حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

حوار

العراق أرض لـ 300 مليون فيلم سينمائي تبحث عن مخرجين

محمد الدراجي يطرق أبواب الأمهات ويصنع سينما لنفسه أولاً

هوفيك حبشيان/ دبي...

مَن تابع جزءاً من الحركة السينمائية الناشئة بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق، لا بد أن يكون قد شاهد "أحلام" لمحمد الدراجي، الذي عثر فيه انذاك المخرج الفرنسي ايف بواسيه على أجواء من بونويل، بعدما أخذته حماسة لا شك انها تبددت اليوم. كان ذلك عام 2006 وفي الدورة الأخيرة من بيينال السينما العربية في باريس، حين طرح الدراجي فيلمه هذا، فبدا هذا الشاب متحمساً لمنجز عراقي خالص يعوض عن سنوات من الصمت والكتمان، وكان يردد دائماً مقولة التصقت به: "العراق أرض خصبة لصناعة السينما"، مؤكداً ان هناك على الاقل 300 مليون قصة تراكمت في العراق خلال عقود من الديكتاتورية، أي ما يعادل عشر قصص لكل فرد.

في تشرين الأول من العام الماضي، عاد الدراجي الى السينما مع فيلمه الروائي الطويل الثاني، الذي كان يُحكى عنه انه سيكون لافتاً. فعلاً كان اطلاق "ابن بابل" في مهرجان ابو ظبي، الذي دعم الفيلم من البداية، صاخباً، ومن هناك بدأ يشق طريقه الى المهرجانات، من ساندانس الى برلين. بقصة بسيطة وبأسلوب سلس توجه به الى جمهور عالمي واسع، صوّر "ابن بابل" رحلة أم عراقية كردية من شمال العراق الى جنوبه بحثاً عن ابنها في المقابر الجماعية. تصوير حرفي، نص سليم، إخراج على قدر من الادراك، نجح الدراجي في رهانه الى حدّ كبير، وإن حمل الفيلم عاهات كثيرة، أهمها تيهه في منطقة سينمائية قاحلة بين رغبته في ارضاء الجميع وعدم قدرته على الارتقاء بالمأساة العراقية من جانب، وفقدان الصلة بالواقع العراقي جراء تعاطيه معه من دون مسميات من جانب آخر. لكن الفيلم قال ما يود قوله في العراق، وإن بحذر شديد، متفادياً المطبّات التي يقع فيها السينمائيون ما إن يتكلمون عن ضحايا الحروب والصراعات والأنظمة.

هذا الفيلم يضع اليوم الدراجي وأبناء جيله أمام استحقاق جديد تتصدره أسئلة وهموم كثيرة تؤرق السينمائيين العراقيين. حالياً، فتحت أمامهم أبواب الانتاج والتعبير، لكن علينا أن ننتظر لنرى ما اذا كانت سينما المرحلة المقبلة ستليق بمأساة العراق وبذاكرته. الأكيد الى الآن أن الرغبة موجودة، والاصرار يتكرر، والادراك يرتب له مكاناً وسط فوضى التكوين، وهذا ما يؤكده لقاؤنا مع الدراجي الذي جرى في مهرجان الخليج السينمائي (8-14 الجاري).

·         تعلمت السينما وأنت تختبرها "على الأرض"، أليس كذلك؟

- لا، بل درستها في بريطانيا في قسم ادارة التصوير السينمائي، بعدما كنت قد تخرجت من معهد بغداد للفنون الجميلة. في بريطانيا حزت شهادتي ماجستير، واحدة في الإخراج وثانية في التصوير. لكن الشغل "على الأرض"، كما تقول، أفادني كثيراً. السينما لا تستطيع أن تتعلمها على الورق.

·         هناك تطور نوعي بين "ابن بابل" وفيلمك السابق "أحلام" [2006]، سواء في التقنيات أو في اللغة السينمائية...

- (ضحك). لِمَ العيش إذا كنا سنظل في مكاننا ولا نتطور؟ في هذه الحال، الأفضل ان نقتل أنفسنا. عدم التطور مشكلة حقيقية. علينا أن نكبر لتكبر معنا أعمالنا. وكذا بالنسبة الى نظرتنا إلى الحياة.

