حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«عربي قادم إلى المدينة» فيلم عن الجيل الثاني من العرب في الدانمرك

أحمــد غصيــن: مشــكلة إذا لــم تتــم معالجتــها فســتنفجر

نديم جرجورة

منذ سبعة أعوام، قدّم فيلمه الأول. روائي قصير، بعنوان «عملية رقم...». المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. التوغّل في الذات الفردية، الذاهبة إلى حتفها بقناعة داخلية عميقة بمقارعة العدو. كان ذلك في العام 2003 (جائزة أفضل مخرج في فئة الأفلام القصيرة، في «مهرجان بيروت السينمائي»). لاحقاً، تتالت أعماله البصرية المتفرّقة. هاجسه الأول كامنٌ في القدرة على الاستمرار في الاشتغال السينمائي. الروائي الطويل هدفٌ. انجز السيناريو الأول هذا منذ بعض الوقت، وبدأ رحلة الإنتاج. الرحلة صعبة. محفوفة هي بمخاطر وتحدّيات. دون نهايتها الإيجابية صعوبات شتّى. لكن المثابرة قدرٌ. السينمائيون اللبنانيون اعتادوا الاصطدام بالقدر، والتغلّب عليه مراراً. هذا المخرج الشاب واحد منهم. في الأعوام الفائتة، حقّق أفلاماً قصيرة وأشرطة فيديو: «غلطة بصرية» (2006). «210 م.» (2007). «وجوه تصفّق لوحدها» (2008). «عربي قادم إلى المدينة» (2008). في العام الفائت، أنجز «الذي يُشبهني يكون مثلي»، وهو عبارة عن لقاء بين المخرجين اللبنانيين محمد سويد وغسان سلهب، تحدّثا فيه عن أمور سينمائية وحياتية متفرّقة.

الاندماج

في المرحلة المقبلة، يستعدّ المخرج اللبناني أحمد غصين (29 عاماً) لتحقيق سلسلة خطوات سينمائية. إدارة «بينالي الشارقة» تُنتج له فيلم فيديو جديدا. «مركز بومبيدو» في باريس يعرض «وجوه تصفّق لوحدها» في كانون الأول المقبل. هناك جزءٌ أساسي من إنتاج مشروعه الروائي الطويل «على عتبة الجنّة» بات حاضراً. إنها مرحلة خصبة بالتحدّيات اليومية. مساء الاثنين الفائت، في الواحد والعشرين من حزيران الجاري، عُرض «عربي قادم إلى المدينة» في صالة سينما «متروبوليس/ أمبير صوفيل». إنها المرّة الأولى التي يُعرض فيها هذا الفيلم في بيروت. أنجزه بالتعاون مع المخرج الدانماركي جورج لارسن. تناول فيه سؤالاً عربياً عن الهوية والانتماء في مجتمع غربي. أفلامه السابقة مختلفة. بدت بعيدة عن الهمّ الذي يُعانيه عربٌ في دول الاغتراب والمنفى. المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي فعل مقاومة. القنص على خطوط التماس أثناء الحرب الأهلية اللبنانية جزءٌ من آلة القتل اليومي الوحشي. حرب تموز 2006 استكمالٌ للبحث الدؤوب عن معنى الانخراط في الجماعة، من دون الانتقاص من حقّ الفرد في إعلان حضوره. سؤال الهوية والانتماء لا يعثر على جواب ثابت ونهائي. الإقامة في دول الاغتراب والمنفى العربيين جوهر السؤال، خصوصاً بعد الانقلاب الدموي للعلاقة القائمة بين الغرب والشرق، الحاصل في الحادي عشر من أيلول 2001. غير أن الاعتداء الإرهابي على برجي «المركز العالمي للتجارة» ومبنى «البنتاغون» لا علاقة له، مباشرة، بـ«عربي قادم إلى المدينة». سؤال الانتماء والهوية بات أعنف وأخطر، بالنسبة إلى العربي المهاجر أو المنفي إلى دول غربية متفرّقة، إثر هذا الاعتداء. إنه سؤال وجود وعيش. الدانمارك بلدٌ مفتوحٌ لمغتربين ومهاجرين ومنفيين. العرب والمسلمون حاضرون فيه. مشاكلهم تشبه تلك التي يعانيها عرب ومسلمون آخرون، مقيمون في دول متفرّقة، وإن بنسب متفاوتة.

