حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

رنده الشهال أو السينما بلا سينما

عبيدو باشا

أرقني الفضول منذ الطلة الاولى. فتاة حليبية اللون بشعر نحاسي وسط شباب أدلجوا في أوقات قياسية، لكي يلتحقوا بالحرب الأهلية بلبنان. أرقني أن الصبية اختطت الطريق الآخر. لن نراها عند خطوط التماس اذن. لن تحمل بندقية. ولن تطلق النار على الآخرين. سوف تطلق التفاصيل، فقط التفاصيل. بدت بنزاهة جسورة، وهي تخط فوق أدراج المبنى في منطقة الطريق الجديدة. مبنى شغلته كوادر «منظمة العمل الشيوعي» بطريقها الى سنوات الاقتتال الحميمة. تؤرقني اليوم حميمية سنوات الاقتتال الاولى، قياساً على قلة الحميمية والانضباط في حروب السنوات الثلاث الاخيرة في زواريب لبنان والشرق الاوسط. طالما أن لبنان وعاء الشرق الاوسط السياسي والحضاري، مذ حلّ الفلسطينيون في لبنان، إثر تهجيرهم من فلسطين.

ليست الهجرة الفلسطينية ولا الاستقبال اللبناني للرجال والنساء والأطفال والأرامل والأيتام الفلسطينيين: امساك بزمام الرحمة الاجبارية. أبداً. وليست زيارة المرضى والمجانين أو توزيع الطعام: امساك بزمام الرحمة الانسانية. ذلك أن من جاء من الفلسطينيين، ذلك ان من استقبل من اللبنانيين: جميعهم في الدرك الاخير من الفاقة. أو معظمهم. جاءت النتائج مدمرة في سياسة القروض الدولية. رنده الشهال: أكدت ذلك في ما بعد بفيلمها الأول «خطوة خطوة». أرادت ان تسدد الدين القديم بسينما جديدة. ارادت ان تسدد الدين القديم بالسياسة الجديدة. خطوة خطوة اذن. «خطوة خطوة»: اذن، هي السياسة الاميركية. خطوة خطوة: اذن هو هنري كيسنجر وزير الخارجية الاميركي. اراد الرجل أخذ الوقت بخشونة اليانكي الاميركي وبآليات البريد غير الالكتروني. ثم: فاجأت نفسي في حضور عرض اجباري لـ «خطوة خطوة». اختفت الصبية. عندها ظهر «خطوة خطوة» في طابق الإعلام المركزي بالمنظمة في بناية هي غير بناية السنترال على الضفة الأخرى. لم يحرر الفيلم بشكل عميق. اختصر عنوانه فحواه. لا بأس – في ما بعد - إذا شاهدته أم لا. بقيت الصبية الحليبية البدن - النحاسية الشعر - أجمل من «خطوة خطوة» بكثير. بكرات بكرات. لن يؤثر كثيراً: عرض بكرة قبل بكرة. عرض بكرة بعد بكرة.

فائض القيمة

كلما شاهدت رنده الشهال بقصد وبغير قصد، سادت رائحة قرميد مبلل وثياب طالعة من أرقى المحترفات العالمية. كلما شاهدت رنده الشهال، شاهدت امرأة سينيه تحيط بها مجموعة من الخدم يشعلون المجامر والمدافئ. تحيط بها مستخدمون يحملون فناجين كبيرة من الشوكولا التي يتصاعد منها البخار. هكذا هي: منذ شاهدتها بالمرة الاولى. لا علاقة لذلك بزواجها من مصرفي. انها امرأة ضد العزلة. لذا: جاءت سينماها ضد العزلة. عزلتها وعزلة ناسها. وهم جمهور قليل. جمهور يمتد من عدد من الاصدقاء الى عدد من الاصدقاء. ذلك ان الشابة ذات الشعر الأحمر، سعت دائماً الى التقاط صور الاصدقاء في السينما وبلا سينما. سينماها مطرها. ولأنها مطر، بقيت سينما رنده الشهال تهطل بأسماء ثقيلة وبأثاثات ثقيلة. بقيت سينماها ضد المنازل وحصارات المنازل والأسر المنزلية. حيث لم تصف سينماها اسرة أو منزل الا في فيلم وحيد دار حول عائلتها بالتحديد. انها في ما عدا ذلك، تفادت رنده الشهال الموضوعات الصغيرة، الموضوعات الضيقة الى مواضيع عريضة. عريضة بجسدها. وعريضة بعقلها. هكذا: تواترت افلامها بين «متحضرات» و«شاشات الرمل» و«طيارة من ورق»: افلام توددت بها الى السينما. لأن السينما حياة رنده الشهال. بها: رسمت الفتاة البرجوازية ذات السلوك والشكل الارستقراطيين حياتها. هذه مفارقة الفتاة المتكسرة على نزوع عنيد الى الشرود السينمائي، الى الشرود الحياتي. اذ ان سينماها: حياة من حياة. اما حياتها، فهي حياة في حياة.