·         هذا الفيلم كان في بالك حتى قبل مباشرة "أحلام"؟

- نعم، كنت أتهيأ لتصوير "أحلام"، وكنت أمشي في شارع الرشيد حين سمعت على الراديو خبراً يعلن اكتشاف مقابر جماعية في مدينة بابل. كان هذا عام 2003. فخطرت على بالي مباشرةً عمتي المسكينة التي فقدت ابنها خلال الحرب العراقية – الايرانية. وكانت دائماً تبكي عليه، حتى خلال المناسبات السعيدة والأفراح. كنت صغيراً ولم أكن افهم هذا السلوك. كنت أتساءل: لماذا تبكي فيما نحن نرقص؟ أحدثك عن فترة الثمانينات. إذاً، هذه الذاكرة انطلقت لحظة سماعي خبر المقابر الجماعية، فرحت اتخيل قصة أمّ تبحث عن ابنها ونراها تذهب الى بابل. ثم تخيلت شخصية الحفيد الذي اعتبره بديلاً مني، مجسداً النظرة التي كانت لي طوال هذه السنوات حيال عمتي المفجوعة. ثم تطورت الحكاية: قرأت في الجريدة عن قصة أم كردية قامت بالرحلة نفسها التي نصوّرها في الفيلم، إذ قطعت العراق من شماله إلى جنوبه بحثاً عن ابنها في مرحلة ما بعد السقوط. كان موضوع الجريدة بسيطاً، فقمت بتطويره. باشرت الكتابة مع مثال غازي وكاتبة بريطانية. ثم أخذ المشروع بُعداً آخر من طريق معهد ساندانس الذي ساعدنا في جعل السيناريو أكثر تماسكاً. وهكذا كان.

·         هل كان مقرراً ان تأخذ الحكاية شكل "رود موفي" منذ اللحظة الاولى؟

- آه طبعاً، منذ اللحظة التي طُرحت فيها فكرة أن تأتي أمّ من الشمال إلى الجنوب. تطورت فكرة الـ"رود موفي" وتطورت معها الشخصيات. أنا دائماً استقي شخصياتي من ناس قريبين اليّ. أفضّل التحدث عن ناس اعرفهم وأفهمهم. فاذا أردت مثلاً ان انجز فيلماً عنك، فسأقدم على تطوير الشخصية التي تسكنك من طريق معرفتي بك. شخصية الجندي مثلاً استوحيتها من ابن عمي الذي حارب مع الجيش الايراني في شمال العراق. أتذكر الحكايات التي كان يرويها لي في طفولتي حين كان يأتي من الجبهة. أخذت هذه القصص وبلورتها الى ان صارت الفيلم الذي شاهدته.

·     أنت من جيل سينمائيين عراقيين يقيمون في الخارج ويعملون هناك. هل باتت اليوم السينما بالنسبة اليك وطناً بديلاً، وطناً ثانياً في غياب الوطن الحقيقي؟

- السينما وطني وحياتي أيضاً. أنا اليوم أشعر نفسي مثل الطائر، أتنقل بين العراق وبريطانيا، بين شرق وغرب. أنا غداً مسافر الى اسطنبول، ومن هناك سأذهب إلى سان فرنسيسكو ثم أعود إلى بغداد فبريطانيا، ومرة جديدة إلى سياتل الأميركية. هذا كله لأعرض فيلمي وأحضّر لفيلم جديد.

·         هل قمت بالرحلة ذاتها التي أجرتها الأم قبل البدء بالتصوير؟

- نعم، التحضير تطلّب مني سنة كاملة، اخترت خلالها الممثلين والمواقع. كنت أريد أن أعيش اللحظة. خلال عامي 2008 و2009 اعتقد انني أكثر شخص سافر في هذا العالم. كنا نستطلع مواقع التصوير وندرس جوانبها الأمنية حرصاً على سلامة الناس وتفادياً للوقوع في الأخطاء التي وقعنا فيها خلال تصويرنا "أحلام".

