حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

فيلم الساعات ..ثلاث نساء و ثلاث قُبلات

محمد عبد الله الترهوني *

"في رسالة لصديقتها فيتا ساكفيلد تكلمت فيرجينيا عن تلك المرحلة من حياتها المبكرة قائلة : هل تتخيلين في أي بيئة نشأت ، لا مدرسة أقصدها ، أقضي يومي مستغرقة في التأمل وسط تلال من كتب أبي ، لا فرصة إطلاقاً لالتقاط ما يحدث خلف أسوار المد رسة: اللعب بكرة ، المشاحنات ، تبادل الشتائم، التحدث بالسوقية عوضاً عن الفكتورية المقيتة ، المشاركة في الفعاليات المدرسية ، والشعور بالغيرة" لزمن طويل نكون قد تحملنا نظام التشدد الفيكتوري ، وقد لانزال نخضع له حتى اليوم ، فقد يكون التعفف الإمبراطوري لايزال ماثلاً على لوحة جنسانيتنا  المتحجرة ، الصامتة والمنافقة ، فحتى مطلع القرن السابع عشر ، كانت بعض الصراحة لا تزال سارية ، كما كان يقال ، فالممارسات لم تبحث عن التستر إلا في القليل النادر ، والكلمات كانت تقال بدون تكتم مفرط ، والأشياء دون إفراط في التنكر ، لقد كان هناك نوع من الألفة المتساهلة مع المحضور وغير المشروع ، وقد كانت قوانين المجون والفحش والبذاءة أكثر ليونة إذا ما قورنت بقوانين القرن التاسع عشر ، حركات مباشرة وخطابات غير مخجلة ، خروقات مرئية وتشريحات معروضة ومختلطة بسهولة ، وأطفال وقحون يجولون دون مضايقة ولا فضيحة وسط ضحكات الكبار ، لقد كانت الأجساد " تتبختر " وبعد هذا النهار المضيء ، يكون قد أتى غروب طال الليالي الرتيبة للبرجوازية الفيكتورية ، وحينئذ تكون الجنسانية قد أنحبست بعناية ، وإنتقلت لتقيم في مكان آخر ، فقد صادرتها الأسرة الزوجية وأدمجتها كلياً في جدية الوظيفة الإنجابية ، هكذا بات الصمت يلف الجنس ، وغدا الزواج ، المشروع ، والمنجب يمارس سلطته ، لقد فرض نفسه كنموذج وبرز كمعيار ، وأمتلك الحقيقة واحتفظ بحق الكلام مع إحتكار مبدأ السر ( 1 ) ، لقد أنتقم فوكو لفيرجينيا من الفيكتورية المقيتة ، فضح فوكو الخطاب حول قمع الجنس ، وأظهر كيف أنه خطاب قائم ورائج لأنه بدون شك سهل الإنتاج والرواج ، بما أن هناك ضمانة قوية ، تاريخية وسياسية تحميه ، لاشك أن فيرجينيا وولف ستكون سعيدة لوعرفت ـ أن مالا يخضع للتناسل أو مايغير من هيأته بعض التغيير ، أصبح له مقر وله قانون ، وأنه لم يعد مطرود أو مجبر على الصمت ، لقد أفصح عن نفسه ... لقد تكلم ، وأصبح في أمكان مايكل كانينجهام أن يكتب رواية الساعات وأن يحصل على جائزة ، ولفرجينيا أن تكون سعيدة أكثر لأنها أحد شخوص هذه الرواية ولأن الرواية تتحدث عن الحياة والموت ، عن الحب والألم ، عن الكتابة والقراءة ، والأهم أنها تتحدث عن كل ذلك من خلال علاقات جنسية مثلية ، ريتشارد ولويس ، لويس وأحد طلبته ، كلاريسا وسالي ، جوليا وماري كرال ، في غياب الفيكتورية المقيتة سيصبح من حق أوليفر أحد شخوص الرواية أن يقول : ( لا ، لن يكون مختلفاً ، البطل في هذا الفيلم سيكون شاذاً ، هذا هو الأختلاف الوحيد، والمسألة ليست بهذه الأهمية ، لن يعاني بسبب ميله الجنسي ، لن يصاب بالإيدز ، سيكون شاباً شاذاً يؤدي عمله وينقذ العالم بشكل أو بآخر)  ( 2 ) في الغرب لم تعد المسألة بهذه الأهمية .

