حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«الترحيب والوداعات» و«1958» في افتتاح «شاشات الواقع»

شعر الحياة الشخصية لغسان سلهب

نديم جرجورة

بدأت الدورة السادسة لـ «شاشات الواقع» مساء أمس الأول الثلاثاء. التظاهرة الوثائقية باتت محطّة مهمّة في المشهد السينمائي اللبناني. تنظّمها «البعثة الثقافية الفرنسية في لبنان»، بالتعاون مع «جمعية متروبوليس» و»مهرجان مارسيليا للأفلام الوثائقية». تُعرض الأفلام في صالة سينما «متروبوليس/ أمبير صوفيل» لغاية الواحد والثلاثين من آذار الجاري. «جمعية أمم» مشاركة فيها. تفتح صالتها في «الهنغار» الثامنة مساء الجمعة في الثاني من نيسان المقبل، لعرض فيلم «بحثاً عن حسن» لإدوارد بو.

اختير فيلمان اثنان لافتتاح الدورة المذكورة: «فيلم الترحيب والوداعات» لكورين شاوي و»1958» لغسان سلهب. هنا قراءة لفيلم سلهب.

بدأت التظاهرة. أفلام متفرّقة تُقدّم صُوَراً جمّة عن وقائع وحالات. الفيلم الوثائقي بخير. هذا ليس تعليقاً نقدياً. بل محاولة لوصف الانفعال بما هو عليه. «شاشات الواقع» انعكاس لهذا كلّه. ليس المهم معرفة الجنسية أو جهة الإنتاج. الأهمّ كامنٌ في أن الدورة السادسة للتظاهرة المذكورة هذه كشفٌ للمآل التي بلغها الفيلم الوثائقي. كدت أقول إن الفيلم الوثائقي اللبناني بخير أيضاً. لكن الخلل مستمرٌ في تفتيت مستوى راق بلغه إنجاز هذا النمط السينمائي، لأن مخرجين عديدين لا يملكون حدّاً أدنى من الوعي المعرفي والمخيّلة الإبداعية. التظاهرة جزءٌ من المشهد العام. مدخلٌ إلى فهم المتغيرات الحاصلة في الصناعة المتطوّرة للفيلم الوثائقي، وإلى متابعة أحداث العالم والمجتمعات والأفراد. ثلاثة أفلام لبنانية مشاركة ارتكزت على الحكاية الفردية: «1958» لغسان سلهب و»هشّ» لرين متري و»أمي، لبنان وأنا» لأولغا نقّاش. الفرد أساسي في قراءة الصورة العامة. هذا تكرار لكتابة سابقة. لم يعد الفرد غائباً في الجماعة، لأنه بات درباً إليها. أو حالة مستقلّة عنها. لم أشاهد الفيلم الأخير لمتري. لم أشاهد الفيلم الوثائقي الجديد للمخرجة اللبنانية كورين شاوي «فيلم الترحيب والوداعات» أيضاً. لكن فيلمي سلهب ونقّاش حفرا في أعماق الذاكرة الفردية والانفعال الذاتي، بالاستناد إلى مفردات سينمائية مختلفة. التعريف بـ»هشّ» واضحٌ في تأكيد مقولة الفرد وحضوره الأساسي في الفيلم. الفرد حاضرٌ، سواء كان مخرجاً أم شخصية أم عقلاً أم تفكيراً أم إبداعاً أم منهجاً في الاشتغال البصري. هنا، الفرد مرتبط بالمخرج مباشرة: إنه المخرج نفسه، غالباً. الأم حاضرة (فيلما سلهب ونقّاش). التاريخ أيضاً. الجغرافيا والتبدّلات الحاصلة والمصائر المدوّية والانقلابات. لكن السينما غالبةٌ، خصوصاً في «1958».

