حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

حوار

مهرجان الرباط قلبُهُ يترجح بين غودار وعبدالله المصباحي

محمد باكريم نيزك مُنح "كارت بلانش"

الرباط - من هوفيك حبشيان

تُعقد حالياً في العاصمة المغربية الدورة السادسة عشرة لمهرجان الرباط لسينما المؤلف الذي يقدم برمجة متنوعة تترجح بين أفلام تستحق التنويه وأخرى من مستلزمات تكملة العدد. هناك الغث والسمين في هذا الموعد السينمائي الذي سلك درب الاصلاح في بلد التناقضات. بعد تعيين الناقد السينمائي محمد باكريم مديراً فنياً له، ينفتح المهرجان على هموم سينمائية أعلى شأناً، يأمل الوافد الجديد أن تتاح الظروف الملائمة للتوسع بها.

         ما تعريفك لسينما المؤلف، اذ ان هناك بعض الأفلام في المهرجان لا تنتمي الى هذا النوع؟

- أريد أن استعين بتعبير لغودار الذي قال ان هناك أفلاماً من اخراج فلان وافلاماً للمخرج فلان. كل الفرق بين "من" و"لـ". هذه مقدمة للتعريف بسينما المؤلف، علماً ان الأمر أكثر تعقيداً من هذا: اذا اخذنا السينما الأكثر انتشاراً في العالم وهي السينما الهوليوودية، لرأينا انها سينما "مايجرز" وهي سينما يصنعها ناس تقاضوا الأموال لصناعتها، وفي الوقت نفسه نرى في هذه الأفلام علامات تساهم في اظهار وجهة نظر معينة. عندي، كل شيء يصب في مصلحة وجهة النظر. مخرجون كبار استطاعوا من خلال هذه المسافة بين الكاميرا والموضوع ان يؤسسوا لعلاقة سلطة مع الجهة المنتجة تتيح تحويل وجهة النظر، وجهة نظر شخصية. لديك أسماء مثل سكورسيزي وجون فورد استطاعت أن تلقي نظرة شخصية على السينما والعالم من داخل نظام يتميز بنواحٍ مغلقة.

         أين السينما العربية من هذا؟ هل نستطيع التعامل معها بهذا المنطق؟

- طبعاً في الانتقال الى السينما العربية، ستتغير الاشكالية. عبارة سينما عربية غير موجودة. اذا تحلّينا بقدر من اللطافة، فسنقول "سينماتوغرافيات عربية". بالنسبة الى السينما المغربية، كل ما جاء من هذا البلد، كان الى حد كبير ينتمي الى سينما المؤلف بالمعنى الجسدي للكلمة. اذ كنا نجد دائماً سينمائياً يحب السينما وينتج أفلامه بنفسه. كانوا يلقّبونه بقائد الاوركسترا لأنه يقوم بكل الأعمال في موقع التصوير، حتى توزيع السندويشات على فريق العمل. ظلت الحال على هذا النحو لسنوات طويلة. الأمر نفسه بالنسبة الى تونس، وبدرجة أقل في الجزائر حيث السينما كانت لفترة طويلة حكومية، اذ ان المخرج كان موظفاً، وهو الأمر الذي يدعو الى الغرابة، كون العمل هنا فنّاً وليس شيئاً آخر. يبقى نموذج السينما المصرية الذي يرسم بشكل جيد ما يقوله غودار. في مصر لديك فيلم من اخراج يوسف شاهين وتوفيق صالح، وفي المقابل لديك أفلام لحرفيين يملكون معرفة جيدة بصناعة الفيلم لكنهم دائماً في خدمة المنتج.

         هل هذه الدورة تتضمن فعلاً أفلاماً تعكس رؤيتك لسينما المؤلف؟

- في الواقع، هناك مساومات في البرنامج. اذ علينا أن نجعل مفهومنا لسينما المؤلف يتطابق مع طبيعة الجمهور اليوم، ومع وضع السينما الحالية. فالسينما الخالصة والنقية لم يعد لها وجود. لا أقصد بالنقاء، ذاك الذي كان يتكلم عنه اندره بازان، انما النقاء الانتاجي. فكثير من الأفلام الأجنبية والعربية اليوم تنتجها التلفزيونات، لذلك معظم هذه الافلام هي عبارة عن تلفيلمات. على كل حال، لم يكن سهلاً تقديم برمجة مخلصة لعنوان المهرجان. لذلك كنا حرصاء على تنظيم ندوة طرحنا فيها سؤال "ما هي سينما المؤلف اليوم؟"، كنا في حاجة الى هذ الشيء، ولا سيما أن الأمور تعقدت أكثر مع وصول الرقمية، وبات الجميع يعتبر نفسه مخرجاً مؤلفاً.