تحكي الرواية ، رواية فرجينيا وولف ( السيدة دالاواي ) الحياةالكاملة لمرأة في يوم واحد ، يوم واحد فقط ، وفي ذلك اليوم كل حياتها ، أما رواية الساعات فتحكي عن يوم في حياة ثلاث نساء : فرجينيا وولف الكاتبة ، لورا براون القارئة ، كلاريسا فون صاحبة دار نشر ،  العقدة التي تجمع هذه الخيوط الثلاثة هي ( السيدة دالاواي ) ، فيرجينيا تكتب السيدة دالاواي ، لورا براون تقرأ السيدة دالاواي ، كلاريسا فون هي السيدة دالاواي كما أرادتها فيرجينيا وولف ، أمرأة تعيش بكامل حريتها ، تحب أمرأة أخرى هي سالي ، وتنجب جوليا بطريقة صناعية من أب لاتعرفه هي نفسها ، يأيد إ .س . كون في كتابه " علم نفس الجنس " مقت فيرجينيا الفيكتورية المقيتة بقوله : ( الأشخاص الذين يعيشون حياة جنسية نشيطة ، يتميزون بتخيلات مثيرة فعالة في الوقت نفسه ، تعمل على تعزيز وتحريض وتنويع تجربتهم الواقعية ، أما أولئك الذين تربوا على الطريقة الفيكتورية المتزمتة ، فإن كلمات مثل الإثارة والتهيج تعتبر عندهم معادلة للبذاءة ، وتعني شيئاً ما حيوانياً ومنحطاً ، أما في الحقيقة فإن الحيوانات هي التي لاتعرف الإثارة والشبق  وإن القدرة على التجاوب مع إشارات ومظاهر الإثارة ، وتكوينها وتجسيدها أيضاً من خلال التخيلات هذه القدرة هي من الصفات الخاصة بالإنسان فقط وتميزه عن غيره  من الكائنات ( 3 ) ، قررت فيرجينيا ( كلاريسا دالاواي لابد أن تكون قد أحبت أمراة ، نعم ، أمرأة آخرى في شبابها ، كلاريسا وتلك المرأة لابد أنهما تبادلتا القبلات ، قبلة واحدة  مثل القبلات  السحرية  في الحكايات الخيالية ، وستظل كلاريسا تحمل  ذكرى هذه القبلة والأمل المفعم بالنشوة الذي بعثته طوال حياتها ، لن تقابل أبداً حباً كهذا الحب الذي يبدو أن تلك القبلة تنم عنه ، نعم لابد أن تحب كلاريسا أمرأة ، لابد أن تقبل أمرأة ، مرة واحدة فقط ) ( 4 ) ، تركز رواية الساعات كما فيلم الساعات المأخوذ عن الرواية على هذه القبلة ولكن لماذا القبلة ؟ القبلة تحمل رسائل رمزية كثيرة ، في أوروبا من القرون الوسطى وحتى قبل الفيكتورية المقيتة كان الموت المثالي هو أن يموت المرء وآخر شيء على فمه قبلة من الحبيب ، " القبلة تعبير عن الحب ، الخوف ، الخنوع ، الألم ، الميل الجنسي " ( 5 )  ، القبلة بعد كل شيء رسالة ، فبحسب الرؤية الأنثروبولوجية تعد القبلة من