·         ما أكثر شيء لفتك خلال قيامك بهذه الرحلة؟

- أولاً، اكتشفت بلادي، واكتشفت الثقافات الموجودة فيه. كل ما تراه في الفيلم من مواقع تصوير كان جديداً بالنسبة اليَّ. لم يكن من الممكن الذهاب الى الذكورة، لأنها كانت معسكراً للأميركيين. ضغطت عليهم كي يسمحوا لي بالتصوير. بابل، السليمانية، الجبال، وكذلك الناصرية والصحراء، كلها مناطق اكتشفتها وانا أصوّر الفيلم!

·         هل واجهتك أخطار أمنية؟

- لا. لكن عندما تكون في بلد كالعراق لا بد ان تواجهك أخطار. في أي لحظة انت تحت الخطر. لكن من المفرح أنني لم أواجه ما واجهته خلال "أحلام". الجيش والشرطة العراقيان توليا حمايتي.

·     الانتاج بريطاني، فرنسي، هولندي، اماراتي، مصري، عراقي، فلسطيني... يا إلهي، كيف استطعت ضم كل هؤلاء تحت قبة واحدة؟

- (ضحك). انه خلاصة ثلاث سنوات عمل. بالنسبة الى الطرف الفلسطيني، كنت التقيت رشيد مشهراوي ورويت له القصة فأحبها وأراد مساعدتي. قال لي: سأجد لك تمويلاً من فرنسا. في ما يختص بريطانيا والعراق فنحن لدينا علاقات مهنية سابقة مع البلدين، اما بالنسبة الى الدعم الذي جاءنا من هولندا، فأنا أحمل الجنسية الهولندية. بالنسبة الى الامارات، كنت مسافراً الى السعودية صحبة بدر بن حرصي، فأراد الاستعلام عن فيلمي، وحين فعلت أعجبته الفكرة فربطني بنشوة الرويني التي بدت مهتمة بالمشروع. اما الجنسية المصرية فاكتسبها الفيلم بعد دخول "أي آر تي" على الخط.

·         هل خشيت الوقوع في مطبات التسييس؟

- كنت أخشى ان أبدو مسيساً. لم أكن أريد فيلماً عن الأكراد فحسب او فيلماً عن العرب فحسب. هذا الفيلم ليس عن الشيعة وليس عن السنة. كذلك لم أرده ضد الأميركيين مئة في المئة ولا ضد صدام حسين مئة في المئة. كنت أريد الوقوف مع الانسان. كذلك أخرجت الى النور هذه الأم الكردية العراقية المسلمة. في بداية الفيلم عندما تؤدي الصلاة، لا نعرف ما اذا كانت هذه صلاة شيعية ام سنية.

الأسماء التي اخترتها كذلك كانت اسماء "عالمية" كإبرهيم وأحمد وموسى، هذه كانت مسألة جد مهمة بالنسبة اليَّ. في العراق لدينا حساسية تجاه هذا الأمر: يحسبونك على جهة معينة استناداً الى اسماء الشخصيات.

·         أليس هذا هروباً من الواقع؟

- لا، لماذا يكون هروباً؟ اخذت نماذج من الواقع الذي شاهدته بأم عيني. هذه المرأة الكردية، الأم والزوجة، علّمتني الكثير. منذ 22 سنة لم تر زوجها. لا بل سُجنت خلال 5 سنوات في سجن نقرة السلمان وفقدت حفيدها. كانت مسجونة برفقة مجموعة نساء عربيات، الواحدة منهن كانت تحمي الاخرى من الاغتصاب. في السجن تعلمت اللغة العربية. هذه المعاناة جعلتها تتعالى على المنطق الطائفي. فلماذا سيأتي محمد الدراجي ويتكلم عن المعاناة من وجهة نظر طائفية؟ خلال حروبه، قتل صدام اناساً من جميع الجنسيات، من كويتيين الى ايرانيين واكراد وشيعة وسنة. قتل حتى الرجل الذي تزوج ابنته ولم يستهدف طائفة اكثر من اخرى، على رغم الضغط الذي كان يُمارَس على طائفة معينة. عندما كنت اسأل عن طائفتي في الصحافة الغربية، كنت اردّ بأنني عراقي.

