حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

"أيــــــام بــيــــروت الــســيــنــمـــــائــيــــة" فــي دورتــهــــــا الــســــادســـة

رائد أنضوني مصوّراً كيف سحقت القضية الفرد الفلسطيني:

كـل شــيء مـحــتــلّ، نـعـــم، لـكــن لـن أسـمـــح لـهــم بـأن يحـتــلّــوا خـيـــالــي !

هوفيك حبشيان

حين علم رائد أنضوني في لقائنا معه أن مايكل مور ادرج فيلمه "صداع" في قائمة أفلامه العشرة المفضلة لعام 2009، طار فرحاً لثوانٍ. عندما سألناه اذا كان يحبّ طريقة "المناضل" الأميركي في التعامل مع الملفات الساخنة، كان ردّه: "يسعدني ما يفعله، لكن لا استطيع أن أمشي على خطاه. ليست هذه سينماي المفضلة". بالفعل، عندما ينزل المرء، وبتأنٍّ شديد، في أعماق هذا العمل الذي أنجزه (وثائقي، 98 د.) يستوقفه سلوك فني هو نقيض عمل مور: الشكّ بدل اليقين، السؤال محل الجواب. هكذا، على طول الخط: سلسلة من المشاكسات لواقع نعتقد اننا نعلم عنه كل شيء. يا للمفاجأة! سرعان ما يستعين أنضوني ببيت لمحمود درويش لتسجيل موقف احتجاج ضد مسألة اليقين: "من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟". في بيئة فلسطينية يقول عنها انها تترجح بين منطقي الصحّ والخطأ، يشقّ هذا المخرج طريقه الى فيلم يبحث فيه عن علاج لصداع يحاصر عقله، أي أغلى ما يملكه، قبل ان يجد في الفيلم الذي يصوّره العلاج المنتظر. استعارة بديعة "بيغر زان لايف"، كما يقال في الانكليزية. يحاول المخرج انتشال فلسطين من كونها مادة أبدية لدراما المشاعر والقبضات المرفوعة والنضال، على وزن "بالروح بالدمّ"، وتحويلها مكاناً ذا صلة بفردية الأشخاص خارج انتماءاتهم الى الجماعات، حيث من خلال الكادر داخل الكادر، يسعنا استراق نظر الى يوميات، فيها سعي دؤوب الى اعادة امتلاك شيء ما سحقته القضية مثلما سحقه أيضاً البقاء الدائم في حال تأهب امام العدو. في أحد المشاهد الأساسية يطالب أنضوني، رداً على صديقه الذي يمدح العزم والقوة، بالحقّ في أن نكون ضعفاء. غنيّ عن التوكيد أن هذا واحد من أصدق التصريحات، يأتينا من سينمائي فلسطيني يعيد تجميع أشيائه الموزعة على أكثر من جبهة: جبهة التثبيت المستمر بأنه صاحب قوة، وجبهة العائلة التي يصطدم بها، لأنها ترى في صداعه ترفاً وربما غنجاً.

شيء متعب حقاً ان تكون فلسطينياً! البعض منهم جعله "مهنة"، أنضوني يريده تحصيلاً حاصلاً. وعندما يأتيه مراسل من "سي أن أن"، مزنر بأسئلته الجاهزة، فلا يسعه الا ان يصفعه بلائحة من الكليشيهات لاكتها الألسنة ("لست جسر تواصل بين الثقافات") وهي في وسعها أن تكون "مانيفستو" لسينما فلسطينية جديدة، آن الآوان أن تولد!

·     في معظم الأفلام التي تجري على أرض فلسطين المحتلة، نجد ان فلسطين ليست أكثر من كونها موضوعاً، أو مادة. أهمية فيلمك انه ينتزعها من كونها مجرد مادة للتجاذبات الأبدية ويعيد ترتيبها في سياقها الانساني الطبيعي.

