حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

نجاحات

نمر ساذجة بلا بناء درامي

«ولاد العم».. الصراع العربى الصهيونى عندما تحول إلى «مقالب حرامية»!

أحمد يوسف

 

لا أزال أبحث معك أيها القارئ العزيز عن إجابة لسؤال يبدو فى ظاهره بسيطا، لكنه فى الحقيقة من أصعب الأسئلة وأعقدها: ما هو الدافع الذى يجعل الفنان يصنع عملا فنيا؟ هناك العديد من الإجابات، لكن دعنى فى البداية أعرض تصورى لتعريف الفنان، أيا كان الوسيط الفنى الذى يستخدمه، إنه الإنسان الذى يملك قدرات خاصة تجعله فى فنه قادرا على التعبير عما نريد أن نعبر عنه لكننا لا نستطيع، إنه يملك الرؤية وأدوات تجسيدها، لكن هل هذا هو واقع الحال فيما نتذوقه الآن من الفنون فى مصر؟ هل نجد فى عشرات الأغنيات السفيهة التى نسمعها ألف باء اللغة الموسيقية؟ وهل يتمتع من يقومون بغنائها بأدوات التعبير فى هذا الفن؟ هل من نراهم من عشرات الممثلين يعرفون حقا ما هو "التمثيل"؟ وهل تنتسب عشرات الأفلام التى نراها للفن السينمائي؟ 

إنها أشياء "شبيهة" بالغناء والتمثيل والسينما، لكنها ليست كذلك بالفعل، ودليلى على ذلك أن من النادر الآن أن تتذوق عملا فنيا مصريا فيهزك من أعماقك، ويغير نظرتك إلى الحياة، ويجعلك تعيد النظر فى العديد مما كنت تثق فى أنك تعرفه. تخيَّل على سبيل المثال أنك دخلت قاعة العرض لتشاهد فيلما سينمائيا، ففى حالة استمتاعك بالفيلم تخرج من قاعة العرض لتظل ساعات وربما أياما تعيش نفس حالة الاستمتاع التى يظل مذاقها فى أعماقك، فكأن الفيلم يعيش بداخلك أو أنك ما تزال تعيش داخل الفيلم، أو كأن الفيلم ألقى فجأة بضوء ساطع على حياتك، ليجعلك ترى مالم تكن تراه برغم أنه أمامك... إن الفيلم ببساطة جعلك "تتغير". 

ليس فى تاريخ السينما المصرية إلا عدد يسير من الأفلام التى تحتوى على هذا الطموح الفني، لأن معظم صناع الأفلام عندنا لا يملكون "رؤية" أو وجهة نظر أصيلة عن العالم، وهم إذا امتلكوا شذرات منها عجزوا عن التعبير عنها وتجسيدها فى عمل فنى يتسم بالفصاحة والإفصاح. إنهم ببساطة يعيدون إنتاج واستهلاك نفس "الآراء" التى تعارفت عليها الشريحة الأكبر من الجمهور، أو أنهم بكلمات أخرى يغازلون القيم الغائمة التى يؤمن بها الجمهور، ولا رغبة حقيقية لديهم فى حث الناس على رؤية أعمق للعالم (ربما لأنهم يفتقدون هذه الرؤية أصلا)، وعندما تكون هناك أفلام تحلم بإحداث هذا التغيير، مثل "جنينة الأسماك" أو "بالألوان الطبيعية"، فإنها تنتهى إلى التلعثم والاضطراب والتشوش، وبدلا من أن تحقق التغيير الذى تنشده تجعل الجمهور يتمسك بوجهة نظره التى قد تتصف بالتخلف أو البلادة تجاه الحياة! 
هذان هما السببان الرئيسيان فى أن أفلامنا لا تحقق الحد الأدنى من القدرة على الخروج من دائرة المحلية الضيقة، بينما استطاعت أفلام من أمريكا اللاتينية وآسيا وأوربا الشرقية أن تحقق الانطلاق نحو العالمية: السبب الأول هو افتقاد رؤية أصيلة ومتكاملة، والثانى هو عدم امتلاك القدرة على التعبير عن هذه الرؤية. وذلك بالضبط هو ما حدث مع فيلم "ولاد العم"، الذى يُفتَرض أنه يعالج الصراع العربى الإسرائيلي، فتلك هى إحدى الفرص النادرة التى تفكر فيها السينما المصرية فى معالجة هذه القضية، بحيث تقدم للعالم "رؤيتنا" لهذا الصراع، من خلال "أدوات" فنية وجمالية تقنع المتفرج غير العربى بعدالة قضيتنا، لكن الخطأ الفادح (وما أكثر الأخطاء فى الفيلم) هو افتراض أن المتفرج سوف يقف إلى جانب "الخير" الذى يجسده (طبعا!) البطل المصري، ضد "الشر" الذى يمثله الخصم الإسرائيلي، وهو افتراض لا يتوجه إلا للمتفرج المصرى فقط، ولا يقنع أى متفرج فى كل أنحاء العالم، لأنه ليست هناك "رؤية" أصيلة للصراع، فكأن ما فعله الفيلم ـ باستخدام تعبير صديقى المثقف بحق أحمد الألفى ـ هو "هداية المهتدِي"، بمعنى أنك تتوجه بموقف ما إلى من يؤمن أصلا بهذا الموقف، أما من لا يؤمن به فلن يعنيه الأمر من قريب أو بعيد. 