         هل كان اختيار الافلام المغربية اصعب من اختيار غيرها بسبب العلاقات والصداقات وقربك من السينمائيين؟

- على الاطلاق. منصب الادارة الفنية احتُرم الى اقصى درجات الاحترام. كان لي "كارت بلانش" ولم تكن هناك تدخلات. بعض الادارات الفنية في المغرب تخفي نفسها خلف لجان، ما يسهل عليها عملية القبول أو الرفض من دون ان تشعر بالاحراج. هنا، الافلام المغربية المختارة تعكس خيارات المدير الفني.

         أخبرني، كيف وصلت الى العمل على هذا المهرجان؟

- وصولي كان كوصول نيزك الى الارض. هذا مهرجان لديه قصة خاصة بعض الشيء. الفكرة مثيرة والمدينة تستحق مهرجاناً كبيراً، هناك امكانات لا بأس بها، ولكن لسوء الحظ لم يفلح المهرجان على مر سنوات وجوده في توحيد ما يعلنه وما يقدمه. لذا، كانت المشكلات تتراكم عاماً تلو الآخر. طفح الكيل العام الماضي بعدما تكلم رئيس لجنة تحكيم الدورة الماضية موريتس دو هالدن خلال حفل الختام عن المسائل التنظيمية والشوائب التي كان يشكو منها المهرجان. هذا ما ولّد أزمة، ودفع رئيس المهرجان الى الاستعانة بي. انكببت على العمل، مركزاً على الجانب الفني، مراهناً على مسألة أن الفن هو الذي يجب أن يقود الشأن الانتاجي في المهرجان. في كل مهرجان هناك مديرون، المدير الانتاجي والمدير الفني، وفي بعضها يملي الاول قراراته وأصوله على الثاني. بالنسبة اليَّ، الادارة الفنية يجب أن تشكل فلسفة للحركة الانتاجية.

         هل نستطيع أن نتكلم عن خط تحريري جديد؟

- سنؤكد على الخط الذي اعلن عنه ولم يطبق البتة. هذا هو تحدي هذه الدورة. هذا لا يعني اننا سنقطع العلاقة مع التنوع الذي تتيحه السينما، لأن السينما لحسن الحظ ثرية جداً. لهذا أرسلت اشارات كثيرة، منها واحدة تعبّر عن الفلسفة التي تسلحت بها لتنظيم هذه الدورة وهي "من غودار الى عبد الله المصباحي". الأول هو رمز سينما المؤلف والثاني رمز لسينما شعبية.

         ما رأيك في ما كان يجري في الدورات الماضية؟ مثلاً تكريم عادل إمام في مهرجان يرفع شعار سينما المؤلف؟

- هناك أشياء أخرى أيضاً لم تكن مناسبة مع شعار المهرجان. كالاتيان مثلاً بناديا الجندي رئيسة للجنة التحكيم. شخصياً أحب عادل إمام وأقول دائماً انه يجب عدم "قتل" مُشاهد مساء السبت بسينما صعبة. السينيفيلي الحقيقي منفتح على كل السينمات. في نظري، يمكننا دعوة مَن نريد شرط أن لا يكون هذا على حساب الجوهر الحقيقي للمهرجان. كانّ يبقى نموذجاً حقيقياً في هذا الشأن. مشاركة النجوم فيه لا تعتم على الأفلام الأخرى.

         ما الدور الذي يؤديه المركز السينمائي المغربي في هذا المهرجان؟

- دوره في هذا المهرجان كدوره في معظم المهرجانات الأخرى: الداعم. لكنه لا ينظم. صودف أنني أحمل قبعتين، لكنني لست في مهرجان الرباط بصفتي كادراً في المركز السينمائي.

         السينما المصرية لا تزال تحتل الصدارة في المهرجان مع ثلاثة تكريمات...