·         هل تنوي مواصلة التنقيب في الواقع العراقي الشائك ام ان لديك اهتمامات اخرى تلوح في الافق؟

- هذا الفيلم كان مناسبة لاطلاق حملة عالمية للمفقودين في العراق. انا مهتم بالعراق لأنه يمثل عائلتي وناسي. صديقي يحيى يقول دائماً ان العراق ارض خصبة لصناعة السينما. لكل انسان عراقي عشر قصص في جعبته. اضربها بـ30 مليوناً تحصل على 300 مليون فيلم سينمائي.

·         الممثلون غير المحترفين، اين وجدتهم؟

- ما عدا بشير موسى الذي مثل في "احلام" وهو محترف، الام والطفل وجدتهما في احدى القرى. كنت ابحث انا والشباب في شمال العراق، في قرية تدعى الصمود. في كل مرة كنت اطرق فيها باب احدهم، كانت تفتح لي امّ تروي لي قصتها. كنت امضي وقتي في طرق الابواب. كل الامهات اللواتي فتحن لي الباب، بكين الا هي. وهذا ما جعلني التفت اليها. كان شرطها لتعمل معي ان اجد لها زوجها. عمرها الآن 53 سنة وفُقد زوجها حين كانت في الـ32. لم ترد التمثيل لا من اجل المال ولا من اجل الشهرة، كل ما كانت تريد هو ان ازودها معلومات عن زوجها تساعدها في العثور عليه. من هنا كانت فكرة اطلاق الحملة العالمية للمفقودين في العراق.

·     كانت سابقة في برلين ان يخرج رئيس وزراء أحد البلدان ليتكلم عن فيلم [سبق العرض شريط مصور يتكلم فيه نوري المالكي عن الحملة العالمية للمفقودين]، ما الغاية منه؟

ما رأيك أنت؟ (يقولها وعيناه تبرقان).

·         حظيتم بمعاملة خاصة جداً!

- في برلين كان الاعلان عن الحملة، وكي تأخذ الحملة صفة رسمية كان اللجوء الى رئيس الوزراء، علماً انني لم ألق دعماً رسمياً، وهذا مدعاة فخر لانني مستقل. اؤمن بأنه علينا إيصال رسالة لمن لا يدرك بعض الحقائق المرتبطة بالعراق. لذا ارى ضرورة ان نضعه امام واقع ان هناك فيلماً سينمائياً عن المقابر الجماعية، علما ان المالكي حين ألقى ذلك التصريح لم يكن شاهد الفيلم قط. هذه كانت فكرتي ان اجلب هؤلاء كلهم. ذهبت الى العراق لهذه الغاية. اتيت بمسؤولة وزارة الخارجية في المانيا وبسفير العراق في المانيا وايضاً بالسفير الالماني في بغداد، كل هذا لإيصال رسالة مفادها ان السينما يمكنها ان تغير شيئاً، لا بل أشياء.

·         الآراء في الفيلم كانت الى حد ما ايجابية. هذه الايجابية أليست مضرة لمخرج في مثل تجربتك؟

- لا، انا اعرف اخطائي جيداً. لا اخشى الرأي الايجابي. كي أباشر فيلماً ثانياً، عليَّ ان ادرك اخطائي في هذا الفيلم. نحن السينمائيين نصنع الأفلام كي نقع في الأخطاء. نصنع الأفلام كي نستمر في الحياة، ولأننا لا نستطيع بلوغ الكمال.

·         ما اخطاؤك.

- (ضحك). لن افصح عنها. لو قلت كيف صنعت هذا الفيلم لذهلت. على الانسان ان يصل الى مرحلة من الرقي، لكن، لا يستطيع ان يصل الى الكمال. في هذا الفيلم وصلت الى نقطة معينة من الرقي، وعليَّ ان اتخطاها في العمل المقبل. وسأظل اسعى الى التقدم في سلّم الرقي الى ان يأتي يوم اقول فيه "كفى ما فعلته في السينما"، وانضم الى منظمة انسانية. لدينا الكثير من الأيتام في العراق...