- تماماً. أريد أن أقول بداية إنني سعيد كوننا لم نناقش فلسطين في معظم المهرجانات التي ذهبنا اليها. قبل تناول فلسطين، كان هناك نقاش سينمائي، بسيكولوجي وانساني، وأيضاً نقاش للمكان الذي تجري فيه الحكاية. لم يأت الحكي عن فلسطين الا في الأخير. هذا شيء مهم جداً بالنسبة اليَّ، واتاح لي الخروج من اطار البقاء محاصراً في فلسطينيتي والانتقال الى انسانيتي. أتفق مئة في المئة مع ما تقوله: فلسطين هي مكان، كما هي الحال مع أي قصة من القصص. فلسطين مكان لقصتي. فلسطين بالنسبة اليَّ ليست لوغو أو شعاراً، انها حياتي وجزء من مرجعيات تفكيري. لست محتاجاً الى أن أضع فلسطين في المقدمة، بل أحتاج الى أن أعيش انسانيتي، لأن فلسطين راسخة في إنسانيتي. تمسكي بالهوية الانسانية لا يلغي فلسطينيتي. لكثرة ما باتت الهوية الفلسطينية براقة، أصبحت تطغى على الهويات الأخرى. لذا، على الأقل في السينما، لا نحتاج الى ان نحملها علماً وشعاراً...

·         في أي تاريخ بدأت تكتشف فيك هذا الميل؟ هل هناك شيء في حياتك قبل هذا الوعي وبعده؟

- انه نوع من اجراء. في الثامنة عشرة كنت سجيناً سياسياً وأمشي خلف الشعارات السياسية. هي مراحل يعيشها المرء. لذلك، قلت إنني أؤمن بالشك لا باليقين، وبالأسئلة لا بالأجوبة. طوال حياتي، لم أكفّ عن طرح الأسئلة على نفسي، سواء عندما كنت في المعتقل أو في التنظيم او خلال الحياة السياسية. الى اليوم لم أترك السياسة، على رغم أنني صرت أعمل في السينما، لكن السياسة تتقاطع مع مهنتي. هذه عملية طويلة ومضنية. من الصعب ان يكون للإنسان الشجاعة الكافية ليهز اقتناعاته ويواجهها بأسئلة جديدة، متحدياً ذاته. وهذا ما أحاول أن أفعله في أفلامي. انه لشيء جد صعب ومؤلم. هناك منظومة من الاقتناعات والمفاهيم والقيم تبنيها لنفسك، هي التي تجعلك تحافظ على توازنك: انها أسوار دفاعية تستخدمها خلال سنوات صراع طويلة. ومن الخطورة هزّ هذه الأسوار. لكن أنا أحبّ أن أهزّها.

·         الفيلم متشعب بالكثير من المواضيع، لكن أهمها مسألة الفردية: القضية تسحق الانسان، فيغدو جزءاً منها. هل فهمت جيداً؟

- غنيّ عن القول ان القضية سحقت الفرد الذي في داخلنا. هذا السؤال يؤرقني لكني في الفيلم لم أقدم إجابة عنه. بسام الذي كان معي في المعتقل قال لي في معرض حديثنا عن الأحلام: عن أي أحلام شخصية تتكلم؟ اذا ذهب الحلم الكبير، فستذهب معه أحلامنا كلها. هذا كلام مقنع. باسم انسان ذكي ولامع يعمل سائق تاكسي. كانت له أحلام كبيرة ذهبت أدراج الرياح. لكنه مقتنع في حاله. يؤلمني عندما أراه في كاراج سيارات الأجرة. بيد ان هناك سؤالاً فلسفياً مهمّاً: مجموع أحلامنا الشخصية، أليس هو الذي يصنع الحلم العام؟ ألن يساعدنا الحلم العام المتمثل في تأسيس الوطن والدولة، في أحلامنا الشخصية؟ هذه الجدلية غير المحلولة تؤرقني كثيراً. كسينمائي، لم استطع الذهاب الى منطقة السينما الا بعدما عززت حلمي الشخصي، بما لا يتعارض مع الحلم العام، لكن مع فرق أنني لم أعد متمسكاً بشعارات الحلم العام.

·         هل هذا نضج؟

- ثمة خيط رفيع يفصل بين الأشياء. عندي مشكلة مع التجمعات العائلية، لكني أحب أهلي. أحاول البحث عن فرديتي، لكن في الوقت نفسه لا أريد إلغاء الآخرين. لا أريد أن أقول "أنا صح، وهم خطأ".