بداية البشرية رسالة بين أنسان وآخر ، رسالة ثقة ، فإن الانسان الأول ماكان ليجعل أحد يقترب منه إلا إذا وثق به ، وعند البعض للقبلة مفعول أكبر من مجرد رسائل الثقة فدانيل هينسوس يقول : قد تحتل بقوة السيف ، لكنك قد يتم احتلالك بقبلة ، وما يهمنا أكثر هو قول جورج صاند : القبلة تعيدني للحياة بعد الموت ، لننظر إلى قول جورج صاند في ضوء قول فيرجينيا ، قبلة واحدة مثل القبلات السحرية في الحكايات الخيالية ، الملك والملكة اللذين وهبهما الله بنتاً جميلة احتفلا بقدومها ولم يقوما بدعوة الساحرة الشريرة إلى الحفل ما أثار غضبها وأقسمت على الانتقام بجعل الأميرة تنام طوال حياتها بوخزة من أبرة المغزل ، ...خاف الملك والملكة وعزلا الأميرة بحراسة ثلاث عرابات طيبات .. لكن الأميرة المعزولة حين بلغت السادسة عشرة من عمرها وجدت مغزلاً ولعبت به فوخزت أصبعها ، ونزلت قطرة الدم ونامت طويلاً حتى جاء الفارس المنشود ليوقضها من نومها بقبلة ، في حكاية آخرى الساحرة تحول الأمير إلى ضفدع ، تعطي فتاة لطيفة عادية إلى ضفدع  بشع قبلة ، فيتحول الضفدع إلى أمير مرة آخرى ، في الحكاية الأولى حكاية الأميرة النائمة  تعيد القبلة إلى الحياة بعد الموت ، أما الحكاية الثانية ، حكاية الأمير الضفدع ، القبلة قادرة على أن تعيد إلينا جمالنا وروحنا ، قبلة واحدة لكنها سحرية ، في فيلم الساعات وهو من إخراج ستيفن دالدري stephen daldry ، يركز كاتب السيناريو ديفيد هاري david hare على قبلات ثلاث ، ليست قبلة الفارس الأميرة ولا قبلة الفتاة للأمير ،بل قبلة أمرأة  لأمرأة ، قبلة فيرجينيا Nicole kidman  أختها فينيسا  mirand richadson ، قبلة  لورا براون julianne moore جارتها كتي toni collette ، وأخيراً قبلة كلاريسا فون meryl streep عشيقتها سالي Allison jonney ترمز القبلة في فيلم الساعات كما في الرواية للموت والحياة في نفس الوقت  ، هل يمكن أن تغير قبلة مسار حياة  إنسان ؟ كيف يمكن لمجرد قبلة أن تحمل معنى الموت ومعنى النجاة من الموت ( كم مرة منذ ذلك الحين تساءلت عما سيحدث لو حاولت البقاء معه ، لو بادلت قبلة ريتشارد بقبلة هنا بالضبط على هذه الناصية وقفت  كلاريسا مع ريتشارد ... في هذا المكان وقفا وتشاجرا ... عن ماذا ؟ عن قبلة ؟ هل قبلها ريتشارد ... أم أنها تصورت أنه سيقبلها فتفادت القبلة ؟)