·         همك انساني اكثر منه سينمائياً؟

- نعم!

·         أخيراً، ما هي تساؤلاتك وانت تخطيت الثلاثين؟

- (ضحك) آه، الحياة تمر... آخ... تجاوزت الثلاثين ولا ازال عازباً، ولم ارتب حياتي ولا املك سيارة او تلفازاً. للرد على سؤالك، سر الوجود هو الذي يقلقني. لماذا انا، محمد الدراجي، موجود في هذا العالم؟ اؤمن بالقدرة الالهية، لكن اتساءل الى اين أصل بوجودي؟ هل وجودي تكميلي؟

·         هل السينما تأتيك بأجوبة مقنعة؟

- هذا ما انا ابحث عنه، لذلك قلت انني قد أوقف السينما حين اصل الى مرحلة معينة. فأفضل وسيلة للبحث عن الذات هي السينما. لنكن واقعيين: كمخرج، لمن انجز الأفلام؟ لا انجزها لغيري. انجزها أولاً لنفسي.

(hauvick.habechian@annahar.com.lb)

 

غياب

سوتيغي كوياتيه اختتم حياته كما يليق بممثل كبير!

الافريقي الذي لم يَخَف من النظر في عين الآخر

كان ذلك في الدورة ما قبل الأخيرة من مهرجان برلين. انذاك نال سوتيغي كوياتيه جائزة أفضل تمثيل عن دوره في "نهر لندن" لرشيد بوشارب. لم يكن هناك في تلك الدورة من يستحقها أكثر منه. كنا نجهل عندئذ ان شخصية الرجل المسنّ الذي يأتي الى لندن لمعرفة مصير ابنه الذي قضى خلال الهجمات الإرهابية التي هزّت العاصمة البريطانية في السابع من تموز 2005، ستكون آخر دور يضطلع به على الشاشة. لكن، أياً يكن، فنحن أمام دور يحلم كل ممثل أن ينهي حياته به، لأنه خلاصة كل الأدوار وامتداد لما لقنته اياه حياة حكيمة عاشها بين قارتين، وهذا ما جعله شخصية نموذجية في عيون أجيال أفريقية عدة. من جملة الأهداف، كان بوشارب يريد أن يُُري في "نهر لندن" رجلاً افريقياً في خريف عمره يسافر من أجل أن يشاهد بأم عينيه ما حلّ بالافارقة المهاجرين الى أوروبا، وما الذي حفّزهم على الرحيل والعيش هناك. عدد من الأفلام تصور الأميركيين الأفارقة يعودون الى قارتهم بحثاً عن جذورهم. كوياتيه أراد الذهاب في الاتجاه المعاكس.

عنه لم نعرف الكثير، سوى انه ولد في باماكو عام 1936، وخاض في القارة القديمة تجربتي المسرح والسينما وارتبط اسمه ببيتر بروك لكونه أحد الممثلين الذين استعان بهم المسرحي البريطاني باستمرار، تمثيلاً وتعاوناً. له سجل في التمثيل يمتد على أكثر من اربعة عقود، بدءاً من منتصف الستينات، وهي الفترة التي ترك فيها مهنته الاساسية، لاعب كرة قدم، ليلتحق بخشبات المسرح في العاصمتين الفرنسية والبريطانية، مقدماً "ماهابهاراتا" و"هاملت"، منتهياً به الأمر الى تأليف فرقته التمثيلية الخاصة.