الانطباع العام الذى سوف يشعر به المتلقى هو أن الفيلم يتسم بسذاجة الرؤية، بسبب اختزال القضية إلى الصراع بين الخير والشر، وسوف يزداد هذا الشعور مع سذاجة المعالجة أيضا. وإذا كانت هناك نقطة إيجابية من الناحية الفنية فهى المشهد الافتتاحي: هناك جو عائلى دافئ بين الزوج عزت (شريف منير) والزوجة سلوى (منى زكي) وطفليهما سارة ويوسف، إنهم فى بورسعيد يحتفلون بعيد شم النسيم، ويأخذهم الزوج إلى رحلة بحرية فى "لنش" صغير، وفى وسط البحر تتكشف الحقيقة فجأة: الزوج عزت ليس إلا ضابط مخابرات إسرائيليا اسمه الحقيقى دانيال، عاش متنكرا فى مصر لتجنيد عملاء لإسرائيل، طوال سنوات كان قد تزوج فيها من مصرية "مسلمة"، وهاهو ينهى مهمته باختطافها والطفلين ليعود إلى "وطنه". 

قلما تجد فى الأفلام المصرية هذا الاستهلال القوي، الذى يضع المقدمات المنطقية للدراما مع الدقائق الأولي، دون ثرثرة أو استطرادات مملة، لكن ـ وما أصعبها هذه الـ"لكن" ـ المهم هو ما ستفعله بهذه المقدمات المنطقية طوال ساعتين، فإما أن تزيد الدراما عمقا من الناحيتين الوجدانية والعقلية، أو أنك سوف تقع فى مأزق الدوران فى حلقة مفرغة. مع هذه البداية هناك ـ من وجهة نظر صناع الفيلم والمتفرج المصرى ـ شخص إسرائيلى ارتكب نوعا من "الخديعة" ليقوم بعمليات تجسس فى مصر، لكن ألا يمكن اعتباره ـ من وجهة نظر المتفرج غير المصرى والعربى ـ "بطلا" قام بمخاطرة جازف فيها بحياته؟ فلننتظر قليلا ونتأمل ما سوف يقدمه لنا الفيلم، لكن أرجو أن نتوقف لحظة أمام طريقة طرح أطراف الصراع: إنك ترى الزوجة سلوى فى أولى لقطاتها فى الفيلم وهى تصلي، وسوف تتوزع طوال الفيلم إشارات إلى كونها مسلمة، وهنا يغازل صناع الفيلم المتفرجين بالرؤية السائدة عن أن لصراع يدور بين اليهود والمسلمين، وبرغم أنها الرؤية الأكثر شيوعا (وربما يؤمن بها صناع الفيلم أنفسهم) فهى تؤدى إلى طريق مسدود، ليس فيه من حل إلا إفناء أبناء إحدى الديانتين!! فالصراع فى حقيقته بين نزعة صهيونية وليدة للأفكار الاستعمارية الغربية وامتداد لها، وعندما يأتى يهودى ألمانى أو بولندى أو أمريكى أو روسى إلى فلسطين ليحتلها ويطرد أهلها، تحت شعار تكوين "دولة يهودية"، فهذا ليس إلا استعمارا غربيا استيطانيا بكل ما فى الكلمة من معني، يتوجه بالتهديد إلى كل العرب، مسلمين كانوا أم مسيحيين أو حتى يهودا (أرجو الرجوع إلى كتاب إيللا شوهات عن "السينما الإسرائلية")، لذلك فإننى أسأل صناع الفيلم: ماذا لو كانت البطلة مسيحية وليست مسلمة؟ هل سوف تسقط صفة "الشر" ـ من وجهة نظر المتفرج المصرى ـ عن "اليهودي" دانيال؟! (أثناء إعدادى لهذا المقال وقع الاغتيال الدموى لمسيحيين على أبواب كنيسة فى نجع حمادي، وقيل إن السبب هو الانتقام لمسلمة قام مسيحى باغتصابها... هل لو كان المغتصِب مسلما لكان نفس القاتل "المسلم" اغتال مسلمين على أبواب مسجد؟!!! بالطبع لا، وهذا هو خطر ومغالطة الطرح الدينى للقضايا). 