اضحت السينما فائض القيمة في حياة الشابة العشرينية العاملة في السينما. ثم في حياة الثلاثينية والاربعينية والخمسينية. اضحت السينما فائدة حياة رنده الشهال بالروح البنكية لـ «الفائدة». غاصت رنده الشهال بكل ما هو جلي. لم تحتج الى جلاء شيء لكي يضحى جلياً. رغبت دائماً بـ «الجلي» بدون ان تبحث عنه. وجدته بلا بحث. وجدته في خياراتها. وجدته مباشرة وبلا تحايل. انها سينمائية بضربة واحدة. انها عالمية بضربة واحدة. اخذت ماريا شنايدر في «شاشات الرمل». اخذت زياد الرحباني في «طيارة من ورق». هدت نفسها بغريزتها. هذا معناه: أن لا شيء يحاصرها. هذا معناه: ان كل شيء بمتناولها. انها شابة السينما وليست ارملة السينما. شابة بنشاط دؤوب. شابة غير محتاجة. كل شيء بيدها: كل شيء متوفر عندها. تروي بلا خشية. تروي ما تشاء وكما تشاء وحيث تشاء بلا حروب خفية أو معلنة. لن يهزمها تعب. لن يهزمها نوم. هزمها المرض. اختفى المرض في صحتها. وحين غلبها اضحى المرض صحتها. قاومته أولاً. انتصرت عليه. ثم: انهارت مقاومتها. عندها ماتت بدون ان تستكمل مشروعها السينمائي. بدون ان تستكمل حياتها. لأن سينماها حياتها. سدت الأخيرة ثغراً في حياتها. باعتبار ان حياة رنده الشهال هي سينماها الحقيقية. السينما في حياتها هي ملحق حياتها. استضاءت بالملحق. لم يؤلمها هذا، لأنه جاء واضحاً منذ اللحظة الأولى. ليس هذا قليلاً. ليس هذا عابراً. لأن اللعبة هذه بحاجة الى مكر كثير. يحتاج الى ذرائع والى ديكة والى نوم في أوقات مفاجئة والى نهوض في أوقات غير متوقعة.

بقيت سينما رنده الشهال رهن حالها الجسدية، رهن حالها النفسية. وجدتها في آلاف التفاصيل، بشكلها، بطلتها، بمشيتها، بعلاقتها بالآخرين. بانجذابها الى السينما وبفرحها بها. هذه امرأة ضئيلة الجسد بكتفين عريضين. لست أدري بما فكرت حين جاءت بماريا شنايدر بعد اعتزالها، اثر فيلمها الملتهب بمشاهده الملتهبة مع مارلون براندو: «آخر تانغو في باريس». غير انني غالباً ما حسبت انها جاءت بماريا شنايدر، لكي تؤكد للآخرين قوتها. قوة من يستطيع أن يرفع من تحت اكوام التراب اسماً عظيماً اعتزل صاحبه أو صاحبته. ولكي تقيم مقارنة بين حضور النجمة المعتزلة وبطلة الأفلام: رنده الشهال. هي: بطلة أفلامها. هي: بطلة «شاشات الرمل» قبل ماريا شنايدر بشعرها الكثيف وعضلات عنقها وتناسق ساقيها ورائحتها الطيبة الذكية. هي: بطلة «طيارة من ورق» لأنها جاءت بزياد الرحباني العاصي على الحضور الا في اعماله المسرحية والموسيقية. فنان لا يشتغل الا لنفسه، فنان لا يشتغل الا بإنتاجاته، يحضر في فيلم سينمائي لـ رنده الشهال. لن يجرؤ احد غيرها على التفكير بذلك، من منظور الزمن وحرية الرجل الرابط شخصيته بعمله وعمله بشخصية بدون ان يركض خلف احلام الجنات الارضية او السماوية.

