حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«الجانب الأعمي» من خارج الحياة إلي الدفاع عن الحياة

كتب محمود عبد الشكور

أسعدتني الظروف بمشاهدة أحد أجمل الأفلام الأمريكية التي نافست علي جائزة أوسكار أحسن فيلم، وحصلت بطلته «ساندرا بولوك» علي جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة في مارس الماضي.

أحدثكم عن فيلم (The Blind side) أو «الجانب الأعمي» الذي أخرجه وكتب له السيناريو والحوار «چون لي هانكوك» فجعل منه عملاً مختلفًا مؤثرًا رغم أنه يتعامل مع فكرة الصعود من أسفل إلي قمة الشهرة والنجاح، وهي فكرة استهلكتها أفلام كثيرة في معالجات تقليدية وسطحية. أما «الجانب الأعمي» فهو عمل شديد الذكاء.

فيلم أمريكي جدًا ولكنه إنساني جدًا جدًا. حكاية حقيقية عن حياة أحد مشاهير رياضة كرة القدم الأمريكية سجلها كتاب ألفه «مايكل لويس».

البطل الأصلي شاب أسود لعب لفريق «بالتيمور رافنيز» نشأ في منطقة عشوائية وكان مرشحًا لكي يكون مجرمًا وخارجًا عن القانون لأنه خارج بالفعل عن الحياة، ولكن تبني أسرة بيضاء له جعله مدافعًا وحاميًا للحياة. ليس في الفيلم هذا الإسراف الذي تجده في أفلام الرياضة الساذجة التي تتحول إلي ما يشبه النقل السينمائي للمباريات، ولكن هناك التوظيف الذكي للعبة ومصطلحاتها لخدمة فكرة الفيلم الاجتماعية والإنسانية العميقة. هناك أيضًا توازن محسوب بين لحظات الشجن ولحظات الضحك والسعادة، ولدينا كذلك ممثلون رائعون ليس أفضلهم «ساندرا بولوك» رغم أنها التي فازت بالجائزة ولكن الفيلم كله يسير علي أكتاف مشخصاتي أسود باذخ الموهبة والحضور والقدرات اسمه «كونتين آرون».

مفتاح الفيلم بأكمله في عنوانه: «الجانب الأعمي»، ويُستخدم هنا علي مستويين: المستوي الكروي حيث يشير المصطلح في كرة القدم الأمريكية وفي كرة القدم الأكثر شهرة التي يعرفها العالم إلي تلك المنطقة البعيدة عن الأنظار التي يستغل المهاجمون عدم وجود مدافعين فيها فيهاجمون منها ويحرزون الأهداف، وبطل الفيلم الفقير «بيج مايك» أو «مايك الكبير» العملاق هو الذي سيقوم بدور المدافع «السوبر» الذي سيحل هذه المشكلة حيث سيمنع كل المهاجمين من المرور من المنطقة العامية مصدر الخطر. ولكن المصطلح يأخذ معني أعمق عندما تعرف أن «مايك» هذا قادم من منطقة عشوائية علي أطراف المدينة الغنية «ممفيس» تستحق أيضًا أن تعتبرها منطقة عمياء. أنها أيضًا بعيدة عن العيون والأنظار، والمستنقع الذي يولد فيه أولئك الخارجون عن القانون حيث يهاجمون المدينة ويعيثون فيها فسادًا.

الفيلم الذكي والجميل يقول بطريق غير مباشر أننا لو طبقنا هذه القيم الأمريكية - التي هي أيضًا قيم إنسانية عامة للتحضُّر والتقدم - نستطيع أن نحول هذا المستنقع من مصدِّر للخارجين عن الحياة إلي مدافعين عنها، «مايكل أور» بطل الفيلم بأداء الغول «كونتين آرون» سيصبح مدافعًا في فريق كرة القدم، والذي يدافع عن فريقه سيدافع عن عائلته، وعن جامعته، وعن مدينته وعن وطنه. هذه هي رسالة الفيلم، وهذا ما يجعله أكبر بكثير من مجرد فيلم رياضي. لعبة كرة القدم هنا تحولت إلي معادل ذكي يقود الفكرة إلي آفاق واسعة.