العرب الدانمركيون

«التقيتُ المخرج الدانماركي جورج لارسن في بيروت، إثر اتصال جرى معي من قبل «إنترناشونال ميديا سوبورت». قيل لي إنه راغبٌ في تحقيق فيلم وثائقي عن العرب المقيمين في بلده. هذا ليس موضوعاً جديداً. لذا، انطلق النقاش الأول بيننا من سؤال البحث عن مقاربة مختلفة. عن كيفية التوغل في المسألة»، كما قال أحمد غصين. أضاف المخرج الشاب: «توصّلنا، جورج وأنا، إلى اتفاق. الركيزة الأساسية للفيلم كامنةٌ في السعي إلى البحث في عمق المشاكل التي يُعانيها العرب الدانماركيون حالياً. أفضل طريقة لمعالجة الموضوع تطلّبت منّا التصرّف بهدوء. أي أن أذهب أنا إليهم، أصوّرهم وأتصوّر معهم أو من دونهم. أن أدخل عالمهم: المجتمع العربي الدانماركي. اخترنا أناساً ينتمون إلى الجيل العربي الثاني. هؤلاء لديهم مأزق: الاندماج والهوية. الفيلم عبارة عن رحلتي أنا كمخرج. عن كيفية عثوري على الشخصيات المختارة. عن كيفية التعاطي مع هؤلاء. عن كيفية الغوص في تفاصيل حياتهم اليومية». الاختبار موفّق. النجاح حليف المخرجين اللبناني غصين والدانماركي لارسن: «قدّمت نفسي إليهم قائلاً إني لا أعرف شيئاً عنهم. طلبتُ منهم أن يُطلعوني على مشاكلهم. هناك فرقٌ شاسع بين أن تضع الكاميرا أمام أناس مثلهم، كي يرووا حكاياتهم، وأن تجعلهم يشعرون براحة معك. بثقة. العفوية في هذا الإطار مهمّة للغاية. هذا ما جعلهم يقولون ويُعبّرون عن مآزقهم بطريقة أسهل. أضف إلى ذلك، أن تحدّياً آخر واجهنا: أن نكون مخرجين اثنين يعملان على مشروع واحد. لا مجال لغير الثقة هنا. أن أقف أمام الكاميرا، هذا يعني أن أثق به. أن أكون لوحدي مع الشخصيات العربية المنتقاة للفيلم، أن أصوّرها وأحادثها، فهذا يعني أن يثق لارسن بي. هذا ما حصل».