ورثت رنده الشهال السينما من السينما. أقامت شراكتها بالسينما من خطوها الضئيل، خطوة فأرة بيضاء. خطو ناعم ولعوب. أقامت شراكتها بالسينما عبر الهدايا الصغيرة. السينما هديتها من نفسها الى نفسها. السينما عتبتها على إهداء الآخرين هداياها. اعطت اسامة محمد ثروة صغيرة لكي يباشر عمليات توليف احد افلامه في باريس. أهدت كل من عمل معها ما يشبه العقيق البراق المستخرج من سرائر الأنهار. لم تهد اطواق ولا ازهار برية. يتذكّر كل من اشتغل مع رنده الشهال هداياها. اهدت هذا ولاعة. أهدت تلك قلماً. قرأت في حاجة الآخرين ولبتها. رحلت المخرجة السينمائية وبقيت سينماها. سينما تقنية وسينما شخصية. السينما الأولى للآلات. والسينما الثانية للبشر. السينما الأخيرة: سينما مشاهد. هذه ليست موضة. بل سينما خاصة بتلك التاركة ذكراها في بوبينات الأفلام وفي أفواه ناس اشتغلوا معها.

بقيت السيدة مستقلة. لم ترتبط بتجارب الآخرين. لم تجايل الآخرين من جيلها. لاهيني سرور ولا جوسلين صعب ولا جان شمعون. ولا غيرهم. اقتربت من الاخير بفيلمها الاول: «خطوة خطوة». هي بـ «خطوة خطوة» وهو في «تل الزعتر». فيلمان نضاليان. أو فيلمان بنبرتين نضاليتين مختلفتين. بيد انهما نضاليان. فيلمان لم يهتما كثيراً بالتقنية. اهتما بالصوت ولم يهتما بالصورة. لأن الصورة هي حديقة المرحلة الدموية تلك. «خطوة خطوة»: عن اميركا، عن سياسة اميركا، عن وزير خارجيتها هنري كيسنجر وجولاته المكوكية واهتمامه بالملفات في المنطقة خطوة خطوة.