- بالنسبة اليَّ، وحدها نبيلة عبيد تستطيع أن تطبّق عليها المعايير المصرية. التكريم هذا، كان تقرر قبل مجيئي الى المهرجان. بالنسبة الى الشاهينيين، أحببنا أن نخلق جائزة باسم يوسف شاهين، فخطرت على بالنا هذه الفكرة، وكانت فكرة مبتكرة، مفادها النظر في سينما الذين تأثروا بيوسف شاهين أو مشوا على خطاه. أما محمد خان، فهو تحية الى مخرج لم يعد يعمل، أو على الاقل لا يعمل مثلما يحلو له العمل.

         كيف تتعامل الصحافة مع المهرجان؟

- المهرجان مفتوح على الصحافيين والنقاد. سينيفيليون من جيل الستينات والسبعينات يشاركون في المهرجان ونقاشاته. الصحافة تغطي المهرجان وفق أجندتها الخاصة. عرض "ابن بابل" في الافتتاح أثار ردود فعل. الاصوليون ادركوا الحجم الدولي لهذا الانفتاح كون الفيلم ناطقاً بلغات عدة. هذه المرة الأولى يُعرض في المغرب فيلم ناطق بالكردية مع ترجمة الى الانكليزية. البعض تأثر على رغم عدم فهمه اللغة.

         وأعداء السينما في المغرب ماذا يقولون؟

- لا يزالون أوفياء لخطهم: ما ان يسمعوا بكلمة سينما حتى يخرجوا القلم

 (hauvick.habechian@annahar.com.lb)

 

حدث

"حصان تورينو" يدخله إلى قلب نيتشه

بيلا تار لا يهمّه الإزميل بل التمثال

اذا كان هناك مخرج معاصر واحد يحتاج الى قراءة متأنية لأفلامه، فهو المجري بيلا تار. هذا السينمائي الدائم الانجذاب الى مشاريع فيها الكثير من المجازفة (جميع أفلامه بالابيض والاسود باستثناء واحد، منها "ساتانتانغو" الذي يصل طوله الى سبع ساعات وربع الساعة) يعمل حالياً على اللمسات الأخيرة لفيلمه "حصان تورينو" الذي يقول عنه صاحبه إنه سيختم مساراً انطلق قبل أكثر من ثلاثة عقود. تشارك في انتاج الفيلم أربع دول هي المجر وسويسرا وألمانيا وفرنسا وسيكون من تمثيل اثنين من الممثلين اللذين ظهرا في فيلم تار الأخير "رجل من لندن"، هما التشيكي ميروسلاف كروبوت والمجرية اريكا بوك وينضم اليهما الألماني فولكر سبانغلر، الذي سبق أن وقف قبالة كاميرا فاسبيندر في أحد أفلامه. عملية التقاط المشاهد التي جرت في المجر قيل انها استغرقت 35 يوماً. أما النص فكتبه تار مع رفيق القلم الخاص به لازلو كرازناهوركاي، وهو أفلمة حرة لفصل من الفصول التي وضعت خطاً نهائياً لمسيرة الفيلسوف فريديريك نيتشه: في الثالث من كانون الثاني من عام 1889، القى نيتشه بنفسه أمام خيل لاهث ومعذب قبل أن يفقد الوعي. هذا الحدث هو الذي أدخل الفيلسوف في صمت مطبق وجعله يغوص في الجنون. ويتردد أن ما يريده تار من هذه القصة هو النظر في مصير كلٍّ من صاحب الحصان وابنته، مع ادراج الجو العام للفيلم في مناخات فقر وبؤس سيكونان المدخل لنهاية العالم.