يمكن أن نقول أيضًا أن «الجانب الأعمي» ينحاز بوضوح إلي فكرة الحلم الأمريكي التي تفترض أن أمريكا هي بلد الفرص المتساوية، وأن تحقيق النجاح رهن بأمرين: الموهبة وبذل الجهد، ولكن حتي هذه الفكرة تأخذ هنا آفاقًا إنسانية رحبة، يقوم البناء علي شخصيتين علي طرفي نقيض في كل شيء: «مايكل أور» وهو شاب في الثامنة عشرة قليل الكلام متأخر دراسيًا ضخم الجثة قادم من أسرة كثيرة العدد. الأب ترك الأم بعد قليل من مولده، والأم مدمنة للمخدرات تم إبعادها عن ابنها. كل ما يمتلكه جسد هائل، ومجرد فرصة لدخول مدرسة تتيح له استكمال تعليمه، ودخول فريق كرة القدم بها بعد أن أعجب به مدرب الكرة. والشخصية الثانية هي «ليّا آن» (ساندرا بولوك) التي تبدو كالعصفورة مقارنة بحجم «مايك» امرأة شديدة الثراء متزوجة من رجل أعمال يمتلك عدة مطاعم. لديها أسرة صغيرة مكونة من طفل صغير ومراهقة جميلة. هناك أيضًا منزل فاخر. بقدر ما يبدو «مايكل» كسولاً وصامتًا فإنها امرأة شديدة الحيوية ولديها عزيمة حديدية. بمعايير الحلم الأمريكي المحدود فقد حققت حلمها، ولكنها ستقرر أن ترعي «مايك» زميل ابنها الصغير في المدرسة. ستقنع زوجها وتحفزه للإقامة في المنزل.

ستمنحه سريراً لأول مرة في الحياة. ستعطيه رخصة قيادة بعد أن كان اسمه ساقطاً في كل المستندات الرسمية. ستصبح الوصية الشرعية له، وستجعله منتمياً حيث تعلمه أن يدافع عن فريقه كما يدافع عن عائلتها الصغيرة. دوافع «ليا آن» ليست محدودة لاتخاذ هذا الموقف من شاب لا تعرفه، قد يكون - كما قال الزوج لها بسبب تعودها علي العطاء للآخرين لأن ذلك يحقق لها الرضا، وربما بسبب شعورها بالذنب كأيرلندية بيضاء تجاه مجتمع أسود فقير، أو لأنها اكتشفت أن «مايكل» هو الذي غيرها وليست هي التي غيرته، أو ربما لأنها اعتبرته مشروعاً خاصاً وحلماً جديداً تريد تحقيقه، وهي سيدة ذات نظرة حادة لا يقف أمامها أي عائق. الحقيقة أن ترك دوافع «ليا آن» تجاه «مايكل» مفتوحة جعل الاحتمالات متسعة باتساع العواطف الإنسانية لدرجة أنها تعتبره ابناً جديداً لها.

