حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

سلهب يدخل دهاليز الذات والدرّاجي يتذكّر جمهورية الخوف في «أيام بيروت السينمائية»

«يهود» ندى عبد الصمد و«شيوعيو» ماهر أبي سمرا كَسَرتهم الحرب الطائفية فانقرضوا

نديم جرجورة

تنتهي الدورة السادسة لـ«أيام بيروت السينمائية»، رسمياً، مساء بعد غد السبت، بعرض الفيلم الإشكالي «كارلوس، الإرهابي الذي أخاف العالم» لأوليفييه أساياس. هذا هو العنوان الأصلي، الذي اختُصر إلى «كارلوس» في النسخة التلفزيونية (330 دقيقة في ثلاثة أجزاء)، في حين أن «ثمن ابن آوى» عنوان النسخة السينمائية (160 دقيقة). اختارت إدارة الـ«أيام» النسخة التلفزيونية لعرضها، لكن الموزّع سليم رميا ارتأى عرض النسخة السينمائية. «مؤسّسة الحرية» دعت إلى احتجاج للاعتراض على ما رأته «إساءة إلى المناضل الفنزويلي ورفاقه»، ولإعلان رفضها «استمرار اعتقاله في السجون الفرنسية»، الخامسة والنصف بعد ظهر السبت، أي قبل نصف ساعة فقط من موعد عرض الفيلم المذكور.

أما يوم الأحد المقبل، فسيكون يوماً فلسطينياً بامتياز، إذ تُعرض خلاله خمسة أفلام أُنتجت حديثاً: «إلى أبي» (وثائقي طويل، 54 د.) لعبد السلام شحادة (الخامسة بعد الظهر)، «مملكة النساء» (وثائقي طويل، 54 د.) لدانا أبو رحمة (السادسة والنصف مساء)، «المرّ والرمان» (روائي طويل، 95 د.) لنجوى النجار (الثامنة مساء)، «إلى بطن الحوت» (روائي قصير، 25 د.) لحازم بيطار، يليه مباشرة «عيد ميلاد ليلى» (روائي طويل، 70 د.) لرشيد مشهراوي (العاشرة ليلاً).

تنويعات

قبل حفلة الختام، يُمكن للمهتمّين مشاهدة تنويعات سينمائية لافتة للانتباه. هناك، في البرمجة، أفلام صادمة بحيويتها في المعالجة، أو في سرد الحكاية وصناعة الصورة. هناك أفلام آسرة، بجمالياتها الدرامية المشغولة بحرفية واضحة المعالم. في المقابل، هناك أفلام وازنت بين الشكل والمضمون، مع أن المضمون بدا أقرب إلى فعل سياحي مغلّف بطابع إنساني وبشكل سينمائي محترف. أفلام ظلّت دون المستوى، من دون أن تفقد حقّها الطبيعي في أن تُعرض في صالة سينمائية بيروتية، باتت أساسية في عرض أفلام مختلفة عن السائد التجاري غالباً، وفي ارتباطها العضوي بمهرجانات سينمائية محلية، منفتحة على العالمين العربي والغربي. من هذه الأفلام المتنوّعة والمتناقضة شكلاً ومضموناً، هناك «الجبل» (روائي طويل، 85 د.) للّبناني غسّان سلهب (عُرض العاشرة من مساء أمس الأربعاء)، «ابن بابل» (روائي طويل، 90 د.) للعراقي محمد الدرّاجي (السابعة مساء اليوم الخميس، علماً أن عرضه التجاري اللبناني يبدأ في السابع من تشرين الأول المقبل، في صالة سينما «أمبير سوديكو»)، «يهود لبنان، الولاء لمن؟» (وثائقي قصير، 45 د.) لندى عبد الصمد (السادسة مساء غد الجمعة) و«شيوعيين كنّا» (وثائقي طويل، 84 د.) لماهر أبي سمرا (السابعة والنصف مساء غد الجمعة أيضاً).