·         موضوع الصداع هل كان نقطة انطلاق أم جاء لاحقاً؟

- كان الموضوع يؤرقني. كنت فعلاً مصاباً بصداع، لكني حاولت أن أضعف حضوره في الفيلم. منذ بدء التصوير، كنت أسأل نفسي: الى أي مدى ينبغي لي أن أكون صادقاً مع نفسي في موضوع تسجيل جلسات العلاج؟ هل كنت فعلاً في حاجة الى علاج أم كنت أكذب لأبرر الفيلم؟ كان مهماً أن أجد إجابة صحيحة. في الأخير، أنا سينمائي، والسينمائي ليس وظيفة. أعيش كسينمائي وأحلم كسينمائي. لذا، قررت انه ما من فصل ممكن بين حياتي ومهنتي. حتى مسألة احتياجي الى انجاز فيلم، هي جزء من حياتي. وجدت نفسي في وضع معين من دون أن تكون عندي إجابات واضحة، قبل أن أقرر انني لن أكون صاحب قرار في غرفة العلاج النفسي. تركتُ السيطرة لشخص آخر، وهذا أخطر ما يمكن أن يواجهه سينمائي يعمل وفق خطة. بيد أنني خضت تجربة 20 اسبوعاً في العلاج، لم أكن اعرف ماذا يحصل خلالها. المعالج تقبّل فكرة أن أصوّر العلاج شرط الا ألقي نظرة على المادة المصورة ما دمت تحت العلاج. فوافقت. تركت السيطرة الكاملة للطبيب. من جهة كانت مجازفة، ومن أخرى كانت تعرّيني. الفيلم كله صوّر خلال الاسابيع العشرين. المرة الأولى التقيت فيها الدكتور كانت قبالة الكاميرا. كل الفيلم مصوَر من خلف الزجاج. لم تكن الكاميرا حاضرة. كان الفريق من الأجانب ولم أكن أراهم. التقني الذي كان يلتقط الصوت لم يكن يفهم العربية. المصور أيضاً. هذه الظروف جعلت الفيلم ما هو عليه. لم يكن في امكاني مثلاً التحدث براحة لو علمت ان أحدهم يتسمع اليّ. اهتممنا بهذه التفاصيل كلها كي تكون الجلسات حقيقية ونحافظ على احساسها.

·         ما المساحة المعطاة الـ Mise en scène في الفيلم؟

- لجأت الى هذا خلال المونتاج. العلاج النفسي الحقيقي كان أثناء التوليف وليس خلال التصوير. التوليف كان اعادة كتابة. صار عندي مسافة كافية من المادة المصورة، وانتقلت الشخصية من كونها "أنا" الى كونها "هو". بدأت أفهم رائد. على كل حال، صرت مجبراً على ذلك. صرت أتابع لغته الجديدة وألحظ عندما يكذب.

·     هناك مشهد لفتني في الفيلم، عندما يحاورك مراسل الـ"سي أن أن" طارحاً عليك أسئلة مستهلكة، فتصيح في وجهه انك لست كذا وكذا وكذا. لا بد أن نرى في "لائحة الأشياء التي لا تريد أن تجسدها" نوعاُ من مانيفستو لسينما فلسطينية جديدة بعيدة من التعليب...

- بدأ تصوير الفيلم مع أول يوم خضعت فيه للعلاج وانتهى مع انتهائه. لم أصور ساعة اضافية. اتصل بي المراسل وطلب إجراء مقابلة معي، فطلبت منهم أن أصوّر حواره معي لأضعه في الفيلم. تزامنت هذه المقابلة مع الفترة التي كنت أخضع فيها للعلاج، حيث كان الحديث بيني وبين الدكتور عن الهوية الشخصية. فكنت أحاول أن أبعد خلال الحوار عن مسألة فلسطين أما هو فكان يعيدني اليها، الأمر الذي أغضبني. في النهاية قلت له: أنا لا أريد ان أنجز سينما من أجل فلسطين بل أريد انجازها من أجلي. كانت المقابلة مصادفة وغير مرتبة.

