حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

بين قتل الزوج الطائش في 'العودة' والهوية الجنسية الملتبسة في 'الاولاد لا يبكون':

تمجيد الخطيئة وتوحيد المشاهد مع الأشرار!

محمد سعيد محفوظ

شيء ما يجمع بين فيلمي 'العودة' للمخرج الأسباني بدرو ألمودوفار، و'الأولاد لا يبكون' للمخرجة الأمريكية كيمبرلي بييرس.. سحابة واحدة من الأسى تظلل قرية كانفور ديلاس في لانشا الإسبانية، وفولس سيتي في نبراسكا الأمريكية، حيث تدور القصتان المتناقضتان.. شعور ما يوّحد بين بطلتيهما رايموندا (بنيلوب كروز) وبراندن (هيلاري سوانك).. أنوثة رايموندا الطاغية، تتقاسم تاريخاً ما، غصة ما، ثورة ما، مع نقمة براندن على مفاتنها كامرأة، ورغبتها في التحول إلى رجل.. منتهى التضارب والتناغم في آن.. كيف؟ لم يرسم القدر للبطلتين 'المقهورتين' مصيراً واحداً، لكنهما يتقاطعان.. يساورك هذا الشك إذا شاهدت ـ مثلي ـ أحد الفيلمين بعد الآخر، ويا حبذا لو استمعت من بعدهما لوردة... وردة؟!... نعم! وهي تغني رائعة محمد حمزة 'أنده عليك' على لحن عبد الوهاب..! خليط لا يبدو منسجماً، لكنه في الواقع كذلك.. لماذا؟ عرفت الإجابة فقط عندما أغمضت عينيّ، وسبحت في فضاء خيالي، فإذا بعالم فريد واحد يجمع كل هذه العناصر المتنافرة، فيبرر أخيراً دهشتي وعاطفتي منذ شاهدت الفيلمين وأعدت الاستماع للأغنية..

المشهد الافتراضي الأول يجري ليلاً في حي ناء بمدريد، تتسلل فيه رايموندا وابنتها المراهقة باولا في الظلام ـ كما في الفيلم ـ تجرّان جثة الزوج المقتول باتجاه مطعم مهجور.. تفتح رايموندا الباب بالمفتاح الذي أودعه لديها صاحبه إميليو (كارلوس بلانكو) قبل أن يعرض المطعم للبيع ويرحل إلى برشلونة.. يختلط صوت احتكاك الجثة بالأسفلت مع مرثية الكلارينت الناعمة، يشمل ضوء وافد من نافذة قريبة وجه باولا الطفولي، فتتلألأ حبات عرقها المتصبب وهي تدفع جثة القتيل، الذي ظنته والدها إلى أن صارحها بالعكس، ثم انقض عليها محاولاً اغتصابها، فاستلت سكيناً وطعنته.. هذه الفتاة الوديعة إذن هي القاتلة، والأم الجريئة تتستر، أما أنت فستتمتم لهما عفوياً بالدعاء ألا ينكشف الأمر! لقد نجح ألمودوفار في تبرير الجريمة وحضك على التعاطف معها.. بل وساعد أيقونته الفاتنة رايموندا على دفن جثة زوجها في ثلاجة المطعم للأبد.. يا لها من عدالة لا تجدها إلا في قانون ألمودوفار!

يستدعي خيالي في تلك اللحظة تينا براندن، التائهة بين أنوثتها الجسدية وذكورتها الحسية.. تأتي من عالمها الصاخب إلى هذا الصمت المريب، حينما تترك الكاميرا ـ في حلمنا العبثي ـ محيط القاتلتين الآسرتين وتصعد باتجاه النافذة القريبة، نبدأ في سماع صوت صبي رقيق، أو صبية تصطنع الرجولة.. الصوت الملتبس يحفل ببهجة عذرية وهو يلتمس من شخص آخر ـ كما في الفيلم أيضاً ـ أن يقص له مزيداً من شعر رأسه، فهكذا سيبدو أكثر رجولة.. لقد كانت تينا براندن تخفي أنوثتها، في الوقت الذي كانت رايموندا تخفي جريمة ابنتها، كل منهما يناضل في أحشاء الظلام من أجل دفن 'خطيئته'.. فلديهما ما يكفي من الأسباب لتبريرها، وتريدان أن تستأنفا حياتهما على النحو الذي تتمنياه، لا الذي فرض عليهما.. رايموندا طالما عانت من زوجها الطائش باكو، لم تجد فيه ما يعوضها عن أبيها الفاسق، الذي اغتصبها فأنجبت منه باولا، ابنتها وشقيقتها في ذات الوقت! امتهنت الطبخ وتنظيف الأرضيات وغسيل الملابس، وفي مشهد مبكر من الفيلم نرى صورة وجهها البائس منعكسة على فتحة الغسالة وهي تدور كالطاحونة، فنتناول الرسالة الرمزية بسهولة، ونوميء بالشفقة...