« تل الزعتر» عن تل الزعتر. وان بدا جان شمعون مهموماً بالكروم السياسية المنهوبة بأيدي المتصارعين، بدت رنده الشهال في السينما باحثة عن مستقبلها فيها. ذلك ان مستقبلها لم يرتبط بآلات التصوير بقدر ما ارتبط بحضورها وبصحتها الشخصية بغير المعنى الطبي. هذه صبية لم تضطر الى كسب عيشها من السينما ولا الى كسب موقع في حياة حافلة صاخبة، مضطربة، مدوية. وجدت موقعها في جيبها. كما وجدت سينماها في جيبها. كلما أرادت ان تشتغل بالسينما: مدّت يدها الى جيبها. ثم فردت يدها في هواء المدينة. عندها: يرتفع فيلم جاهز في فضاء مضعضع الجهوزية. «خطوة خطوة» فيلم ذهولنا بلغة غير اللغة التي اعتمدناها بـ «منظمة العمل الشيوعي». ذهلنا بالسينما. وجدناها صورة. ثم اكتشفنا انها لغة. لغة لا تقرب اللغة الخاصة بنا: نحن افراد المكتب الإعلامي في المنظمة اليسارية. اخترقت عتاعيت الإعلام سنيورة بشعر أحمر مجعد وشفتين رقيقتين، انزلقت الكلمات عند زواياها. مرت السنيورة بين جوزيف سماحة وجورج ناصيف ووليد نويهض وفواز طرابلسي بسينما بلا بوبينات. لأن سينما رنده الشهال سينما بلا بوبينات. سينما بضربة واحدة. وزعنا مناشير التحريض والشرح والتفسير في المطاعم والمدارس وفي الشوارع - لدى المارة -: انا وأحمد قعبور وحسن ضاهر. كتبنا في «الحرية» اشتغلنا بالسياسة، قبل أن نشتغل بالعسكر ونحن نراقب السنيورة الطرابلسية – عرفنا ذلك في ما بعد - وهي تخطو بغنج في «خطوة خطوة». لم تكن رنده الشهال مضطرة الى كسب عيشها بالسينما. الأرجح: انها أرادت ان تتسلى. ان تكمل بازل حياتها بالسينما. هذا ليس عيباً البتة. هكذا: لم ترتفع سينما رنده الشهال كوجبة ثقيلة. لن ينتج عن ذلك: غثيان ولا مغص ولا عوارض ما بعد المشاهدة. لم تستخدم مخدراً ولم تعقم آلة. مدّت يدها الرقيقة الى جيبها كلما عن لها ذلك. ثم نفضت فيلماً في فضاء المدينة والبلد.

الرفيقة

رفيقة لا تتساوى بالرفاق. تلك رنده الشهال. انها أقرب الى هيئة رفيق واحد. عبدالله اسكندر. رفيقة لا تتساوى بالرفاق. انها رفيقة تشبه رفيقة تشبه رفيقة تشبه رفيقة. الآن، انتبه الى ان الرفاق لم يشبهوا بعضهم بالمنظمة في حين ان الرفيقات متشابهات في فلتر البلد بتلك المرحلة اللاهبة. وحدها سينماها: ميزتها عن الرفيقات المتشابهات. الآن انتبه: الى انها ربطت - منديلاً سرياً – منديل لا يشاهد على فمها وانفها، لكي لا تصاب بسرطان الألعاب السياسية المباشرة. كأنها ارادت ان تنضج قبل الأوان. كأنها ارادت ان تملك حياة في حياة في حياة. حمت حياتها بذلك. حمتها. غير انها بقيت وهي تكبر طفلة جميلة مثل جنية مضفرة بلا تمرين وبلا اسم.

ما احتاجت الفتاة الى كسب عيشها من السينما. ولو انها احتاجت الى مال كثير لكي تعيل الآخرين. يداها بيضاوان على الكثيرين باعترافاتهم. ليس أجمل من ملاك، ليس أجمل من جنية توزع المال على الآخرين. ليس اجمل من مخلوقة تامة توزع المال على الآخرين. وهي: لم تجد كمالها، لم تجد تمامها إلا بالسينما. سينما من جيبها. سينما جاهزة، ناجزة، سينما كالاولاد. منجبة وليست مصنوعة. سينما عبور جبال على بساط الريح، سينما طائرة فوق البحار والمحيطات والقمم وسلاسل المنحدرات. سينما ملتهمة تنمو من نفسها على نفسها بدون ان تهزها قسوة طقس أو تغذيها أشياء واهنة.

كلما مدت رنده الشهال يدها الى جيبها التصق فيلم بباطن كفها. فيلم بشلالات وجداول وثلوج سائلة. وبصوت وحيد هو صوتها الصغير. صوت صغير جامع للكبار. صوت جهنمي، صوت يرتدي معطف سفر سميكاً وقفازين جلديين وقبعة من فرو ووشاح حريري يذبح بحريره.

