واجهات القبور على نحو
متزايد. المداخل وهي ملأى بالمتنافسين على تلاوة الكلمات. مفردات مفعمة بالأوصاف الجياشة وهي تشي ببعث الموتى وعودتهم إلى الأرض ثانية، يتلوه نواح منفرد وارتجالات تكاد تحاكي الندب المشهدي.

 ينبغي على أسرة المتوفى في هذا الوضع المحافظة على مثل التوتر المتصاعد، وفوق كل شيء، على هذه الدهشة.

كل شيء سيتم على مرأى ومسمع الجميع. ولا يمكنك مطلقاً معرفة ما إذا كان ما تراه يعبّر عن الألم الداخلي أو هو مجرد إرتجال مسرحي محض.

الفيلم الوثائقي "أخبروا أصدقائي إني مُتّ" هو بأي حال من الأحوال، فيلم ألق رغم الحزن والكآبة والحداد التي تسود أجوائه. فيلم مُتخيّل، مثل حكاية سوريالية، يحكي لنا قصة التعايش الغرائبي بين عالمين: أحدهما واقعي والآخر مجازي، عالم الأحياء وعالم الأموات.

علينا أن نغدق الثناء على مخيلة الواقع*

بقلم نينو كيرتازي

يقول الفيلسوف الروسي نيكولاي بيرداييف: "حين نواجه الحياة فنحن إنما نواجه لغزاً. لغز نسعى لفهمه، إلا إن سره  وغموضه يعتليان إلى السطح".

من هنا يمكننا البدء في الحديث عن الفيلم الوثائقي.الذي يولد من سؤال، فكرة، رؤية، مكان، أو
حتى وجه بشري. ورغم انه يستكشف الواقع المواجه للكاميرا، إلا إنه يذهب أبعد من ذلك بكثير. إنه لا يحكي عما يرى فحسب، إنما يصف أيضاً ما ليس بوسعنا رؤيته بشكل مباشر، فهو يتجلى في الزمان ويتحرك باتجاه المكان، وغالباً ما يتخطى النقطة التي يلتقي فيها الواقع بالكوني.

وجهة النظر الذاتية، الكفيلة وحدها في استكشاف أعماق الواقع أمام الكاميرا، هي فقط بوسعها أن تحقق ذلك الكوني.

الأفلام الوثائقية تتحدث عن لاشيء وعن كل شيء في الوقت ذاته. فهي حين تتحدث عن لاشي فإنها تتحدث عّنا، عن العالم، عن الكون، عن اللغز الكبير للحياة والذي هو محور الفلسفة الأهم، لأن الأفلام الوثائقية هي وجهة نظر عن العالم.

وبما إن لغز العالم معقد للغاية ومن الصعب وصفه، فقد تم في البداية إنتاج فيلم واحد حول هذا الموضوع ثم تلاه فيلم آخر من أجل مواصلة سير عجلة البحث. الأسئلة تتوالد وتتكاثر فيما نحن نتحرك نحو الأمام من خلال النقائض.

قبل سنوات عدّة مضت قررّت أن أبحث ثيمة "الموت" في فيلم وثائقي يبقى في إطار مفهوم الموت نفسه، لكن في الإمكان تحويله إلى نشيد وثناء للحياة. لقد كانت رغبتي تتمحور في ربط أواصر الطرفين، الموت والحياة معاً.

 كنت أحلم بفيلم مفعم بالطاقة والقوة والحيوية تجعلني قادرة في الحديث عن الحياة  عبر الموت.

قيل أن جوهان سابستيان باخ حين علم بموت أحد أبناءه سقط على ركبتيه مبتهلاً إلى الله قائلاً:"ربي لا تدعني أفقد متعة الحياة".

إن البشرية في جمالها وبهائها وفي مواطن ضعفها أيضاً وهي تواجه لغز الموت حيث الحزن يصبح إحتفالاً بالحياة، هو شيء يفتنني حقاً.

مشروع الفيلم يرتكز بشكل جوهري على ذكريات مستلة من طفولتي: عن صور بقيت مخزونة
في ذاكرتي لجنازات شهدتها في جورجيا، هناك حيث ولدتُ، وبحسب عادات وأعراف بعض مناطق محددة، يحتفظ الأحياء بموتاهم الأعزاء بروابط متينة تجعلهم يواصلون الحياة كما لو أنهم مازالوا أحياْء.  