قبل يوم واحد فقط، فصل باكو من عمله، لا نتساءل لماذا، فألمودوفار يخبرنا بذلك ونحن نشاهد باكو يحتسي البيرة بإسراف ويتابع باستهتار مباراة لكرة القدم.. وفي الخلفية ها هي رايموندا ـ بعد عودتها مباشرة من عملها اليومي الشاق ـ تنظف المطبخ وتعد العشاء على عجل.. يضيف ألمودوفار إلى جرعة احتقارنا لباكو، فيجعله يصوب نظرة شهوانية إلى فخذ باولا المراهقة، قبل أن تنبهها أمهها بحزم إلى ضم ساقيها..

أما تينا براندن، فقد التبست عليها هويتها الجنسية، جسدها الأنثوي النحيف يعبىء بداخله روحاً ذكورية، تضاريسه النسائية تضطهد رغبتها في بنات جنسها، لكنه لا يقاوم ملامح وجهها الحادة، ونظرتها الزاهدة، ونبرة صوتها الخشنة.. لكي تخرج إلى الشارع صار عليها أن تواري نهديها داخل جبيرة تكتم أنفاسها، لكن ما أبهج قسماتها حين تنظر في المرآة، وتتأكد من أنها صارت رجلاً.. وأنها تحررت ـ ولو مؤقتاً ـ من تائها المربوطة، إلى أن تخضع في المستقبل للجراحة المنشودة..

خطيئتان، خبئتا في ذات القمقم: خطيئة الزوج الأرعن، وخطيئة الهوية الملتبسة.. كل منهما في تلك الأمسية الرمزية تحول إلى تراث.. استطاعت رايموندا بجسارة أن تقنع الجميع بأن باكو الخائن هجرها ولن يعود، كما استطاعت براندن أن تثبت رجولتها في الحانات، بل وتواعد فتيات وتوقعهن في غرامها!!  يا لهذه السينما الغارقة في العبث! هل من المنطقي أن يقتل إنسان، وتجرجر جثته في الشارع، وتخزن في ثلاجة مطعم، دون أن يلاحظ أحد إلى نهاية الفيلم؟ وهل من الممكن أن تقص فتاة شعرها، وتخفي ثدييها، وتداعب قريناتها بشغف، فتصير رجلاً؟ مغالاة قد يقبلها أو ينبذها المشاهد، لكن الأهم أن رايموندا وبراندن يشرعان الآن بالفعل في فصل جديد.. رايموندا تعود مع الابنة باولا إلى منزلهما وقد خلا من باكو للأبد، وبراندن تتوجه إلى أقرب ملهى ليلي للتمتع بالنظر إليها كرجل.. هنا يرتفع صوت وردة، وهي تغرد: (والله والله والله، والله وضحك لي زماني، ولقيت ف الفرح مكاني.. اللي اتمنيته، لقيته لقيته...)! لا تعرف رايموندا ولا براندن من هي وردة.. (جاهلتان!)... لكنهما ـ في المشهد الافتراضي ـ يتمايلان مع اللحن البديع، والصوت الشجي.. ماذا لو فهما الكلمات؟ سيراودهما الشك في أن محمد حمزة يعرف سرهما، بل ويعينهما مع ألمودوفار على اقتراف آثامهما..

الحقيقة هي أن أياً من هؤلاء لا يعرف الآخر، لكن ها هو الحلم ـ الذي تحرضه السينما وتغذيه ـ يجمعهم داخل عباءة واحدة!