يصعب تحديد هوية هذا العصامي ذي القامة المهيبة والاطلالة الأفريقية الكاسرة التي تجعلك تعتقد للوهلة الاولى ان صاحبها رجل قاس قبل أن تعيد حساباتك فتتلقاه طفلاً ينام في جسد رجل. لعل أكثر ما كان يميزه، هو ثقافته المتعددة، اذ يقول عن نفسه انه غينيّ الأصل وماليّ الولادة ومن بوركينا فاسو بالتبني. كانت افريقيا تسكنه بكل جمالها وألمها وآمالها. وكان يحزنه أن تكون هذه القارة مصدر سوء فهم لدى غير الأفريقيين، ولكن أيضاً وخصوصاً، لدى الأفريقيين نفسهم. كان يقول إن لكل أفريقي واجباً حيال أفريقيا ما دام يحمل هذه البقعة الجغرافية في داخله. كلمة "أفريقيا" وحدها كلمة في منتهى السطحية، ردّد مستهجناً. تبلغ مساحة هذه القارة 3 ملايين كلم مربع، أي ما يعادل مساحة أوروبا، الولايات المتحدة، الصين والأرجنتين مجتمعة، وليس في الامكان تالياً التحدث عنها كما لو كانت عبارة عن تجمّع صغير من الناس. أما السينما التي كان يحلم بها، فهي تلك التي تعلمّ المرء الا يخاف من النظر في عين الآخر حين يقابله. "اذا كان لديك ما يكفي من الشجاعة لفعل ذلك، فسينتهي بك الأمر الى أن تكون لك رؤية أفضل عن نفسك"...

 

مهرجان

آفي مغربي في بيانو بار إسرائيلي

في الدورة الخامسة من "أشغال داخلية" التي تجري حاليا في بيروت، عُرض فيلم المخرج الاسرائيلي آفي مغربي "Z 32"،  (العروض الأربعة الأخيرة له اليوم وغداً الساعة 12:00 و 19:00 في "بيروت آرت سنتر")، الخارج عن التصنيف، اذ فيه من الأشياء المتناقضة الكثير، وهذا ما جعل المخرج ينعته بالميوزيكال التراجيدي. كيف لفيلم يفضح جرائم الجيش الاسرائيلي أن يكون غنائياً؟ وحده مغربي يستطيع أن يتهكم على موضوع سقيم كهذا. الفيلم عبارة عن استجواب لأحد الجنود الذين شاركوا في عملية ثأر فظيعة. ينتزع مغربي الكلمة من فم العسكري ليحولها اغنية يتساءل فيها، أو بما معناه، كيف وصلت به الحال لينجز فيلماً عن مجرم حرب! على رغم أن الكلام هنا عن قتل ودمار ووحشية، فالمخرج يضعنا في جوّ من البيانو بار والكاريوكي، متأملاً، كعادته، في مهنته، سينمائياً، في حمأة نزاعات لا شأن له فيها. ولا يكتفي مغربي بهذا القدر، بل يسخر من التقنيات المستخدمة في التلفزيونات عادة والتي تخفي وجه المشتبه فيهم، من خلال لعبة الحجب والاسفار التي تنتهي هنا بجعل الجندي مجرد هدف رخيص.    

من المعروف عن مغربي انه ينتقد السلطة الاسرائيلية مستخدماً أموالها. وهو الشيء الذي فعله في فيلمه ما قبل الاخير "من أجل احدى عينيّ". رأيناه أيضاً يبكي في حوار تلفزيوني ويقول: "عار علينا هذا الجدار!"، في اشارة الى جدار الفصل بين الفلسطينيين والاسرائيليين. أفلامه اعتادت ان تثير اسئلة متصلة بالسياسة والدين والمجتمع في بيئة اسرائيلية يصعب انتقادها من دون أن يتهم صاحبها بالخيانة. بعدما تحول على مدار سنوات طويلة لسان حال المخرجين، ولا سيما اولئك القادمين من العالم الثالث، واحتضن كذلك قلقهم ازاء أوضاعهم الداخلية. وكان مغربي الى الآن فناناً مسالماً ومشاغباً في الآن معاً (الواحد لا يمنع الآخر)، ومعارضاً شهيراً لسياسة بلاده القمعية والظالمة والعنصرية ازاء الفلسطينيين.