عنوان الفيلم مصدره نقش على ضريح عثرت عليه في مقبرة، خلال رحلة بحثي عن موقع للتصوير في غرب جورجيا. 

"صاحب" النقش، أي المتوفي،  ُمّثل بصورة فوتوغرافية بالحجم الطبيعي وضعت على ضريحه. كان صدره مغطى بالأوسمة إعترافاً له بخدماته الجليلة للدولة والتي يفتخر بها بشكل واضح.

كان النقش يتضمن كلمات على لسانه يدعو فيها جميع  معارفه أن يجلسوا ويشربوا قربه. كما يطلب منهم أن يأتوا لرؤيته دائماً وأن ينشدوا له أغانيه المفضلة كي لا يشعر بالضجر وحيداً في قبره، مجدداً رغبته بمواصلة حياته. 

كان ثمة شيء سوريالي حول هذا الواقع الذي رأيته. شيء قوي لا يصّدق بشأن هذه الطريقة في مواجهة الموت والابتهاج بالحياة، التي انبثقت جميعها من خلال تلك النقوش الغرائبية في المقبرة.

تَصوّر المكان وهو أشبه بغاليري مفتوح في الهواء الطلق، ببورتريهات بالحجم الطبيعي لموتى يبتسمون, ويبعثون بدعواتهم إلى الأصدقاء والأقرباء للمجىء والجلوس قربه على كراس ومصاطب خصصت للزوار تحيط بالقبر. ولعل الأكثر دهشة أن أحد القبور كان يحتوي على جهاز تلفزيون جلبته عائلة المتوفي ليتمكنوا من أن يتجمعوا حول عزيزهم  ويشاهدوا لعبة كرة القدم "معاً"!.

حين بدأت التحضير للفيلم أخبرت مساعدي عما خططت له للعمل فتطلع بي كما لو أنني مجنونة. قائلاً:"وماذا بشأن فريق العمل؟".

الشيء العسير بشأن فيلم كهذا هو الاستحالة المطلقة لتحضير أي شيء. كنا نجهل كيفية العثور على شخصيتنا الرئيسة، والذي ينبغي أن يكون المتوفي نفسه، أو كيفية الحصول على إذن من العائلة لنصّور ما أحسسنا به بشكل جوهري.

التحضير الطويل للجنازة يكاد يتماهى كثيراً مع التحضيرات لحفلة زفاف. مراسم عزاء تذكرّ بمسرح الكوميديا دي لارتي، حيث النواح المنفرد والذي عادة ما يكون مباغتاً في عروضهم والذي يمكن أن يذهب بعيداً جداً حيث ترتجل وتوقظ ذكريات وقصص مضحكة حول حياة المتوفي، وحيث الضحك، على سبيل المثال، شيء يصعب التحكم به في مناسبات كهذه إلى الدرجة التي يمكن أن يفوق فيها طقس الحِداد نفسه!.

كان السؤال الأهم هو، كيف سُندخل فريق العمل إلى هذا العالم  دون أن نعّكر صفوه, وكيف سنضع الكاميرا بشكل حميم وسط العائلة دون أن نسبب كارثة؟ كانت فكرة مستحيلة أو شبه مستحيلة.

"سيكون فيلماً درامياً مدهشاً" قال مديرالأنتاج، مضيفاً:"لكن هل سيكون وثائقياً؟". أما مسؤولو القناة التلفزيونية فقد تسائلوا، حين إطلعوا على الفكرة، بقولهم:"هل أنت متأكدة أن ما تقولينه في هذا الفيلم هو حقيقة فعلاً؟".

انتفضت حينها بخوف وغضب وقررت إنجاز هذا الفيلم بأي شكل من الأشكال. غادرتهم لمدة شهر للعثور على مواقع التصوير وبقيت في المنطقة التي أردت أن أصور فيها الفيلم. وكان الوقت ثمين جداً لما سيأتي.