المشهد الافتراضي التالي تقع أحداثه في المطعم، الذي أدارته رايموندا لحسابها في غياب صاحبه.. تستقبل فيه فريقاً سينمائياً عابراً، على رأسه مدير إنتاج غض.. يتودد للمرأة الصارمة مأخوذاً بطلاوة لسانها وسحرها الجسدي، لكن ألمودوفار يمنع أي علاقة حميمية بين رجل وامرأة في هذا الفيلم! تصدّ رايموندا الشاب بحذر كي لا تفقد زبونها، ويستسلم هو مندهشاً.. يعود إلى طاولته، التي تجاور ـ وفقاً لسيناريو الحلم ـ طاولة براندن.. المنهمك ـ مع زمرته المنحلة ـ في تفحص الفتيات الثملات.. وفيما كانت رايموندا تشعر بالفخر بعد أن درأت عن نفسها شراً محتملاً، كانت عينا براندن تتسمر بذهول على وجه لانا (كلوي سيفيني)... كانت تكفي هذه اللقطة ـ التي لم تستغرق سوى لحظات ـ كي تؤهل هيلاري سوانك إلى أوسكار أفضل ممثلة، التي نالتها عام ألفين عن هذا الفيلم.. ولدت عاطفة مطلقة في طرفة عين، ولكي يسمح لها ألمودوفار بالنمو، جعل لانا تنضم للفرقة الموسيقية، كي تغني (الأعين الأكثر زرقة في تكساس).. فيطول النظر! ويتبادل الطرفان رسائل لا نسمعها بل نحسها، ينكرها إعراض لانا بين فينة وأخرى متظاهرة بعدم الاكتراث، وتؤكدها ابتسامات مترددة من براندن، تشي بالفرحة لعثورها أخيراً على محبوبتها، والخجل من أقرانها المحيطين..

صوت لانا لا يرقى لجمالها ورقة وجهها.. وفي مشهدي الافتراضي، تنتفض وردة ـ التي نكتشف وجودها في المطعم ـ وتتوجه إلى العازفين، تلومهم على تشجيعهم للفتاة الغِرّة، وتقول بثقة محببة: الجمال ليس مؤهلاً للغناء، وللغناء أهله!! ثم تلتفت ناحية براندن المصدوم، وتغمز له كي يطمئن، وتتناول الميكروفون من الفتاة غير المبالية، وتستكمل الأغنية التي بدأتها قبل قليل.. تختار منها بحنكة ما يلائم الحب الوليد، فتنشد: (متهيألي.. إن أنا وانت ف عالم تاني.. كله شموع وفرح وأغاني.. وان زمانك هو زماني.. لما ناديتني وحبك جاني..!)، ويرفرف كيوبيد حول براندن ولانا من جديد...

في الفيلم، تستمع الجدة إيرين (كارمن ماورا) إلى غناء رايموندا، الذي استعادت فيه أغنية الطفولة (فولفير) أو (العودة).. إيرين لم تمت كما أرادت للجميع أن يصدق، فقد أضرمت النار في الكوخ الذي كان زوجها يضاجع فيه شقيقتها.. مات الاثنان، واختفت هي، وظن الجميع أنها هي التي ماتت في الكوخ، بينما اختفت الشقيقة الهيبية كعادتها.. وعندما رغبت إيرين في العودة، اعتقدت القرية أنها شبح، وأتاح لها ذلك الاعتناء بشقيقتها الثانية في أيامها الأخيرة.. وفي هذه الليلة تاقت لرؤية ابنتها رايموندا من بعيد.. انكمشت في سيارة ابنتها الأخرى سولي (لولا ديوناس) خارج المطعم، فجاءها صوت وردة، كما أردت، بدلاً من صوت رايموندا، كما أراد ألمودوفار.. تتحول إيرين في تلك اللحظة إلى أمي، التي تعشق وردة، وخاصة في أغنيتها تلك.. دموع أيرين تنساب على وجنتي أمي، التي تستلقي بدلاً منها على المقعد الخلفي للسيارة، وتستحضر مع كل كلمة ذكرى، فيما تقمع نحيبها.. وأتمنى في تلك اللحظة أن أعانق الشاشة وأقبلها.. إيرين قتلت زوجها وشقيقتها، لكنها استولت على قلبي.. جعلتني أرى فيها أمي، وهي تستمع كل صباح لإذاعة الأغاني على الراديو المصري.. يا إلهي! إن ألمودوفار جعلني أتوحد مع الأشرار، بل وأسقطهم على واقعي الشخصي!