في كل الأحوال اتسعت الدائرة كثيراً خاصة عندما اختار السيناريو الذكي أن يقدم القيم الأساسية التي ستوصل «مايكل» ورغم ظروفه الصعبة إلي النجاح، هناك أولاً الانتماء إلي عائلة التي هي أساس فكرة الانتماء عموماً، «مايكل» كانت لديه نوازع إنسانية تجاه أمه المدمنة التي كان يهرب منها ثم يعود إليها، فلما وجد أماً بديلة أصبح إنساناً ولد من جديد. وهناك ثانياً فكرة احترام المواهب والقدرات بصرف النظر عن أي شيء. ولذلك عندما تفوق «مايكل» رياضياً جاءه أكبر مندوبي الجامعات الأمريكية لكي يوافق علي الانضمام إليهم ومساعدتهم علي دعم فرقهم الرياضية، والقيمة الثالثة هي حرية الاختيار حيث يتم التحقيق مع الأسرة التي تبنت «مايكل» لمجرد أنها أشارت عليه بالانضمام لجامعة معينة، ولا يتم تصحيح الموقف. إلا عندما يختار هو ما يريد. ويتردد في الفيلم فكرة المجتمع المسيحي والمدرسة المسيحية والسيدة المسيحية الطيبة في مغزي واضح لأهمية الدين عموماً ليس باعتباره مجرد طقوس تؤدي في دور العبادة، ولكن لأنه يحمل ويدافع عن القيم الإنسانية التي لولاها لعاد الإنسان إلي الغابة، ثم يرتبط الخاص جداً بالعام عندما نسمع «مايكل» الذي تقدم دراسياً وهو يكتب موضوعاً للتعبير عن أولئك الجنود الذين تقدموا رغم موت قائدهم بحثاً عن الشرف وليس التماساً للشجاعة. يقول الفيلم ببراعة إن الذي ينتمي لأسرة سينتمي لفريق ثم لمدينة ثم سيعرف معاني الوطن والدفاع عنه والتضحية من أجله بشرف وشجاعة. السيناريو البديع الذي لا يعيبه إلا بعض التطويل في الجزء الأخير منه - يحفل بالمشاهد الإنسانية العذبة مثل لقاء «ليا آن» مع أم «مايكل المدمنة التي تبكي خوفاً من فقدان ابنها رغم اقتناعها بأنها لا تصلح لرعايته، ومثل العلاقة الإنسانية بين ابن «ليا» الصغير وبين «مايكل» الضخم، ومثل عثور «مايكل» علي أحد اخوته الكثيرين بالصدفة أثناء دخولهم أحد المطاعم، ومثل احتضان «ليا» لمايكل لأول مرة وهي تودعه ودموعها علي وجهها عند دخوله الجامعة، ومثل أيدي العائلة وهي تتماسك أثناء صلاة الشكر، الفيلم أيضاً حافل بالمواقف الكوميدية واللمسات الساخرة خاصة في مشاهد تعامل «مايكل» الخشن مع المهاجمين في الملعب، وفي مشهد قيام ليا بدور المدرب لدفع مايكل إألي التوقف ومثل مشاهد تدافع مندوبي الجامعات للحصول علي موافقة «مايكل» ليكون طالباً عندهم مع السعي لإرضاء أخيه الصغير الأبيض الذي بدا كمدير أعمال له. تفصيلات لا يمكن وصفها وإنما يجب أن تشاهدها حتي تعيش حالة مدهشة من البهجة والإحساس بالإنسان الآخر. في أحد المواقف تندهش «ليا» لأن «مايكل» الطيب خرج من بيئة ترتكب فيها كل الموبقات فيقول لها إن أمه كانت عندما ترتكب عملاً شائناً تطلب منه أن يغمض عينيه، وبعد أن يفتحهما تقول له: «انس الماضي» ولذلك تعلم منذ طفولته أن ينسي وأن يحترف إغماض عينه عن الشرور.

نجح المخرج أيضاً في إدارة ممثليه جميعاً، رغم أن دور «ساندرا بولوك» لم يكن عظيماً بأي حال. ربما كانت إضافة «ساندرا» في اللمسات الكوميدية، ولكنها بدت أحياناً كمديرة أعمال للاعب كرة أكثر من كونها «أماً» بديلة، ولا ننسي الحضور الفائق والأداء الكوميدي المدهش للطفل «جاي هيد» الذي لعب دور ابن «ليا» الصغير، ولكن العرض بأكمله، والبطل الفعلي هو «كونتين آرون» في دور «مايكل أور» لقد ابتلع الجميع وامتزج بالشخصية فقدمها بكل تفصيلاتها: مشيتها المتثاقلة، وجهها الذي يخلو من التعبير ثم يلين ويبتسم عندما يشعر بالرعاية بقدرته البدنية في أداء الحركات الرياضية العنيفة داخل الملعب. حضوره الطاغي في مشاهد كثيرة لا ينطق فيها بكلمة واحدة. قدراته الكوميدية الواضحة خاصة في مشاهد اختياره لملابسه العجيبة التي تشتريها له «ليا» هذا مشخصاتي قدير من طراز رفيع في دور عمره. الحالة كلها جيدة الصنع تقول أشياء مهمة عن الإنسان ككائن قادر علي تغيير كل شيء بشرط أن يساعده المجتمع.

هنا «روشتة» نجاح مضمونة لمن أراد أن يستفيد. الجانب الأعمي فيلم عن كيفية تحويل الإنسان من مهاجم افتراضي إلي مدافع يحمي مجتمعه وأسرته ووطنه، إنه درس إنساني رائع لو لم تصدقه انتظر لمشاهد عناوين النهاية حيث صور البطل الحقيقي للحكاية مع أسرته البيضاء ووسط الجمهور في ملاعب الكرة، وبعيداً عن «المنطقة العمياء» التي جاء منها لكي يدافع عن «المنطقة العمياء» في الملعب!

روز اليوسف اليومية في

12/05/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)