أفلامها هي وهي أفلامها. افلام قاسية، افلام صامتة حتى وهي تتكلم. ثم انها تضحى صامتة حين تتكلم. «متحضرات» شيء ناصع في المجال هذا. فيلم عن الحرب الاهلية اللبنانية. فيلم يعوي مثل مجنون. لن يسمع صوته تحت العواء. هكذا وجدته. هكذا ركبته. هذه معادلتها. معادلة رافضة. معادلة لاهثة. انها رفيقة مارون بغدادي هنا. جاء مارون بغدادي، لكي يصنع فيلماً عن الحرب الاهلية اللبنانية. قتله الفيلم. رفضت الحرب ان تندلع مرة ثانية بالفيلم. عندها، قتل الفيلم مارون بغدادي. لأن أحداً لم يعد يقدر على احتمال حرب اهلية أخرى، بعد الحرب المطفأة باتفاق الطائف. ولكي لا تقتل الحرب رنده الشهال، قتلت رنده الشهال فيلمها: «متحضرات». لم تعترف بذلك. اعترف الامن العام اللبناني بذلك. اعترف بذلك حين حذف منه أربعين دقيقة تقريباً. لن يبقى من الفيلم أكثر مما حذف منه. لأن فيلماً يدور حول الحرب في ثمانين دقيقة هو فيلم يوقظ الناس والكلاب في آن. قتلت رنده الشهال فيلمها حين لم تغفر ولم تنسَ. حين أرادت النزول الى قاع الارض مرة أخرى. لم تنتبه ربما - الى ان القتل يكلف قليلاً. ما يكلف كثيراً في لبنان هو: البقاء على قيد الحياة. عذاب وقنوط وأنين وبكاء. هذه حياة لا علاقة لها بالقساوسة ولا بالمشايخ. هذه حياة اناس استيقظوا على حقيقة انه ليس بمستطاعهم ان يقطفوا ثمار انتصاراتهم المستحقة. انتصارات ضد الستاتيكو: إنها هزيمة مدوّية. ذلك ان هؤلاء حين تمرّدوا على الستاتيكو الاقليمي، اطلق الأخير عليهم آلاف الجنود من بلادهم وملايين اللعنات. لم ترد رنده الشهال أن تزرع بذرة شجاعة عنيدة في جيش من اللبنانيين المهزومين. على العكس. ارادت ان تخوض حرب عصاباتها الدامية، اثر توقف الحرب. حرب لا هوادة فيها، مات ابطالها وبنادقهم في ايديهم صارخين باسم وطن – كل على مقاسه – قبل ان يطمروا تحت زفت عمليات الإنماء والإعمار.

رغبت رنده الشهال في أن ترفع على كتفيها اضعاف اضعاف اضعاف وزنها. وجدها الآخرون: رامية في وسط مقفر. عندها قصوا عضو الفيلم حين وجدوا انه مصاب بالغرغرينا: هكذا فعلت في «طيارة من ورق». ادخلت نفسها في صياغة اكسترا نظرية لمجتمع الموحدين الدروز اولاً. ثانياً: الصراع العربي - الاسرائيلي. ادخلت نفسها في الصياغة هذه عبر قصة حب بين عسكري اسرائيلي ودرزية. بسطت الصراع أولاً. ثم كادت تحصره في أداء زياد الرحباني، بحضور تميم الشهال: شقيقها. ثم بسطت العلاقات. بدت اشكال العلاقات مغربة او برانية. فاقم ذلك حضور مجموعة الممثلات المعروفات في ادوار السيدات الدرزيات: جوليا قصار ورنده الاسمر وليليان نمري. لعبت الاخيرة دوراً كوميدياً يعود الى صورتها المرباة في مجموعة المسلسلات التلفزيونية الكوميدية. ظنت انها بذلك، ظنت انها بطرح الصراع العربي – الاسرائيلي سوف تحوز اهتماماً يسبق انتاج الفيلم. كما فعلت حين تعاقدت مع ماريا شنايدر في «شاشات الرمل». اراد صوتها أن يلاقي الاهتمام الاوروبي بالقضايا والأسماء العربية بآن. تلك أداة من أدوات السيطرة الاجتماعية – السياسية. أداة قسر مباشر. أداة تؤكد الاختلاف بين التربية والسلوك. ثم ان استخدام الأدوات لتحقيق الهيمنة الاجتماعية، ليس مهماً بحد ذاته، أو انه ليس بأهمية الجهة التي يوجّه اليها. اذ تجدد وظائف الهيمنة: بالتقدم والحركية على ضفة وبالمحافظة والركود على ضفة أخرى.