لا تدوم سعادة براندن، فبينما تزدهر حياة رايموندا، وتنجح في مواصلة إخفاء سرها، تنفضح أنوثة الصبي المزيف، تذهب براندن بهيئتها الذكورية المعتادة إلى مصلحة حكومية، تعطلها موظفة الشباك لحظات بحجة إنجاز المهمة، إلى أن يأتي شرطي لاستجواب براندن.. لا تحرمنا الكاميرا من تأمل انفعالات الفتاة عن قرب.. فما أن يهتف الشرطي: الآنسة براندن! حتى تحوّلُ وجهها نحو جهاز الكمبيوتر، تلقي بنظرة عتاب خاطفة إلى الموظفة الخبيثة، تطفو الدموع على مقلتيها، ترتعش شفتاها، تلتزم الصمت في محاولة أخيرة يائسة لصرف الشرطي عنها، لكنه يلح في ندائه.. تتنحنح في ارتباك، ثم تتناول منه الوثيقة وهي تكبت دموعها، تكتشف أنها في ورطة.. فتقدِم على الاعتراف! في هذه الأثناء، تكتشف رايموندا عودة أمها.. كانت الأم قد اختارت أن تعيش سراً مع ابنتها الأخرى سولي، وبينما حلت عليهما رايموندا فجأة، وطلبت أن تقضي حاجتها بسرعة ـ وهي لقطة مروعة نرى فيها بنيلوب كروز تبول، من دون أن يخدش حياءنا ألمودوفار على غير عادته ـ عندئذ تشتم رايموندا رائحة أمها المعهودة.. تستنطق شقيقتها، فتعترف، وترشدها أخيراً إلى الأم المختبئة تحت السرير!

تعود رايموندا إلى أحضان أمها، بينما تنفصل براندن عن أحضان الحبيبة لانا.. تودَع في سجن النساء، فتضطر لمصارحة حبيبتها المخدوعة بالحقيقة، لكن المفاجأة هي أن لانا تقبل بالأمر، بل وتعمل على إطلاق سراح براندن، وتغادران السجن وثباً من السعادة، وتمتعنا كيمبرلي بييرس هنا برمزية شديدة الذكاء، عندما تهرول براندن ولانا في ممر السجن باتجاه الحرية، فيما يسير ببطء في الاتجاه العكسي طابور من السجناء ببزاتهم الحمراء، وما أن تعبر الفتاتان من البوابة، حتى تسلكان الاتجاه الأيسر من الشارع، بينما تستقر الكاميرا على لافتة (غرفة السيدات) المعلقة إلى جانب البوابة، مع سهم يشير لنفس الاتجاه الذي سلكتاه..

مشهد افتراضي آخر، يعود بنا إلى عبث يفوق تمجيد الرذيلة وتبرير الجريمة، اللذين ابتلينا بهما على يد ألمودوفار وكيمبرلي! مشهد ننبهر فيه، عندما نرى براندن تحاكي وردة في مقطع واثق من الأغنية، تقول فيه: (لو لفينا الدنيا وجينا.. وعشنا وشفنا واتمنينا.. مش حنلاقي زي هوانا.. مش حنلاقي.. حب ينور لينا ليالينا.. مش حنلاقي!).. لا تعرف براندن كيف نطقت بهذه الكلمات، إلا أنها ـ كحال أي حبيبين يستمعان إلى وردة ـ غاصت في بحور من الشغف والوجد..

لكن قصاص المجتمع يأتي إليها سريعاً.. ينتقل خبر أنوثتها الجانحة إلى ثلة الأصدقاء الفاسدين.. وعلى رأسهم المختل نفسياً جون (بيتر سارسجارد)، الذي يكشف عورتها عنوة أمام حبيبتها، ويغتصبها هو وصديقه ببشاعة.. بينما تأبى رايموندا أن تظهر في برنامج تليفزيوني حول أسرار البيوت تنتجه ابنة خالتها، رغم احتياجها للمال بعد تعهدها لإميليو بدفع تعويض عن استغلال مطعمه.. تأملت بحكمتها لحظات عندما تلقت الدعوة من شقيقة المنتجة ـ ابنة خالتها الأخرى أوجستينا (بلانكا بورتيللو) ـ فكأنها حزرت كيف ستساق لهتك خصوصيتها ولفت الأنظار إليها، فآثرت البقاء في قوقعتها، وما هي إلا أيام حتى اضطرت المنتجة الانتهازية لاستضافة شقيقتها أوجستينا لمقايضتها على أسرارها مقابل الإنفاق على علاجها من السرطان في هيوستن.. مشهد يستفز الغيورين مثلي على مهنة الإعلام، فكم من مرضى يستغلون لزخرفة و'تتبيل' المادة الإعلامية، نشاهدهم فنبتسم أو نفتح أفواهنا اندهاشاً، ثم نمصمص الشفاه ونتندر، أما هم فيرغمون أنفسهم على البقاء أمام الكاميرا أملاً في مساعدة مشروطة من أجل حياة أفضل، حتى لو كانت ليوم إضافي واحد.. مأساة!