نماذج

الاختيار أشمل. أي إن المخرجين غصين ولارسن سعيا إلى اختيار نماذج متفرّقة من هؤلاء الناس: «اخترنا الشرائح كلّها في المجتمع العربي الدانماركي. من العاملين والطلاب والشباب، إلى العائشين في «أندرغراوند». لاحقنا أناساً مسجونين أيضاً. التقنيا شباباً في مكان تجمّعهم مع رجال الشرطة. دخلنا منازل صبايا عربيات أيضاً. بينهنّ محجّبات. من الأسئلة المطروحة عليهنّ واحدٌ أساسي: هل توافق الفتاة العربية على الزواج بشاب دانماركي؟ الرحلة مشوّقة. النتائج أيضاً». بالنسبة إلى هذه الأخيرة، فقد شاهد الفيلم خمسمئة ألف مُشاهد، عندما عُرض، للمرّة الأولى، في الدانمارك: «أعتقد أن سبب النجاح الجماهيري كامنٌ في رغبة الدانماركيين في معرفة المشكلة. في الاطّلاع عليها وفهم دلالاتها. المشكلة خطرة. يتفاقم خطرها يوماً إثر آخر. أظهر الفيلم، للمرّة الأولى، ما يجري داخل أعماق المنتمين إلى الجيل العربي الثاني في الدانمارك. أودّ أن أشير إلى مسألة أساسية: واجهتنا صعوبتين اثنتين. الصعوبة الأولى كامنةٌ في أبناء الجيل الثاني هذا. إنهم غاضبون فعلاً. لم يكن ممكناً تصوير غضبهم وانفعالهم إلاّ إذا كنتُ لوحدي. اللغة العربية لعبت دوراً مهمّاً. ساعدتني كثيراً في التقرّب إليهم. وجود دانماركي في لحظة كهذه أثار توتّرهم. معي، شعروا بشيء من الأمان. بل من الراحة. عبّروا عما فيهم من ألم. الصعوبة الثانية متعلّقة بالدانماركيين. لا يريدون التحدّث عن الموضوع. أغلقوا الأبواب أمامنا. صوّرنا الفيلم في منطقة غيتو. رفض دانماركيون كثيرون الظهور أمام الكاميرا. بعضهم تحدّث إلينا عبر «أنترفون». المفارقة، أن شابّة وحيدة فتحت الباب لنا، وتحدّثت معنا مباشرة. أظهرنا في الفيلم الاختلاف الثقافي القائم بين الجانبين. أعتقد أن الجيل الدانماركي الشاب مختلف. مقتنع هو بوجود مشكلة. راغبٌ في حلّ المعضلة، ربما. يرى الاندماج ضرورة». أضاف غصين أن ذروة الفيلم، بالنسبة إليه، متمثّلة بلقاء شاب عربي ذاهب إلى السجن، لتنفيذ حكم بالسجن بتهمة اعتدائه على خمسة دانماركيين بالسكين: «رافقته أثناء ذهابه إلى السجن بالقطار. هناك، السجن مفتوح. عقوبته تتيح له الخروج منه والعودة إليه. صوّرته. عند استماعك إليه وهو يتحدّث عن الواقع الحياتي اليومي في الدانمارك، تعجز عن اتّخاذ موقف معيّن منه. بريء وصادق وعفوي. وغاضب أيضاً. أردنا تقديم نماذج خاصّة بالضياع الذي يُعانيه شباب عرب في الدانمارك. شباب لا يعرفون ماذا يفعلون. قال لي هذا الشاب إن الدانماركيين يتعاطون معه كمهاجر، على الرغم من ولادته هناك، ومن حصوله على جواز سفر دانماركي. وعندما يأتي إلى هنا، يُعامَل كدانماركي. لذا، فهو يسأل مراراً: أين بيتي؟ أنتمي إلى من وماذا؟».

من ناحية أخرى، قال أحمد غصين إنه تعاطى مع المواضيع، في أفلامه السابقة، بطريقة غير مباشرة: «شخصيات أفلامي السابقة تتعاطى مع محيطها بطريقة غير مباشرة. تتغلّب الفكرة على الشخصية التي أحاول تقديمها. الوجوه كلّها جامدة. لا ردود فعل. من ينظر إلى القنّاص مثلاً، يبدُ كأنه ينظر إليه منذ زمن بعيد. في «عربي قادم إلى المدينة»، باتت العلاقة مختلفة. إنها أقرب. مباشرة أكثر. أولاً، هذا فيلم وثائقي. ثانياً، أعتقد أني أخذت من الشخصيات المختارة بقدر ما كانوا يأخذون منّي. أتطرّق إلى موضوع الهوية والانتماء. إنهم يعانون، وأنا لا أعرف المشكلة. لا تنسى أن الفيلم صُوّر في بلد غريب عنّي. ثم إننا قرّرنا، منذ البداية، اختيار أناس لا يظهرون في وسائل الإعلام والميديا. لم نلتق اختصاصيين في السياسة والاجتماع والتربية مثلاً. أردنا الدخول إلى عالم أناس لا يراهم أحد، ولا يعرف أحدٌ شيئاً عنهم. منذ البداية، قررنا لقاء شخصيات كهذه، والتعاطي مع مشاكلها ومآزقها الراهنة. لم نبحث في جذورها وماضيها. وبالتالي، سعى لارسن إلى عدم الوقوع في فخّ إدانة المجتمع الدانماركي، كما سعيتُ إلى عدم تحميل العرب المسؤولية كلّها. سلّطنا الضوء على المشكلة، وقلنا للجميع إنه إذا لم تتمّ معالجة هذه المشكلة، فإنها ستنفجر. تركنا الأمور كما هي. إذا بدا واضحاً أن هناك إدانة لهذا الجانب أو لذاك، فإننا لم نبدّل شيئاً».  