لا يمكنني مطلقاً أن أنسى كيف كنت أتطلع بوجوه الناس وأنا أطرح عليهم أسئلة هي الأكثر إزعاجاً وبغضاً.
تعرفت مع مرور الوقت على جميع مدراء المقابر (كما يطلق عليهم) في المنطقة، وإلى حد ما على كل الناس الذين يأتون لزيارة موتاهم بشكل منتظم والذين كانوا عادة يحملون لهم في السلال الفواكه الطازجة والحلويات ويقرأون لهم الصحف أو ببساطة يمضون الوقت معهم. ليس هذا فحسب، بل كانوا يأتون بأطفالهم وأحفادهم ليتمكن موتاهم من رؤية الصغار وهم يكبرون.

وهكذا خطوة فخطوة تحركتُ نحو الأمام لأدخل إلى هذا العالم الشعري الغريب. عالم سوريالي يجمع الأطراف المتناقضة ويوحّدها: التسلية والحزن العميق، الابتهاج بالحياة من خلال الأحتفاء بالموت.

كان عويل الأحياء يشبه أنغام تحّلق في الهواء الطلق، مؤاساة تتماهى وكلمات نص مسرحي، وموت كأنه شيء مجتزء من الحياة.

كل شيء مترابط ومتصل، كما لو أن ليس ثمة شيء منفصل، وكما لو ان الحياة تحتفل بانتصارها على الموت.

غالباً ما كنت أرى مشاهد لا تصّدق في المقبرة: لقد رأيت شاباً أتى لزيارة ضريح جّده ليقدم له خطيبته، وكانت شابة جميلة متزينة ترتدي أجمل ثيابها من أجل هذا الهدف الغرائبي. وحين غادرا المقبرة تركا صوراً إلتقطاها في هذه المناسبة كي يستطيع الجد "أن يحتفظ بهما قريباً منه".

شاهدت أيضاً شباناً وموسيقيون جاؤا ليحتفلوا بميلاد صديقهم المتوفي. وضعوا آلاتهم على القبر وبدأوا يغنون عبر مكروفوناتهم أغانٍ غير لائقة تماماً. كانت موسيقى فولوكلورية وديسكو وجاز .. وهي ذات الأنواع التي كان يفضلها المتوفي في حياته.

شهدت شجاراًت غريبةً بضمنها رأيت شاباً كان يجلس حزيناً لأن أحداً ما غرس شجرة كبيرة فوق القبر المجاور لقبر قريبه حاجباً إياه عن النظر:"لايمكنه رؤية شيء" قال متشكياً.

أما صاحب الشجرة فلم ينصاع أو يلين لمطالب جاره، لكنه أجاب:"حين كان والدي حّياً كان يحب أن ينام تحت ظل شجرة، فلماذا ينبغي عليه أن يغير عادته الآن؟". وحين تصاعد الأنفعال نشبت معركة حقيقية بينهما أمام بورتريهات بحجمها الطبيعي، كما لو أن الموتى يشاهدون شجار الأحياء.

وهكذا، رأيت، مع ارتياح كبير بالطبع، أن ما كنت قد كتبته وتخيلته أصبح الآن شاحباً وباهتاً بالمقارنة مع الواقع.
لقد ذهب خيال الأشياء الحقيقية إلى أبعد ما يمكن أن أتخيله. وهذا الشيء علمني الكثير. علمني
أن لا أستخف بخيال الواقع مطلقاً، أن لا أخنقه بأفكار مُعّدة سلفاً بوسعها في بعض الأحيان أن تحول دون اكتشاف الأشياء التي لم تتوقعها أو تخطط لها.

كان الواقع، يهتز ينبض ويتنفس أمام الكاميرا وهو متخم بإشارات النقائض وإستعاراته. إنه واقع وسوريال، مرئي ومخفي، جلي ومبهم، في ذات الوقت، متطلباً الصبراً والتواضع.

لقد أدركت أنه ينبغي أن تكون على إهبة الأستعداد لمفاجئات بعيدة الأحتمال، ولأكثر التغيرات تشويشاً.  تماماً مثلما قال فيلسوفنا:"حين نواجه الحياة فنحن إنما نواجه لغزاً. لغز نسعى لفهمه، إلا إن سره  وغموضه يصعدان إلى السطح.".