لكن ضمير أوجستينا استيقظ على الهواء، غادرت الاستوديو وسط صيحات المذيعة ومحاولات استدراجها الرخيصة، فهل بلغت رايموندا من الحكمة ما جعلها تتجنب هذا المصير؟ مسكينة براندن..! صغر سنها وعجزها عن تقليم شهوتها انتهى بها إلى منزل مهجور، انتظاراً للحظة الهروب، بعد أن شهّر بها أصدقاؤها ونالوا من عرضها!

عادت الأم إيرين إلى الحياة، وصحبتها ابنتاها وحفيدتها في نزهة نهارية على ضفة نهر هوكار الناضب، كان ممتلئاً بالماء في الماضي، قالت الأم.. لكنه ـ في رأي رايموندا ـ جف ككل شيء في إسبانيا.. ذلك النضوب هو إحدى الإشارات الأخيرة في الفيلم، التي يؤطر بها ألمودوفار للفاجعة التي تتكيف معها بطلاته.. كما أنها تليق بقصة براندن، التي تنتظر لانا في المنزل المهجور كي تهرب معها إلى (عالم تاني.. كله شموع وفرح وأغاني) كما تصفه وردة!

تترك إيرين وسولي المشهد، لتنفرد به رايموندا وابنتها باولا.. يقع نظر باولا بتلقائية مقنعة على اسم والدها محفوراً على الشجرة العجوز، ومصحوباً بتاريخي ميلاده ووفاته.. لا يكلفها ألمودوفار بأكثر من نظرة إلى والدتها، فتتلقى منها الجواب بنظرة أخرى.. إن رايموندا دفنت باكو تحت هذه الشجرة، استعانت في ذلك بصديقتها العاهرة البدينة ريجينا (ماريا إيزابيل دياز) مقابل تمويل مشروباتها الكحولية لمدة شهر! وفي نهاية مشهد الدفن، تخر ريجينا من التعب، فتأوي إلى السيارة حيث تنام ويعلو شخيرها، فيما تحفر رايموندا علامتها على الشجرة بعاطفة مجهولة.. ولا عجب في هذا التوازي المقصود من قبل ألمودوفار.. فالمجتمع كله كان ـ وسيظل ـ نائماً، فيما تنفذ حسناواته جرائمهن.. أما كيمبرلي بييرس فقضاؤها يختلف.. لقد أرسلت جون وصديقه المؤتمن إلى حيث لاذت براندن.. تبعتهما لانا في مسعى لمنع كارثة.. لكنها تفشل..

لقد دس جون مسدسه في صدر براندن، وأطلق رصاصة، كانت كفيلة بإنهاء حياة الفتاة العاجزة في الحال.. وتبلغ القصة الحقيقية الحزينة نهايتها.. ستترك جثة براندن في الفيلم مهملة في منزل مهجور، لكن مشهدي الافتراضي الأخير سيمنحنا فرصة تشييع جنازتها إلى ضفة النهر الناضب.. وستدفن في نفس التربة التي ابتلعت جثة باكو من قبل.. لكن شتان! ستجفف دموعك بعد انتهاء الفيلم وأنت تسب باكو وتترحم على براندن.. فهل معنى ذلك أنك تشيد بالقتل وتثني على المثلية؟ لا! لكنها براعة اثنين من أكثر المخرجين احترافاً في تطويع المشاعر، رغم أنف المشاهد..

ويعود صوت وردة على لقطة تتسع أكثر فأكثر، لتكشف عن قبر الخطيئة البعيد المعزول، وتغني من فضائها الكوني: (عمري يا عمري يا أحلى زمان.. فرح وهنا وياك وأمان.. شمس وغني وقمر وحنان.. وربيع حبي ف كل أوان).....

كاتب واعلامي من مصر يقيم في لندن

القدس العربي في

17/03/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)