التشابه واضح في المسار السينمائي لغسان سلهب في أفلامه كلّها، على مستوى المعالجة الدرامية والإيقاع المعتَمَد في سرد الحكاية، أو بالأحرى في خلق مناخ فني وإنساني، أو حالة فردية. على الرغم من هذا، اختلف فيلمه الأخير «الجبل» عن أفلامه الروائية الطويلة الثلاثة السابقة: «أشباح بيروت» (1998) و«أرض مجهولة» (2002) و«أطلال» (2006). في الأفلام الثلاثة، غاصت الشخصيات في عالم المدينة (بيروت تحديداً)، جاعلة إياها شريكة فعلية في صناعة الحبكة. أما «الجبل» (2010)، فعنوانه دلالة على المكان الذي شهد أحداث الحبكة، من دون أن يدخل الجبل في النسيج الدرامي للحكاية، على غرار ما فعلته بيروت في الأفلام السابقة. أو بالأحرى للحالة الإنسانية التي التقطها سلهب من خلال شخصية المطرب (فادي أبي سمرا) المنزوي في عالمه الضيّق، وسط انهياراته وخيباته واشتغالاته الروحية والجسدية. بالإضافة إلى هذا، فإن الاختلاف بين الفيلم الأخير لسلهب وأفلامه الثلاثة السابقة كامنٌ، أيضاً، في اعتماد «الجبل» الأسود والأبيض كلونين عكسا المناخ الدراماتيكي الذي ظلّل الحالة تلك، التي عانى المطرب مآزقها وارتباكاتها. ومع أن لـ«الجبل» حكاية صغيرة، إلاّ أن السياق العام تحرّر من السرد التقليدي، كعادة المخرج في صناعة أفلامه الطويلة والقصيرة والفيديوية، وذهب إلى ما هو أبعد من السرد وقصصه. فالمطرب، الذي ادّعى سفراً لم يُحقّقه لرغبته في الانزواء في غرفة فندق في الجبل، أوجد عالمه الخاص داخل الغرفة، وتاه في دهاليزه الذاتية وتعقيداته الفردية وخيباته الشخصية وخرابه العام.

الارتكاز على الإيقاع الهادئ في سرد الحبكة/ الحالة الإنسانية وتفاصيلها المختلفة، سمة الفيلم الروائي الطويل الثاني للعراقي محمد الدرّاجي «ابن بابل» أيضاً. الجنون العراقي حاضرٌ في فيلمه السابق «أحلام» (2003). هنا أيضاً، لكن من وجهة نظر كردية. الجدّة (شهزاد حسين) الباحثة وحفيدها (ياسر طليب) عن ابنها المفقود منذ سنين طويلة، تختبر أبشع اللحظات، وتعاني أقسى التحدّيات. اختبر حفيدها آثار تلك اللحظات والتحدّيات. رافقها. حاول عيش مراهقته الأولى. الرحلة مثقلة بالذكريات والالتباسات. الرحلة، الممتدّة من شمال العراق إلى جنوبه مروراً بالعاصمة بغداد، أشبه برحلة ذاتية داخلية، احتاجت الجدّة وحفيدها إليها بشدّة، بحثاً عن خلاص ما من سطوة الذاكرة وأعوام الدم والعنف في «جمهورية الخوف» هذه. بمعنى آخر، خاض الدراجي تجربة الموت في اشتغاله على المجازر الدموية التي نفّذها صدام حسين بحقّ الأكراد، مستعيناً (الدراجي) بإيقاع هادئ لتغليف الغليان الذاتي والجماعي بدلاً من انفلاشه على مدى الحبكة، درءاً لخطر الوقوع في فخّ البكائيات والخطابية. الألوان المستخدمة ساهمت في جعل الفيلم أمتن، تماماً كالحبكة التي صنعها السيناريو (شارك الدراجي في الكتابة، إلى جانب جينيفر نورّيدج وميتال غازي)، وكالأداء الذي قدّمه طاليب وحسين ببراعة إبداعية جميلة.