"أخبروا أصدقائي إني مُت" هو أكثر أفلامي جنوناً وتناقضاً. لهذا السبب أجدني أختزن مثل هذه
الذكريات الأثيرة عنه. كان تحدياً حقيقياً لنا جميعاً، تحدياً لفريق العمل كله ولمدراء الأنتاج وللقناة التلفزيونية. نجاحه مع المتلقي وفي المهرجانات السينمائية والجوائز التي نالها، كل ذلك هو بمثابة ثناء لمخيلة الواقع، مكافئة للعالمين الحقيقي والسوريالي معاً، حيث الضحك والدموع يمتزجان، وحيث الحزن والفرح يتعايشان، وحيث الحياة والموت يصبحان شيء واحد.

أكثر الأشياء سوريالية في الأمر هو إن السماح بتصوير الفيلم أعطي لي من قبل البطل الرئيسي في الفيلم، أي الشخص المتوفي نفسه!.

حين وصلت منزل المتوفي وأوضحت لزوجته موضوع الفيلم، تطلعّتْ بي لفترة طويلة وبعدها قالت:"لا أستطيع أن أقرر ذلك بنفسي، ينبغي أن أسأله أولاً"!.

لم أستطع أن أفهم قصدها في الحال.  أخذتني إلى الطابق العلوي ودخلنا في غرفة كبيرة هناك حيث يستلقي زوجها المتوفي.

أنشدتْ له أغنية توضح له فيها سبب وجودي في المنزل، متسائلة عن رأيه بشأن فكرتي حول عمل فيلم (معه!).

وهكذا جلست إلى جوارها أتساءل، هل ما أراه هو حقيقة أم خيال؟ وفي نفس الوقت كنت قلقة وخائفة جداً عما (سيقوله!) المتوفي!.

إلتفتت المرأة نحوي بعد برهة لتقول أن زوجها قد وافق أن يتصور معي.

منذ تلك اللحظة ولغاية الآن، حين أُسئل عن أي شيء يتحدث هذا الفيلم، لا أعرف ما أقول حقاً:
هل هو عن الحياة والموت؟ عن الحزن والفرح؟ أم عن الحب والخلود؟

مازلت أجهل الأجابة عن هذا السؤال، لكنني أشعر بسعادة غامرة لأنني أنجزته.

***

(فيلموغرافيا)

- ثلاث حيوات لأدوارد شيفرنادزة. 1999

- كانت يوم ما تدعى الشيشان. 2001

- تهويدة شيشانية. 2002

-ـ قل لي من أنا؟. 2004

-ـ أخبروا أصدقائي أني مّت. 2004

- خط الأنابيب المجاور. 2005 (فاز بجائزة أكاديمية الفيلم الأوربي كأفضل فيلم وثائقي).

-ـ التنين في المياه البدائية للقوزاق. 2005

- قرية الحمقى. 2008 (فاز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان ساندانس السينمائي في الولايات المتحدة الأميركية).

- شيء ما عن جيورجيا. 2009

سيرة المخرجة:

ولدت المخرجة السينمائية نينو كيرتازي عام 1968 في مدينة تبليسي عاصمة جورجيا. بعد حصولها على ماجستير في الأدب عملت كمستشارة للرئيس الجيورجي السابق أدوارد شيفرنادزة وكصحفية لتغطية النزاع المسلح في القفقاس. أما عملها

فقد بدأته في تسعينات القرن الماضي عبر كتابتها سيناريو فيلم (الأثنين)، وكممثلة، لعبت نينو بعض الأدوار في أفلام روائية أهمها دورها المميز في فيلم "رئيس الطهاة عاشقاً" للمخرجة الجيورجية نينا ديورجازي 1996، الذي حصل على جائزة مهرجان كان في نفس العام ورشح لجائزة الأوسكار.
تعيش نينو في فرنسا منذ عام 1997 وقد عملت مع المخرجين بيتر بروك وجان بيير آمريس وفيليب مونير وجيرارد بيرس وأليفر لانغلس. وهي تجيد اللغات التالية: الروسية، الجيورجية، الفرنسية والأنكليزية.

(*)

"بروداكشنس" مجلة سينمائية سنوية تطبع في إنكلترا وتصدرها أكاديمية الفيلم الأوربي. تحرير: بيتر كاوي و باسكال إيديلمان. العدد 15 العام 2007 ص166

a_film50@yahoo.co.uk 

الفيلم من إنتاج شبكة التلفزيون الفرنسي- الألماني  ARTE

مدته: 86 دقيقة

سنة الأنتاج: 2004

إيلاف في

14/11/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)