بعد الدقائق الأولى سوف نعيش طوال الفيلم مع فكرة واحدة لا تتغير أو تتطور: إعادة سلوى وطفليها إلى مصر، دون أن يتوقف الفيلم لحظة واحدة أمام الخطر الأهم الذى افترضه، وهم الجواسيس الذين زرعهم دانيال فى مصر قبل أن يخنطف سلوى والطفلين. والأدهى هو أن المخابرات المصرية لن تعلم بأمر سلوى أصلا إلا عندما يتطوع شخص بإبلاغ السفارة المصرية فى تل أبيب بالأمر (هل عرفت الآن فائدة وجود السفارة المصرية فى إسرائيل؟!!!). وهنا يظهر البطل المصرى مصطفى (كريم عبدالعزيز)، الذى يعمل مذيعا باللغة العبرية كغطاء لعمله الحقيقى كضابط مخابرات، يتم تكليفه بالذهاب إلى اسرائيل لاستعادة سلوى وطفليها، ولا أدرى كيف وضع الفيلم تلك الجملة على لسان مدير المخابرات وهو يسأل مصطفي: "عندك مانع؟"، فيجيبه مصطفي: "لأ خالص"، فذلك حشو فارغ إن لم يكن مضحكا أيضا، يمكن أن يملأ فراغ "السيتكوم" المتواضعة التى تخصص فيها كاتب السيناريو عمرو سمير عاطف، وللأسف فإن الفيلم يحتشد بهذا الحوار السطحى تماما، على العكس تماما من حوار الفيلم السابق للمخرج شريف عرفة "الجزيرة"، الذى كتبه محمد دياب، وهو الحوار الذى كان يتسم بالقوة والاختزال والبلاغة بمعناها الدرامى والسينمائي. 

تعيش سلوى فى تل أبيب فى إسرائيل وهى فى حالة حصار، فالجارة الإسرائيلية راشيل (انتصار) تلازمها كظلها، وسوف يتضح فيما بعد أنها بدورها من عملاء الموساد، مهمتها احتواء سلوى وإقناعها بالاستمرار فى الحياة مع الزوج دانيال، الذى سوف نعرف أنه يعتبر بطلا قوميا فى إسرائيل (طبعا!!)، وأنه ابن رجل يهودى عراقى وامرأة يهودية مصرية. وفى أحد أكثر مشاهد الفيلم اضطرابا وتشوها فى الرؤية، يأخذ دانيال زوجته سلوى لزيارة أمه، التى يكتشف أن اسمها سارة (إيمان) وقد سمى دانيال ابنته على اسمها. إن سارة تحكى قصة هجرتها إلى إسرائيل على نحو شديد الإقناع ربما لا يستطيع فيلم إسرائيلى أن يحققه: لقد خرجت سارة مع عائلتها اليهودية من مصر بسبب سياسات عبد الناصر (هكذا!!! وليس بسبب فضيحة لافون التى يعرفها المبتدئون فى أمور الصراع العربى الإسرائيلي)، وهى لم تذهب إلى إسرائيل مباشرة، فقد "تمرمطت" فى أوربا قبل أن "تضطر" للهجرة إلى إسرائيل، لتعيش فى "كيبوتز" حيث عانت الأمرين لأنها يهودية شرقية، وظلت تناضل حتى أصبحت مواطنة سعيدة فى إسرائيل، وهى لن تتنازل أبدا عن حصاد هذا النضال. هل هناك منطق أكثر من هذا إقناعا بالصهيونية؟!!! إنك تسأل نفسك: هل قرأ صناع الفيلم مرجعا تاريخيا ذا قيمة عن إنشاء دولة إسرائيل؟ هل يعرفون شيئا عن جيل "الصابرا" الذى يعتبر وقود الوجود الصهيونى فى فلسطين؟ وهل يملك المتفرج إلا أن يتعاطف مع منطق هذه المرأة الإسرائيلية فى التمسك بوجود إسرائيل؟! 