بعيداً عن لعبة المقارنة، شكّل «1958» محطّة مستقلّة بحدّ ذاتها، في السياق المهني لغسان سلهب. أو محطّة مكمِّلة لاشتغالاته السينمائية، أجمل في تفكيكها التاريخ، وإعادة توليفه وفقاً للحكاية الأساسية. لم أستطع الاقتراب منه عند مشاهدتي إياه للمرّة الأولى. لم أُدرك كنهه. الابتعاد عنه مسافة، وسيلة للعودة إليه. التمعّن بمفاصله على أساس الاشتغالات هذه، دعوة إلى التوغّل في عمقه المفتوح على أمور ولحظات وعلاقات. الأم نواة الفيلم وفضاؤه الذاهب إلى أسئلة الحياة والشعر والانفعال والغربة. الأشكال البصرية المبنية على خليط الصورة والسرد والكلمات سمة العمل السينمائي الخاصّ بغسان سلهب. تعنيه الصورة أولاً وأخيراً. هذا ما يجذب إلى مشاهدة نتاجاته المتفرّقة. المدينة (بيروت) شخصية محورية في ثلاثيته الروائية الطويلة («أشباح بيروت»، «أرض مجهولة» و»أطلال»). الذات أيضاً. في أفلامه كلّها، ومنها القصيرة الاختبارية. الاختبار، هنا، يتّخذ معنى المغامرة، بحثاً عن (أو في) قدرات الصورة على إشباع الرغبة الفنية في ذات المخرج، وعن قدرات المخيّلة والعقل في الإمساك بانفتاح الصورة على الاحتمالات كلّها. هذا نوع سينمائي غير مرغوب فيه في بلد مثل لبنان، أو في بيئة عربية كتلك الموغلة في جفافيتها. لكنه نوع مرغوب فيه بالنسبة إلى العاملين على كسر الجمود العقلي وموت المخيلة، اللذين يحولان دون قيام إبداع سينمائي متكامل. «1958» دعوة إلى الاغتسال بالجماليات المصنوعة من اختراق سلهب عوالم الذاكرة والألعاب البصرية، جالباً بعودته منها نصّاً مليئاً بالحميمية والمشاعر، وممتلئاً بنعمة الصورة السينمائية في إحداث الصدمة.

يُمكن أن يُقال لي إنه يُفترض بالاستجابة لمضمون الفيلم وشكله أن تتمّ في المشاهدة الأولى. ربما.

أحياناً، يصعب عليّ إدراك النصّ السينمائي سريعاً. هذه مسألة شخصية. في الكتابة عن فيلم لغسان سلهب، يغلب الطابع الشخصي، ليس بسبب صداقة ما، بل لتوغّل أعماله في الشخصيّ. هذا سببٌ للتواصل الذاتي معها. «1958» منتمٍ إلى تلك العلاقة القائمة بيني وبين أفلامه. لكن، لا مجال أكثر من ذلك للخصوصية. الفيلم دعوة إلى مشاهدة نسق سينمائي في إعادة كتابة فصل من التاريخ الشخصي، في قالب معتمد، أساساً، على الصورة والموسيقى وتداخل الشعر بالسرد الشفهي واللقطات الأرشيفية. ذاك العام لحظة مهمّة في التاريخ اللبناني، شهدت ولادة المخرج في دكار. تمّت الولادة في بلد الاغتراب. الوالدان منتميان إلى طائفتين مختلفتين. المزيج الثقافي والديني والإنساني جزءٌ من التربية. الأم أمام الكاميرا بدت أشبه بكاميرا تلتقط أزمنة وتفاعلات، وتشير إلى متغييرات. البراعة واضحة في جعل القصّة الشخصية ولوجاً في عالم معقّد من الأسئلة والتفاصيل. الانمحاء بين الذاتي والعام لم يتمّ على حساب الذاتي أو العام، لأنه خرج من دائرة التفريق إلى لحظة الاندماج. الصورة أدّت دوراً أساسياً. التوليف أيضاً. الجانب الوثائقي البحت حاضرٌ في مرويات الأم. الشعر مواز لهذه المرويات. مكمّل لها. ناطقٌ بلسان المخرج. المخرج يتحايل على القصّة. يضعها في نص شعري. ثم يأخذها إلى الوثائقي. الأرشيف (مشاهد تلفزيونية عن أحداث العام المذكور، التي اعتُبرت بمثابة «بروفة» للحرب الأهلية اللبنانية المندلعة في العام 1975) رابطٌ محوري بين المرويات والشعر. هذا الأخير ممتد بين الكلمات والصورة. الصورة قادرة على ان تكون نصّاً شعرياً. على أن تكون الشعر أيضاً. هذه إحدى الميزات الجمالية في أعمال سلهب.