ريتشارد ed harris ، ابن لورا براون المريض بالإيدز المسجون داخل غرفته ،الشاعر والكاتب الذي يسمع اصواتاً ويرى أشباح (اعتقد أنه مزيج من نيران سوداء ، أقصد أنهم يجمعون بين الحلكة والنصوع في آن واحد ، احدها يشبه قنديل البحر الأسود المكهرب ، كانت تغني منذ برهة بلغة أجنبية أعتقد أنها اليونانية ، اليونانية القديمة ) ريتشارد هو نفسه فيرجينيا ، الشاعرة والكاتبة السجينة في قرية ريتشموند هي أيضاً تسمع أصواتاً وترى أشباح (( ربما تراه وهي تسير مع لينارد في الميدان ، كتلة بيضاء ، فضية مرتعشة تطفو على الأحجار المرصوف بها الطريق ، بها بروز متناثرة عشوائياً ، كتلة مائعة متماسكة مثل قنديل البحر ، سرب من العصافير أمام نافذتها غنى ذات مرة بلغة يونانية لاتخطئها الأذن ) فيرجينيا وريتشارد من زمن آخر ، من عالم آخر يتكلم  اليونانية ، عالم قديم ، عالم البشر الألهة ، انتحرت فيرجينيا بعد قبلة فينيسا ( القبلة كانت برئية ـ برئية إلى حد لا بأس به ... ولكنها أيضاً كانت مليئة بشيء لا يختلف  عما تريده فيرجينيا من لندن ، ومن الحياة كانت مليئة بحب مركب وفهم عتيق ، لا هذا ولا ذاك ، إنها تمثل تجسيداً للغموض الجوهري في  الحياة في عصر هذا اليوم ، تمثل البريق الزائغ الذي ينبعث من ثنايا بعض الأحلام ، البريق الذي يبدأ في التلاشي من أذهاننا عندما نستيقظ ، نستيقظ والأمل  يحدونا في أن نجد ، ربما في هذا اليوم ، يوماً جديداً يمكن أن يحدث فيه أي شيء، أي شيء على الإطلاق ، لقد قبلت فيرجينيا أختها قبلة ليست برئية تماماً من وارء نيللي بظهرها العريض ومزاجها المتقلب وهي الأن في غرفتها وعلى حجرها كتاب ) قبلة فيرجينيا فينيسا ، وقبلة ريتشارد كلاريسا هي قبلة الموت المثالي قبلة أخيرة على فم الحبيب ، لايكفي أن يعيش الانسان فقط من أجل أرضاء الأخرين ، أو من خلال أفساد حياة الآخرين ( أعرف أنني أفسد حياتك ، ومن دوني يمكنك أن تعمل ، أعرف ذلك ... عزيزي... أنا متأكدة أنني سأجن من جديد ، لايمكننا أن نحتمل تلك الأيام الصعبة ثانية وأنا ..... لن أتعافى في هذه المرة ، أنا اسمع أصواتاً .... ولا أستطيع التركيز لذا أقوم بما اعتبره الحل الأمثل ) ( أنا أقول .... أظنني أبقى على قيد الحياة لإرضائكِ فقط .. عندما أموت ، ستضطرين للتفكير بنفسك ) انتحرت فيرجينيا وانتحر ريتشارد ، قبلة أخيرة سحرية ، خيالية ، مفعمة بالأمل والنشوة ، تنم عن الحب ، حب لن نقابل مثله أبداً ، بما أن لايوم جديد يمكن أن يحدث فيه أي شيء ، أي شيء على الإطلاق لن يستطيع ريتشارد العودة إلى تقاطع شارعي بليكز وماكدوجل ،ولن تعود فيرجينيا إلى لندن ، إلى كل ماتوحي به هذه المدينة من حرية ( ومن قبلات ومن إمكانات فنية ومن بريق الجنون القاتم الشرير)، لورا بروان القارئة المثالية لفرجينيا وولف ، بعد قبلة كتي ، بعد هذه القبلة الوحيدة ، ستتمكن من الهرب ( وفي الوقت نفسه تحلم بتقبيل كتي  مرة أخرى يوماً ما ، في المطبخ أو على الشاطىء فيما الأطفال يصيحون وهم ينزلقون على الماء ، أو في الردهة بينما تكون مجموعة من المناشف المطوية ملء يديها ) تحلم بالعيش مع كيتي أو حتى الزواج بكتي ، تحلم بما تفعله كلاريسا فون اليوم والأن ( عما قريب ستحتفل سالي بعيدهما الثامن عشر معاً ، إنهما زوجتان لاتتشاجران أبداً )وهذا مالايحلم به أي رجل متزوج ...