·         ذكّرني الفيلم بـ"دفتر يوميات حميمة" لناني موريتي...

- شاهدت الفيلم. هو روائي أكثر منه وثائقياً الا عند مرحلة الاصابة بالسرطان، اذ يأخذ منحى وثائقياً. شبّهوني كثيراً بوودي آلن وناني موريتي لأن الفيلم تضمّن بعض الكوميديا السوداء. من جهتي، أحبّ الاثنين. كل البلدان التي تعاني أزمات كبرى تصبح فيها الكوميديا المتمثلة بالتمرد المجنون على الوضع، كنوع من انواع العلاج. ما يميز فيلمي أن أساسه واقعي. كان التحدي بيني وبين نفسي ولم يكن مع شخص آخر. أرى من السهل الامساك بموضوع كبير، لكن أن تدخل هذه المنطقة [يشير الى قلبه]، فهذا شيء صعب. ما تنجزه السينما الفلسطينية هو أيضاً شيء مهم. يجب أخذه في سياقه التاريخي. حتى أفلام منظمة التحرير [الفلسطينية] من نوع "بالروح بالدم" لديها اهمية ما. سينما شعارات؟ "معليش!". التراكم مهم. هذا تاريخ نحتاج اليه ايضاً. لا نستطيع ان نلغيه وننطلق من جديد. لكن، يجب ألاّ يكون هذا "علاّقتنا" التي نعلق عليها السينما الفلسطينية برمتها، ونقول: "هذه هي السينما الفلسطينية". أنتم في لبنان عشتم ظروفاً مشابهة: في الانتفاضة الثانية مثلاً، حُبست في بيتي والدبابة امام الباب تمنعني من الخروج كي أشتري ما آكله، ففي ظروف مماثلة لا اعود أفكر في انسانيتي وأبدأ بالتفكير في ردود أفعالي. يصبح الانسان تالياً في حاجة الى أن يحكي قصته، وهذه حاجة انسانية. لا استطيع ان انفي صفة الانسانية عن هذه الحاجة المتمثلة في ردّ الفعل، لكني لا اريد أن يتحكم ردّ الفعل هذا بعقلي ومشاعري وخيالي. كل شيء محتلّ، نعم، لكني لن أسمح لهم بأن يحتلوا خيالي. لن أسمح لهم بأن يحتلوا الحلم والطريقة التي أحلم فيها. في النهاية ردود الأفعال انسانية. حتى العنف انساني. انا لا أحتاج الى اثبات فلسطينيتي (...).

·         فلسطين في السينما الأجنبية، هذا أيضاً موضوع على الموضة، منذ سنوات طويلة...

- أحببت القليل جداً من الأفلام الأجنبية عن فلسطين. تتعبني. فلسطين موضوع "سكسي" للمشاهدين الأجانب. بالنسبة اليهم، هذا موضوع سياسي، وخصوصاً انهم يتأثرون بما يسمعونه في الأخبار. لا بأس أن يأتي الأجانب لصنع أفلام عن فلسطين، لكن، في المقابل، علينا ان نصنع صورتنا بأنفسنا (...).

 (hauvick.habechian@annahar.com.lb)

 

الحدث

تحفة طارق تقية تُعرَض هذا المساء

الحداثي الذي لا يجيد تصوير الدماء والسلاح والموتى

بعد "روما ولا أنتوما" (2006) يجيئنا طارق تقية بمفاجأة أخرى هي"قبلة"، عُرضت العام الماضي في مسابقة مهرجان البندقية، وهذا المساء يلاقي جمهوره البيروتي، من جيل السينيفيليين الأخير. هذا الجزائري الحداثي له عالمه المشبع بالتراب والريح والغبار، ويعمل على دفع عنصري الصورة والصوت الى ذروتهما التعبيرية. في هذا الاسلوب التأملي يعثر تقية على هوية خاصة به، هوية يسعنا القول عنها انها مكتسبة، وهي التي تجعله يصنّف نفسه منتمياً الى هذا العالم الواسع، الذي ينفتح أمامه تدريجاً بعد دخوله أولى سنوات الأربعين. بعد فيلمين، بات الحديث ممكناً اليوم عن مقاربة "مختلفة" للواقع الجزائري، صافية من تأثيرات الأجيال السابقة. تقية ليس سينيفيلياً شغوفاً، هوسه شكلاني وليس عقلانياً، حرفته غريزيّة وليست مرجعية، سينماه تجد صداها عند كيارستمي وأنطونيوني، علماً انه لا يحبذ مقارنته بأحد، قاطعاً أمامك الطريق الى تلك الممارسة: "طبعاً هناك ينابيع شربتُ منها وتأثيرات قد لا تكون في الضرورة تلك التي تُنسب اليّ".