ليس الفيلم سياسياً. الوقوف عند أحداث العام 1958 لا يؤدّي إلى قول في السياسة والأمن، بل محاولة للتنقيب في أحوال البلد وناسه، على ضوء الاختبار الذاتي. الدمج بين الولادة والأحداث، مرسومٌ بشفافية مخرج قادر على تفكيك الحكايات، لإعادة كتابتها بما يتلاءم وهاجسه السينمائي والثقافي. التحليل الاجتماعي غائبٌ، لأن الفيلم مصنوع من أجل السينما، ثم يُمكن للمُشاهد قراءته وفقاً لمزاجه وانفعاله. أكاد أقول إن «1958»، بانتمائه إلى سلسلة أفلام وثائقية لبنانية ارتكزت على أحد الأفراد القريبين جداً للمخرج في عائلته، أفضلها على الإطلاق، سينمائياً ودرامياً. سببٌ أول: الشكل المعتمد في إنجازه لم يكن أقلّ أهمية من الموضوع المهمّ. سببٌ ثان: إدخال الذاكرة الفردية بالتاريخ العام، بعيداً عن خطابية فجّة في استعادة الماضي والتقاط الراهن. سببٌ ثالث: قوة الحميمية جعلت الصورة أجمل.  

كلاكيت

سؤال المفقودين

نديم جرجورة

لم يستطع أحدٌ من اللبنانيين المعنيين بالاشتغال الثقافي والفني إيفاء مسألة المفقودين والمخطوفين حقّها الإنساني والأخلاقي، في أعمالهم الإبداعية. السؤال معلّقٌ. الملفّ ساخنٌ، على الرغم من مرور عشرين عاماً على النهاية المزعومة للحرب الأهلية. المحاولات القليلة بدت متأخّرة عنه، جمالياً وفنياً. لكن المادة الإنسانية لم تعثر على ترجمة أدبية أو بصرية سليمة. المحاولات مشروعة. هناك من أراد التأكيد أن المسألة حيّة في الذاكرة الفردية، على الأقلّ. هناك من استعان بالملفّ التزاماً منه بواجب إنساني/ أخلاقي. لا بأس. لكن النيات الطيّبة والصادقة لا تصنع، وحدها، إبداعاً. هذا أمر مسلَّم به.

الإبداع محتاجٌ إلى ما هو خارج النيات. إلى مخيلة واسعة وثقافة شاملة وحيوية فكرية ولمعة بصرية.

المسألة نفسها محتاجة إلى جرأة حقيقية. لم يعد مقبولاً الذهاب إلى الضحية وأفراد عدّة من عائلتها أو المقرّبين منها، فقط. وجود الضحية في النصّ الثقافي مهمّ. لكن الجلاّد غائبٌ تماماً. في الصحافة المكتوبة أو الإعلام المرئي، لم يطرق أحدٌ باب جلاّد مسؤول عن هذا الملفّ الملتبس والشائك. والجلاّد ليس فقط زعيم ميليشيا أو رئيس حزب. مسؤولو أجهزة الأمن في الميليشيات وأفراد كبار فيها مدركون حقائق وممتلكون معطيات. طبعاً، ليس سهلاً التواصل معهم. متكتّمون هم أكثر من قادتهم. صامتون، لأن الكلام صعبٌ على من أعمل فتكاً بالناس. الصعوبة لا تنبع من خجل أو تأنيب ضمير، بل من رفض مطلق للتطرّق إلى مرحلة سوداء أبدعوا، هم، في صنعها. الاعتذار خطوة، لكنها منقوصة إذا لم تُستكمل بمقتضيات ما بعدها. الملفات الإنسانية لم تُغلق بعد. هناك ما هو ضروري، ويأتي بعد الاعتذار، أو قبله: الاعتراف. سرّ الاعتراف في الكنيسة مريحٌ للمؤمنين. يضعهم في الطريق الصحيحة إلى الخالق، أو يؤكّد سيرهم فيها، أو يجعلهم أكثر انتباهاً إلى زلاّت يُفترض بهم أن يتحاشوها. في السياسة، الاعتراف بالذنب جريمة لا تُغتفر. قليلون هم عاشقو تلك الجريمة ومنفّذوها.