أفلام تار التي تتطلّب قدراً من الصبر، سواء منه أو من المُشاهد، مادة نقاش دائمة بين من يعتبره معلماً من سلالة الجهابذة الروس، اذ ينحت في جسد الزمن نحتاً تاركوفسكياً، ومن يعتبره مدعياً يثير شخير المتفرجين. بيد انه لا مثيل للغرابة والهذيان لدى هذا السينمائي، الذي لا تهمّه أمجاد الارض الباطلة، والذي تمّ رشقه مراراً وتكراراً بأحطّ النعوت بسبب رؤياه الشيطانية، فيما بعض المخلصين أعتبروه واحداً من آخر أسياد سينما تأملية تنهل من ينبوع أمثال أنغلوبولوس، وكذلك من مواطنه ميكلوس جانسو. في مساره شاهداً رؤيوياً على عصره، شيء من اليائس والانتحاري الماكث دوماً على شفير الهاوية، غير مكترث بالمظاهر إنما بالجوهر. منذ فيلمه الاول، "عشّ العائلة"، عام 1977، كان الهمّ الاجتماعي، في المجر الشيوعية، هو المعسكر الذي اختاره تار، راصداً انهيار مجتمع بأكمله، على طريقة كاسافيتس تقريباً، بالغمز من قناة الشيوعية التي كانت تطلق أنفاسها الاخيرة. لكن هذا الاسلوب المبني على حركات البانوراما والترافيلينغ البطيئة بغية اعطاء الزمن السينمائي وقته في الوجود، والمصنوعة بدقّة الساعاتي، لم يتكرّس الاّ في "لعنة"، بعد مرور عشر سنين على دخوله المهنة.  ثقافته لم تتكون في الصالات المظلمة، بل حصدها في الشارع والعذابات اليومية. عندما قابلته في تورونتو، قبل ثلاثة أعوام، قال لي، كمراهق خجول: "أنا أستمع الى الحياة. مصيري أن أستمع الى الناس. تجربتي الفيلمية تنبثق منهم وتعود اليهم. أفلامي عنهم واليهم. عندما بدأت، في الثانية والعشرين من عمري، كنت مملوءاً بالحماسة والغضب، وكنت أهوى أن أقتحم وأجيئك قائلاً: اليك الحقيقة، التي هي أكثر عنفاً في الواقع، لكن يمكنك الآن مشاهدتها على الشاشة. كنت مدفوعاً بطاقة اجتماعية. لكنْ، خطوة خلف خطوة، فيلم بعد فيلم، أعترف الآن أن المشكلة أبعد من كونها اجتماعية. إنها ربّما مشكلة ميتافيزيقية، والآن نستطيع أن نقول انها باتت مشكلة كونية أو سموية. هذا رأيي في الاشياء، لكن لا أفرضه على أحد. هكذا أفكّر، هكذا أعمل. أؤمن بأننا كبشر، لسنا الا جزءاً صغيراً من هذا الكون. اي شيء آخر يتجاوزنا حجماً. في الحقيقة، لا أكترث الى الافلام. السينما أستعملها كما يستعمل النحات ازميله. ما يهمّ ليس الإزميل، بل التمثال".

 

بورتريه

عشيق دو بوفوار وصديق عبد الناصر وحليف الثورة الجزائرية

كلود لانزمان يريد إقناع أحمدي نجاد بالمحرقة !

كان كلود لانزمان صبياً مختلفاً عن سائر الصبيان. تعرف الى الالحاد منذ صباه المبكر. الفضل في ذلك لجان بول سارتر. كتاب الأخير "تأملات في السؤال اليهودي"، جعله يتلقى ابتسامة الفرنسيين برحابة صدر لا بل يردّ عليها بابتسامة أخرى. عاش مأساة معاداة السامية حين كان طفلاً. عرف الخجل من أن يكون المرء من ديانة غير كاثوليكية في تلك الحقبة. لم يكن يعرف شيئاً عن الثقافة والتقاليد اليهوديتين. لكن التفسير الذي جاء به سارتر عن معاداة السامية حرره الى الابد. علماً انه كان مقاوماً وحارب الألمان، لكن لم تختف معاداة السامية مع زوال الاحتلال النازي لفرنسا. سارتر طرح نظرية أن معاداة السامية هي التي تمنح اليهودي شرعية. كانت هذه فكرة مبهمة الى حدّ ما، لكن لم تمنع من أن يبني عليها لانزمان لازمته السينمائية.   

ذهب إلى فلسطين المحتلة للمرة الأولى عام 1952، وأمضى أربعة أشهر هناك، وتركت الزيارة أثراً بالغاً في نفسه لأنه للمرة الأولى التقى فيها شعباً لا يضم إلا الذين يعتنقون الديانة اليهودية، وهذا كان أمراً شاذاً بالنسبة اليه. فأصيب بصدمة خلال هذه الزيارة.

نظرته إلى العالم لم تتغير بين تاريخ ذهابه الى فلسطين المحتلة وتاريخ عودته منها، بل على العكس. كان يدرك تمام الادراك ما هي القضايا التي يريد طرحها ومعالجتها. يقول انه لم يكن يتكلم العبرية عندما بدأ بإنجاز الأفلام. ولو كان يتكلمها لما أنجز ما أنجز. مثلما لو كان من ضحايا المحارق، لما كان أنجز "شوا" (1985). فكان بحاجة الى أن يكون في داخل القضية وخارجها في آن واحد. كان يمتلك الجنون الذي يجعله يأخذ ما يريده من وقت. كان يكذب على الجميع وعلى ذاته أيضاً لأنه كان يحتاج الى آمال كبيرة لاكمال المسيرة. لاتمام عمل كـ"شوا"، كان على الزمن أن يعلق. لجأ الى خدع كثيرة لأجله، على مدار السنوات الـ12 التي استغرقت عملية التصوير: دخل الاراضي الالمانية بجواز مزور وكاميرا خفية بغية لقاء نازيين سابقين ومحاورتهم.