هناك هاجس آخر مضمر عنده: كيفية ايجاد شكل يتطابق مع الخطاب. بجمالية جد معقدة، وكتابة بصرية أنيقة جداً، يردّ تقية الاعتبار الى عنصر الزمن كأب لكل فيلم، ذاهباً أحياناً الى شرح اللغز بلغز "أقوى" منه. أليست هذه روعة سينما لا يمكن محاصرتها؟

أيا يكن، فما يهمّه هو اللامكان حيث نجد آثاراً لشيء ما (الجملة التي لا معنى لها الا سينمائياً). ذوقه هذا صيغ من خلال ما يسمّيه "تفضيلاته الفوتوغرافية" التي تكونت عنده من خلال حبه لتصوير المساحات المدينية القاحلة.

هناك دائماً شخص أو اثنان في كادره، وأحياناً أقل من ذلك. لكن يبدو أن لهذا أسباباً انتاجية وليس جمالية: بالنسبة اليه كل فيلم هو تعبير عن قيود تمويلية. وأيضاً تعبير عن الحرية التي يأخذها حيال هذه القيود.

تتطلب مشاهدة "قبلة" حداً أدنى من الاطلاع على القضية الجزائرية. اذ ما يصوره هم السكان، "أؤلئك الذين بقوا في منازلهم في اثناء الحرب في الجزائر". في حديثه عن تلك السنوات الصعبة، يتذكر احدى المجازر التي ذهب ضحيتها من 400 الى 700 شخص. "ليلة بأكملها من القتل ارتكبها فريق من الاسلاميين في حق نساء وأطفال في احدى البلدات بعدما جرى محاصرتها".

هناك مناخ من القلق السائد في هذا الشريط البديع. ثمة توتر دائم نتيجة عدم معرفتك من أين قد يأتي الخطر. "أنتَ تواصل حياتك العادية، وكل شيء يكون على ما يرام تقريباً، ثم تقع الحادثة العنيفة وغير المنتقية. لا تعرف كيف ولماذا. هذا ما اردت اظهاره. لم ارد تبيان العنف بل تأثيراته. لم ارد أن نرى الجثث، وأصلاً هناك القليل منها في الفيلم. وأحياناً لا نراها بل نتكهن بوجودها. هذا شيء انا دوماً حذر منه؛ لا أجيد تصوير الدماء والسلاح والموتى".

تقية من السينمائيين الذين يهتمون بالمناخ الذي يموضعونه تباعا، وهو مناخ جد مقلق وضاغط، راغباً من خلال هذه التقنية أن يضع المشاهد في حال مشابهة لحال الشخصيات: "هناك مشاهد للسيارات تجول في المنطقة الصحراوية. وهي طويلة وضاغطة. قد يشعر المشاهد بالانزعاج امامها، وبنوع من الألم أمام هذا الدوران المستحيل للسيارات. نحن اصحاب رغبات سينمائية مزمنة واعتباطية: نريد من المشاهد أن يضحك أمام مشهد هزلي وأن يخاف أمام مشهد رعب، ولا ننتبه أن من حقه وحقنا أن نشعر بالارتباك والانزعاج. دعونا نحاول هذا الخيار ايضاً. الأهم أنني اريد ان اصل الى هذا الهدف بإمكانات شحيحة، اذ ليس من موسيقى ولا مؤثرات خاصة بأفلام الرعب، بل على العكس من ذلك هناك الكثير من الصمت والاقتصاد".