مخرجون سينمائيون لبنانيون تطرّقوا إلى المسألة. بهيج حجيج وجان شمعون وخليل جريج وجوانا حاجي توما ووائل ديب وجوني غارليتش وديما الحر وطلال خوري وآخرون. أساليبهم الفنية والدرامية مختلفة. لكنهم سردوا الحكاية بعيون أهل وأقارب. أعرف أن الأمر معقّدٌ وشبه مستحيل. لكن المبدع مطالب بمقاربة مختلفة. لا يكفي الندب والبكاء وإعادة الحبكة نفسها. ينبغي إعمال العقل والمخيّلة بحثاً عن المختلف. هناك من وصل إلى مقاتلين مارسوا تعذيباً وقتلاً أثناء الحرب الأهلية. روى هؤلاء شيئاً من الذاكرة الفردية الخاصّة بالجماعة. هذا ما ينبغي فعله في ملف المفقودين والمخطوفين، أو محاولة فعله على الأقلّ. لا يجدي التكرار نفعاً. مقاربة المسألة بالنسق نفسه مسيئة إلى المسألة وناسها والعاملين فيها.

إذا لم يظهر الجلاّد، يُمكن للضحية أن تقول حكايتها بطريقة أخرى. هذا عمل المخرج لا الضحية.  

كتـاب

ألبيرتو مورافيا: «كلوديا كاردينالي»

ما الذي يُمكن أن ينتج من لقاء بين كاتب مرموق وممثلة لمع صيتها باكراً؟ نصٌ مليء بمفردات الحياة والتفاصيل الصغيرة التي تشير إلى سلوك وعيش؛ أم حوار مبني على الهامشيّ لبناء عالم حسّي واسع ومفتوح على الاحتمالات كلّها؟ ذلك أن الكاتب الإيطالي ألبيرتو مورافيا وجد نفسه في موضع المحاوِر المشوّق الذي التقى الممثلة الجميلة كلوديا كاردينالي في العام 1961، فإذا باللقاء يُنتج حواراً جميلاً وعميقاً ومهمّاً، أساسه البحث في التفاصيل الهامشية، التي أدرك مورافيا كيفية جعلها متناً أساسياً ينطلق من الأشياء العادية، ليرسم صورة بهيّة عن ممثلة آسرة، بل ليجعل الممثلة الآسرة محطّة جوهرية في فهم أحوال الدنيا والتحوّلات الإنسانية.

لم يشأ مورافيا حواراً عادياً يتناول الجوانب المتداولة في سيرة الممثلة وحياتها المهنية. الأهمّ، بالنسبة إليه، مرتبط بالتفاصيل الصغيرة والعادية: الشكل، السلوك، الزيّ، النوم، الحلم، العيش على التخوم الفاصلة بين الليل والنهار، الصباح... إلخ. لا يريد الكاتب أسئلة متعلّقة بالسينما والأفلام والحب والعلاقات المهنية والانفعالية، بل بكل ما هو متعلّق بالحميمية الصغيرة، التي تُشكّل جوهر الصورة الواضحة والعميقة للفنانة. وذلك في كتاب بعنوان «كلوديا كاردينالي» صدرت ترجمته الفرنسية (ريني دي تشيكالتي) عن منشورات «فلاماريون».