الوثائقي

أما الفيلمان الوثائقيان فمتشابهان بكونهما ينبشان من الذاكرة الجماعية اللبنانية مسألتين منقرضتين: يهود لبنان و.. الشيوعيون. الانقراض سمة أساسية بالنسبة إلى اليهود اللبنانيين. الانقراض سمة سياسية وثقافية واجتماعية خاصّة بالشيوعيين أولاً، وباليساريين جميعهم ثانياً. هاجر اليهود. تركوا البلد الذي وُلدوا فيه أو جاءوا إليه. ذهبوا بصمت، تماماً كما عاشوا فيه بصمت. انعزلوا في أمكنة خاصّة بهم (وادي أبو جميل في بيروت، حارة اليهود في صيدا)، لكنهم لعبوا دوراً أساسياً في النسيج الاجتماعي والحركة الاقتصادية. للشيوعيين دورٌ أساسي أيضاً في صناعة البلد. لكنه دور قديم لم يعد له وجود في الراهن. لم يعد له أي تأثير يُذكر. كسرتهم الحرب الطائفية. دحرتهم الطوائف، فبات بعضهم تابعاً لهذه الطائفة، وانخرط بعضهم الآخر في أطر طائفية لها خطط سياسية واقتصادية كانت «العدوّ» الأول لهم سابقاً. انقضّت عليهم السياسات الرأسمالية واليمينية، المدعومة من الأنظمة الطائفية الضيّقة، المتفاهمة فيما بينها على تقاسم البلد، مجتمعاً وسياسة وإعلاماً وثقافة وتربية واقتصاداً. الانقراض خرابٌ للبلد، لأن فقدان البلد لليهود دليلٌ على عزلة البلد وناسه إزاء من اشتغل في إعلاء شأن البلد، بتفاهم واضح مع أبنائه. فقدان البلد للشيوعيين دليلٌ على قوّة الانكماش الطائفي وبراعة الفكر اليميني الرأسمالي، المدعوم من الطوائف والمال والعسكر، في اختزال البلد وناسه بالمنتمين إليه.

اشتغلت ندى عبد الصمد على الموضوع اليهودي سابقاً (لها كتاب عنهم أصدرته العام الفائت عن «دار النهار للنشر»). لاحقتهم. بحثت عن قصصهم. طاردت بعضهم المقيم في إسرائيل عبر مكتب المحطّة التلفزيونية البريطانية «بي. بي. سي.»، مُنتجة الفيلم. أرادت أن تفهم حضورهم السابق وغيابهم الراهن. الفيلم الوثائقي التلفزيوني انعكاس لواقع انتهى. تماماً كـ«شيوعيين كنا». ما فعله ماهر أبي سمرا، بلقائه الزميلين حسين أيوب وإبراهيم الأمين، وبشّار عبد الصمد والمخرج نفسه، بالإضافة إلى أبو محسن وعبد سرحان (مسؤولان سابقان عن هذه المجموعة الشيوعية)، أدّى إلى إعادة نبش الذاكرة القديمة لشيوعيين باتوا اليوم منتشرين في اتجاهات سياسية مناقضة لتاريخهم الشخصي، أو منفتحة على العزلة والتغرّب.  

كلاكيت

لتكن مواجهة إبداعية

نديم جرجورة

احتجّ البعض على اختيار «أيام بيروت السينمائية» فيلم «كارلوس» للفرنسي أوليفييه أساياس، لعرضه في ختام الدورة السادسة مساء السبت المقبل. دعا البعض الآخر إلى اعتصام أمام صالة سينما «متروبوليس/ أمبير صوفيل» في الأشرفية. أُثير نقاشٌ متواضع حول الفيلم نفسه وتوقيت عرضه. قيل إن تقديمه في حفلة الختام غير مُبرَّر. هذا يعني، بالنسبة إلى هذا البعض، تكريماً للفيلم ومخرجه. عرض الفيلم في حفلة الختام أو في موعد آخر أثناء المهرجان غير مهمّ. الأهم كامنٌ في مشاهدته ومناقشة مستوياته كلّها.