مرة أخرى في فيلم جزائري، حلم الرحيل يطارد شخصياته. هذا الحلم بالعبور الى الجانب الآخر.

لا يعرف تقية الى أي ناحية يعبر. تلميح سينيكي الى أن الناحيتين متشابهتان في قدرتهما على فرض عزلة اضافية على اللامنتمي. هناك هذه الرغبة في الهرب وعدم امتلاك هوية، سواء هوية ان تكون جزائرياً، ذكراً، أو عربياً، لكن مخرجنا يصنف هذا من ضمن رفض أخلاقيات الحال المدنية. "كانت هذه حالتي على الصعيد الشخصي، ولا تزال. في هذا الشأن لا نستطيع أن نتكلم بصيغة الماضي لأن الحال المشار اليها لا تزال قائمة في حاضري الآني: رفض الانتماء. يجب أن نعيد خلق (أو انتاج) ما نحن عليه باستمرار. لا أؤمن بهوية نهائية منغلقة على ثوابت. تبدّل الهوية يعني اننا أحياء أزليون".

(•) "قبلة" ـــ يُعرض هذا المساء، الساعة 21:30.

هــ. ح. 

أفلام أخرى...  عُرضت:

"حراقة" لمرزاق علواش:

ظاهرة الهجرة غير القانونية متفشية في المغرب العربي أكثر من أي مكان آخر، بحكم المسافة المتقاربة نسبياً بين القارتين، الأفريقية والأوروبية. فالحلم الأوروبي على رمية حجر من منطقة غارقة في فساد السياسيين وظلمهم. لكن هذه القدرية الجغرافية سلاح ذو حدّين. قوارب الموت، شباب "الحيطيست"، النهايات المأسوية، هذه كلها يأخذها رائد السينما الجزائرية الجديدة (القديمة) الى فيلم لا يسعه ان يكون ميلودرامياً، ذلك أنه يعرف كيف يحوّل اللحظة شعراً والمعاناة مادة لتأمل سخي، من دون تلقين دروس. لا أبطال في نصّ علواش. فقط ضحايا لا يحلمون الا بالرحيل الى بلدان تفتح أمامهم الآفاق المسدودة. ولا بأس اذا وصلوا جثثاً هامدة الى "الطرف الآخر"، فالأهم هو الرحيل. نظرة علواش الى اللامنتمي صارخة في سوداويتها، اذ يرينا إياهم ينتقلون من منفى داخل الوطن الى منفى داخل العالم.

هناك نوع من حاجز بين العالم والمغرب العربي. عبوره مميت، أليم، نهائي لا عودة الى الوراء. هذه القصة التي تحمل في طبيعتها عناصر شائقة تسهل أفلمتها، لم يرد علواش اقتباسها كما لو كان يقتبس فيلم مغامرة على الطريقة الأميركية، على رغم جنوحه الى هذا النمط ما ان تطأ أقدام الشخصيات القارب. تفسيره: "لا امتدح هذه الظاهرة وأحوّلها بطولة كما يفعل غيري. أريد أن اطرح الاشكالية على حقيقتها. أولاً وأخيراً عبر القول إن الأمر يتعلق بانتحار وليس برحيل. ما كان يهمّني هو أن نرى يأس هؤلاء الشباب وصعوبة أن يكونوا. هذا اليأس الذي يجعلهم يقولون إنهم يفضلون الموت في مياه البحر على الموت في بلادهم على نار خفيفة".

"الجبل" لغسان سلهب:

رابع أفلام سلهب الروائية الطويلة، "الجبل"، الذي صوّره في فيطرون، خارج بيروته، حيث اعتاد التقاط المشاهد. القصة عن رجل (فادي أبي سمرا) يزعم انه مسافر ويتوجه الى المطار، لكن ليستقل سيارة أجرة من هناك متجهاً الى الجبل. هذا ما نعرفه الى الآن عن الفيلم الذي عُرض مساء أمس، ما حال دون معاينته. صوِّر "الجبل" بالأبيض والأسود استناداً الى سيناريو غير منجز تماماً وفيه استكمال للتيمات التي تؤرق مخرج "أرض مجهولة"، لكن بتنويعات أخرى وديكور ينبئ بمرحلة جديدة من مساره السينمائي.