السفير اللبنانية في

25/03/2010

 

 

مهرجان السينما والهجرة في المدينة المغربية أغادير

المـدن المهاجـرة

علي البزاز 

تبدو المدن، أحياناً، كالبشر. تعاني الاقتلاع والتهجير. في جلّ الحالات، تتراءى هجرة المدن غير موفّقة، بل نقمة تأريخية واجتماعية عليها، كما حصل لمدينة «أور» السومرية في هجرتها، عندما غيّر نهر الفرات مجراه، وحلّت مدينة كلكامش في مدينة الناصرية حالياً. الهجرة شكّلت القاعدة الاجتماعية والثقافية لها، إذ إن معظم سكّانها من المهاجرين. من مدينة يسارية وفنية، أصبحت الآن مدينة راديكالية، لا يُسمَع الغناء فيها إلاّ نادراً. مدينة «أغادير» في جنوب المغرب شهدت، مؤخّراً، الدورة السابعة لـ «مهرجان الهجرة السينمائي»، الذي نظّمته «جمعية المبادرة»، بالتعاون مع «المركز السينمائي المغربي»، واستضافت ندواته السينمائية «جامعة ابن زهر». أصابها التهجير بفعل الزلزال الذي ضربها في العام 1960؛ ومن مدينة تاريخية قاومت الاستعمار البرتغالي، ومن الحصون الشاهدة على الاحتكاك المرير بالزمن، بُنيت أغادير المعاصرة بعد الزلزال، على بعد كيلومترين اثنين من أنقاضها، على هيئة مدينة عصرية بشوارع فسيحة. وصُمِّمت بهدف جذب السياح الأجانب. وهي مدينة لم تفارقها الهجرة منذ نشأتها. ما زاد علامات الهجرة فيها، بحرها الرائع الذي يذكّر بالسفر والمغادرة، رديفي الهجرة. وهذا البحر، لم تبتعد بعض أفلام المهرجان عن الاحتكاك به: تارة، تتناوله على أنه المنقذ؛ وتارة أخرى مُسبِّب الموت. وكما أن البحر يشي بالمجهول، تُوافق الهجرة هذا المجهول في بحث المهاجر عن الأمن والاستقرار. أما أغادير فتعني، في اللغة الأمازيغية، «الحصن المنيع». والمهاجرون، في ركوبهم الموت والفناء، يحاولون اختراق الممنوع المؤمن.

حاولت إدارة المهرجان اختيار مواضيع أفلامها بما يتناسب ومسبّبات الهجرة، عالمية الأسباب والنتائج، متقصية أوضاع المهاجرين في شتى بقاع معاناتهم: فرنسا، السنغال، إسبانيا وقبرص، وفي بلدانهم الأصلية، الجزائر والمغرب وتونس، التي اُصطلح عليها جغرافياً «بلدان المغرب العربي». هذه البلدان، بسبب الاستعمار، عانت الهجرة المكانية واللغوية، واقتلاعاً قسرياً وإكراهاً على معايشة اللغة الفرنسية للمستعمِر. وعلى الرغم من سنوات التعليم والتدريس باللغة العربية، فإن المحاضرات السينمائية أُلقيت باللغة الفرنسية، مع أن غالبية المُحاضرين يتكلّمون العربية الجيدة. يبدو أن الاقتلاع الثقافي وجد أرضية خصبة في اللاوعي اللغوي، وساهم في الاقتلاع المكاني لاحقاً.