يشيد مغربي فيلمه بعيداً من تلك الاساطير التي تدفع بالبطولة والتضحية الى الواجهة. أما النظرة التي كان يرميها المخرج على النزاعات التي تشهدها الاراضي المحتلة، والتي كانت تتسم بالانفتاح وتؤمن بالحوار من أجل التوصل الى حلول ترضي الجميع، استبدلت هنا بمونولوغ هزلي يلقيه بلا أي احساس، وكأنه صنم من أصنام متحف

 

خارج الكادر

ضحـــايــــا!

كان أحد المسؤولين في أمبراطورية سينمائية هي الأقدم في لبنان، يبتسم بشيء من الازدراء وهو يعلن لي ان فيلم غسان سلهب الوثائقي "1958" لم يجذب الا 150 مشاهداً طوال فترة عرضه في "متروبوليس". هو كان يبدي امتعاضه من فيلم جوسلين صعب "شو عم بيصير؟"، المبرمج للأشهر المقبلة، الذي لا يمكن ان يشاهده المرء الا ثملاً أو محششاً. لم استطع اقناعه بأنه ينبغي ترك هامش لهذه السينما حباً بالتنوع، ليس لأن الكلام عن هذا الموضوع صار مملاً من فرط استهلاكه، ولكن لأن من أحادثه تاجر ولا يعنيه الا ما يجنيه جراء توزيع الأفلام واستثمارها في صالات. لا شك أن آخر همّ عنده تنمية ذوق الأجيال الجديدة على سينمات العالم كلها وليس على سينما واحدة. ربما له الحق في عدم الاكتراث بالسينما التي "توجع الرأس" لأن مثل هذه السينما تدعمها في الغرب مؤسسات عامة تابعة للدولة وليس للموزعين، الذين بدورهم يتلقون مساعدات للتمكن من حماية الفيلم الصعب.

بيد انه، في بلد مثل الذي نعيش فيه، ليس من جهة رسمية تسعى الى مساندة السينما الصعبة (بالمفهوم التجاري) سواء مادياً أم معنوياً. فما بالك بالسينما اللبنانية؟ وإن وجدت هذه المؤسسة، فهي بذاتها عبء، فائدتها "حبر على ورق"، وعملها ارسال بيانات لا يقرأها أحد. لقد اعتدنا، والحال هذه، على رجم ايّ كان بأقرب حجر في متناول اليد، في حين ان هذا التقصير آت من المؤسسات الرسمية التي تشكل عبئاً على المجتمع اللبناني برمته. هذه الأفلام في حاجة الى نفَس طويل في الصالات، لكن الصالات مستعجلة. تريد توسيع انتشارها ومنافسة بعضها البعض، والاستعداد لموسم سينمائي لاستقطاب المشاهدين الخليجيين والمغتربين.

دعونا نكون واقعيين: في مثل هذه الظروف، كيف نحمّل المسؤولين عن السينما في لبنان أكثر من قدرتهم على التحمل، وخصوصاً عندما لا يظفر فيلم لبناني صعب بترحيب الجمهور، المعني الاول بالفيلم اللبناني؟ لا سيما ان ظاهرة سحب الأفلام الصعبة من السوق اكتسحت حتى بلداناً "محصنة" مثل فرنسا. فأخيراً نزل الى الصالات في باريس الفيلم الجديد لجاك دوايون، وأمام الاقبال الضئيل عليه، سُحب من التداول، لينحصر عرضه في الصالات الصغيرة فقط.     

رواية ما يسمّى السينما اللبنانية لما تزل مغامرة فنان طائش خارج على السرب، في بلاد استبدلت ارقى مدرسة للصورة بالفيديو كليب والحماقة التلفزيونية. مغامرة السينما في بيروت مرهونة بالتحديات والاقدار الخائبة، وقائمة على مبادرات فردية. واليوم يضاف اليها الاهمال الرسمي والشعبي والمهني. صفعة تضاف الى صفعات أخرى كثيرة...