لم يأت فيلمه الذي يصف ما فعله الألمان خلال الحرب العالمية الثانية عن الذين انقذوا من الموت، بل عن الأموات. "نعم، لأنه لم يكن مفترضاً بأحد من هؤلاء أن يبقى حياً"، يقول لانزمان. "واذا بقوا على قيد الحياة، فذلك جراء معجزة. حين يتكلمون في فيلمي ينسون ذاتهم، ويتبدى ذلك من خلال استخدامهم كلمة "نحن" بدلاً من "أنا". هؤلاء الناطقون باسم الأموات".  

بدا الأميركيون متحفظين عن خطاب الفيلم. كانوا يريدون معرفة ما هي رسالته. طالبوا المخرج بأن يرفع شعارات مثل "لن يتكرر"، أو بشيء من هذا القبيل. أو أن يتضمن ردّاً على سؤال اعتبره لانزمان غير أخلاقي، وهو: "لماذا حصل ما حصل؟". بالنسبة اليه، مهما تكن الأسباب فهي لا تكفي لصنع ابادة وقتل ملايين الأطفال.     

عمل لانزمان في "الأزمنة الحديثة" قبل ترؤس تحريرها، وصدر عددها الأول المؤلف من 1000 صفحة، ومحورها الصراع العربي - الإسرائيلي. للمرة الأولى في تاريخ هذا الصراع، تمكن الإسرائيليون والعرب، من ضمنهم الفلسطينيون والمصريون والسوريون، من الكتابة جنباً الى جنب في عدد واحد، ما يشير إلى أنهم تمكنوا من التحاور، وهذه المبادرة سمّاها سارتر بـ"الاستمرارية غير الفعالة". صديق لانزمان المصري علي الصمل، هو الذي تولي عملية استكتاب العرب. قبل صدور العدد الأول من المجلة، في آذار 1967، وجهت إلى لانزمان وإلى سارتر وسيمون دو بوفوار دعوة رسمية للذهاب إلى مصر، وافق سارتر على الذهاب شرط زيارة فلسطين المحتلة! هناك التقى لانزمان عبد الناصر، الذي يعتبره اليوم من "رجالات العرب العظماء"، وكان ذلك قبل ثلاثة أشهر على نشوب حرب حزيران.

في "شوا" وأفلامه الأخرى، استخدم لانزمان الاسلوب ذاته للعمل. لجأ الى التقنيات ذاتها، وطريقة التصوير ذاتها، وطريقة طرح الأسئلة ذاتها. استغرقت عملية التقاط المشاهد 12 عاماً، وكانت محفوفة بالأخطار ومليئة بالمعاناة، علماً انه لم يُعرَض في أي بلد عربي. "لو شاهده العرب"، يقول لانزمان، "أعتقد انهم كانوا سيتمكنون من تسريع عملية السلام، والكثيرون على غرار الرئيس الإيراني أحمدي نجاد ينفون وقوع هذه المحارق، في مقابل آخرين يعتقدون أنها وقعت حقاً لكنهم غير مقتنعين بها تمام الاقتناع. وإذا غضضت النظر عن الفيلم، فستتجاهل طوال سنين عدوّك أو حليفك، والأمر سيان، إذ يجوز لعدوّك أن يتحول حليفاً لك ذات يوم، والعكس".