سيكون أساياس حاضراً. ستكون له ندوة مع طلاّب جامعيين. سيلتقي المشاهدين. هذه مسألة مهمّة. هذه دعوة إلى نقاش نقدي. هذا يعني أن إدارة الـ«أيام» لا تبغي عرضاً سينمائياً عابراً، بل لحظة مواجهة حقيقية بين مخرج صنع فيلماً إشكالياً، ومشاهدين رأى بعضهم فيه «إساءة» إلى من اعتبروه «إيقونة» هذا الزمن العربي الرديء. يُفترض بالاحتجاج أن يكون سلميّاً. أن يكون إعلاناً عن موقف. أن يكون لحظة تحرّك هادئ غير عنفي، تسبق المواجهة الإبداعية داخل الصالة. هذا حقّ شرعي. هناك من رأى في «كارلوس» إساءة إلى مناضل، قيل الكثير حول التزامه الكفاح المسلّح أداة لمقارعة الإمبريالية، في زمن سيادة ثقافة العنف المسلّح، التي اعتمدتها حركات التحرّر في العالمين العربي والغربي. الاحتجاج السلمي حقّ لمعترضين، تماماً كحقّ أوليفييه أساياس في إنجاز فيلم مبني على قناعاته الشخصية والفنية والجمالية. تماماً كحقّ مشاهدين آخرين في مشاهدته من دون أحكام مسبقة. ففي مقابل أناس يعتبرون كارلوس مناضلاً حقيقياً ضد الرأسمالية والإمبريالية والاستعمار الأميركي والغربي، دفاعاً عن حقوق الشعوب المقهورة والمظلومة، هناك من يراه مجرّد إرهابي يستحق الإعدام. وهناك من لا يكترث به كشخص، بل كفيلم سينمائي. أوليفييه أساياس مقبل من بلد عانى عنفاً دموياً، جرّاء تحرّكات كارلوس ورفاقه وأمثاله. مقبل من ثقافة أخرى. هذا ليس تبريراً. هذا لا يفرض على أساياس اتّخاذ موقف سلبي من كارلوس. للمخرج حقّ التعبير عن قناعة أو التزام أو موقف أو رأي من منظاره الخاص. وللآخرين حقّ المشاهدة والنقاش.

ليس الاحتجاج السلمي وحده حقّاً شرعياً، بل النقاش الهادئ والسليم أيضاً. ما فعلته إدارة الـ«أيام» مهمّ: اختيار هذا الفيلم الإشكالي لعرضه في حفلة الختام، بحضور المخرج. أي أن هناك إمكانية نقاش نقدي مع صاحب العمل السينمائي نفسه. بمعنى آخر، يُفترض بالاحتجاج السلمي أن يُترجَم إلى أمرين اثنين: مشاهدة الفيلم، ومناقشة مخرجه برويّة. وليُقدّم الذين يعتبرون الفيلم مسيئاً لإيقونتهم الحيّة حججاً منطقية، لمقارعة حجج فيلم مبني على أبحاث وقراءات جمّة.

فلتكن، إذاً، لحظة مواجهة إبداعية، مرتكزة على النقاش النقدي السليم، الذي لا يُلغي الجانب السينمائي لحساب القضايا العامّة. لتكن لحظة سجال حيوي، لا ينتقص من القيمة الإبداعية للفيلم وللموقع السينمائي لمخرجه.  