كتــاب

محمــود الــزواوي: «صناعــة الأحــلام»

لا شكّ في أن الكتابة التأريخية مفيدة. إنها تعيد صوغ الحكاية. تقدّم صورة عن الذاكرة والماضي. فالذاكرة أساسية في السيرة الراهنة والمقبل من الأيام. والماضي ركيزة المستقبل. غير أن الكتابة التأريخية نفسها هذه قد لا تفيد، إذا اختارت موضوعاً أُشبع كتابة وتحليلاً. أو إذا لم تُقدّم جديداً.

كتاب محمود عبد الرحمن الزواوي «صناعة الأحلام»، الحامل عنواناً فرعياً هو «محاور السينما الأميركية»، ينتمي إلى التاريخ. أي انه يعيد رسم المعالم المختلفة لصناعة السينما، الأميركية تحديداً، بدءاً من البدايات الأولى، وصولاً إلى الحالة الراهنة. والعناوين مثيرة للانتباه: التطورات الفنية، العصر الهوليوودي الذهبي، الأنواع السينمائية في هوليوود، الممثلون، الأفلام، المخرجون، الأرقام، الجوائز، التأليف، الأفلام الأجنبية، التلفزيون، وغيرها. والخاتمة مع دور العرب واليهود في هوليوود.

استعادة التاريخ متعة. الزواوي يستند إلى مراجع ومصادر، منها صحف ومجلات يراها مفيدة. المضمون محتاجٌ إلى سجال نقدي. الكتب مراجع أيضاً. كلّها باللغة الإنكليزية. لعلّ الكتاب جمعٌ لأبرز ما جاء فيها، أو اختصار لحقبة تاريخية غنية بالمعطيات الخاصّة بسينما تُعتبر الأكثر جماهيرية في العالم اليوم.

السفير اللبنانية في

24/06/2010

 

بول الروماني في «الثلاثاء، بعد أعياد الميلاد» وسافينيا الألمانية في «المدينة التحتية»

الخيانــة كقــدر للحــب الأوروبــي

زياد الخزاعي 

نهاية الحب كلّه، خيانة صغيرة بحجم الكذبة. ونهاية الزيجة كلها، رغبة صفراء بحجم الزنى الخفي. حكايات الكَيْد البشري كلّها تتجمّع في الصورة الماثلة بين الثقة العمياء بالآخر، واكتشاف عدم ائتمانه، وبين الظنّ أن علاقة ثنائية توطّدت لاعتمادها الصراحة والاتفاق والتخطيط، لينهَدّ بنيانها عندما تلتقي إرادات البشر على صدفة تُشعل الرغبة، وتَخوى العهد. منذ عهودها الأولى، قاربت السينما الحب وخُوَّانه، ومثله قصص الاكتشاف المرّ المتبادل بين حبيب وامرأته، وبين زوج مغدور وسيدة بيته التي ضعفت أمام إغراء سريع لا فكاك منه، حتى لو لامس شرفها الشخصي. أظهرت أفلام كبيرة أخرى مديات القسوة التي تمارسها امرأة تواجه استحقاق خيانة زوج أو رفيق أو خليل، وخَيَسَانهم بالعهد، وتعجّلهم للمغامرة ولعبتها الأزلية. يبدو أن خيط الغدر سيبقى سارياً الى أبدية سينمائية، تصل في أحايين كثيرة إلى مفاجآت صاعقة (لن ننسى غلين غلوز في «النصل المُثلم»، في العام 1985، لريتشارد ماركواند).

السرد

لعل فيلم المخرج الروماني رادو مونتيان «الثلاثاء، بعد أعياد الميلاد»، يمثّل نفساً مستحدثا في سرد الحكاية المكرورة. ذلك أن صاحب «بوغي» (2008) و«الورقة ستكون زرقاء» (2006) و«الغضب» (2002)، لم يلوّنها كما تحب السينما الباحثة عن الفضيحة، بل سعى إلى امتحان خيارات أبطاله والشخصيات المحيطة بعالمهم، الذي ينفلش بعجالة لم يكن في مقدور أحد إيقافها. وهو استجاب بذلك، بفطنة كبيرة، لرغبة التمعّن في القناعة الشخصية وكيفية ترتيبها بين الأفراد، قبل أن تصل إلى حدود العنف. البطل بول يخدعنا في المشهد الأول وهو فوق سرير بهيّ من العواطف، مضاجعاً بشراهة ونزق شابة ترى في ما تفعله واجباً يذهب بمتعتها إلى حدّها الأقصى، ما دامت تضمن وجوده الجسدي وعنفوانه الجنسي فوقها. يخدعنا بول، لأن سعادته التي بدت طاغية في المشهد الافتتاحي الطويل، تصدمنا لاحقاً، عندما يقدِّم لنا عائلته المتطامنة، وعندما نجدها (السعادة) بائرة في بيت الزوجية. إنه كائن يعيش الواجب الاجتماعي، الذي يحيله على مجموعة من الالتزامات لا غير. مواطن في بلد يتغيّر بسرعة أوروبية. جزءٌ من أخلاقيات جديدة، تدور حول المال والرقي الاجتماعي واستغفال الخشية الدينية.