 

ستُعرَض:

"إبن بابل" لمحمد الدراجي:

"على الاقل 300 مليون قصة تراكمت في العراق خلال عقود من الديكتاتورية، أي ما يعادل عشر قصص لكل فرد". من هذه الزاوية يرى محمد الدراجي، أرض العراق التي ارتوت بالدم والمظالم، وها انها تتحول بعد التحرير والتدمير، مادة للغث والسمين. "إبن بابل" يتموضع في منتصف الطريق بين فيلم المؤلف والسينما التي تخاطب "عامة الشعب"، لكن سيحصل هذا على حساب تيهه في منطقة سينمائية قاحلة بين رغبته في ارضاء الجميع وعدم قدرته على الارتقاء بالمأساة العراقية. انه "رود موفي" يتلبس حيلة "السهل الممتنع": رحلة أمّ عراقية كردية من شمال العراق الى جنوبه بحثاً عن ابنها في المقابر الجماعية. تصوير حرفي، نص سليم، إخراج على قدر من الادراك، نجح المخرج الشاب في رهانه الى حدّ كبير، وإن حمل الفيلم عاهات كثيرة، في مقدمها فقدان الصلة بالواقع العراقي جراء تعاطيه معه من دون مسميات، كما هي الحال في بعض من أفلامنا اللبنانية. استقى الدراجي الخطوط العريضة من ذاكرة منكوبة لشعب عانى ولا يزال يعاني الويلات. هذه الذاكرة انطلقت لحظة سماعه خبر اكتشاف مقابر جماعية، فراح يتخيل قصة أمّ تبحث عن ابنها، ثم تخيل شخصية الحفيد الذي يعتبره بديلاً منه (أي المخرج)، مجسداً النظرة التي كانت له طوال هذه السنوات حيال عمته المفجوعة التي فقدت ابنها. ثم تطورت الحكاية: قرأ في الجريدة عن قصة أمّ كردية قامت بالرحلة نفسها، إذ قطعت العراق من شماله إلى جنوبه بحثاً عن ابنها في مرحلة ما بعد السقوط. كان موضوع الجريدة بسيطاً، فقام بتطويره. باشر الكتابة مع مثال غازي وكاتبة بريطانية. ثم أخذ المشروع بُعداً آخر من طريق معهد ساندانس الذي ساعده في جعل السيناريو أكثر تماسكاً (الفيلم سينزل الى الصالات اللبنانية في الأسابيع المقبلة).

(•) هذا المساء، الساعة 19:00.

"يهود لبنان، الولاء لمن؟" لندى عبد الصمد:

لم نشاهد هذا الوثائقي المتوسط الطول. لكن السؤال الذي يطرحه في عنوانه قد يثير اهتمام بعض المشاهدين. انه بحث في ذاكرة يهود عاشوا في لبنان وغادروه في اتجاهات مختلفة، وأيضاً بحث في ذاكرة هؤلاء بلسان لبنانيين عاشوا في حي اليهود في وادي أبو جميل وصيدا. صوّر الشريط في بيروت وصيدا وفلسطين المحتلة ومكسيكو وكندا. فبعد عشرات السنين على رحيلهم من لبنان، تسأل المخرجة: كيف ينظر يهود لبنان إلى وطنهم الأم؟ وماذا بقي من ذاكرتهم عنه؟ وكيف يتعايشون مع ماضيهم؟ وهل بقي من ذكراهم شيء في لبنان؟

(•) غداً، الساعة 18:00.

• "شيوعيين كنا" لماهر أبي سمرا (غداً، الساعة 19:30).

• "الليل الطويل" لحاتم علي (غداً، الساعة 22:00).

• "المرّ والرمان" لنجوى نجار (الأحد، الساعة 20:00).

• "عيد ميلاد ليلى" لرشيد المشهراوي (الأحد، الساعة 22:00).

( كل العروض تجري في "متروبوليس" (أمبير - صوفيل).)  

النهار اللبنانية في

23/09/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)