كتــاب

«أنا فيلّيني» وسيناريو «روما فيلّيني»

لعلّها من المرّات القليلة التي تتمّ فيها ترجمة كتابين أجنبيين إلى اللغة العربية في كتاب واحد جامع نصّين معاً، يُمكن القول إنهما متكاملان في رسم صورة أوضح لصاحبهما. عارف حديفة ونبيل الدبس قدّما هذه التجربة: ترجما مذكّرات المخرج الإيطالي فيديريكو فيلّيني، وسيناريو «روما فيلّيني». أي أن الكتاب الصادر عن «مؤسّسة السينما العربية» في سلسلة «الفن السابع»، تحوّل سريعاً إلى مدخل عربي إلى عالم سينمائي من طراز رفيع، جعل الأشياء تتحرّك بخفّة، والنساء يتجوّلن بحرية، والمواضيع تخضع إلى تشريح بصري لا يُمكن وصفه.

أن تقرأ مذكّرات فيلّيني، يعني أن تذهب إلى أقصى الحدود الممكنة لسينمائي تجاوز الحدود وتحدّياتها، بأشكالها المتفرّقة. أن تقرأ سيناريو فيلم سينمائي (فكيف إذا كان عنوان الفيلم «روما فيلّيني»)، يعني أن تخترق المعالم الواضحة، كي تسقط في لجّة الغموض والالتباسات السينمائية البديعة. وعلى الرغم من وهن في الترجمة إلى العربية أصاب النصّين في مطارح عدّة، فإن هذا الكتاب العربي مدخلٌ إلى فهم، بل إلى متعة الغرق في العالم الفيلّيني البديع.

السفير اللبنانية في

23/09/2010

 

«الغابة النرويجية» لهونغ و«عزلة الأرقام الفردية» لكوستانزو

وجوه الخيانة والمازوشية الحمقاء

زياد الخزاعي 

يوأد الحب سريعاً، على عكس برودة تشكّله وبطء ولادته. يموت بسبب الخيانة أو سوء الظّن. تتلاشى عواطفه بسبب الصفاقة أو اللامبالاة. تتبخّر مودّته بحرارة البغضاء وسعيرها الذي يشبّ بقوّة نادرة، يُدهَش المرء لتعجّلها في قتل المُحابة. هذه صيرورة حياة ووقف بشري يزاوج بين الرغبة والتوافق على ثنائية المحب وحبيبه، قبل أن يخترق حصونهما الَمخانَة التي لا تَنْصَح. إنها لعبة طريدة تَستَغفل في وهلة ثقة أن ملكيتها للآخر مضمونة، ليس بالإفراط بالهوى وسقمه أو بالشهوة وجماعها، بل بالعهد وشرطه الأول: الإخلاص. في غياب الأخير، تُفهم معاني قتل العشق ولوعة الشك بالخيانة، ومقابلها الذي يدور في كيان الضحية: الموت. ليس الفيزيولوجي وحسب، بل ما هو أخطر منه: موت القناعة ويأسها. هذه التوصيفات أساس الدرامية المتألّقة في النص الكبير للروائي الياباني الذائع الصيت هاروكي موراكامي «الغابة النرويجية»، الذي اقتبسه مخرج «عطر البابايا الخضراء» («السعفة الذهبية» في «كان» 1993) الفيتنامي تران آن هونغ إلى السينما، وعرض رؤيته في المسابقة الرسمية الخاصّة بالدورة السابعة والستين (مطلع أيلول الجاري) لـ«مهرجان البندقية السينمائي»، التي سبق أن حاز على أسدها الذهبي عن «سايكلو» عام 1995. ومثله جديد الإيطالي الشاب سافيريو كوستانزو «عزلة الأرقام الفردية»، الذي أضاف على الوصفات المذكورة سابقاً صيغة شديدة المرارة، تمثّلت بوحدة العاشق ومكابداته، الذي يرى في ضعفه الشخصي (أو مرضه النفسي) إشارة على خشيته من الحبّ.