يقف بول، القوي الشخصية، على مرتبة الخيانة نفسها التي تمارسها الألمانية سافينيا ذات الشخصية الطاغية بحضورها، وبطلة فيلم المخرج كريستوفر هاوشاوزلر (1972) «المدينة التحتية» (عُرض الفيلمان في «نظرة ما»، في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان»). فالشابة الوافدة إلى فرانكفورت برفقة زوجها الموظّف في أحد المصارف العملاقة، تعيها وحدتها التي تقودها إلى صدفة، تكشف لاحقاً عن عنف شخصيتها وإصرارها على الانتقام. ذلك أن الخائن لا يردّ على التهمة، أو على الأقل ما يجب عليه فعله في البحث عن تفسير لها، بل يسعى بجهد خارق إلى الإفلات من عقاب الآخرين، بدءا من الشخص الأقرب المغدور. في إحدى غاليريهات الفنون المعاصرة، تلتقي قدرها. وسرعان ما نتابع الشهوة وهي تزهو في الغرف، بدءاً من الفنادق وانتهاء بالمكتب الفخم للعاشق والقطب المالي النافذ رولاند. تقع سافينيا في مساهلة لعبتها مع الرجل الخمسيني، الذي يجد فيها ما هو ناقص في عشرته الزوجية: الطيْرَة. إن انضباطيته الطبقية والبيروقراطية لا تتفكّك إلاّ على يدي طيش البطلة الشابة وإغوائها له، بتفريغ عزلته الشخصية في رحمها الفتي. يقع الاثنان في هوس تبرير خياراتهما. فالرجل يرى أن ما يفعله استكمال لانتقام مقموع في داخله ضد رتابة حياته وأناقتها المفرطة. فيما تظن الشابة أنها تنتقم بدورها من الفراغ الذي أُجبرت عليه. فالمدينة العصرية القائمة من خراب حرب هتلر ونازيته، صعبة المنال على امرأة وافدة وعاطلة عن الفعل الحقيقي. ويبدو جلياً أن المغامرة الجنسية هي الأكثر أماناً في اختراق مستوياتها الحاكمة والمتمثلة برولاند.

انتقام

تكتشف سافينيا (نيكوليته كريبتز)، كمذنبة وضحية في آن واحد، كَمّ الاحتقار الذي سيعصف بكيانها. فرعونتها الأوروبية لن تستكفي انتقامها منه داخل مكتبه الشديد العصرية، الذي لا يبتعد سوى طوابق معدودة من طاولة زوجها الموظف، بل في عقر داره، عندما تفلح في مجالسة زوجته ذات النسب النبيل، وتلمّح لها عن زلّته المدوية، وتستهدف تاريخ صباه وخفايا صعوده.