لعلك قد لاحظت أننى لم أحدثك عن "البطل" المصرى مصطفي، فهو أضعف ما فى الفيلم من الناحية الدرامية، إن الفيلم يكتفى بجملة حوار عنه تقول أن زوجته ماتت بسبب رصاص إسرائيلي، متى وكيف؟ لا ندري! كما أن هذا لا يكفى دافعا لرجل مخابرات لكى يقوم بمهمته، بل الأهم هو أنه لا يضيف أى ملامح درامية لشخصيته، فلأنه كريم عبد العزيز شخصيا لن تجد أثرا لمرارة فقدان زوجة، وهو لا يتخلى عن خفة الظل وإلقاء الإيفيهات" حتى فى أكثر اللحظات خطورة، فيلقى مثلا بـ"إيفيه" شديد الغلظة ويصلح لفيلم آخر تماما عندما يمنح سلوى نصيحة للخلاص من زوجها: "لو زنّيتى عليه زى أى زوجة مصرية أصيلة هايخليكى تِحلِّى عن سماه!!"، وهو يدخل إسرائيل "كالسكين فى الجاتوه"، وهو يتحدث العبرية بطلاقة مع إى إسرائيلي، برغم أن ذلك كفيل بإثارة الشكوك حول شخص يزعم أنه جاء لإسرائيل بحثا عن عمل حتى لو كان عاملا فى صيدلية، وهو يهرب من مراقبة شخص إسرائيلى بأن يخبر امرأة إسرائيلية عجوزًا أن الرجل قال عنها أنها "أوحش ست فى إسرائيل"، فتجرى المرأة وراء الرجل بما يسمح لبطلنا المغوار أن يهرب من المطاردة (هل تصدق أن ذلك جاء فى الفيلم فعلا؟!!)، وهو يخوض ضد دانيال معارك بالأسلحة البيضاء والسوداء وبكل الألوان وبالأيدى وبالتحطيب بالمواسير الحديدية، وفى النهاية يحترق دانيال ويذهب فى ستين داهية، ويعود مصطفى مع سلوى والطفلين ليفرح المتفرج المصرى الغلبان بهذا الانتصار المتواضع الزائف، وليضحك العالم كله على ما نفعله سواء فى السينما، أو السياسة. 

وهكذا يمضى فيلم "ولاد العم" من نمرة ساذجة إلى أخرى أكثر سذاجة، بلا بناء درامى أو رسم ناضج للشخصيات، والغريب أن الشخصية الوحيدة التى تتسم بالدراما هى شخصية دانيال، فبرغم أنه ضابط مخابرات إسرائيلى فإنه يحب زوجته بجنون، بما يجعله "بطلا تراجيديا"!! الأكثر غرابة هو أنه يمكنك بسهولة أن تقلب الأدوار، بحيث يرى المتفرج الإسرائيلى شخصية دانيال باعتباره بطلا ضحى بحياته فى سبيل "الوطن"، أما المتفرج المحايد، الذى ليس له فى الثور أو الطحين، فسوف يرى الهيكل الدرامى للفيلم باعتباره "فيلم عصابات"، فهناك مجرم سابق أخفى هويته وتزوج وأنجب ليعيش حياة عادية، لكن عندما افتضح ماضيه فإنه يهرب بطفليه وزوجته على غير إرادتها، ومما يزيد من هذه المسحة البوليسية تلك المفاجأة المضحكة التى جاءت فى آخر الفيلم، والتى تُذكِّرنى بنهايات الأفلام المصرية القديمة، عندما كان يتضح أن العبيط الذى كان يقوم بدوره دائما الممثل محمد توفيق ليس إلا ضابط مباحث متنكرا، فللجارة الإسرائيلية راشيل زوج مشلول نراه طوال الفيلم على كرسيه المتحرك، لأنها تقول إنه أصيب فى حرب لبنان، لكنه يقوم كالعملاق من على الكرسى فى آخر الفيلم ليطيح بكل من يقف فى طريقه!! وهكذا يمضى "ولاد العم" فى سذاجة الرؤية، واستسهال المعالجة، كل ما يمكنك أن تمنحه من فضل هو أنه يحاول الحديث عن الصراع العربى الإسرائيلي، لكنه حوَّله إلى معارك و"مقالب حرامية" على طريقة أولاد الطوخى (أشهر من يقومون بالمشاهد الخطرة فى السينما المصرية) بين شريف منير وكريم عبد العزيز (أو فى الحقيقة بين الدوبليرين اللذين أديا هذه المشاهد)، لينتهى الفيلم بقول مصطفى إننا "سنعود"، لكن إسرائيل، للأسف الشديد والعميق، متأكدة أننا لن نعود مادمنا مكبّلين بهذه العقلية فى الفن والسياسة!! 

العربي المصرية في

26/01/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)