«الجبل السحري»

يُمثّل عنوان رواية موراكامي، الصادرة عام 1987 والمقتَبس من أغنية للفريق البريطاني «بيتلز»، فاصلاً جغرافياً بين العقيدة الناقصة لبطله الشاب تورو واتانابي، الذي شهد انتفاضة أقرانه الطلبة، في الستينيات الماضية، من دون أن يتفاعل وقضيتهم الحقّة، والقائمة على رفض سلطة عسكرية مقنّعة بلباس ساسة مدنيين متواطئين، وبين هاجسه الذي تشكّل في أرض أخرى حول السُكرة الغائبة للحب في حياته، وحول الناقص من شجاعته في الإعلان، بشكل صريح، عن تشظّي اختيار حبّه بين الشابتين ناوكو وميدوري: الأولى، بسبب حبّها لصديق عمره كيزوكي، الذي ينتحر لاحقاً، ما يغيّر سِيَرهم جميعهم. والثانية، بسبب قوّة شخصيتها ووضوح خياراتها، التي توصلها إلى رفض المغامرة السريعة معه. هي العلّة نفسها (التشظّي) التي اشترك فيها الشاب ماتيا، بطل رواية الكاتب الإيطالي باولو جيوردانو «عزلة الأرقام الفردية»، والمعيقة له من الاقتراب من الشابة أليس، المنكفئة على نفسها، ومرجعية ذلك مرتبطة بالذنب الكامن في وعيه أنه كان سبب غرق الرضيعة شقيقته التوأم.

يقود الموت واتانابي إلى سفرة طويلة نحو جنة غابيّة، حيث المصحّ الذي انكفأت إليه ناوكو (أداء رينكو كيكوتشي، التي عرفت شهرتها بفضل «بابل» للمكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو)، بحثاً عن طيف صداقة حقّة ملتبسة بحب خفي. وبدلاً من الحوارات المطوّلة في نص موراكامي، انتصر المخرج هونغ إلى التقشّف الكلامي، ومشهديات المحيط المفعمة بالجمال والتطامن. إذ إن الموار الداخلي للشخصيتين الرئيستين، غربة واتانابي وعذابات ناوكو وإصرارها على تحمّل ذنب انتحار الحبيب (في الرواية مع أختها، وفي الفيلم بمفرده)، لا يستقيم إلاّ مع عناصر الطبيعة التي تقودهما إلى قرارات حاسمة. من هنا، نرى البطل الشاب المثقف الذي يقرأ رواية «الجبل السحري» لتوماس مان تورية لرحلة بطله، يدور بحثاً عن ردّ شاف لسؤاله الجوهري: مَنْ القابع فينا؟ حبّ الحياة أم وحشة الجواب الناقص في فهم معانيها؟ الخوف من كون الموت أمراً خارج الحياة، أم كونه جزءاً منها، يكمّلها ويمدّها بقدريتها العظيمة؟ واتانابي ليس شخصية تاريخية. إنه عين هائمة تدرس معنى القدر الذي أوصل بشراً إلى عدم فهم غرض وجودهم في هذا العالم. بالنسبة إليه، الحبّ المحصّن في كيانه يمدّه بقوّة جبّارة على اختيار مواجهة الحبيبة، التي لا يمتلكها ولا يستطيع مراودتها في مكان محصور، بل عليهما التأنّي كي يتحقّق لقاؤهما الشبقي الوحيد وسط الأنسام والخضرة وعين الله. إنهما ملك الأرض وعشبها الحاضن تأوّهاتهما، التي تعلن مواربة عن ولادة ثنائي جديد بعد أعوام قطيعة قسرية. بيد أن الإثم لا يترك للحرية مساحة، فيدفع ناوكو إلى الانتحار غسلاً منه، وهي تقول: «تعلّمت أمراً واحداً من ميتة كيزوكي: لقد جعلته جزءاً من نفسي».