تأرجحت مستويات الأفلام بين جيد وبسيط. هناك أفلام احترافية، وإلى جانبها أفلام هواة يجب تشجيعها والعمل على انتشارها، شرط أن يتمّ هذا بإشراف سينمائي مختص. أفلام روائية قصيرة وأخرى طويلة، وأفلام وثائقية عايشت مأساة تبعات الزلزال الذي أزال المدينة، كالفيلم القصير «الذاكرة» لأحمد بايدو. أما فيلم الافتتاح «البارونات» (روائي طويل، إنتاج بلجيكي - فرنسي)، فتميّز بإدارة جيّدة للممثلين، وبتوجيه الكاميرا بما يتناسب ومتطلّبات اللقطة من انفعال أو سكون. يولد البارون وفي فمه ملعقة ذهب. هو هكذا، بارون من دون جهد ودراية، وعليه ألاّ يبذل جهداً متميزاً، يستنفد رصيده الباروني. الفيلم الروائي القصير «قرعة»، يفوز بها شاب مغربي تخوّله السفر إلى الولايات المتحدة، ولكونه لا يستطيع تدبير ثمن التذكرة، يخطر في ذهنه الشرّ لتحقيق حلمه. لكنه في النهاية يمزّق بطاقة الدعوة، ويبقى في المغرب. واللافت للانتباه، أن بعض الافلام المشاركة عُرض في مهرجانات وطنية مغربية، ونال جوائز، كالروائي القصير» الدمية» للمخرجة المغربية سمية الشرقوي: فيلم تعبيري عن مشكلة الهوية، يخرج من الماضي في المغرب عند قبر أحد الأولياء، إلى الحاضر في فرنسا. لكن الهوية تبقى أسيرة ذكرى رؤية طفلية عند ذاك القبر، ما يجعل الواقع يرتد إلى الخيال، بقدر ارتداد الحاضر إلى الماضي. وكرّم المهرجان المخرج الجزائري مرزاق علواش والفنانة المغربية نعيمة المشرفي، علماً بأن «حرّاقة» لعلواش نجح في تحقيق حضور المرادف السينمائي للواقع اليومي المتداول، الذي يعني المأساة بكل معانيه ودقة كلماته. فما إن ُتذكر الآن كلمة «حرّاقة» في المغرب العربي، حتى يتبادر إلى الذهن الموت وركوب البحر من أجل الظفر ببلد أوروبي ووداع الوطن، الذي يزخر بالثروات، بينما مواطنوه يرزحون تحت الفقر ويحلمون بمغادرته. وكلمة «حرّاقة» باتت تعني الموت وخذلان البلد لمواطنيه، وهي اشتهرت على النحو هذا.

هكذا اكتسب الفيلم في المدلول الاجتماعي صفة القهر والإذلال، فقد هُجِّرت الكلمة من مدلولها الوصفي، مكتسبة بُعداً اجتماعياً عكس مدلولها الوظيفي المتعارف عليه، ما يُبقي المتلقي حاضراً بقوة في مآسي الهجرة، ولا يسمح لنفسه بالابتعاد عن أهوالها.

إن موضوع الهجرة عالي المأساة وعالمي الأسباب والنتائج، يتضمّن شعور الحيف إزاء البلد الذي سمح لمواطنيه بأن يُقتلوا، بحراً وعنصرية، لغة وواقعاً اجتماعياً يعاني العيش خارج الزمن، وبعيداً من الانتماء لا إلى المجتمع الجديد ولا إلى قديم المهاجر. لذا، فإن هذا الموضوع بحجم مأساته، لم يستطع المهرجان أن يحيط بتفاصيله، ربما بسبب إمكانياته المالية التي يزعم المنظّمون أنها محدودة، أو ربما بسبب عدم المهنية في اختيار الأفلام. يمكن، إذا توفّرت الحرفية السينمائية لدى إدارته، أن تُثمر في الدورة المقبلة، عروضاً ممتازة وتعاوناً إدارياً مع الصحافة، أفضل بكثير من الدورة الحالية، لا سيما أن هناك وجوداً لنية صادقة من أجل إنجاحه، وجعله يستمر في تقصّي خفايا موضوع الهجرة. لم تكن السينما العالمية غافلة يوماً عن هذا الموضوع، علماً بأن الهجرة تُقسِّم حياة المهاجر إلى زمنين ومكانين بعيدين عن المصالحة.

والأنكى، أن هذين المتضادين وإن تصالحا، فإن مصيرهما الارتداد والنكوص، غالباً. هذه المادة الدرامية مستقطبة التضادات في أساساتها الغنية، تتناسب والزمن السينمائي الفعلي، الذي هو غير الزمن الحقيقي، بل زمن الحبكة الدرامية. لذا، ستشهد السنوات المقبلة معالجة سينمائية لعالم الاغتراب، الذي قسّم العالم أيضاً الى شرق مهاجر وغرب محتضن. وشهدت السنوات الماضية إنتاج سينما الهجرة، كـ «عدن في الغرب» لكوستا غافراس و»14 كلم» لجيراردو أوليفاريس و»رسالة إلى السجن» لمارك سيالوم.

نجحت الهجرة باستعارة مدلول الحصن المنيع، فهل سيتمكّن المهاجر من توحيد زمنين ومكانين؟

(أغادير(

السفير اللبنانية في

25/03/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)