ترتكز التجربة برمتها في يوم واحد ، في قبلة واحدة ترمز في كل مرة  إلى الحرية بمعنى مختلف ، عندما كان الغرب ، منذ زمن بعيد جداً قد أكتشف الحب ، فإنه قد منحه ثمناً كافياً لجعل الموت مقبولاً ، الجنس في الساعات يساوي الموت ، إنه قادراً على اختراق غريزة الموت ، في الحب من الأفتتان ما يجعلنا نقبل سماع الموت يدوي فينا ، لقد كان الانتحار ، الهرب ،  العيش بحرية تامة ، ثلاث اختيارات أمام فيرجينيا وولف وهي تكتب السيدة دالاواي وقد اختارت في نهاية الأمر ، وجاء بعدها مايكل كانينجهام ليجعل من الاختيارات الثلاثة رواية هي الساعات ، واختار ستيفين دالدري  أن تمثل القبلات الثلاثة الاختيارات الثلاثة في فيلم الساعات .

*ناقد ليبي

هوامش:

1 . تاريخ الجنسانية الجزء الأول ـ ميشال فوكو ـ ترجمة محمد هشام ـ أفريقيا الشرق 2004.

2. الساعات ، مايكل كانينجهام ـ ترجمة د .أحمد الشامي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2006 .

3. علم النفس الجنس ، إ .س .كون ـ ترجمة د .منير شحود ـ دا الحوار للنشر والتوزيع ـ الطبعة الأولى 1993 .

4. الساعات ـ مصدر سابق .

5. القبلة  . د فوزية الدّريع ـ منشورات الجمل ـ الطبعة الأولى 2006 .

خاص الكتابة

موقع "الكتابة" المصرية في

23/09/2010

 

فيلم «مارى وماكس»: صرخة للحرية فى زمن الرضوخ

أحمد يوسف  * 

عجيب هذا الفن السينمائى الساحر، فهو قادر دوما على ارتياد عوالم جديدة فى الفن والحياة. لقد ظلت السينما لفترة طويلة مكبَّلة بأغلال النظريات السينمائية، تقول لها إحدى النظريات أن السينما "يجب أن تكون" كذا، فتعارضها نظرية أخري: بل "يحب أن تكون" كيت، لكن صناع الأفلام لم يرضخوا أبدا لتعاليم هذه النظرية أو تلك، وبدلا من عبارة "السينما يجب أن تكون" أصبح الشعار والهدف هو أن "السينما تستطيع أن تكون هذا أو ذاك أو كليهما معا"، تستطيع أن تكون شديدة الواقعية والخيال فى آن، وأن تمنح المتفرج صورة مطابقة للواقع الطبيعى الخارجى بنفس قدرتها على أن ترسم ملامح الواقع النفسى الداخلى، أو قل أنها قادرة على أن تستخرج من العالم المنطقى فى ظاهره كل ما يمكن أن يتناقض مع المنطق، وأن تجعل من السريالية صورة للواقع أكثر صدقا فى إمساكها بجوهر الوجود.

هذا ما أكده لى الفيلم الأسترالى "مارى وماكس"، الذى لن يجد بدوره مكانا للعرض الجماهيرى فى أسواقنا العربية، لأنه فيلم "تحريك" ليس موجها بحال إلى الأطفال كما نتصور عن أفلام التحريك، بل ربما يحتاج إلى قدر كبير من نضج المتفرج، لأنه يتعامل مع العديد من القضايا شديدة الجدية حول "الوضع الإنساني" فى هذا العالم، بمسحة لا تخلو من الفلسفة الوجودية والسخرية المريرة معا. وفى الحقيقة أن "مارى وماكس" ليس استثناء نادرا فى هذا المجال، فقد دخلت أفلام التحريك فى الآونة الأخيرة إلى عالم بعيد عما اعتدناه فيها، مثلما هو الحال مع فيلم المخرج الأمريكى ريتشارد لينكليتر "حياة اليقظة"، وفيلم المخرجة الإيرانية مارجان ساترابى "بيرسيبوليس"، وغيرهما من الأفلام التى لم تعرض عندنا للأسف الشديد، ففى هذه الأفلام تأكد أن فن التحريك "يستطيع أن يكون" أداة للتأمل النفسى والفلسفى، وهو ما يبدو ـ للأسف الشديد مرة أخرى ـ عصيا على تصديقنا، لأن مفهومنا عن التحريك ما يزال محصورا فى "ميكى ماوس" وأقرانه من الحيوانات والكائنات الخيالية!