•••

شيء مخجل أن نسمع أشخاصاً يدّعون انهم ممثلون فيصرحون بأنهم لا يقبّلون أمام الكاميرا. نعم، سمعت بهذا على احدى المحطات المحلية ولم أصدّق، وحين بدأت بالتصديق، تمنيت لو تنشقّ الأرض وتبتلعني. السينما والقبلة تاريخ واحد، وسنوات طويلة من النضال ضد المحافظين وحراس الأخلاق الحميدة. في افلام هذه المنطقة ومسلسلاتها، لا تزال القبلة تبحث عن شفتين، ولا تجدهما. القبلة، عندما تكون فعلاً مرغوبة من الطرفين، هي اسمى ما في الوجود. وليس على السينما ان تتجاهلها مهما تكن طاعة الأشخاص عمياء الى دينهم او تفسيرهم الخاطئ للأخلاق. من منا لا يذكر في ايطاليا الكاثوليكية، ذاك المشهد من فيلم "سينما باراديزو" لتورناتوري حيث يقرع المطران الرقيب الجرس الذي يحمله في يده انذاراً، في كل مرة كان يطول فيها زمن القبلة على الشاشة؟ هذا كله فعله الفيلم على طريقة الكاريكاتور وفي اسلوب يحاكي اللائحة السوداء التي كانت تفرضها الكنيسة الصقلية المتعصبة. هذا المطران الرقيب لا يزال يسكن قلب "الممثل" الذي يرفض التقبيل ليولّد أجيالاً قادمة من الرقباء المكبوتين!

•••

سمعنا أخيراً باعتزام البرنامج الكوميدي الأميركي الجدلي "ساوث بارك" تقديم شخصية النبي محمد، وهو كما نعلم شخصية منزهة من التجسيم في الاسلام. جماعة إسلامية في أميركا هددت المنتجين مذكِّرة بما حدث لتيو فان غوغ، ذلك المخرج الهولندي الذي قتل لأنه تجرأ على صنع فيلم عن الاسلام.

كتب محمد رضا غاضباً في مدونته: "الليبيراليون الغربيون لا يفهمون عما نتحدّث فيه حين نقول إن هذا المس ممنوع (...). لكن ردّنا المعتاد أسوأ إدانة لنا (...). والحادثة بأسرها ألّبت المزيد على المسلمين كقوم متحجّرين ومتطرّفين ولا يفقهون سبل التعامل والتواصل ولا حتى يقدّرون النكتة وهي الإتهامات التي كيلت لنا جميعاً أيام الرسوم الدانماركية الشهيرة التي واجهناها بتظاهرات غاضبة ومقاطعة الجبنة وحليب الدانماركيين... ربما لأسبوعين او ثلاثة. هل نعمد الى الترهيب والتخويف والتظاهرات في كل مرّة؟ هل هذا دورنا الوحيد؟ هل هو الدور المطلوب؟ (...). علينا، يا حكومات ويا مسؤولين ويا أصحاب الفتاوى والمتديّنين، أن نغيّر هذا السلاح المفتون بالعنفوان العاطفي الفارغ، وأن نخرج من هذه القوقعة، وأن نجهد لتحقيق إنجازات ترفع من قيمة الإنسان في وطننا وتمنحه أولاً الثقة وثانياً أدوات الإبداع وثالثاً الإمكانات لكي يساهم في تقدّم هذا العالم بعدما فشل كل شيء آخر في تفعيل هذا التقدم". 

هـ. ح.

 

الخميس المقبل في "أدب فكر فن - سينما"

عن "الكاتب الشبح" لرومان بولانسكي.

بورتريه لمسعود أمرالله.

هذا البرنامج قابل للتغيير.

 

عندما هاجر والداي من ايرلندا الى اميرك

عندما هاجر والداي من ايرلندا الى اميركا بحثاً عن الثروة، كانت تسكنهما فكرة أن الشوارع في أميركا معبدة بالذهب. ولدى وصولهما، لاحظ والدي ثلاثة أشياء: أولاً، أن الشوارع لم تكن معبدة بالذهب. ثانياً، أن الشوارع لم تكن مزفتة حتى. وثالثاً، كان يُعتمد عليه من أجل تزفيتها.

(برت لانكستر)

النهار اللبنانية في

29/04/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)