إن محيط واتانابي في بداية الفيلم (مهجع طلاّب الجامعة وهو يدرس الدراما) مكتظ، وكاسر وحدته الشخصية التي تتماشى وتثاقفه الطهراني. لكن الضجّة تخبو في كل خطوة يتقدّم فيها مسيره وسط الغابة، وتتحوّل إلى صلاة سمعية صوتية لكلام الخُلُق. بينما يحدث العكس في نص سافيرو كوستانزو، مخرج «جندي» (2004) و«احتفاء بنفسي» (2007)، حيث يجد الفتى ماتيا سكينته في انكفائه العائلي (غرفته وكتبه)، ومثله أليس التي تجد في جدران شقتها حصانة مطلقة لعاهتها التي تسبّب بها حادث تزلج سابق. إنهما رقمان فرديان لا ينقسمان إلاّ على نفسيهما، أو على الرقم واحد. لذا، فإن اجتماعهما كزوجين لن يتحقّق إلاّ بعد أن تمرّ الشخصيات الفردية الأخرى في مجرى حياتهما الناقصة ثقة وبهجة.

مناكفات

إن حبّهما المشترك المكتوم، العائد إلى شراكة الدراسة، صورة ناقصة لحيف الآخرين الذين لن يتورّعوا عن مناكدتهما كلٌّ على جنب (أي فردياً). تحدث مأساة ماتيا وسط طبيعة مدينية (بركة منتزه عام)، ويقع حادث أليسا عند جبال بيضاء مفتوحة على عاهتها المقبلة. لكن لقاءاتهما اللاحقة تحدث في منكفأ كاتم، وسط ظلمة خانقة. إنه حب موؤود بالعلّة الذاتية وشكوكها ونقص شجاعتها. في «الغابة النرويجية»، هناك استماع إلى نوعين من الموسيقى المواكبة لعصرية أحداث ستينيات طوكيو، حيث أصوات جون لينون وبول مكارتني وألفيس بريسلي وغيرهم، قبل أن تختفي (الأصوات) لمصلحة المطلق الطبيعي (ريح، برق، هسيس نار، حفيف أوراق وغيرها)، بينما تحاصر الموسيقى الزاعقة الحداثية، التي يقول كوستانزو إنه استعارها من زميليه جون كاربنتر وبراين دي بالما، بطلي «عزلة الأرقام الفردية»، مقرّبة مشهدياتهما من أجواء فيلم رعب رخيص القيمة، تتداور حول مطاردة روحين مكسورين لا يجتمعان على قرار شجاع إلاّ بعد وقت طويل من عصيانهما على الثنائية الرقمية (اثنان، أربعة، ستة). والغريب في هندسة كاستانزو لعمله (118 دقيقة) إصراره على جمع شخصياته بأعداد فردية في غالبية فصول عمله. فأغلب مناكفات صبيات المدرسة لأليس، التي تقودها اليافعة الرعناء أديلاّ، تضم صويحباتها الثلاث أو الخمس. ونلاحظ هذا في تعداد عائلة ماتيا الثلاثية، حيث تظهر الأم (إيزابيلا روسيليني) وحيدة في مناجاتها لابنها، أو الثالثة مع ابنها ورفيقته.

يخون واتانابي عهد صداقته، لكن بعد رحيل الخِل. وتقدم ناوكو عليها (الخيانة) لأنها أضاعت ضمانة الحبيب عبر الموت، لنشهد عقابين لكل منهما. يغادر الأول إلى رجولته، أي نحو قناعة راسخة بتلوّث إخلاصه. وترحل الشابة المعطوبة نحو فنائها، كونها لم تَنصَح. في الوقت عينه، يخون الإيطالي ماتيا عاطفته بالمزيد من المازوشية الحمقاء، التي تتمكّن لاحقاً من روح أليس. ونرى إصرارها على إهانة نفسها وسط متجر أو في شارع، أو لاحقاً وسط حفل زفاف. هما خائنان في حقّ جماعتيهما، بسبب سماحهما للآخرين بفصلهما وتقسيمهما وتسهيل انسلاخهما بعضهما عن البعض.

)البندقية(

لسفير اللبنانية في

23/09/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)