من جانب آخر فإن فيلم "مارى وماكس" لا يلجأ أبدا إلى أية تقنيات كومبيوترية، فى زمن أصبح فيه الكومبيوتر متسلطا حتى على الأفلام "الواقعية"، من خلال ما يستطيعه من تحقيق مؤثرات بصرية شديدة الإبهار تارة، أو أنه قد يوفر ميزانية هائلة بالاستغناء عن بناء ديكورات ضخمة، يملك الكومبيوتر أن يخلقها ويضيفها ببعض لمسات على أزراره. على العكس يعود فيلم "مارى وماكس" إلى تحريك عرائس الصلصال باستخدام تقنية تسمى "إيقاف الحركة" أو التصوير "كادرا وراء الآخر"، وهى تقنية تحتاج إلى عشرات أو مئات من الفنانين لتشكيل العرائس وتحريكها حركات شديدة الرهافة، يتم تصوير كل حركة منها فى "كادر" منفصل، وبتتابع الكادرات فى آلة العرض، أربعة وعشرين كادرا كل ثانية، يتحقق فى عين المتفرج الإيهام بحركة العرائس والدمى، وأقصى ما يستطيع فريق العمل إنجازه بهذه التقنية لن يزيد على تصوير ثلاث ثوان من الفيلم فى اليوم الواحد.

تعود هذه التقنية فى فن التحريك إلى عصر السينما الصامتة، لكنها بلغت ذروتها خلال ستينات القرن الماضى مع المدرستين التشيكوسلوفاكية واليوغوسلافية، غير أنها تعاود الظهور الآن بين الحين والآخر، مثلما هو الحال مع فيلم التحريك البريطانى الرقيق والعميق "هروب الدجاج". قد يتساءل المرء: ولماذا هذا الجهد إذا كان من الممكن تحقيق التحريك باستخدام الكومبيوتر؟ والإجابة تكمن فى حقيقة أرجو أن تتأكد فى وعى صناع أفلامنا: "إن وراء كل اختيار تقنى قرارا جماليا وسياسيا". وإذا طبقت هذه الحقيقة على تقنية تحريك الصلصال، فهو أن لهذه المادة ثقلا يجعلها دائما ثابتة على الأرض، وفى تشكيلها تجد الملامح الإنسانية أكثر وضوحا على العرائس والدمى حتى لو كانت تصور كائنات غير بشرية، وبكلمات أخرى فإن استخدامها يساعد الفيلم على أن يكون أكثر "واقعية" بالمعنى الأرحب للكلمة، وهى الواقعية التى بلغت درجات قصوى مع فيلم "مارى وماكس"، الذى لا ينسى أن يذكرك مع عناوينه الأولى، وتلك ملاحظة مهمة، أنه يعتمد على "قصة حقيقية".

إنها قصة فتاة أسترالية تدعى مارى، تعانى الوحدة والشعور بالاغتراب، وفى بحثها عن التواصل الإنسانى تقع عيناها بالصدفة على عنوان رجل أمريكى كهل يدعى ماكس، فتقرر أن تراسله، وتحكى له فى خطاباتها وبعفوية بالغة عن قلقها ومخاوفها، التى تُذكِّر ماكس بقلقه ومخاوفه فى طفولته، وبالحال التى أصبح عليها بدوره الآن فى وحدته، فيرد عليها. وهكذا يظل الحوار على الورق زمنا طويلا عبر القارات، ليحقق لهما تواصلا بين نقيضين وإن كانا فى الوقت ذاته متشابهين، وعندما تمر السنوات تحاول مارى أن تتغلب على مشكلاتها الذاتية مع العالم، فتقرر أن تتخصص كطبيبة نفسية فى الحالة المَرَضية التى يعانى منها ماكس، الذى يفاجأ بأنها قد ألّفت عنه كتابا فيغضب ويصمم على مقاطعتها، لذلك فإنها تفكر فى النهاية فى أن تسافر إليه عبر هذه المسافة الطويلة لكى تعتذر له، لكنها عندما تصل يكون قد لفظ أنفاسه الأخيرة!