في الواجهة الرومانية، يحاول بول (ميمي برانيشسكو)، وهو موظف في مصرف كبير أيضاً، أن يُعلن عن خيانته بصوت خافت. أراد أن يُبقي ذلك الإعلان في حِرز بين جدران شقته الصغيرة، بعيداً عن انتباه ابنته وأقاربه. بيد أن قدر الخائن يكمن دائماً في صدفة افتضاحه، التي تقود بول إلى إعلان فشله في إخفاء «خياره الشخصي» وحجب العشيقة طبيبة الأسنان الشابة رالوكا عن الورطة العائلية. وهذا يتحقّق، عدنما تلتقي الخليلة مع الزوجة أدريانا (ميريلا أوبريشور) وتُفجِّر دُمُّلَة عاره، وهي نفسها التي يُغطي قيحها العفن وجه رولاند (روبرت هانغر ـ بوهلر)، الذي تدور حوله الشكوك بتصفية خليفته في المنصب المؤثر، عندما تحاصره الزوجة الملتاعة بسؤالها عما يسمي فعلته، فيردّ عليها بصدق قاتل: «ليس لديّ تعريف لها». وإذا جمعنا هذا الاعتراف مع مثيله لدى الروماني بول: «كما يقولون، ان العام الجديد يجلب معه التغيير لحيواتنا»، نكون ألفنا إطاراً لتبرير الفعلة النجسة لكليهما. وإذا أخذنا الخط العام للفيلمين (بطلان خائنان بالقصد، وثالثتهما امرأة يافعة تقف ضد أمانتها من أجل التشفي)، تصبح الأخلاق مرتبة إنسانية ليست ذات مَزِيَّة اعتبارية. فالأوروبي المعاصر قادر، كما يبدو، على الإمساك بقدره. فهل تمكنه هذا عائد إلى حصاناته القانونية وتوافرها لرد تهمة الإثم، أم إن الوازع الاجتماعي في الألفية الثالثة انفرط عقده، وضعفت تهديداته، وأصبح الدافع الشخصي أهم وأشد بأساً؟

بلاغة

لا ريب في أن مُشاهد الفيلمين يُخطَف ببلاغة المحيطَين الجغرافيين اللذين تجري فيهما أحداثهما، من حيث عكسهما حقيقة أن فعل الخيانة واحد، وإن تمّ في أماكن مختلفة في ثرائها (في حالة «المدينة التحتية») ووضاعتها (في «الثلاثاء...»). إن البحث عن قيمة الحب في القصتين لا يملك طابعاً استقصائياً لدوافعه. فالمخرج الروماني مونتيان يُشبع المواقعة الجنسية بين بول ورالوكا في غرفة بسيطة الديكور، ذات ذوق ريفي، قبل أن ينقلنا إلى البيت الحقيقي للعائلة، لنُصدم بحال مشابهة من وضاعة المكان. وعلينا أن نفهم أن الرتابة في حياة بول هي السبب في مغامرته (لنقل خيانته). في المقابل، يضخ زميله الألماني هاوشاوزلر قدراً واسعاً من الخلفيات الثرية بديكوراتها، التي تتماشى مع الهبة العمرانية والاقتصادية لفرانكفورت، ومع منصب رولاند. وبما أننا لن ندخل محيط سافينيا، الأمر الذي يفقدنا التقدير الحقيقي لمنبتها الطبقي، يبقى حكمنا على شخصيتها في ارتهان مقصود بملبسها الخفيف الجاهز للخلع أو الإزاحة، لتأدية الفعل الجنسي بأقصى درجات حياديته. بمعنى شحّ الكلام بينهما. وبدا أن الأسبقية الدرامية لهذا الفيلم المميز، كامنة في الزلّة الكبرى التي تدفع بالخمسيني الى الدم. إذ ان لعنة الآخرين تطاردهما باللغو المقنن للفضيحة، التي تنال أخيراً من رولاند، وتدمِّر عالمه المأفون، من دون أن تمسّ بعزمه الشخصي: وجد أرضيته للحب، وإن تأخّر.

يقف بول مثل سافينيا عند العناد في أن ما يقوم به أبعد من زلّة، وأقرب إلى حياة جديدة. عندما يحلّ في الحفل العائلي بالأعياد، نشهد تواطؤ الزوجة المغدورة في تهريب هديته لابنته، بعد أن زجرته: «ما إن تنتهي جلسة العشاء، عليك الانصراف إلى الأبد». وبالضرورة، فإن إزاحته من العشّ العائلي الصغير تمثّل عقابا لا بد منه. في حالة الثانية، تكون المواجهة بين قوة الشر الواسعة الضرر (رولاند) وصمّامه الجنسي (سافينيا) حاسمة، إثر قراره الاستحواذ عليها من زوجها، وإبعاده إلى أندونيسيا. وعندما يرفض طلبها، تقرّر الذهاب إلى المنتهى وهي تقول له بعد المواقعة الأخيرة: «أنا لا أخشاك». هنا، يتأكّد لنا أن الخائن يُهندس عقابه بقدر فسوقه، وإقصاءه اللاحق بقدر دنائته.

السفير اللبنانية في

24/06/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)