ناضل لانزمان من أجل تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي، وخاض الحروب في سبيل استقلالها، ووقّع بيان الـ121 (المناهض لحرب الجزائر في عام 1961 والداعي الى العصيان المدني). انخرط كذلك في جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وشنّ الطيران الفرنسي هجوماً واسع النطاق ضدهم، والتقى هواري بومدين وبوتفليقة. كان الأخير قائداً في المقاومة ذا عينين زرقاوين جميلتين، وكان يردد على مسامعه أنه سيرسل بعثات إلى إسرائيل بعد أن تنال الجزائر استقلالها، لأنها قادرة على تزويد الجزائريين الكثير من المعلومات في ما يتعلق بتحسين الأراضي، وعمليات زراعة الأشجار، وطرائق الريّ. ولا يزال يحتفظ برسائل أحمد بن بلا التي يدعوه فيها "أخي العزيز"، وهو أرسلها اليه من خلف القضبان (...). وحين أصبح بن بلا رئيساً للجزائر، وبعد مرور شهرين على نيل البلاد استقلالها، صرح بضرورة حشد مئة ألف جندي من أجل تحرير الأراضي الفلسطينية...

يقول لانزمان انه ليس مهتماً اليوم الا بمسألة واحدة هي أن يعم السلام الشرق الاوسط. ويرغب في الذهاب إلى إيران يوماً وتنظيم عرض لأفلامه للرئيس الإيراني أحمدي نجاد، ويأمل أن يكون جالساً بالقرب منه. "لا أسعى إلى إقناعه، واذا شاهد الفيلم فسيقتنع من تلقاء نفسه، فكل ما أقوله هو أن العنف، سواء في فلسطين أو رواندا، ليس حلاً". 

 

خارج الكادر

مدن وسينما

هل من علاقة بين المدن والمهرجانات السينمائية التي تُعقَد فيها مرةً كل عام؟ وهل للمدينة فضل على الحدث الذي تحتضنه؟ مَن يدين للآخر، المدينة أم المهرجان؟ علماً أن بعضاً من أهم المهرجانات في العالم لا يجري في العواصم بل في مدن أصغر حجماً وأقل تأثيراً وسكاناً. فمهرجان ساندانس مثلاً (ولاية أوتا) أهم من مهرجان نيويورك. وما من حدث سينمائي في باريس ينافس ما يجري في مدينة كانّ في شهر أيار من كل عام. أما روما، المدينة الأبدية، فلم تستطع مطلقاً أن تنافس موعداً سينمائياً يتكرر منذ أكثر من ستة عقود على جزيرة سينمائية اسمها البندقية... هنا بعض المشاهدات في مدن تؤوي مواعيد سينمائية بارزة.

•••

في شمال هولندا، مدينة اسمها أمستردام. مدينة عائمة صنعتها الارادة الهولندية حجراً فوق حجر. تأسست في القرن الثالث عشر، قريةً صغيرة لصيد الاسماك على ضفاف نهر امستل. مرّت بنزاعات طويلة مع جوارها، الى أن استقرّت أوضاعها وأصبحت معروفة بمدينة القوارب والقنوات المائية والمباني التي يتساند بعضها بالبعض كلعبة دومينو، في انتظار أن تنهار يوماً.

في قلب أوروبا النابض، أمستردام هي متروبول قائمة على تعدّد الثقافات والهويات، وتمتاز في كونها ريفاً داخل عاصمة؛ مكان يجمع على الصخب والهدوء في آن واحد. غدت هذه العاصمة على مرّ العصور متحفاً في الهواء الطلق يجذب الباحثين عن مكان حرّ يسمح لهم بتحقيق أحلامهم، رغباتهم وطموحاتهم. لكن أكثر ما صنع مجد هذه المدينة، هو انفتاحها على كل ما هو مستجد ومثير ومختلف، يأتي من أماكن بعيدة، خلافاً لعواصم أوروبية أخرى أكثر انغلاقاً وتمسّكاً بالتقاليد.   

كان رامبرانت رساماً عظيماً عندما توفى في امستردام. لكن ترك خلفه ارثاً هائلاً من الثقافة البصرية، اقتحم ميدان الفكر الهولندي. لذا، كانت خطوة طبيعية أن يكون في أمستردام مهرجان مخصص للفيلم الوثائقي، تكريماً لذكرى هذا الرسّام الذي نقل الواقع الى المساحة البيضاء. مع مر الزمن، صار هذا المهرجان، الموعد السينمائي الأهم للفيلم الوثائقي. الحاجة الى المعرفة والتلصص على حياة الآخرين تجعل المشاهدين يأتون الى هنا وينتظرون مطوّلاً للحصول على بطاقة.