هناك ملاحظتان مهمتان أعرف أنهما لم تفوتا عليك، الأولى هى أن هذه الفكرة كان من الممكن تماما تحقيقها بممثلين حقيقيين دون الحاجة إلى فن التحريك، أما الملاحظة الثانية فهى أنها فكرة قاتمة تماما حتى أنه قد لا يمكن تصور تنفيذها بتقنية تحريك الصلصال، لكن هاتين الملاحظتين تلخصان "مضمون" الفيلم: إن الشخصيات الصلصالية تضفى بعدا شبه تجريدى على الشخصيتين الرئيسيتين مارى وماكس، بحيث تجعلهما تلخيصا ـ دون اختزال ـ لأزمة إنسانية أكثر عمقا وشمولية، أزمة الطفولة والكهولة فى عالم يصعب أحيانا قبوله أو حتى التعامل معه، بل إن القتامة تتحقق باستخدام عناصر الصلصال باختيار لون معين لها (وهذا يختلف تماما عن أن ترى ممثلا حقيقيا)، وأرجو أن تلاحظ أن مارى وعالمها فى أستراليا يغلب عليهما اللون البنى، بينما ماكس القاطن فى نيويورك يعيش عالما رماديا، وكأن المفروض عليهما أن يعيشا فى عالم ذى بعد واحد، وذى لون واحد، عالم يصنع منهما أرقاما ولا يريد لأى منهما أن يحقق ذاته الحقيقية.

فلتتأمل أولا عالم ماري: بيوت الضواحى الأسترالية المتشابهة، والحياة الرتيبة المملة، وشعور بالوحدة يجثم على روح الطفلة، فزملاء الدراسة يعايرونها بوحمة بنية اللون على جبهتها، وأبوها يعمل فى مصنع للشاى، كل وظيفته تعليق الخيوط فى الأكياس (هل تذكر شابلن فى "العصر الحديث"؟)، وهو فى المساء يعيش مع طيور ميتة يجدها على الطريق فيحنطها فى أكداس تحيط به، أما الأم فهى غارقة فى الإفراط فى التدخين والخمر، كما أنها مصابة بمرض السرقة من المحلات، والمطلوب بعد ذلك كله من مارى أن تقبل هذه الحياة على أنها "حقائق"، ونحن فى الفيلم نراها تقاوم، بالمواظبة على مراسلة الكهل الأمريكى ماكس، وبغرامها بجارها الصبى داميان يونانى الجذور، لكن الأيام المقبلة سوف تضيق الخناق عليها، حتى أنك تجدها فى إحدى لحظات الفيلم وقد تحولت إلى شخصية شديدة الشبه بالأم، مما يجعل المتفرج يشفق عليها من هذا المصير.أما عالم ماكس، هذا العالم النيويوركى الرمادى، فلا يتيح للرجل إلا أن يقبع فى غرفة صغيرة فى تلك البنايات العالية التى تكاد أن تحجب السماء، وقد تخلَّى عن صديق طفولته الخيالى الذى يصنعه الأطفال ليحدثوه فى وحدتهم، هذا الصديق الذى نراه يجلس الآن بدوره وحيدا فى ركن الغرفة! إن ماكس يجتر ذكرياته الأليمة عن فشله فى عمله وعلاقاته، بل ذكرى أكثر ألما عن طفولته حين كان يعانى من الاضطهاد فى بولندا بسبب ديانته اليهودية، وبرغم اندماجه فى بلوغه فى المجتمع الأمريكى فإنه يكتشف أن اضطهادا من نوع آخر يطارده، هذه المرة بسبب انتمائه للطبقة الفقيرة، المكتوب عليها أبدأ أن تكون وقودا للآلة الرأسمالية الجهنمية، إنه مستهلَك فى عمله أثناء النهار، مستهلِك فى غرفته خلال الليل، يأكل الحلوى والمعلبات دون وعى حتى أنه يصبح بدينا يكاد أن يعجز عن الحركة.