الضدّ

لدى رنده الشهال: لا وفاق اجتماعياً ولا وفاق، اذن لا اتفاق اجتماعياً. اذ ان افلامها العديدة هي افلام ضد السجايا والشمائل الشخصية. لأنها رغبت بتحقيق التناظر والتجانس بينها وبين الآخر: أوروبا. حيث عثر في افلام رنده الشهال على سلوك مشخص لجماعة معينة في بناء اجتماعي معين وملائم لتلك الجماعة وقابل للربط بنظامها الثقافي لا التربوي والعقلي لا الاجتماعي. اننا أمام مفارقة مدوّية على صعيد النمط السلوكي. هكذا راوحت افلام رنده الشهال بين الوضعية الفنية والقصد السياسي – الاجتماعي. ولكي تتجنب الارتطام بالوضع الاجتماعي – السياسي القائم، صعّدت دائماً في خياراتها: اشتغلت كليباً للطيفة التونسية وروجت اخباراً حول فيلم منتظر بينها وبين الفنانة اللبنانية هيفا. لم تترك – بهذا المعنى – مجالاً لأحد لكي يلحق بخطواتها السريعة، هي صاحبة «خطوة خطوة».

كفاية اجتماعية في الثقافة، أو عملية تكيف واعية أو غير واعية تمارس ضمن حدود معترف بها من مجموعة من التقاليد. هكذا قادت رنده الشهال نمط سلوكها. سلوك من لا يسلك، غير انه يصل الى حيث يسلك. حتى على صعيد اللغة. لم تبحث رنده الشهال عن لغة، لم تبحث في لغة. وجدت لغتها في جيبها دائماً. لأن سينماها هي جزء من لغة يومية استعملتها في حياتها. كلما مدّت المخرجة يدها الى جيبها، أخرجت فيلماً بلغته. هكذا: الفيلم هو صاحب اللغة. وليست هي. لا خف ولا قبعة ولا حمام يطير من الاكمام. لغة افلام الشهال هي منطوقها. افلام تتدلل على العالم، ببشرة حليبية وشعر أحمر فريزيه. الامر لديها لا يستحق التجريب. ابداً. كل فيلم مخلوق تام، لا صلة له بالأفلام الأخرى، بالمخلوقات الفيلمية الأخرى. ليس هذا نوعاً من انواع الجنون. بل ذكاء فطري براحة معنوية شبه واعية، شبه مدركة لما يدور في العالم، لما يحتاجه العالم. نوع من انواع الحدس الغريزي الفائق بلا تجارة. لأن الشهال ليست مضطرة الى كسب عيشها بعملها السينمائي. لذا: دخلت في المناطق الموحشة. حروب وصراعات دموية بلا نهاية. حفر جهنمية التهمت مئات الآلاف. ولم تتعب. اذاك: بنت رنده الشهال سينماها على عمود المنطقة الفقري. افترض هذا: مصارعة الدوار والعلل بإرادة حديدية وعناية فائقة. طقطقت الحكايات بأفلامها كما تطقطق قطع حطب كبيرة بالنار. أدهشتها افلامها قبل ان تدهش الآخرين. افلامها رسائلها الى ذاتها. رسائل خيبات العالم العربي. رسائل الاورام القاتلة. لم يسمح هذا بتطوير تقنية. هكذا، وجدنا انفسنا امام افلام بلا تواضع. افلام بلا مبضع. افلام مضعضعة. غير انها ضاربة. افلام ثابتة الفك متحققة قبل التحقق. ربما ارادتها كذلك. ربما حققت ما حققته لأنها ادركت انها عروس لم تمتلك افلامها من وحدة بوبينات ممنتجة بل من قوة حياتها. دارت حياتها وحدها في بوبين واحد بفائدة الحياة وبكل فرص تعميق الصداقات بالآخرين. لأن ما اخاف رنده الشهال دائماً: براءتها وما وراء البراءة هذه.

السفير اللبنانية في

14/05/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)