هناك انسجام بين أمستردام والمهرجان، يلاحظه الزائر منذ لحظة انطلاق الحدث. من رامبرانت الى المخرج يوريس ايفانز، هناك تقليد بصري واضح في هذه البلاد، يجعل من "ايدفا" المهرجان المناسب في المكان المناسب. بعد عقدين على انطلاقه، أصبح هذا المهرجان واجهة حقيقية لحيوات شعوب الكرة الارضية. تختزل الأفلام الاربعمئة المعروضة، الاحوال السياسية والاجتماعية والنفسية لنحو 6 مليارات نسمة. يبدو البرنامج سلّة من صور التقاتل والعنف، الى جانب مشاهد الرقة والذكريات التي تغيّر مجرى الاحاسيس وتعيد الى الاشياء معانيها المفقودة. مرّة أخرى، يبدو هذا التشابك بين الجنسيات والهويات من صميم أمستردام.

•••

على بُعد بضعة مئات من الكيلومترات هناك مدينة نانت الفرنسية الواقعة في غرب فرنسا. انها مدينة الكاتب جول فيرن والمخرج جاك ديمي. تبعد عن باريس نحو ساعتين بالقطار، لكن الحياة في طبيعتها هنا مختلفة جداً عن العاصمة: فالايقاع أكثر بطئاً، والناس أقل توتراً وعدائية من سكان العاصمة.

نانت سادس مدينة فرنسية. وهي ملتقى طرق بين مدن فرنسية عدة. يحلو العيش في هذا المكان، واللافت أن الوافدين اليه يتزايدون عاماً بعد عام. المحيط الاطلسي على مقربة من هنا. نحو ستين كلم فقط تفصل المدينة عن الافاق البعيدة اللامتناهية. لكن مهرجان "القارات الثلاث"، الذي عرف في السنتين الأخيرتين خضات كثيرة، يفتح الافق من كل الاتجاهات على نانت، فيتمكن المُشاهد ان يسافر الى أمكنة متفرّقة وهو جالس في مكانه على متن أفلام من بلدان بعيدة، تعزيزاً لحوار الثقافات.  

تتميّز نانت بغطاء ريفي هادئ، ترتديه حتى واجهات محال الالبسة الجاهزة الفخمة في شارع كريبيون، وهو غطاء يجعل من اي حركة في الشارع شيئاً واضحاً للعيان. هناك ظاهرتان في هذه المدينة: ارتياد المطاعم والصالات المظلمة. اجتماعياً، نانت مدينة الاضرابات العمّالية والطالبية، اذ ليس من المفاجأ أن يخرج الى الشارع فجأة مئات الطلاب مطالبين بتعديل بعض قوانين التعليم، فتجد نفسك في وسط المتظاهرين وفي خضم معركتهم، قبل مواصلة طريقك الى مركز "مهرجان القارات الثلاث"، الذي لم يعد هو هو بعد مغادره الأخوين المؤسسين وتسلّم مَن هم أقل خبرة وفهماً للسينما منهما.

•••

في قارة أخرى بعيدة الآف الأميال، مدينة تورونتو الواقعة خلف الاطلسي. هنا مبانٍ شاهقة ومساحات شاسعة. هنا أيضاً مهرجان سينمائي يختلف عموماً عن مهرجانات القارة القديمة، لأنه يجري في مدينة هي مختبر للتجارب الانسانية الحديثة. فكلّ شيء في هذا المهرجان الكندي، الذي يتعزّز حضوره يوماً بعد يوم، ويكبر صيته تصاعدياً، يشبه البلاد في مساحتها وطموحها وتنوّعها الثقافي وسمتها الكوزموبوليتية. على رغم أن المكان تعانقه ناطحات السحب التي تكاد تضيّق على الافلام المعروضة، فإن الرغبة في المشاهدة والاكتشاف أقوى من أن تحجبها هذه الزخارف الهندسية المذهلة. انه باختصار، مهرجان لسينما من كل الاجناس في مدينة من كل الاعراق. انه مهرجان كلّ الناس، هؤلاء الناس الذين على قدم المساواة تحت نجوم الليل السينمائي.

فرصة استثنائية هو مهرجان تورونتو  للجمهور الكندي لاكتشاف ما يصعب اكتشافه في السوق التجارية، لأن هوليوود تلقي بظلالها على هذه المدينة الواقعة على ضفّة بحيرة أونتاريو، مستعمرة جزءاً كبيراً من ثقافتها. لكن الادارة ترفع شعار "تحويل طريقة نظر الناس الى العالم" في مدينة هي أسيرة العولمة وثقافة الـ"فاست فود".

هـ. ح.

النهار اللبنانية في

24/06/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)