هل تلك حقا هى "حقائق" الحياة الأزلية الأبدية، التى لا مفر أمامنا من أن نقبلها؟ هذه هى الرسالة الأصيلة فى الفيلم الذى يبدو للوهلة الأولى وجوديا قاتما، لكنه يدعوك إلى التمرد على هذه الحقائق المزعومة المغلوطة. تأمل على سبيل المثال السؤال التقليدى البريء الذى توجهه الطفلة مارى لوالديها: "كيف يأتى الأطفال إلى العالم؟"، فتكون الإجابة أنهم يأتون بسبب حادث، لكن جدها "يصحح" لها المعلومة: إن الوالدين يجدان الأطفال فى قاع كوب "البيرة"! تسأل مارى صديقها الكهل فى إحدى رسائلها عن كيفية قدوم الأطفال الأمريكيين إلى العالم، فيجيبها أن والديه بدورهما قد خدعاه بإجابات شديدة السذاجة عندما كان طفلا. هذا هو العالم وحقائقه التى ينقلونها من جيل إلى جيل، يصنعون من البشر أرقاما ليسوا فى النهاية إلا جزءا من قطيع ينتظر الموت أو الذبح، فى عالم يقوم فيه الأطباء النفسيون بإقناع الناس بالإذعان والرضوخ لهذا الواقع الخالى من المنطق والمعنى والأخلاق. فى أحد المشاهد يكتب ماكس فى رسالته لمارى عن أن لديه العديد من الأسئلة التى لا يحاول أحد الإجابة عنا، وهى من شدة بساطتها تبدو بدهية تماما: "لماذا فى أماكن غنية من العالم يلقون بالطعام فى البحر بينما يموت الأطفال من الجوع فى أماكن أخري؟ لماذا يزيلون أشجار الغابات بينما هم فى حاجة للأوكسجين؟ لماذا يكتبون مواعيد وصول الحافلات على المحطات وهى لا تصل فى موعدها أبدا؟!".

يتخذ فيلم "مارى وماكس"، الذى كتبه وأخرجه وصمم عرائسه آدم إليوت، أسلوبا أقرب إلى الأسلوب الأدبى، فهو لا يحتوى إلا على عبارات حوار نادرة، بينما يعتمد على تعليق الراوى (صوت بارى همفري)، وعلى صوتى مارى وماكس فى رسائلهما (يؤدى صوت مارى فى طفولتها بيتانى ويتمور، وفى شبابها تونى كوليت، بينما نسمع صوت الممثل الأمريكى فيليب سيمور هوفمان فى دور ماكس فتشعر أن للدمية لحما ودما وروحا). لكن أسلوب الفيلم ليس فى الحقيقة أسلوبا أدبيا خالصا، فقد استخدمه ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ وودى ألين فى أفلامه الكوميدية الوجودية القاتمة، التى يتشابه عالمها كثيرا مع عالم "مارى وماكس"، كما أن هذا الأسلوب لا يهدف إلى تصوير أية "أحداث" بالمعنى الحرفى للكلمة، لكن هدفه الأهم هو تأمل الشخصيات، من خلال التعليق أو مونولوجات الرسائل المتبادلة، التى تنضح كلماتها ببراءة وصراحة السخرية المريرة، أو بالتناقض أحيانا بين الكلمة والصورة، فالأرقام قد تعنى الفوز بتذكرة لليانصيب، لكنها قد تعنى أيضا تاريخى الميلاد والموت على شاهد القبر! يقول لك فيلم "مارى وماكس" برغم قتامته الظاهرة أنه يجب علينا أن نرفض الامتثال للواقع المشوَّه المشوِّه، فهو ليس الواقع الممكن الوحيد، وأن نرفض أن نكرر المأساة الإنسانية التى ليست من صنع القدَر بل من صنع البشر، الذين يريدون تحويلنا إلى كائنات مستهلَكة مستهلِكة، والبداية كما يقول الفيلم: "فلتتعلم أولا أن تحب ذاتك... لابد أن نتقبل ذواتنا حتى لو كانت مختلفة عن القطيع، بكل ما فيها من ندوب... لا تجعل الآخرين يبتلعونك فى قطيعهم". وبذلك فإن فيلم "مارى وماكس" يمثل صرخة للحرية فى زمن الرضوخ! 

*ناقد سينمائي مصري

موقع "الكتابة" المصرية في

23/09/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)